رسالة فليمون ع3 – ق. يوحنا ذهبى الفم – رأفت موسى ذكرى
العظة الثالثة
“ فإن كنت تحسبني شريكا فأقبله نظيري. ثم إن كان ظلمك بشئ أو لك عليه دين. فأحسب ذلك علّي. أنا بولس كتبت بيدي. أنا أوفي. حتى لا أقول لك إنك مديون لي بنفسك أيضًا” (عدد 17ـ19)
يا لهذه الكلمات الرائعة والملائمة جدًا التي من خلالها استطاع بولس أن يربح فليمون حينما وجه إليه مِثل هذه الكلمات. وكما سبق ورأينا نجد أن بولس لم يطلب ما يريده مباشرة ولكنه أظهر أولاً التكّريم والتبجيل الكثير نحو فليمون. وقد حرص بولس في رسالته إلى فليمون أن يهيئ نفسيته بكل الطرق, حتى يجعله يُظهر كل خُلق عظيم تجاه ما يطلبه منه فيما يخص أنسيمس. فبعدما قال عن أنسيمسس ” ابني“, ” الذي هو شريكي في الإنجيل“, “الذي هو أحشائى“, ” الذي أريدك أن تقبله كأخ“، أضاف: ” نظيري“. فبولس لا يخجل من أن يدعو أنسيمس بأنه أخ له, ولكن لعلنا نتساءل: ما مدي تأثير هذا القول علي فليمون؟ في الواقع إنى أري أن بولس من خلال كلمة ” نظيرى” يريد أن يقول: لو كنت يا فليمون لك نفس إيماني وتسير في نفس الطريق معي, وإذا اعتبرتني كصديق لك، فأقبل هذا الخادم كنظير لي, وأظهر له تمامًا ما تظهره لي أنا أيضًا.
“ ثم إن كان ظلمك بشئ“.
انظر أين ومتى يذكر ” سبب الضيق والغضب”, يذكره بعد أن ذكر كل شئ آخر, ولم يقل هذا إلاَ بعد أن عَدَدّ الصفات الصالحة لأنسيمس. فجميعنا يعرف أن فقدان المال يسبّب الضيق والغضب للناس. وكما أننا نجد أن بولس لم يتهم أحدًا ” لأنه من المحتمل أن تكون هذه الأموال قد صرفت ولم تسرق”, لأن توجيه تهمة إلي أحد لهو أمر مُحزِن، كما أننا نجده يذكر سبب الضيق بعد كل الأقوال السابقة، وحينما أوضح السبب لم يقل: “إن كان سرقك” ولكن قال ” إن كان ظلمك“، وفي هذا إقرار بذنب قد فعله هذا الخادم ولكن لم بدون جرح لمشاعر أنسيمس. فتعبير ” ظلم” يشير إلي أن ما حدث يمكن أن يحدث بين صديقين, ولهذا استخدم ” ظلمك” بدلا من ” سرقك”.
فاحسب ذلك علي……… أنا أوفي
يطلب بولس من فليمون ألاَ يتحمل أى أعباء ماليه ويعده بأنه سيسدد أى ديون. ولا يكتفي بهذا ولكن يتمم كلماته بما يعبّر عن فرحة روحانية فيقول: ” أنا بولس كتبت بيدي“. يا لهذا الأمر المؤثر والسار جدًا في نفس الوقت, ولكن هل لو لم ينفذ بولس وعده بأنه يوفي الدين هل يعني هذا تصريح لفليمون بأن يرفض أنسيمس؟! بالطبع لا, لأن هذا الأمر المؤكد من خلال الكلمات يجعل فليمون خَجِلاً ويدفعه إلي الطاعة وبهذا تُحَل المشكلة القائمة.
وما أريد أن أقوله هو أنه لا توجد كلمة أكثر رقة من كلمة ” أحشاء“، تلك التي استخدمها بولس هنا في رسالته, كذلك لا توجد كلمة تحمل كل معاني الجدّية مثل كلمة ” بيدى“. يا لهذا الاهتمام العظيم الذي يقدمه بولس حتى ولو من أجل نفس واحدة مثل نفس أنسيمس العبد الهارب.
وحتى لا أقول لك إنك مديون لي بنفسك أيضًا
هل من الممكن أن يكون بولس قد أراد إهانة فليمون بمثل هذا القول؟ ربما أن هذا سيكون صحيحًا في حالة لو أن الجملة كانت قد قيلت ليس علي سبيل الملاطفة. فبولس الرسول لديه ثقة كبيرة في فليمون, فهو يثق في أن طلبه مُجاب وسينال أنسيمس العفو عن السرقة وهو لديه ثقة أيضًا في أن فليمون سيفهم تلك الجملة بأنها قيلت علي سبيل الملاطفة وإعلان عن المحبة القائمة بينهما. ففليمون مَدين ليس فقط ببعض الأشياء ـ مثل أنسيمس المَدين ببعض الأشياء لفليمون ـ ولكنه مَدين بنفسه إلي بولس وهذا راجع لما بينهما من صداقة قوية. وهكذا نجد أن الرسول بولس يبرهن بكل الطرق علي ثقته في فليمون وعلي الدالة القوية التي يمتلكها تجاهه، وأن ما يطلبه سوف يتحقق بدون شك. ومن خلال تلك الجمل نجده في كل حين يحتاط لكليهما (أنسيمس وفليمون).
نعم أيها الأخ. ليكن لي فرح بك في الرب. ارح أحشائي في المسيح (عدد20)
ما هذه الجملة القصير والمركّزة جدًا والتي تحمل كل معاني الجدّية. ” نعم أيها الأخ” اقبله. في هذه الجملة يكرر الرسول بولس طلبه كما أنه يؤكد علي جدّية الأمر وخطورته. لأن تحقيق هذا الأمر هو رغبه نابعة من قلب القديسين أنفسهم, فالأمر لا يحمل في داخله أى مداعبه ” نعم أيها الأخ. ليكن لي فرح بك في الرب. ارح أحشائي في المسيح” فبولس يريد أن يقول: إنك تعطي هذا كله للرب وليس لي. وكلمة أحشائى تعني أن قلبي وكل مشاعري تتجه نحوك أنت وتنتظر رد فعلك.
إذ أنا واثق بإطاعتك. كتبت إليك (عدد21)
أى حجر لا يلين؟! أى حيوان مفترس لا يُستأنس بعد سماعه تلك الأقوال اللينة التي قيلت؟! فهذه الكلمات الرقيقة تجعل من فيلمون لا يلين قلبه فقط بل يصبح لديه الاستعداد التام لاستقبال أى شخص بكل ود ومحبة. وبعدما ذكر بولس كل الأشياء العظيمة التي فعلها من أجل فليمون, نجده يعضد موقفه أكثر لكن ليس بقوله: إني أطلب أو أوصي أو آمر بسلطان ولكن نجده يقول:” إني واثق من أنك ستطيعني ولهذا فإني كتبت إليك“. وكما وجدنا الرسول بولس قد بدأ رسالته مبيّنًا الدالة التي بينه وبين فليمون, نجده أيضًا يختم رسالته مشدِّدًا علي هذه الدالة وذلك بقوله: ” عالما أنك تفعل أكثر مما أقول” وبمثل هذه العبارة فإنه يحثه ـ في نفس الوقت ـ علي أن يفعل ما أراده منه.
ومع هذا, أعدِد لي منزلاً. لأني أرجو أنني بصلواتكم سأوهب لكم (عدد22).
إن هذا الطلب الذي يطلبه بولس من فليمون بأن يَعِد له منزلاً لهو دليل علي ثقته فيه ثقة مفرطة. كما إنه يحمل أيضًا داخله التأكيد علي الطلب الأول لبولس والذي هو طلب مصالحة أنسيمس وقبوله. ومن ناحية أخري فهذا القول لم يُقَل وحسب, ولكن قيل لأن بولس يعرف أن هناك أمورًا كثيرة تنتظر قدومه وتتطلب حضوره الشخصي. فمن خلال وجوده الشخصي تُحل كل الأمور المستعصية. فبولس كشيخ وقور خارج من سجنه ـ لأنه كان أسيرًا بسبب مسيحيته ـ هو مُشرِّف لأي شخص يحل ليسكن عنده. والأمر الآخر الذي نستنتجه من هذه الجملة هو محبة بولس لهؤلاء الذين يقول عنهم إنهم يصلون لأجله كثيرًا. فبالرغم من وجوده في الخطر حتى لحظة كتابة الرسالة فإنه يعلن رجاءه وثقته في صلواتهم التي بواسطتها سيُحل من قيوده.
يسلم عليكم ابفراس المأسور معي في المسيح يسوع (عدد23).
كان أبفراس قد أُرسِل إلي الكولوسيين, وهذا يدل أيضًا علي أن فليمون كان في كولوسي. ويدعو بولس أبفراس بـ” المأسور معي” مبيّنا بهذا أنه هو الآخر يمر بمحنة عظيمة. وبالتالي فإنه يلزم لفليمون أن يُنفذ ما طلبه بولس منه إن لم يكن من أجل خاطر بولس فلأجل أبفراس أيضًا. لأن من يوجد في محنة ويتغاضي عنها من أجل اهتمامه بمشاكل الآخرين لابد أن يُنفذ طلبه. وبطريقة أخرى أراد بولس أن يُخجِل فليمون طالما أن مواطنًا آخر مثله صار أسيرًا مع بولس ويعاني معه بينما هو لم يقدم معونة حتى بالنسبة لخادمه. ثم يوضح موقف إبفراس بقوله عنه أنه ” مأسور معي في المسيح يسوع“
ومرقس وأرسترخس وديماس ولوقا والعاملون معي (عدد24).
لعلك تسأل لماذا وضع اسم لوقا في آخر الأسماء؟ بينما في موضع آخر يقول ” لوقا وحده معى“[1]، وديماس أيضًا كيف يذكره بين العاملين معه وهو يقول عنه في رسالة أخرى ” قد تركني إذ أحب العالم الحاضر“[2] كل هذه الأمور قد شرحناها في مواضع أخري[3]. ولكن يجب ألاّ تمر هنا أيضا بدون تفسير ولا أن نسمعها كأشياء عادية ولكن لنا أن نتساءل, كيف يحسب بولس من بين العاملين معه ذلك الذي قال عنه إنه تركه؟ كما أنه يقول عن أرسترخس” أنه ” بقي في كورنثوس“[4] ثم يذكر أيضًا ” أبفراس” كأنهما معروفان لدي فليمون وعلي ما يبدو أنهم من نفس بلده, ومرقس نفسه ـ كإنسان جدير بالإعجاب ـ لماذا أتى وسط كل هؤلاء ويعد معهم ديماس؟.
ربما أن ديماس هذا قد أصبح أكثر كسلاً. وحينما رأى الخطر يتزايد ترك بولس ومضي. وعلي هذا الأساس حسبه من ضمن هؤلاء. أما لوقا فقد كان آخر وأصبح أولاً. وهنا يرسل بتحياته إلى فليمون وأيضا بالنيابة عن الجميع حاثًا إياه بالأكثر علي الطاعة, وحينما دعاهم بالعاملين معه فهو يريد بذلك أن يقنعه بالأكثر لكى يستجيب إلي طلبه
نعمة ربنا يسوع المسيح مع روحكم امين (عدد25).
أنهى الرسول بولس رسالته بالصلاة التي يطلب فيها من أجل فليمون (ومن معه). وهذا لأن الصلاة هي فعل عظيم, إذ هي حافظة ومنقذة لأرواحنا. ولكن لكي تكون عظيمة يجب أن نكون مستحقين أن نقولها ولا تعود بدينونة علي أنفسنا. فأنت حينما تذهب للكاهن معترفًا بخطيئتك سوف يقول لك: ” ليرحمك الرب يا ابني” إن السر في هذا لا يكمن بما تعترف به بشفتيك فقط ولكن فيما تفعله أيضًا. فاعمل أعمالاً تجعلك مستحقًا للرحمة. إن الله سيباركك فعلاً لو صنعت أعمال الرحمة. وسيباركك لو أنك أظهرت أعمال الرحمة نحو رفيقك وجارك. إن الأمور التي نأمل في أن ننالها من قِبل الله هي نفس الأمور التي يتعّين علينا أن نظهرها نحن أولاً تجاه الآخرين. فلو منعناها عن رفقائنا كيف لنا أن نحصل عليها من الله؟ فالسيد يقول ” طوبي للرحماء لأنهم يرحمون“[5]، فلو أظهر الناس الرحمة تجاه الآخرين فكم وكم سيرحمنا الله. وبالتالي فلن تكون لعديمي الرحمة رحمة بأية طريقة ” لأن الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل الرحمة“[6].
إن الرحمة هي فضيلة عظيمة فلماذا لا نمارسها مع الآخرين؟ هل تأمل في المغفرة، حينما تُخطئ؟، لماذا إذًا لا تعفو عن مَنْ أساء إليك. فأنت دائمًا تأتى إلى الله وتسأله أن يعطيك ملكوت السموات بينما لا تعطي صدقة لمن يسألك. ولهذا فإن الله لن يرحمنا طالما أننا لم نرحم الآخرين بعد. ولماذا؟ لأن الرحمة هي أن يرحم المرء غير الرحماء. لأن ذاك الذي يُظهر محبة لذلك الذي هو قاسي وشرس ويرتكب شرورًا غير متناهية في حق جاره, فكيف لا يكون هو نفسه غير محب للرحمة!!. لأنه سوف يقول ألم تخلصنا المعمودية مع أننا ارتكبنا شرورًا لا تُحصي. هل خلصتنا المعمودية من هذه الشرور لكي نعود إلي فعلها مرة أخرى أم لكي نتوب عنها؟. فبولس الرسول يقول ” الذين متنا عن الخطية. كيف نعيش بعد فيها“[7]. ” ماذا إذًا أنخطئ لأننا لسنا تحت الناموس حاشا“[8]. إن الله قد أعتقنا من الخطية حتى لا نرجع إلي خزي فعلها ثانية. فالأطباء دائمًا يريحون مرضاهم المحمومين من حرارتهم لا لكي يستخدموا صحتهم في فعل الشر والمخالفات (لأنه من الأفضل أن يكون الإنسان مريضًا ـ مع أنه سوف يُشفى ـ علي أن يُعافى كي يفعل الشر). لكنك تتعلّم من المرض أن تحاول ألاّ تعود إلي نفس المرض ثانية وذلك بأن تصون صحتك وتقي نفسك بأي وسيلة.
إنني غالبًا أسمع بعض منكم وهو يقول إن الله محب للبشر وسوف يخلّص ـ علي كل حال ـ نفوسنا, لكن لا تدعنا نخدع أنفسنا بمثل هذا الكلام وتعالوا نتكلم اليوم عن هذا الأمر.
في عظة سابقة قد كلّمتكم عن الجحيم غير أننى حينذاك قد أجلّت كلامي عن محبة الله , فمن المناسب جدًا أن نتكلم اليوم عن هذا الأمر. لأنه من المؤكد أنه سيكون هناك جحيم, ونحن لدينا ـ كما اعتقد ـ براهين كافيه كنت قد أشرت إلي بعضها حينما ذكرنا الطوفان وكل الأمور المماثلة وغير المحتملة. إن هذه الامور كانت كعقاب موجهه لهؤلاء الذين أخطأوا قبل الناموس. فهل نظن أن الذى صنع كل هذا من الممكن أن يترك أناس الزمن الحاضر ـ الذين يخطئون ـ بدون عقاب؟. أعتقد أنه سيعاقبهم لأنهم بعدما أخذوا النعمة صنعوا شرورًا أعظم. وبعد هذا الكلام يبقي السؤال كيف يكون الله الذي يعاقب البشر صالحًا, ومُحبًا لهم؟.
دعونا اليوم يا اخوة نبّين بالبرهان كيف أن الله صالح حتى وهو يعاقب البشر, لأن هذا الكلام أيضًا مناسب لنا في مقاومة الهراطقة. لننتبه لهذا. إن الله قد خلقنا بدون أن يكون محتاجًا لأي شئ منا. فهو خلقنا وهو المهتم باحتياجاتنا. فالله خلقنا من العدم بينما هو كائن بذاته قبل أن نوجد, ونحن خُلقنا في وقت لاحق. فهو قد صنعنا وهو لا يحتاج لنا, هو صنع السماء والأرض والبحر وكل ما فيها لأجلنا. أخبرني إذًا، أليست هذه كلها علامات علي صلاح الله ومحبته ـ وهناك أشياء أخرى ربما يأتى ذكرها ـ وللاختصار أقول إنه يشرق شمسه علي الأشرار والأبرار, ويرسل مطره علي الصالح والطالح[9] ولكنك لو تكلّمت مع أحد أتباع ماركيون[10] وسألته (بعد أن وضحت كل هذه الأمور السابقة)، ألاَ تكون كل هذه علامات علي صلاح الله ومحبته. فتجد الجواب. إن علامة الصلاح والمحبة هو أن الله لا يحاسب الناس علي خطاياهم, فلو حاسبهم لا يكون صالحًا! ولكني أقول لك: لأن الله يحاسب الناس فهذا دليل علي صلاحه. ولتوضيح هذا الأمر نقول, لو أن الله لم يحاسب الناس هل ستبقي الحالة الإنسانية الراقيه قائمة بعد ذلك؟, ألن تسقط في حالة من الحيوانية, فلو لم نخش الحساب من قِبل الله ولو لم ندرك أننا سوف نعطى حسابًا ونخضع تحت حكم الله علينا, فإننا سنفوق الأسماك التي تلتهم بعضها البعض, وقد نُشابه الذئب والأسد في وحشيتهم وافتراسهم. لو أن الله لن يحاسبنا وأقنعنا أنفسنا بعدم وجود حساب, فيا لها من فوضي عظمي وارتباك متناهي هذا الذي كان سيعم العالم؟! وكنا سنري متاهة خرافية أسطورية تملأ العالم. كنا سنري عدد لا نهائي من الجرائم والشغب. من كان سيحترم والده ومن كان سيكرم أمه؟[11] من كان سيترك اللذة والشرور؟ وهكذا كانت ستصير الأمور.
سأشرح أكثر بأمثله. إن أي شخص لديه عبيد, وقام هؤلاء العبيد بتحطيم سمعة عائلة سادتهم. فاحتقروا أشخاصهم. وسرقوهم وتعاملوا معهم كما لو كانوا أعداء, والسادة لم ينذروهم ولم يقوّموهم ولم يعاقبوهم ولا حتى أنّبوهم بكلمة. فهل هذا دليل علي صلاح هؤلاء السادة؟ في الحقيقة, أنا أرى, أنه كان يجب أن يعاملوهم بقسوة شديدة. ليس فقط لأن الزوجة والأولاد قد غُدر بهم من قبل هؤلاء الأشرار. ولكن أيضًا بسبب إن هؤلاء العبيد أنفسهم سيحطمون ذواتهم بسبب أعمالهم. لأنهم سيدمنون السكر والخلاعة والفجور وستكون فيهم شهوة حيوانية أكثر من أى حيوان. هل البرهان على الصلاح أن يُداس علي الطبيعة الانسانية ذات الروح النبيلة. ويحطم الانسان نفسه ويحطم الآخرين بجانبه أيضًا. سنوضح أيضًا كيف أن العقاب دليل علي الصلاح. وإذا كنت تكلّمت عن العبيد فإننى أيضًا أتكلّم عن السادة, فهم أيضًا يسقطون في هذه الخطايا بسهولة, فإذا كان هناك إنسان لديه أبناء وسمح لهم بأن يفعلوا أى شئ يريدوه, ولم يعاقبهم. ألن يجعلهم هذا يزدادون في شرورهم. وأني أسألكم الآن ـ بعد كل هذه الأمثلة التي بيّناها ـ هل كانت علامة الصلاح في العقاب أم في الرحمة؟ بالتأكيد كانت في العقاب. وهل سيختلف الأمر بالنسبة لله الأكثر صلاحًا؟ لا, لن يختلف لأنه صالح جدًا فهو قد أعد الجحيم من قبل.
أتريدون أن أذكر لكم أمرًا آخر يوضح بالأكثر صلاح الله؟ سأُبيّن بمثال آخر. إن الله لا يترك الإنسان الصالح كي يصبح شريرًا. لأنه لو كان لكل الأشخاص نفس المصير, سيتحوّل الكل إلى أشرار. ولكن وجود العقاب واختلاف المصير يعطي الصالحين ـ هنا فى الحياة ـ بعض العزاء. لنسمع قول المزمور ” يفرح الصديق إذا رأى النقمة. يغسل خطواته بدم الشرير“[12]. وهذا ليس معناه أن الصديق يشمت في الشرير ـ حاشا ـ ولكن حينما يري مصير الأشرار فإن هذا يجعله أكثر نقاءً وطهرًا. إن ذلك دليل عظيم علي اهتمام الله بنا. ولكن يبقي التساؤل ألاَ يجب علي الله أن يُنذِر فقط ولا يُعاقِب أيضًا؟ والإجابة هي: لو أن الله ينذر فقط ولا يعاقب ستقول في نفسك إنه فقط إنذار وتهديد وفي هذه الحالة, ألن تصبح أكثر كسلاً؟! وإن لم يكن العقاب حقيقة ألن تكون أكثر استرخاءً؟!.
لو أن أهل نينوى كانوا قد قالوا إن إنذار الله هو فقط تهديد ولن يتم التنفيذ. فقد كان من المحتمل ألاَ يتوبوا, ولكن بسبب أنهم تابوا فإن الله اكتفي بإنذارهم فقط. هل تأمل في أن يكون الأمر إنذار فقط؟
أنت تملك أن تجعل الأمر هكذا. لتكن إنسانًا أفضل وسيتوقف الأمر حينذاك عند الإنذار فقط. ولكن لو أنك بعد هذا احتقرت الإنذار فأنت ستجلب التجربة علي نفسك. فلو خاف الناس قبل الطوفان وتابوا لما تعرضّت حياتهم للتجربة الحقيقية. فليمنع الله عنا كل هذه الأمور. ويهبنا من الآن فصاعدًا رحمته. لنكن حكماء في كل ما نفعل كي نكون جديرين بالبركة التي تفوق التعبير عنها. ويجعلنا مستحقين كلنا أن ننال منه النعمة والمحبة التي لربنا يسوع المسيح. الذي له مع الآب والروح القدس العظمة والقدرة والإكرام الآن وإلي الابد آمين.
[1] 2تي11:4
[2] 2تي10:4
[3] تم شرح هذه الآيات حينما فسر القديس ذهبي الفم رسالة القديس بولس إلي تلميذه تيموثاوس، انظر تفسير الرسالة الثانية إلي تيموثيؤس للقديس يوحنا ذهبي الفم ـ مركز دراسات الآباء 1998 ص 119 ـ ترجمة الأستاذة / سعاد سوريال.
[4] 2تي20:4.
[5] متي7:5
[6] يع13:2
[7] رو 2:6.
[8] رو15:6.
[9] مت 40:5
[10] ماركيون هو عنوسي ذو طابع خاص. ولد في البنطس, وكان يعمل في صناعة السفن. قطعه أبوه أسقف سينوب سنة 139م, فانتمي إلي كنيسة روما, التي ما لبثت أن قطعته عنها سنة 144م, وكان معاديًا لليهودية, ويرفض العهد القديم. ألّف كتاب عهد جديد خاص به, انتقاه من الأناجيل ومن رسائل بولس الرسول. وادّعي أن هناك الإله خالق العالم, البار والعادل والمنتقم, وهو إله العبرانيين الفاطر, وفوقه الإله المجهول إله المحبة, الذي كشف عن نفسه في المسيح, في جسد ظاهري فقط, وجلب للعالم هدية الفداء. وقال يجب ألا تُخلط عظمة الإنجيل مع مخطط يهوه.
تبني ماركيون تعليمًا عن المسيح مثؤسسًا على قاعدة فهمه للعهد الجديد: إن يسوع المسيح هو الله الآب, من حيث إنه روح خلاصية, وقد آتى بشبه جسد وليس حسب الجسد. وربما هو إنسان حقيقي, من أصل سماوي, قد ظهر تحت طبيعتين: إلهية لأنه مخلّص, وملائكية لأنه روح سماوي. والخلاص بالنسبة لماركيون, موجه للنفس, من أجل خلاص أبدي للإنسان الداخلي. أما الجسد واللحم فلهما خلاص مؤقت عابر, واستمر تأثير هذه البدعة حتى نهاية القرن العاشر (المجمع المسكوني الأول نيقيا), الأب ميشال أبرص والأب أنطوان أعرب ـ المكتبة البولسية, لبنان, 1997 ص60).
[11] يؤكد القديس ذهبي الفم علي وصية إكرام الأب والأم لأن العادة كانت أن يتم فحص المتقدمين للمعمودية في بدء الصوم الكبير, وفي وسط الكنيسة الرئيسية, كان يُعَد كرسي الأسقف وكان هؤلاء المرشحون يتقدمون الواحد تَلو الآخر, ومعهم أشابينهم. وحينئذ يسأل الأسقف, موجهًا السؤال إلي المرافقين ولكل شخص منهم قائلاً: ” هل هو يحيا حياة صالحة؟ هل يوقر أبويه؟ هل هو مستعبد لشرب الخمر أو الكذب؟ ” انظر الإنجيل والليتورجيا ـ الكتاب الأول (المعمودية) ـ ص3 ـ تأليف جان دانيلو, ترجمة القمص ميخائيل ميخائيل مليكة.
[12] مز10:58