الروح القدس باقة من أقوال القديس أمبروسيوس
الروح القدس
باقة من أقوال القديس أمبروسيوس[1]
الروح ” أنهار ماء حي” [2]
176ـ من يقدر ويتجاسر على القول بأن المياه المتدفقة ليست إلاّ جزءً صغيرًا انفصل عن الينبوع الذى ينبع منه؟ أو يتجاسر على الإدعاء بأنه يوجد فرق فى العظمة بين المياه والينبوع. وفى الحقيقة إن المخلوقات لا تناسب ولا يمكن أن تشرح شيئًا خاصًا بالإلوهية، وأن من يجرى مقارنة بين الخليقة والله يضر نفسه. ويجب أن نتذكر أن الروح القدس ليس فقط يدعى مياه حية، بل أيضًا أنهار ماء حي كما نقرأ ” من بطنه تخرج أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح القدس الذى كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (يو38:7ـ39).
الروح يفيض علينا من يسوع:
177ـ فالروح القدس هو ليس النهر فقط بل هو النهر الفياض الذى نبع من يسوع ونزل على الأرض وقبلناه نحن حسب نبوة إشعياء ” هأنذا أدير عليها سلامًا كنهر وكسيل جارف سيكون مجد الأمم الذى منه سترضعون” (12:66). هذا النهر العظيم الذى يتدفق دائمًا ولا ينقطع تدفقه. وهو لا يندفع فى رفق فقط بل أحيانًا يندفع مثل السيل الجارف كما يقول داود ” أنهار الله تفرح مدينة الله” (مز4:46).
178ـ ومدينة الله أورشليم السماوية لا ترتوى من قناة مياه أو من نهر أرضى، وإنما من الروح القدس النابع من ينبوع الحياة والذى تكفى قطرة منه لكى تشبعنا وتروينا، ولكنه يفيض بفيض أكبر على العروش السماوية، والسيادات والقوات والملائكة ورؤساء الملائكة متدفقًا بكل قوته بالمواهب الروحية السبعة للروح القدس. وإذا كان أى نهر يمتلئ ويفيض ويغمر شطآنه، فكم بالحرى الروح القدس الذى يفيض ويغمر كل الخليقة والأراضى الواطئة أى عقولنا، ويفرح الطبائع السماوية بتقديسه لهم بحيوية وخصوبة وافرة.
179ـ ولا تضطرب إذا قرأت هنا ان الروح القدس دُعى “أنهار” أو فى موضع آخر “ أرواح الله السبعة” (يو38:7، رؤ6:5)، لأن مثل هذه التعبيرات رمزية، ورقم سبعة يدلنا على كمال تقديس الروح القدس، كما قال إشعياء ” روح الحكمة. روح الفهم. روح القوة. روح المشورة. روح المعرفة. روح التقوى. روح مخافة الرب” (إش2:11). فالنهر واحد، ولكن القنوات التى تخرج منه أى عطايا الروح القدس كثيرة. وهذا هو النهر الذى يتدفق من ينبوع الحياة.
180ـ لا تفكر فى الأمور الأرضية، لأنه فى الواقع المادى يوجد فرق بين الينبوع والنهر، ولكن الكتاب المقدس قدم أمثلة وتشبيهات متعددة ومختلفة لكى لا يتعب الإدراك الإنسانى من ضعف اللغة الإنسانية وارتباطها بأصلها الترابى. تصور فى عقلك أى نهر تشاء، إنه ينبع من ينبوع، ولكنه يحمل ذات مياه الينبوع التى لها طبيعة واحدة مع الينبوع وهكذا النهر له بهاء واحد، وجمال واحد مع الينبوع. وحسنًا تدرك أن الروح القدس جوهر واحد، بهاء ومجد واحد مع ابن الله ومع الله الآب.
الينبوع هو الروح القدس:
وسوف ألخص الإيمان كله بكلمة واحدة وهى أن كل الصفات الإلهية هى واحدة فى أقانيم الثالوث، بدون أن أخاف من سؤال عن الاختلاف فى العظمة. فالتشبيه الموجود فى الأسفار والذى يقول فيه ابن الله نفسه: ” من يشرب من الماء الذى أنا أعطيه فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذى أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية” (يو14:4). هذا الينبوع هو بكل وضوح هو نعمة الروح القدس، وهذا هو النهر النابع من ينبوع الحياة الأبدية.
181ـ ولاحظ من كلمات الرب أنه يشير إلى وحدة عظمة الثالوث، ولا يمكن أن ينكر أحد حتى الهراطقة أن المسيح هو ينبوع الحياة، كما أن الروح أيضًا يُدعى ينبوع الحياة. وكما أن الروح يُدعى نهرًا كذلك دُعِىَ الآب أيضًا إذ يقول: ” هأنذا أدير عليها سلامًا كنهر ومجد الأمم كسيل جارف” (إش12:66)، ومَنْ يمكنه أن يشك ان ابن الله هو نهر الحياة وهو الذى منه نبعت أنهار ماء الحياة الأبدية؟.
احفظ المياه من التسرب:
182ـ صالحة هى هذه المياه فهى عطية الروح القدس. ومن يستطيع أن يجعلها تتدفق فى صدرى؟ يا ليتها تتدفق فىَّ، يا ليت الذى يهب الحياة الأبدية يفيض علىَّ. يا ليته يفيض علينا ولا يذهب بعيدًا، لأن الحكمة يقول: ” اشرب مياهًا من وعائك ومياهًا جارية من بئرك. ولا تجعل مياه بئرك تفيض فى شوارعك” (أم15:5ـ16). كيف أحفظ هذه المياه لكى لا تتسرب ولا تختفى؟. كيف أحفظ وعائى سليمًا حتى لا تنفذ مياه الحياة الأبدية من الشقوق التى تصنعها الخطية؟ علّمنا يارب كل هذا، كما علّمت تلاميذك وقلت لهم: ” لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون” (مت19:6).
183ـ والرب يشير إلى السارق واللص أى الروح النجس، الذى لا يجد منفذًا يدخل منه فى الذين يسيرون فى نور الأعمال الصالحة. أما إذا أمسك بواحد فى ظلمة الشهوات الأرضية وأثناء التمتع بالشهوات الزائلة ، فإنه يسرق منه زهرة النعمة الأبدية. لذلك قال الرب: ” اكنزوا لكم كنوزًا فى السماء حيث لا يؤثر عليها الصدأ والسوس ولا يملك اللصوص أن ينقبوا ليسرقوا لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا” (مت20:5 ـ21).
184ـ والصدأ والسوس، هما الفجور والشهوات وحياة الترف وكل ما يعتم عقلنا بأدناس الرذيلة. والسوس أيضًا هو آريوس، وفوتينوس وكلاهما بكفرهم مزقوا ثوب الكنيسة واشتهوا أن يقسموا الوحدة غير المنقسمة للقوة الإلهية. ويحاولون أن يقرضوا بأسنان الكفر حجاب الإيمان. الماء ينسكب إذا أنشب آريوس أسنانه فينا. نحن كلنا لسنا سوى طين يميل بسرعة إلى الرذائل. ولكن لا يملك أحد أن يقول للخزاف: ” لماذا صنعتنى هكذا” (رو 2:9)، لأنه وإن كنا آنية وضيعة، لكن يمكن أن يكون واحد منها للكرامة وآخر للهوان. لا تترك بئرك لكل عابث، ولا تحفره بالرذائل والجرائم، حتى لا يقول أحد عنك: ” حفر بئرًا وسقط فى الحفرة التى حفرها” (مز15:7).
اطلب يسوع ليعطيك الماء الحى:
185ـ إذا كنت تطلب يسوع تخلى عن الخزانات المشققة، لأن المسيح لن يجلس عند بركة بل عند البئر. وهناك وجدته المرأة السامرية، وآمنت به وهى التى طلبت منه الماء الحي (يو6:4). ورغم أنك كان يجب أن تأتى مبكرًا فى الصباح الباكر، إلاّ أنك حتى إن جئت متأخرًا ولو فى الساعة السادسة فسوف تجد يسوع فى انتظارك متعبًا من الرحلة. هو متعب وأنت السبب فى ذلك، لأنه كان يفتش عنك منذ زمن وعدم إيمانك أتعبه طويلاً. إلاّ أنه لن يغضب إذا جئت الآن بل سيطلب منك أن يشرب وهو الذى يعطى أكثر مما نفتكر. وهو سيشرب ليس من نهر تجرى مياهه هنا على الأرض، وإنما يريد أن يشرب خلاصك وأعمالك الحسنة. لقد شرب الكأس أى الآلام التى بها فداك من خطاياك، حتى عندما تشرب من دمه المقدس تطفئ عطشك لهذا العالم.
186ـ لقد نال إبراهيم خيرات من الله بعد أن حفر البئر (تك30:21). وبينما كان اسحق يسير عند البئر تقابل مع زوجته (تك62:24). وجاءت إليه كمثال للكنيسة التى خطبها الرب عن المياه الحية. المؤمن دائمًا عند المياه الحية، أما غير المؤمن فعند المياه الراكدة. وأخيرًا رفقة ـ كما نقرأ ـ وجدت من كان يبحث عنها عند البئر.
الروح والإنسان الجديد[3]
62ـ كما يخلق الآب أعمالاً صالحة، هكذا الابن أيضًا لأنه مكتوب: ” وأما كل الذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أى الذين يؤمنون باسمه، الذين وُلدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله” (يو12:1و13).
63 ـ وبنفس الأسلوب يشهد الرب نفسه بأننا نُولد من جديد بالروح حسب النعمة قائلاً: ” المولود من الجسد جسد هو لأنه مولود من جسد، والمولود من الروح هو روح، لأن الله روح، لا تتعجب أنى قلت لك ينبغى أن تُولدوا من فوق. الروح يهب حيث يشاء، وتسمع صوته ولكنك لا تعرف من أين يأتِ ولا إلى أين يذهب هكذا كل من وُلِد من الروح“.
64ـ وهكذا يظهر بكل وضوح أن الروح القدس هو مؤسس النعمة التى تعطى لكل روح، لأننا خُلقنا حسب صورة الله ولكى نكون أبناء الله. وهكذا عندما أدخلنا إلى ملكوته بالتبنى فى الميلاد المقدس، فهل ننكر من صنع كل هذا؟ لقد جعلنا ورثة الميلاد الجديد من فوق، فهل نأخذ الميراث ونرفض صاحبه؟ ولكن الميراث لا يمكن أن يبقى إذا طُرد صاحبه خارجًا، فلا صاحب ميراث بلا عطية، ولا عطية بلا صاحبها. إذا نلت النعمة آمن بالقوة، إذا رفضت القوة لا تسأل عن النعمة. الذى ينكر الروح القدس قد أنكر فى نفس الوقت النعمة، فإن كان صاحب النعمة لا شئ فكيف تصبح عطاياه ذات قيمة أو ثمينة؟ لماذا تحتقرون النعمة التى تنالونها، وتقضون على رجائنا وتهينون كرامتنا. وتنكرون معزينا؟
65ـ ولكننا نحن لا نقدر أن ننكره، لا يليق بنا أن ننكر ذاك الذى هو عظيم كإله لأن الرسول يقول: ” ولكن انتم أيها الإخوة مثل إسحق، أبناء الموعد، ولكن كما حدث فى ذلك الزمان أن المولود الذى حسب الجسد اضطهد حسب الروح” (غلا28:4و29). هكذا نفهم مما سبق وقلناه إن المولود من الروح مولود من الله. ونحن نُولد الآن مرةً ثانيةًَ عندما تتجدد حياتنا داخليًا ونطرح الإنسان العتيق الخارجى، والرسول يضيف إلى ذلك: ” لكن تجددوا بروح ذهنكم والبسوا الإنسان الجديد المخلوق حسب الله فى والبر قداسة الحق” (أف23:4و24). وعليهم أن يعرفوا كيف تعلن الأسفار وحدة العمل الإلهى، فالذى يتجدد بروح ذهنه قد لبس الإنسان الجديد المخلوق حسب الله.
66ـ وكيف يمكن لأى من الناس أن يشك فى أن الميلاد الثانى هو عمل الروح القدس، وأن الروح القدس هو خالق الإنسان الجديد المخلوق والذى حسب صورة الله، والذى هو أفضل بكثير من إنساننا الخارجى، لقد كشف الرسول عن أن الأول سماوى والثانى أرضى بقوله: ” وكما أن السماوى هكذا السمائيون” (1كو48:15).
67ـ فإذا كانت عطية الروح القدس تخلق ما هو سماوى فهى تستطيع أن تخلق ما هو أرضى وهذا ما يفرضه المنطق نفسه دون أن نبرهن عليه. وفى موضع معين يقول القديس أيوب: ” حي هو الله الذى يقاضينى والقدير الذى أمرّ نفسى لأن روح الله فى أنفى” (أى1:27و2). وهنا كلمة روح لا تعنى النفس الحيوى الذى نتنفسه والذى يقوم به الجسد بواسطة ألأنف، وإنما أنف الإنسان الداخلى الذى جمع عطر الحياة وجذب له نعمة المسحة السماوية وهذا له معنى مزدوج.
68ـ وتوجد أنف روحية عندما تقول عروس الكلمة له: “ رائحة أنفك كالتفاح” (نش8:7)، وفى موضع آخر: ” فتنسم الرب رائحة الرضا” (تك21:8). إذن توجد أعضاء داخلية للإنسان الداخلى ويداه هما العمل وأذناه الإنصات وقدماه هما النمو فى العمل الصالح. وهكذا من العمل الداخلى للروح القدس نفهم ما هو شكل هذه الأعضاء، لأنه لا يجوز لنا أن نتصور الإنسان الداخلى بشكل جسدانى أرضى.
69ـ وإذ تصور البعض أن الله مكوّن من شكل مادى جسدانى عندما يقرأون فى الكتاب المقدس عن يديه وأصابعه فهم لا يفهمون أن هذه الأمور لم تُكتب لأن الله له جسد، لأنه لا توجد أعضاء فى اللاهوت ولا أجزاء، وإنما هى تعبيرات إنسانية عن وحدة الإلوهية، وحتى نؤمن بأنه من المستحيل أن ينفصل الابن أو الروح القدس عن الله الآب، لأن ملء اللاهوت هو واحد فى الثالوث مثل وحدة الجسد الواحد. ولذلك قيل إن الابن هو اليد اليمنى للآب حسبما نقرأ: ” يمين الرب صنعت أعمالاً عجيبة. يمين الرب رفعتنى” (مز16:118).
عمل واحد للآب والابن والروح القدس[4]
101ـ ليس فقط عمل الآب والابن والروح القدس فى كل الخليقة هو واحد، بل توجد إرادة واحدة أيضًا وهى التى تدعو وتأمر وتعطى الوصايا، وهى ذات الإرادة الواحدة التى نراها فى الأسرار العظيمة المعطية للخلاص فى الكنيسة. وكما أن الآب دعا الأمم إلى الكنيسة قائلاً: ” سوف أدعو التى ليست شعبى، شعبى، ومحبوبتى وهى لم تكن محبوبتى” (هو23:2س)، وفى موضع آخر يقول: “بيتى يدعى بيت الصلاة لكل الشعوب” (إش7:56). وهكذا أيضًا قال الرب يسوع إنه اختار بولس لكى يدعو ويجمع خرافًَا للكنيسة كما قال الرب لحنانيا: “ اذهب لأن هذا إناء مختار لى لكى يحمل اسمى أمام الأمم” (أع15:9).
الروح القدس يدعو:
102ـ وكما دعا الله الآب الكنيسة ودعاها المسيح، هكذا أيضًا دعاها الروح القدس الذى يقول: ” افرزوا لى بولس وبرنابا للعمل الذى دعوتهما إليه“، وبعد ذلك نقرأ ” فصاموا وصلوا ووضعوا عليهما الأيادى ثم أطلقوهما، فهذان إذ أُرسلا من الروح القدس انحدرا إلى سلوكية” (أع2:13ـ4). وهكذا نال بولس وبرنابا رسوليتهما ليس فقط بإرادة المسيح بل بإرادة الروح القدس أيضًا وأسرعا لكى يجمعا الأمم.
103ـ ولم يدعُ الروح القدس بولس فقط بل دعا الرسول بطرس كما نقرأ فى سفر الأعمال، فقد رأى أثناء صلاته السماء مفتوحة وإناء نازل مثل ملاءة مربوطة من أركانها الأربعة وفيها كل الحيوانات من ذوات الأربع والوحوش وطيور السماء: ” وصار إليه صوت قم يا بطرس اذبح وكُل. فقال بطرس كلا يارب لأنى لم آكل قط شيئًَا دنسًا أو نجسًا. فصار إليه أيضًا صوت ثانية ما طهره الله لا تدنسه أنت. وكان هذا على ثلاث مرات ثم ارتفع الإناء أيضًا إلى السماء” (أع11:10ـ16). بينما بطرس يفكر فى صمت فى هذه الرؤيا جاء خدم كرنيليوس الذين أرسلهم الملاك الذى ظهر لكرنيليوس. ولكن ماذا حدث بعد ذلك، لقد قال الروح القدس لبطرس: ” هوذا ثلاثة رجال يطلبونك. لكن قم وانزل واذهب معهم غير مرتاب فى شئ لأنى أنا قد أرسلتهم” (أع19:10و20).
104ـ ما أوضح الطريقة التى أعلن بها الروح القدس قوته. أولاً لقد أوحى لبطرس بينما كان يصلى فقد كان الروح حاضرًا بينما بطرس يتوسل إلى الله، وعندما دعاه الروح أجاب: ” يارب“، ولذلك استحق رسالة ثانية، لأنه اعترف بالروح كرب. ولكن الأسفار تعلن مَنْ هو هذا الرب، لأنه هو الذى كان يصلى له وهو الذى استجاب له. والكلمات كافية لأن توضح إعلان الروح القدس ربًا، لأنه هو الذى دبر هذا السر وهو الذى أعلنه بعد ذلك.
105ـ ولاحظ أيضًا أن ظهور الرؤيا له قد تكرر ثلاث مرات وهذا يعبّر عن عمل الثالوث. ولذلك فى أسرار الانضمام إلى الكنيسة نسأل ثلاث مرات ونجيب إجابة كاملة ثلاث مرات، ولا يمكن لأحد أن يتطهر (بالمعمودية) إلاّ إذا اعترف ثلاث مرات. ولنفس السبب أيضًا سُئل بطرس ثلاث مرات إذا كان يحب الرب، لكى بإجاباته الثلاثة يحلّ قيود خطية الإنكار التى سقط فيها.
106ـ ولأن ملاكًا قد أُرسل إلى كرنيليوس، تكلم الروح القدس مع بطرس لأنه قيل: ” عين الرب على أمناء الأرض” (مز6:101)، ولم يكن بلا هدف أنه قال له: ” ما طهره الله لا تدنسه أنت” (أع15:10). فقد حلّ الروح القدس على الأمم لكى يطهرهم، وهكذا ظهر بوضوح أن عمل الروح القدس هو عمل إلهى. ولكن عندما أرسل الروح القدس بطرس لم يقل بطرس أنه سوف ينتظر أمر الله الآب، وإنما عرف أن هذه الرسالة من الروح نفسه، ولذلك قال بعد ذلك: ” فإن كان الله قد أعطاهم الموهبة كما لنا أيضًا بالسوية.. فمن أنا؟ أقادر أن أمنع الله؟” (أع17:11).
107ـ إذن فهو الروح القدس الذى خلّصنا من دنس الأمم. ولم تكن الحيوانات ذوات الأربع والوحوش والطيور إلاّ رمزًا لحالة الإنسان الذى يظهر مرتديًا افتراس الحيوانات والوحوش ما لم تتحول حالته للوداعة وتنمو فيها بتقديس الروح القدس. ما أعظم هذه النعمة التى تغير من قساوة وافتراس الحيوانات إلى وداعة وبساطة الروح: ” لأننا كنا نحن أيضًا أغبياء غير طائعين ضالين مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة.. ولكن حين ظهر لطف الله وإحسانه لا بأعمال فى بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلّصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس الذى سكبه علينا بغنى بيسوع المسيح مخلصنا” (تى3:3ـ7)، وهكذا صرنا ورثة المسيح وورثة مع الملائكة.
108ـ ولذلك بعد أن رأى داود النبى بالروح القدس أننا سوف نتغير من وحوش لنصير مثل الساكنين فى السماء قال: ” انتهر وحوش الغابات” (مز30:68). وهو لا يعنى الغابات التى تمرح فيها الوحوش وتضطرب أشجارها وتهتز من صوت زئير وصراخ الوحوش، وإنما الغابات التى كتب عنها ” وجدناها فى حقول الغابات” (مز6:132). هذه هى التى قال عنها النبى: ” الصديق يزهو مثل النخلة كالأرز فى لبنان ينمو” (مز12:92)، ومن هذه الغابات أُخذت الخشبة[5] التى نمت على قمم أشجار هذه الغابات والتى تعنيها النبوة والتى ترسل غذاء الكلمة السماوى. لقد دخل بولس هذه الغابات مثل ذئب كاسر لكنه خرج منها راعيًا، لأنه مكتوب: “خرجت أصواتهم إلى كل الأرض” (مز4:19).
109ـ لقد كنا نحن وحوشًا مفترسة وقد حذرنا الرب من ذلك بقوله: ” احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب حملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة” (مت15:7). ولكن الآن بالروح القدس تلاشى تمامًا من مشاعرنا توحش الأسود وغضب الفهود، ومكر الثعالب، وخداع الذئاب، وما أعظم هذه النعمة التى غيّرت الأرض إلى سماء والتى بها تم تجديدنا نحن الذين كنا نتجول مثل الوحوش الكاسرة فى الغابات ولكن صرنا الآن فى السماء (فى20:3).
110ـ ولم يعلن الرسول بطرس فى هذا الفصل من سفر الأعمال فقط أن الكنيسة بُنيت بالروح القدس، بل فى موضع آخر نقرأ ” والله العارف القلوب شهد لهم معطيًا لهم الروح القدس كما لنا أيضًا ولم يميز بيننا وبينهم بشيء إذ طهر بالإيمان قلوبهم” (أع8:15ـ9). وكما هو ظاهر من هذه الكلمات أنه كما أن المسيح هو حجر الزاوية الذى جمع اليهود والأمم معًا وجعلهم شعبًا واحدًا، هكذا الروح القدس لم يميز بين قلوب اليهود والأمم بل وحّدهم وجعلهم واحدًا.
111ـ لا تكن مثل اليهودى، فتحتقر الابن الذى سبق الأنبياء وأخبرونا عنه لأنك بذلك تحتقر الروح القدس أيضًا، وتحتقر إشعياء وتحتقر إرميا الذى اختاره الرب وأقامه نبيًا ورفعه من جب الشعب اليهودى بملابس رثة وحبال (إر11:38). ولأن شعب اليهود احتقر نبوة إرميا فقد ألقوا إرميا فى الجب ولم يوجد أحد من شعب اليهود يرغب فى إخراج إرميا إلاّ الأثيوبى “عبد ملك” الذى أخرجه من الجب كما يشهد السفر نفسه (12:38ـ13).
112ـ وشرح هذه الحادثة يقودنا إلى معنى جميل وهو أننا نحن الخطاة من الأمم الذى كان لنا لون أسود بسبب معاصينا والحياة الباطلة التى عشناها، رفعنا كلمة النبوة من الجب الذى ألقاها اليهود فيه، أى فى وحل فكرهم الجسدانى، ولذلك كتب ” إثيوبيا سوف تمد يدها إلى الله” (مز31:68). وهذا يشير إلى ظهور الكنيسة المقدسة التى يقول عنها سفر النشيد ” أنا سوداء ولكننى جميلة يا بنات أورشليم” (نش5:1)؛ سوداء بسبب الخطية وجميلة بسبب النعمة، سوداء بسبب الحالة الطبيعية، وجميلة بالفداء، أو سوداء بسبب ما لحقها من تراب أثناء العمل الشاق. وهكذا هى سوداء خلال حروبها، وجميلة عندما تُوجت بإكليل الظفر.
113ـ وكان من المناسب أن يرفع إرميا من الجب بحبال لأن الكاتب الأمين يقول: ” الحبال قد أُلقيت إلىَّ فى الأماكن الحسنة” (مز6:16). وكان يليق به أيضًا أن يخرج بثياب رثة لأن الرب أخبرنا عن الذين دُعوا إلى وليمة العُرس واعتذروا فأرسل الرب عبيده إلى الطرقات والساحات حتى يجمعوا كل الموجودين من الأشرار والأبرار ودعوهم إلى الوليمة. وهكذا بهذه الثياب الرثة رفع الرب كلمة النبوة من وحل الرفض والاعتذارات.
من هو الروح القدس؟[6]
143ـ أيها الإمبراطور[7] التقى بعد كل ما ذكرناه، يبقى أن نجيب على سؤال واحد خاص بالموضوع الذى نشرحه، وهو كيف نفهم عمل الروح القدس الذى تشير إليه الكلمات التالية، هل هو عمل الخالق أم المخلوق؟. لقد كُتب: ” بأنواع مختلفة وطرق متنوعة تكلم الله مع الآباء بواسطة الأنبياء” (عب1:1). ويقول حكمة الله: ” سوف أرسل لهم انبياء ورسل” (لو49:11). وأيضًا: ” لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد ولآخر إيمان بالروح الواحد. ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد ولآخر إيمان بالروح الواحد. ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد ولآخر عمل قوات ولآخر نبوة” (1كو8:12ـ10). ومَنْ يكون الروح القدس الذى يعطى النبوات حسب قول الرسول؟ ألم يعطِ الآب النبوات وكذلك الابن، فإذا كان الروح القدس يعطى النبوة مثل الآب والابن، فالعمل واحد، والنعمة واحدة، والروح القدس الذى هو أيضًا مصدر النبوات ليس إلا الله.
144ـ وعن نفس النقطة قال الرسل: ” لأنه قد رأى الروح القدس ونحن” (أع28:15). وعندما يقولون: ” قد رأى” فهم يشيرون ليس فقط إلى فاعل النعمة بل أيضًا إلى مصدر تنفيذ ما أوصى به. وما قرأناه عن الروح القدس إنه “رأى”، قيل كذلك عن الله لأننا نقرأ عن الله أنه “رأى”، هكذا أيضًا حينما يُقال أنه “قد رأى الروح القدس” فهذا يظهر أنه هو الله الذى له مسرة خاصة وسيادة على قوته.
145ـ وكيف لا يكون هو رب عطاياه وسيد قوته وهو الذى يعطى ما يشاء ويأمر بما يشاء مثل الآب والابن؟ وكما أن بولس سمع الصوت قائلاً له: ” أنا يسوع الذى أنت تضطهده” (أع5:9)، كذلك منع الروح القدس بولس وسيلا من الذهاب إلى بيثنيا. وكما أن الآب تكلم بواسطة الأنبياء هكذا تنبأ أغابوس بالروح القدس وقال: ” هذا يقوله الروح القدس. الرجل الذى له هذه المنطقة هكذا سيربطه اليهود فى أورشليم” (أع11:21) وكما أن الحكمة أرسل رسله قائلاً: ” اذهبوا إلى العالم كله واكرزوا بالإنجيل” (مر15:16)، هكذا يقول الروح القدس: ” افرزوا لى برنابا وشاول للعمل الذى دعوتهما إليه” (أع2:13). وبعد أن أرسلهما الروح القدس حسبما ذكر سفر الأعمال، فإنهما لم ينقصا شيئًا عن باقى الرسل الذين أرسلهم الآب أو الابن، بل لأن العمل واحد فقد أرسلهما الله الآب بالروح القدس.
146ـ وأخيرًا فإن بولس الذى أرسله الروح القدس صار إناءً مختارًا للمسيح وهو نفسه يشهد بما عمله الله معه ويقول: ” فإن الذى عمل فى بطرس لرسالة الختان عمل فىَّ أيضًا للأمم” (غل8:2). فإن كان الذى عمل فى بطرس هو الذى عمل فى بولس، إذن فهو الروح الواحد الذى عمل فى بطرس وبولس. ولكن بطرس نفسه يشهد فى سفر الأعمال أن الله الاب هو الذى عمل فيه فقال سفر الأعمال إن بطرس وقف وقال: ” أيها الرجال الإخوة أنتم تعلمون أنه منذ أيام قديمة اختار الله بيننا أنه بفمى يسمع الأمم كلمة الإنجيل ويؤمنون” (7:15). وهكذا عمل الله فى بطرس بهذه النعمة لكى يبشر، ومَنْ يمكنه أن ينكر عمل المسيح فى بطرس ككارز، وهو الذى بكل يقين اختاره المسيح عندما قال له: ” ارعى خرافى” (يو15:21).
147ـ إذن، عمل الآب والابن والروح القدس هو عمل واحد ظاهر فى حياة الرسول، ومَنْ ينكر هذا العمل عليه أن يتأمل كيف عمل الآب والروح فى بطرس، وهو أيضًا الذى عمل فيه المسيح. فهل كان عمل المسيح غير كافٍ حتى أنه احتاج لعمل الروح لكى ينال نعمة؟ ولكن قوة الآب والابن والروح القدس هى واحدة، وعملهم كان متنوعًا حتى لا يظن أحد أن عمل المسيح الذى عمله فى بطرس هو عمل ضعيف.
148ـ ولم يكن هذا العمل الواحد للآب والابن والروح القدس فى بطرس وحده بل فى كل الرسل فهو الذى أعطاهم سلطان تدبير الأمور السماوية. والعمل الإلهى يتم بقوة الله وبأمره وليس بحاجة إلى خادم، لأن الله يعمل ليس بأداة وبوسيط، بل هو يأمر فقط، كما قيل: ” إنه أمر فصار” (مز9:33). وقال: ” ليكن نور فكان نور” (تك3:1) وعمل الله يتم بالأمر الإلهى الواحد.
149ـ وإذا فحصنا الأسفار نجد بسهولة أن القوة الملوكية الإلهية تشهد لها الأسفار بأنها خاصة بالروح القدس أيضًا، بل سوف يتضح أن الرسل لم يكونوا تلاميذ المسيح فقط بل خدام الآب والابن والروح القدس. ومعلم الأمم (بولس) يخبرنا أن: ” الله وضع فى الكنيسة أولاً رسلاً ثانيًا أنبياءً ثالثًا معلمين ثم قوات وبعد ذلك مواهب شفاء، مواهب معونة وتدبير، مواهب ألسنة متنوعة” (1كو28:12).
150ـ وها انت ترى كيف ان الله أقام رسلاً ومعلمين وأعطى مواهب شفاء، وهذه بعينها وكما أشرنا يعطيها الروح القدس الذى يعطى أيضًا الألسنة المتنوعة. ولكن ليس لكل هؤلاء تُعطى ذات الموهبة، فليس الكل رسلاً وليس الكل أنبياء وليس الكل معلمين، وليس للكل مواهب شفاء وليس الكل كما يقول يتكلمون بألسنة (1كو30:12). فالعطايا الإلهية لا تُوهب كلها لإنسان واحد، بل كلٍ على قدر احتماله ينال ما يستحقه أو ما يشتهيه. ولكن قوة الثالوث التى تمنح كل هذه النعم بوفرة ليست مثل ضعف الإنسان.
151ـ وأخيرًا إذا كان الله هو الذى أقام الرسل فالمسيح هو الذى اختارهم وأقامهم رسلاً وأرسلهم للعالم قائلاً: ” اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، مَنْ آمن واعتمد خلص ومَنْ لم يؤمن يدن. وهذه الآيات تتبع المؤمنين باسمى يخرجون الشياطين ويتكلمون بألسنة جديدة. يحملون حيات وإن شربوا شيئًا مميتًا لا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون” (مر15:16ـ18). وهكذا ترى أن الآب والمسيح أقاما معلّمين فى الكنائس، وكما أن الآب يعطى مواهب الشفاء، هكذا أيضًا الابن. وكما أن الآب يعطى مواهب ألسنة كذلك أيضًا يمنحها الابن.
152ـ وكما سمعنا وقرأنا سابقًا أن الذى يمنح هذه المواهب أيضًا هو الروح القدس لأنه مكتوب: ” فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة.. مواهب شفاء..” (1كو8:12و9). فالروح يعطى نفس المواهب التى يعطيها الآب والابن وهذا يكفى. وعلينا الآن أن نتعلم بكل وضوح ما لمسناه من قبل وهو أن الروح القدس هو الذى يعيّن فى الوظائف الخدام الذين يعيّنهم الآب والابن وأنه هو بذاته الذى يعيّن نفس هؤلاء الأشخاص لأن بولس يقول: ” احترزوا لأنفسكم ولجميع الرعية التى أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله” (أع28:20).
153ـ إذن، نرى بوضوح الوحدة فى السلطان، الوحدة فى إقامة الخدام، الوحدة فى العطية. وإذ فصلنا السلطان عن إقامة الخدام فما هو السبب فى أن يصبح الذين أقامهم المسيح أساقفة هم الذين أقامهم الآب والروح القدس طالما أنهم يستمدون كل شئ من الآب والابن والروح القدس؟ هل يختلف الآب والابن والروح مع بعضهم حتى أنهم يختلفون حول الحقوق الشرعية وبذلك يتم تقسيم العمل وتوزيع السلطة كما يحدث بين البشر المتنافسين.
154ـ إن التنافس بين البشر يصل احيانًا إلى اعتبار السلطة والعمل من الأمور الحقيرة والصغيرة حتى أن البشر يتفقون مع بعضهم إراديًا رغم اختلافهم فى توزيع العمل. وقد سُئل إنسان مرة: مَنْ هو الصديق؟ فأجاب إنه: “ذاتى ثانية”. فإذا حدد بشر صديقه على هذا النحو ووصفه بأنه ذاته الثانية، وذلك بسبب الوحدة فى المحبة والإرادة الصالحة، فكم بالحرى يجب ان يكون تقديرنا لوحدة العظمة الإلهية والعزة التى للآب والابن والروح القدس، وهم واحد فى العمل والقوة والوحدة وهو ما تعبّر عنه الكلمة اليونانية Tautotis المشتقة من Tauta أى هو ذاته وهو ما يجعلنا نقول إن الآب والابن والروح القدس كلٌ له ما للآخر، بل كل منهم هو ذات الآخر، لأن لهم ذات القوة وذات الإرادة وهى لا تنبع من ميول الإرادة وإنما نابعة من الجوهر الواحد الذى فيه إرادة واحدة ذاتية للثالوث.
155ـ هذا هو ميراثنا الرسولى الإيمان والتقوى والخلاص، وهو ما يشهد له سفر الأعمال وقد أشرنا إليه سابقًا. لقد أطاع بولس وبرنابا وصية الروح القدس، كما أطاع أيضًا كل الرسل وأقاموا الذين أختارهم الروح القدس وأفرزهم للخدمة وقال: ” افرزوا لى برنابا وشاول” (أع2:13). أرأيت عظمة سلطان الذى يأمر؟ وهل ترى تقوى الذين يخضعون لهذا الأمر الإلهى؟
156ـ لقد آمن بولس بهذا السلطان الإلهى فطرح عنه غيرة المضطهد ونال إكليل البر. لقد آمن ذلك الذى سبّب اضطراب الكنائس وعندما تحوّل إلى الإيمان، كرز بالروح القدس وكل ما أمره به الروح القدس (أع20:9). لقد مسح الروح بطله (بولس) فنفض عنه تراب عدم الإيمان وقدمه كفاتح لا يُقهر لكل جماعات غير المؤمنين على اختلاف أنواعها، بل دربه بواسطة الآلام المتنوعة، لكى ينال الجائزة الكبرى لدعوته العُليا التى فى المسيح يسوع.
157ـ برنابا أيضًا آمن، وأطاع لأنه آمن، وبعد ان اختاره الروح القدس حلّ عليه بوفرة لكى يعلن بهذا تقوى برنابا وأنه يستحق يمين الشركة الرسولية. وهكذا ظهرت نعمة واحدة مضيئة فى أولئك الذين اختارهم الروح القدس.
158ـ ولم يكن بولس أقل من بطرس، رغم أن بطرس هو أساس الكنيسة إلاّ أن بولس كان البنّاء الحكيم الذى بنى طريقًا ثابتًا تسير عليه الأمم الذين آمنوا بأقدام ثابتة. ولم يكن بولس غير مستحق للشركة مع الرسل بل يمكن مقارنة استحقاقه لهذه العطية مع بطرس نفسه وبذلك لم يكن ترتيب بولس الثانى بالمرة.
الولادة من الروح؟[8]
59ـ تشهد الأسفار بوضوح فى هذه الفقرات لإلوهية الروح القدس. وكذلك شهد الرب يسوع المسيح نفسه بأن ” الروح هو الله“. هذه الشهادة رفضها الآريوسيون حتى أنهم حذفوها بالمرة من كتاباتهم التى تقوم على شهادات خاصة يجمعونها وليست شهادات الكنيسة. وهكذا حُذفت شهادة الرب يسوع المسيح عن الروح القدس عندما أخذ الأسقف الآريوسى أوكسينتوس[9] العديم الإيمان كنيسة ميلان بقوته العسكرية أو ما حدث فى كنيسة سيرميوم التى استولى عليها فالنس، ويرساتيوس مع كهنتهم وكذلك أيضًا فعل الآريوسيون نفس الشئ فى الشرق.
60ـ ولقد كان فى استطاعة هؤلاء أن يمنعوا كتاباتنا ورسائلنا ولكنهم كانوا عاجزين عن أن يزيلوا الإيمان، وما حذفتموه من شهادات عن إلوهية الروح القدس لم يهدم الإيمان بل عجزتم عن ذلك تمامًا، ولكن عندما حذفتم شهادات الحق، حُذفت أسمائكم من سفر الحياة. لماذا حذفتم هذه الشهادة ” الروح هو الله” ولماذا تريدون أن تعترفوا بأن الاب وحده هو الله كما لو كان من العسير أن نجد الفقرات والشهادات المناسبة التى تؤكد أن الروح القدس هو الله. إن عدم إيمانكم هو الذى يعمى عيونكم ويجعلكم مثل الوثنيين لأن إنكار الروح هو إنكار لله الآب أيضًا، إذا استمر إنكاركم للإيمان على هذا النحو فإنكم تكونون قد انكرتم كل كلمة الله.
61ـ لقد محوتم حقًا من قلوبكم وعقولكم كلمة الله والروح القدس، ولكن هذا لن يؤثر على الابن والروح القدس وإنما يمنع الله نفسه عنكم وعن عقولكم الجاحدة ولا يعطى لكم نعمة وإذا كان هو الذى يمحو الآثام كما هو مكتوب: ” أنا أنا هو الماحى ذنوبك” (إش25:43). وعندما كان موسى يتوسل من أجل الشعب قال: ” امحنى من كتابك، إذا لم تبقى على هذا الشعب” (خر32:32)، ولكن الله لم يشأ أن يمحوه لأنه لم يكن قد أخطأ بل أفاض عليه النعمة.
62ـ إن ما تعترفون به هو الذى يحكم عليكم وهو خالٍ من الحكمة ومملوء من المكر. وأنتم تعرفون أن شهادات الأسفار عن الروح القدس تحكم عليكم ولكن مكركم يخدعكم ويجعلكم غير قادرين على مواجهة شهادات الأسفار.
63ـ وإذا اخذنا واحدة من هذه الشهادات فهى تؤكد لنا أن نيقوديموس عندما سأل عن الميلاد الثانى أجابه الرب: ” الحق الحق أقول لك إن لم يُولد مرة ثانية من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو5:3). وأعلن أنه يوجد ميلاد جسدانى كما يوجد ميلاد آخر من الروح القدس فأضاف: ” المولود من الجسد هو جسد لأنه مولود من الجسد، والمولود من الروح هو روح لأن الروح هو الله“[10] (يو6:3). وإذا درسنا بعناية الفقرة كلها سوف تجدون أن الرب قد رفض عدم إيمانكم عندما أعلن التعليم كاملاً بقوله: ” لا تتعجب لأنى قلت لك، يجب أن تولد ثانية. الروح يهب حيث يشاء وتسمع صوته ولكنك لا تعلم من أين يأتِ ولا إلى أين يذهب هكذا كل من وُلِد من الروح” (يو7:3ـ8).
64ـ ومَنْ هو الذى يُولد من الروح؟ ومَنْ هو الذى يُخلَق ليكون روحًا إلاّ الذى يتجدد بروح ذهنه. وحقًا هذا يحدث فى الماء والروح، لأننا بحميم الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس ننال رجاء الحياة الأبدية (أف23:4). وفى موضع آخر يقول الرسول بطرس: “سوف تتعمدون بالروح القدس” (أع16:11). ومَنْ الذى سيتعمد بالروح القدس، إلاّ الذى يُولد مرة ثانية من الماء والروح القدس؟ إذن كان الرب يقصد الروح القدس عندما قال: ” الحق الحق أقول لكم إن كان أحد لا يولد من الماء والروح..” وهذا يعنى أننا وُلدنا منه من الروح القدس وهو الذى دُعِىَ الروح فى هذه الفقرة المأخوذة من الإنجيل ودُعِىَ الروح القدس فى حديث القديس بولس.
65ـ ويبقى ان أسأل هل لديكم شك فى اننا نُولد ثانية بواسطة الروح القدس مع أن الرب يسوع نفسه قد وُلد، ووُلد ثانية من الروح القدس؟ فإذا اعترفتم أنه وُلد من الروح القدس (مت20:1) فإنكم لا تستطيعون أن تنكروا أنه وُلد ثانية (مت16:3) وما أعظم غباوتكم التى تجعلكم تعترفون بما هو خاص بالله وتنكرون ما هو معروف عن الإنسان، وهكذا ينطبق عليكم ما قيل لليهود: ” إن كنت قد قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون إذا قلت لكم السمائيات” (يو12:3).
66ـ كما أنكم تجدون أنه مكتوب فى الأصل اليونانى أن الرب لم يقل بواسطة الروح القدس بل من الروح القدس
وهذا لا يحمل أحدًا على الشك فى ان الروح القدس هو المقصود وبالتالى لا يبقى شك فى أن الروح القدس هو الله لأنه مكتوب ” الروح هو الله“.
67ـ وفى موضع آخر يقول نفس الإنجيلى شارحًا ما كتبه ومؤكدًا أنه عن الروح القدس: ” المسيح يسوع بالماء والدم، وليس بالماء فقط بل بالماء والدم. والروح هو الذى يشهد لأن الروح هو الحق. لأن الذين يشهدون هم ثلاثة: الروح والماء والدم وهؤلاء الثلاثة هم واحد” (1يو6:5ـ8).
68ـ واسمع كيف يشهدون: الروح يجدد العقل، والماء يهب الغسل، والدم هو الفدية. فالروح جعلنا أبناء الله بالتبنى. والماء هو ماء المعمودية المقدس الذى به اغتسلنا، ودم الرب هو الذى فدانا. وهكذا ننال شهادة واحدة غير منظورة وهى بذاتها منظورة فى شهادة الميلاد الروحى الجديد لأن الروح يشهد لأرواحنا (رو16:8). ومع أن قوة سر الميلاد الجديد هى كاملة فى الروح والماء والدم إلاّ أنه يوجد تمايز فى الوظيفة وحيث يوجد تمايز فى الوظيفة تختفى المساواة فى الشهادة.
الروح يشرق فى قلوبنا ـ ويحل فينا[11]
86ـ هل ينكر أحد أن إلوهية الثالوث الأزلى هى التى تُعبد بينما الأسفار تقدم لنا عزة الثالوث غير المُدركة، والتى يقول عنها الرسول فى موضع معين: ” الله الذى قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذى أشرق فى قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله فى وجه يسوع المسيح” (2كو6:4).
87ـ وحقًا رأى الرسل هذا المجد عندما تجلى الرب يسوع على الجبل بنور إلوهيته، فقيل إن الرسل رأوا ذلك وسقطوا على وجوههم (مت6:17). ألا ترى أنهم عندما سقطوا على وجوههم فقد سجدوا لأنهم لم يحتملوا بهاء النور الإلهى ولا استطاعت عيونهم اللحمية أن ترى بهاء النور الأزلى، الذى كان يمكن أن يعمى قوة البصر المائتة؟ وماذا قالوا فى ذلك الزمان عندما رأوا مجده: ” هلم نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا” (مز6:95). لأنه فى ذلك الزمان أشرق نور معرفة مجد الله فى وجه يسوع المسيح (2كو6:4).
88ـ من الذى أشرق لكى يجعلنا نعرف الله فى وجه يسوع المسيح؟ لقد قال الرسول: ” الله أشرق” لكى نعرف مجد الله فى وجه يسوع المسيح. ومَنْ هو الذى أشرق إلاّ الروح القدس الذى أعطى هذا الإعلان؟ ومَنْ غير الروح القدس يملك قوة اللاهوت؟ وبالتالى فإن الذين يستبعدون الروح القدس من الإلوهية يجب عليهم بالضرورة أن يأتوا بآخر غيره ليكون له مع الآب والابن مجد اللاهوت ذاته.
89ـ لنعيد نفس الكلمات ” الله الذى قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذى أشرق فى قلوبنا نور معرفة الله فى وجه يسوع المسيح“. هنا نجد إشارة واضحة إلى المسيح. ولكن مَنْ هو صاحب المجد الذى قيل عنه إنه يشرق النور سوى الروح القدس؟ هنا نرى أنه يقدم الله نفسه لأن الرسول يتكلم عن مجد الله. وواضح أن الآب هو الذى أشرق فى قلوبنا نور معرفته بالروح القدس. لأننا لا يمكن أن نعبد آخر غيره مع الآب والابن. فإن كان الرسول قد تكلم عن الروح القدس كإله فلماذا تنكره؟ بالأحرى يجب أن تعترف بإلوهية الروح القدس؟
90ـ لكنكم لا تخجلون أن تنكروا الروح القدس مع إنكم تقرأون أن للروح القدس هيكلاً؟ لأنه مكتوب: ” أنتم هيكل الله وروح الله ساكن فيكم” (1كو16:3). إذن يوجد هيكل لله. أما المخلوق فليس له هيكل حقيقى، لكن الروح يسكن فينا أى يسكن فى هيكل لأنه مكتوب: ” جسدكم هو هيكل للروح القدس” (1كو19:6).
91ـ والروح القدس يسكن فى الهيكل ليس ككاهن ولا كخادم ولكن كإله، لأن الرب نفسه يقول: ” سوف أسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لى شعبًا” (لا12:26)، ويقول داود: ” الله فى هيكل قدسه” (مز4:11). وهكذا يسكن الروح القدس فى هيكله المقدس كما يسكن الآب وكذلك يسكن الابن الذى قال: ” أنا والآب سنأتى إليه وعنده نصنع منزلاً” (يو23:14).
92ـ وهكذا نلاحظ أن الآب والابن والروح القدس يسكنون فى مسكن واحد لأنهم واحد ولهم ذات الطبيعة الواحدة، وهكذا الروح إذ هو يسكن فى الهيكل فإن له القوة الإلهية. وكما أننا هيكل الآب والابن هكذا ايضًا نحن هيكل الروح القدس. وطبعًا لا يوجد عدة هياكل بل هيكل واحد تسكن فيه قوة واحدة.
93ـ كما أننا نرى أن الآب يسكن فينا بالروح القدس الذى أعطاه لنا، فكيف يمكن لطبائع مختلفة أن تسكن معًا؟ هذا مستحيل بالتأكيد. ولكن الروح القدس يسكن مع الآب والابن وهذا ما جعل الرسول يضم شركة الروح القدس مع نعمة يسوع المسيح ومحبة الله الآب عندما يقول: ” نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس تكون مع جميعكم” (2كو14:13).
[1] هذه الأقوال عن الروح القدس اقتطفناها من الكتب الثلاث التى كتبها القديس أمبروسيوس عن الروح القدس، وترجمها عن الإنجليزية د. نصحى عبد الشهيد من المجلد رقم 10 مجموعة آباء ما بعد نيقية السلسلة الثانية.
[2] من الكتاب الأول: الفصل السادس عشر
[3] من الكتاب الثانى: الفصل السابع
[4] من الكتاب الثانى: الفصل العاشر
[5] يقصد خشبة الصليب.
[6] من الكتاب الثانى: الفصل الثالث عشر
[7] الإمبراطور جراتيان الذى كان معاصرًا للقديس أمبروسيوس وهو الذى طلب من أمبروسيوس أن يكتب كتابًا عن الروح القدس.
[8] من الكتاب الثالث: الفصل العاشر
[9] أوكسينتوس أحد أقطاب الآريوسية رسمه كاهنًا غريغوريوس الكبادوكى الذى طرد القديس أثناسيوس من الأسكندرية واستولى على كرسى الأسكندرية. ثم صار أوكسينتوس أسقفًا على ميلان فى 355م حتى وفاته عام 374م.
[10] هذه هى الترجمة اللاتينية الشائعة فى كنيسة ميلان وتؤيدها بعض المخطوطات اليونانية.
[11] من الكتاب الثالث: الفصل الثانى عشر.