ميمر الروح القدس للأسقف بولس البوشى – د. جوزيف موريس فلتس
الروح القدس
ميمر عيد العنصرة
مناجاة للروح القدس[1]:
” أيها الروح القدس المنبثق من الأب،
الملك السماوي روح الحق،
الحاضر في مكان،
مالئ الكل كنز الصالحات ورازق الحياة،
هلّم وأسكن فينا وطهرّنا من كل دنس أيها الصالح وخلّص نفوسنا.
يا مَن مَنَحَ التلاميذ حكمة فاضلة حتى صاروا معلّمين ومرشدين لكل المسكونة،
امنح أيها الروح المحيى عبيدك تدبيرًا يؤول إلى الحياة الأبدية حتى نحيا بك.
هبني أنا الحقير أن أتكلّم بكرامتك يا روح الحق المتكلّم في الناموس والأنبياء والقديسين إلى الأبد.
أعطني معرفة يا من يعطي كل المواهب الفاضلة لكي أعلن مجدك أيها المساوى للآب والابن في الجوهر والقِدم والأزلية.
ألهمني منطقًا يا من وَلَدّتنا ميلادًا ثانيًا لا يبلى لرجاء حياة لا تفنى، وبك نجسر أن ندعو الله أبانا، لكي أنطق بجلال كرامتك وقوة أفعالك الكائنة في كل مكان.
الأمانة الأرثوذكسية كما سُلمت إلينا:
أيها الروح القدس المنبثق من الآب أبديًا والمستقر في الابن أزليًا سرمديًا بوحدانية الجوهر بلا ابتداء ولا انتهاء.
أنت هو روح الحياة، روح الطهارة، روح العفاف، روح القوة، روح المواهب الفاضلة الكثيرة الأنواع، روح الرسالة، روح النبوة، روح القداسة، روح المعرفة، روح الحكمة، روح الثبات، روح الصبر، روح الإيمان، الفاعل بكل سلطان وقدرة وجبروت ليس كالخادم بل كمن له سلطة، الحاضر مع كل أحد، وكائن في كل مكان. المحتوى على كل شيء ولا شيء يحويه. القوى الذي لا يمانع والفاعل في الملكوت، الذي لا يحد، البسيط في طبعه[2]، العظيم في أفعاله، الجبار في اقتداره، معدن العطايا الفاضلة، وينبوع المواهب العالية، المعطي نطقًا للأنبياء، وبشرى للرسل وتشجيعًا للشهداء، وعفة للبتوليين، ونسكًا للقديسين، الفاعل في رتبة الكهنوت، الوالد المعمّدين بنين الله، وبواسطته نكمّل الذبيحة من مشارق الشمس إلى مغاربها ومن شمالها إلى جنوبها. روح البر والحق، الباراقليط المعزى المنبثق من الآب. نسجد له ونمجده مع الآب والابن. كما سُلمّت إلينا الأمانة الأرثوذكسية، لأننا هكذا نؤمن أن الثالوث القدوس لاهوت واحد.
فعل الروح القدس في العهد القديم:
إن الروح القدس هو المتكلّم في الناموس والأنبياء كما هو مكتوب في بدء سفر الخليقة في البدء خلق الله ذات السماء وذات الأرض وكانت الأرض خالية خاوية وكانت الظلمة غاشية وجه الغمر وروح الله يرف على وجه المياه (انظر تك1:1ـ2).
ومكتوب أيضًا في السفر الأول وكلّم الله نوحًا قائلاً: ” إن روحي لا يحل في هؤلاء القوم” (انظر تك3:6)، ومكتوب أيضًا في السفر الأول إن فرعون قال لعبيده لأجل يوسف بن يعقوب إسرائيل: “ هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله” (انظر تك38:41)، ومكتوب في السفر الثاني: “وكلّم الرب موسى وقال له أعلم أني انتخبت بصلئيل بن أورى بن حور من سبط يهوذا وأسبغت عليه روح الله وملأته من الحكمة والعلم في كل عمل ليعمل الصناعات في عمل آنية الذهب والفضة والنحاس وفي نقش الحجارة التي في القبة ونظمها وكمالها ونجارة الخشب ليعمل كل الأعمال التي أمرتك لصنع القبة” (انظر خر31: 2ـ5) ومكتوب في السفر الرابع: ” وكلّم الله موسى وقال له اجمع سبعين شيخًا من شيوخ بني إسرائيل الذين تعرف أنهم رؤساء الشعب فقدمهم إلى قبة الشهادة وهناك أقدّمك وأفيض عليهم من الروح الذي عليك” يعنى روح النبوة لأنه روح واحد فاعل في الكل ـ ” فيحملون معك ثقل هذا الشعب…
وجمع موسى سبعين شيخًا من شيوخ بني إسرائيل وأقامهم أمام الله، ونظر الله وكلّمه من الغمام ثم أفاض من الروح الذي عليه وجعل على السبعين شيخًا. فلما حلّ عليهم الروح تنبأوا وتأخر منهم اثنان في المحلة، اسم أحدهما ألداد واسم الآخر ميداد لم يأتيا إلى القبة وتنبآَ في المحلة، فجاء الخبر إلى موسى أن ألداد وميداد يتنبآن فى المحلة. فقال يشوع ابن نون خادم موسى بنقاوة لموسى يا سيدي اقمعهما فقال له موسى هل تغار أنت لى ليت الله جعل شعبه كله أنبياء، لأن الله قد أفاض روحه عليهما فتنبآ“(انظر عد16:11و17و24-29).
ومكتوب أيضًا في آخر السفر الخامس بعد موت موسى أن يشوع بن نون امتلأ من روح الحكمة من أجل أن موسى جعل عليه اليد فأطاعه بنو إسرائيل وفعلوا كما أوصى الله موسى (انظر تث9:34).
ومكتوب أن صموئيل النبي كان عليه روح الله ودبر الشعب جيدًا وكان الله معه وحافظًا للشعب كل أيام حياة صموئيل. ولما مسح صموئيل النبي شاول بن قيس ملكًا قال له هذه علامة أن الله يكمّل لك ذلك، هوذا تذهب في الطريق فتلقى جماعة أنبياء يتنبأون ويحلّ عليك الروح وتتنبأ معهم. ولما ذهب وجد كما قال له وحلّ عليه الروح القدس وتنبأ معهم (انظر 1صم5:10ـ10) لأن هذا الروح الواحد الفعّال في النبوة والمُلك والكهنوت.
وأيضًا مكتوب لما مَسَحَ صموئيل داود بن يسى ملكًا ووضع عليه اليد وصلى عليه حلّ عليه الروح القدس فتنبأ (انظر 1صم13:16)، وبدأ يقول المزامير من ذلك اليوم، وأن روح الله انتُزع من شاول الملك عندما خالف كلمة الله ولم يعمل بها (انظر 1صم14:16)، ولأجل هذا الروح كان داود يتضرع إلى الله عندما أخطأ أن يجدّده فيه بالتوبة لئلا يناله ما أصاب شاول الذي تقدمه. فتاب بقوة ورجع رجعة فاضلة وكان يتضرع قائلاً: ” قلبًا طاهرًا أخلق فيّ يا الله وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي، لا تطرحني من يديك ولا تنزع عني روح قدسك، أعطني بهجة خلاصك وبروحك القادر ثبتني” (انظر مز10:51). وقال: “ روحك الصالح يهديني إلى سبل الاستقامة” (انظر مز10:143)، وقال من أجل الروح أيضًا: ” فتحت فمي واستنشقت روحًا لأني أحببت وصاياك” (انظر مز131:119).
وإشعياء يقول ” منذ بدأت لم أتكلّم في خفية… بل أرسلني وروحه” (انظر إش16:48) وقال: “ ويحلّ عليه روح الرب روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب” (انظر إش2:11) وقال: “ روح الرب علىَّ من أجل هذا مسحنى وأرسلني” (انظر إش1:61). وقال ” هذا عهدي معهم يقول الرب روحي الذي هو عليك وكلامي الذي وضعته في فمك” (انظر إش21:59)، وقال أيضًا في إشعياء عن اليهود ” إنهم أغاظوني وأغضبوا روحي القدوس“.
وحزقيال يقول:” وأخذني الرب بالروح إلى وادي مملوء عظامًا… وقال لي تنبأ يا ابن آدم وقل لها أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب” (حز1:37و4).
وقال حزقيال أيضًا: “ فحل علىّ روح الله وقال قل هكذا يقول الرب” وقال أيضًا ” وحملنى إلى أرض الكلدانيين في السبي في الرؤيا بروح الله” (انظر حز24:11)، وقال أيضًا ” أنضح عليكم ماء نقيًا وأجعل لكم قلبًا جديدًا فأعطيكم روحًا جديدًا وأمنحكم روحي” (انظر حز36: 26،25).
ويقول الرب في دانيال: ” مكتوب لأجل سوسنة أن الله نبه روحًا قدوسًا في فتى يدعى دانيال” (انظر دا45:13)، ودانيال النبي يقول لنبوخذ نصر ملك بابل إن حكماء بابل ليس فيهم روح الله، ولذلك لا يعرفون الغيب ولا يقدرون أن يقصوا الرؤيا التي رأيت أيها الملك” (انظر دا2: 28،27).
وأيضًا مكتوب ” إن الروح القدس الذي كان على إيليا تضاعف دفعتين على إليشع تلميذه” (انظر 2مل9:2)، وكيف يفسر ذلك وإيليا إلى اليوم أكبر من إليشع؟! فاعلم إذًا أن الكتاب لم يقل شيئًا باطلاً وإنما تضاعف الروح في فعل الآيات وذلك أن إيليا صنع سبع آيات مشهورة، وصنع إليشع أربع عشرة آية معلومة!! لقد أقام إيليا بصلاته ميتًا واحدًا وأقام إليشع اثنين. إلا أن فعل الآيات ليس كما يشاء النبي بل كما يشاء الروح الفاعل فيه.
وقال ميخا النبي ” لكنني أنا ملآن قوة روح الرب” (انظر مى8:3).
وقال حجي النبي ” من أجل أني معكم يقول الرب ضابط الكل وروحي حال في وسطكم” (انظر حج5:2).
وقال الله في زكريا ” اقبلوا كلامي وشرائعي وكل ما أوحيت إلى عبيدي الأنبياء بروحي” (انظر زك12:7).
وقد أردت أن أتكلّم عن فعل الروح القدس، كما ورد في الأنبياء لكن خشيت من التطويل، هذا الروح الذي منه تُعطى كل المواهب الفاضلة كما يقول بطرس الرسول” لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلّم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2بط21:1).
فعل الروح القدس في الرسل الأطهار:
ولنختصر الآن في ذكر الأنبياء ونتكلّم عن فعل الروح القدس مع الرسل الأطهار ونبيّن ما هو التفاضل الذي بينهم وبين الأنبياء لأن أولئك كانوا يتكلّمون ـ حين كان الروح يحلّ عليهم ـ بما هو مزمع أن يكون وأما الرسل فكان الروح حالاً فيهم دائمًا مستمرًا وذلك لأنهم تقلدوا تدبير كل المسكونة بالبشرى الإنجيلية والتعليم والتعمير ووضع يد الرئاسة وفعل الآيات كما شهد لهم الرب بذلك قائلاً: ” إني معطيكم الباراقليط يثبت معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يطيق العالم أن يقبله لأنهم لم يروه ولم يعرفوه، أما أنتم فتعرفونه لأنه مقيم عندكم وهو فيكم” (انظر يو16:14) فقد صح أنه ثابت معهم إلى الانقضاء.
ثم منحهم رئاسة وقوة أفضل من الأنبياء كما شهد بولس الرسول قائلاً: ” أما نحن الذين لنا باكورة الروح” (رو23:8)، أعني أن الله شرّف الرسل فوق كل الرتب كما قال ” إن الله ربنا يسوع المسيح الذي سيظهر في وقته، الله المبارك العزيز وحده ملك الملوك ورب الأرباب الذي وحده لا يتغير ساكنًا في نور لا يدنى منه، الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه. الذي له الكرامة والقدرة إلي أبد الآبدين أمين” (1تي 15:6).
لذلك فإن الروح القدس لا يستطيع أحد أن يراه كما قال الرب: ” إن الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها ولا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب” (يو8:3).
لقد اختار الرسل كما هو مكتوب ” ولما شاء الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته لكي أبشر به بين الأمم” (غلاطية15:1).
وقال الرب لحنانيا عن بولس الرسول: أمض إليه فأنا انتخبته ليكون لي إناءًا مختارًا ليحمل اسمي في الأمم والشعوب وبني إسرائيل (انظر أع15:9).
وجاء في سفر الأعمال ” وفيما هم يصومون ويصلون، قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وبولس للخدمة التي دعوتهما إليها” (أع2:13).
والآب دعا الشعوب كما يقول الرسول: “ إن الله بحق صادق والذى به دُعيتم إلى مشاركة ابنه يسوع المسيح ربنا” (انظر 2تس14:2)، وقال: ” أنتم أيضًا مدعوو يسوع المسيح ربنا. إلى جميع من برومية أحباء الله مدعوين قديسين” (انظر رو6:1).
وقال رب المجد: ” ليس أحد يعرف الآب إلاّ الابن ولا الابن إلا الآب. ومن أراد الابن أن يُعلن له” (متى27:11).
وقال عن الروح: “ إذ جاء ذاك فهو يشهد من أجلي ويخبركم من أجل الآب علانية” والرسول يقول: “ لأن مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله” (1كو11:2) وقال أيضًا ” الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله” (1كو10:2)، وهو تعالى فاحص القلوب والكُلى كما هو مكتوب، وكذلك الابن لا يحتاج إلى أحد يشهد له عن الإنسان لأنه يعرف ما في الإنسان، ويقول الرسول ” لأن كلمة الله حيّة وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته، وليست خليقة غير ظاهرة قدامه. بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا” (عب12:4). والروح القدس فاحص القلوب والكلى كما يقول الرسول” أما نحن فإن الله أظهر لنا ذلك بروحه لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله” (1كو10:2) والرب يقول عنه: ” إنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو15:16)، والرب يقول ” كل غرس لم يغرسه أبى السماوي يُقلع” (متى3:15) وقال أيضًا: ” لا يقدر أحد أن يقبل إلىّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني” (يو44:6) وقال أيضًا ” كل ما يعطيني الآب فإلىّ يقبل، ومن يقبل إلىّ لا أخرجه خارجًا” (يو37:6) وقال: ” يا أبتاه الذين أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك” (يو12:17)، وقال لبطرس” إن لحمًا ودمًا لم يعلن لك، لكن أبى الذي في السموات” (متى17:16)، وقال عن ذاته الواحد مع الآب “ بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو5:15)، وقال ” أنا هو الطريق والحق والحياة. لا يقدر أحد أن يأتي إلى الآب إلا بي” (يو6:14)، والرسول يقول: ” ولكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح” (أف13:2)، وقال: ” لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا ونقض حائط السياج المتوسط” (أف 14:2).
وعن الروح يقول الرب: “ وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق” (يو13:16)، والرسول يقول ” وليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس” (1كو 3:12)، وقال أيضًا إن هذه الأشياء التي يتكلّم بها لم يتعلّمها من كلام الناس بل من الروح إذ قال: ” أنتم لستم فى الجسد بل فى الروح” (انظر رو5:8).
وهنا نعلم مساواة الثالوث الأقدس. الابن مولود من الآب، والآب بلا ابتداء، ومنبثق منه الروح أزليًا وهو باق دائم بلا انتهاء. وهو المتكلّم عن الآب الأخذ مما للابن المرشد إلى الحق الناطق في الناموس والأنبياء والرسل والقديسين جيلاً بعد جيلٍ بلا انقضاء، واضع ناموس كامل روحاني، معلّم الرسل، منير بشرى الإنجيل، الذي يجددّ في الأطهار خلقة جديدة. الذي يعطي بسعة واقتدار بغير أمتنان، الفاعل في كل مكان وكل زمان، الذي يهب الصلاة للمصلّين، والبركة للقديسين، الذي هو فصاحة الرسل الأطهار في النداء بالبُشرى حتى بلغ قولهم إلى كل الأرض وسمع صوتهم في أقطار المسكونة في مدة يسيرة من الزمان، وخضع لهم الملوك العتاة والولاة الجبابرة والحكماء والفلاسفة والبسطاء والأمييّن بما أُعطى لهم من القوة، وأخذوه من المعونة. كما هو مكتوب إن الله يعطي كلمة للمبشرين بقوة عظيمة، وأيضًا مكتوب إني أنطق بشهاداتك أمام الملوك ولا أخزى، وأيضًا مكتوب بشرّت بعدلك في بيعة كبيرة ولم أمنع شفتي. وأيضًا قال عنهم: ” خرجت أصواتهم في كل الأرض وبلغ كلامهم أقطار المسكونة” (مز4:19).
هؤلاء هم بحق أنهار الحياة الخارجة من أورشليم الذين رووا كل الأرض كما تنبأ حزقيال. فما أجملهم في إنذارهم بالخيرات العتيدة، كما أنبأ إشعياء النبي قائلاً “ما أجمل أقدام المبشرين بالخيرات”. الينابيع الحلوة التي أخبرنا بها موسى أول الأنبياء قائلاً إنهم لما عبروا بحر سوف نزلوا على أثنى عشر عين ماء وسبعين نخلة (انظر خر27:15)، هى نبوة عن الأثنى عشر رسولاً والسبعين تلميذًا الذين منهم استقى العالم التعاليم الروحية. هم فرسان الرب الإله ومركبته الذين حملوا اسمه القدوس في أقطار الأرض. الجند المخلصون للملك السمائي الذين جاهدوا بقوة في مكافحة أعداء سيدهم وهدموا كل علم مضاد للحق، ونقضوا الحصون المنيعة التي أقامتها الشياطين في نفوس البشر. لقد سبى الرسل كل رأى كان مخالفًا وأتوا به إلى معرفة المسيح، رسل الرب الخصيصون الذين أرسلهم ليدعوا المدعوين إلى العُرس السمائي.. خدامه الفاضلون الذين خدموا باهتمام في الشعب المسيحي.. أهل بيته المطلعون على سره الخفي.. ملح الأرض ونور العالم الذين أناروا ظلمتنا القصوى وأرشدونا إلى نور الهداية.. آباء كل المسكونة الذين ولدوا الجميع في بدء البشرى.. الرعاة الذين اؤتمنوا على القطيع الروحاني.. الصخور الثابتة الذين عليهم وضع المسيح أساس كنيسته. مهندسوا الميناء الوثيق الذي للبيعة كما شهد الرسول قائلاً: ” أنا وضعت الأساس وأخر يبني عليه، فإنه لا يستطيع أحد أن يضع أساسًا آخر غير الذي وضع الذي هو يسوع المسيح” (1كو10:3). نجدهم فلاحين لأنهم نقوا أرض قلوبنا وزرعوا فيها البذر الإلهي، نجدهم سقاة للمسيح الملك لأنهم سقوا نفوسنا من ماء ينبوع الروح القدس. نجدهم كرامين لأنهم تعبوا وعملوا في كرم نفوسنا. نجدهم خاطبين لأنهم خطبوا نفوسنا نقية للختن السمائي المسيح كما يقول الرسول ” إني أغار عليكم غيرة الله لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح” (2كو2:11). نجدهم شفعاء عنا عند المسيح.. نجدهم هم الذين أعطوا الحياة للبشر في بشرى الإيمان وصبغة المعمودية ووضع يد الرئاسة وتناول الأسرار المقدسة. وبالجملة نجدهم كاملين في اقتناء الفضائل والمواهب المختلفة.
هم رسل وأنبياء، ورؤساء ومعلّموا البيعة، وشهداء وقديسون، بل إن كل الفضائل والمواهب المتفرقة في الناس نجدها مجتمعة فيهم حتى لا يفوتهم شيء من الفضائل أو يعلوهم أحد من البشر، لأنه هكذا قد سُر الرب الإله أن لا يكون المبشرون باسمه فلاسفة من حكماء هذا العالم. لأنهم لو كانوا كذلك لكانت أقوالهم متناقضة بعضها مع بعض. كما نجد أقوال الفلاسفة قول الواحد منهم يبطل قول الآخر ويزدري به ويعظّم نفسه عليه. وذلك لأن حكمتهم ليست من الله، ولو كان الإيمان بحكمة الناس وتدبيرهم لما كانت له جدوى ولا منفعة، لأن بطرس الرسول يعلّمنا في هذا المعنى قائلاً
“ لأننا لم نتبع خرافات مصنعة إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح” (2 بط16:1).
وبولس الرسول الذي كان حجة في الناموس يكتب قائلاً ” وأنا لما أتيت إليكم أيها الأخوة أتيت ليس بسمو الكلام أو الحكمة مناديًا لكم بشهادة الله. لأني لم أعزم أن أعرف شيئًا بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبًا” (1كو2: 1و2).
ثم أن كرازة الرسل أيضًا لو كانت تعتمد على قوة السيف وسطوة الإرهاب حتى يرغموا الناس على الدخول إلى الإيمان، شاءوا ذلك أو لم يشاءوا، لكان ذلك مشابهًا لعبادة الأوثان التى انتشرت بقوة منذ نحو ثلاثة آلاف سنة من بعد الطوفان إلى مجيء ربنا يسوع المسيح. بل نجد الشهداء الأطهار، وقد استشهدوا وضربت أعناقهم وهم صابرين ثابتين على الإيمان بربنا يسوع المسيح.
ولقد أختار الله رسله قومًا أميين ضعفاء، لا بصيرة لهم بشيء مما في هذا العالم، فقواّهم وعضّدهم بما منحهم من موهبة الروح القدس، وقهر بهم الفلاسفة، حتى خضعوا لهم، وغلب بهم سطوة الملوك والولاة أصحاب السيف حتى أذعنوا لكرازتهم. ولهذا يقول الرسول ” ولكن لنا هذا الكنز في أوان خزفيةً. أعني في جسم حقير ضعيف. ثم قال لكي تكون عظمة الموهبة من الله لا منا. فهذا الإيمان كان نعمة صادقة من قِبَل الروح. وقد سمّى روح الآب وروح القدس لأنه واحد في اللاهوت، كما يقول بولس الرسول ” إن لم يكن روح الله فيكم” أنتم إذن مرذولين لأنه إن لم يكن في الإنسان روح المسيح فليس هو من الله.
وبطرس يقول ” ذلك الخلاص الذي التمسه الأنبياء وجعلوا يفحصون بروح المسيح، وقدموا الشهادة على آلام المسيح وعلى مجده” (انظر 1بط1: 11،10). فهو هذا الروح الواحد المتكلّم في الناموس والأنبياء والرسل، وكافة القديسين إلى الأبد.
ضرورة إكرام الأعياد الإلهية:
فلنعّيد لهذا العيد الآن بفرح روحاني كما يلائمه، حتى نستحق موهبة الروح مع الرسل الأطهار، ولنتأمل كيف أن الرسل الأفاضل الكاملين الذين لم تبق عليهم قيود الناموس لأن أعمالهم هي فوق الناموس، ومع هذا كانوا يكرّمون الأعياد الإلهية جيدًا. لقد كتب بولس الرسول لأهل كورنثوس (1كو16: 8،7) يقول” سأبقى في أفسس إلى عيد البنطقستى، أعني هذا العيد الشريف، ولم يرتض أن ينتقل إلى مكان آخر حتى يعيّد به كما يليق. وكتب القديس لوقا في سفر الأعمال أنه لما أقبل بولس إلى جزيرة خيوس ينادي بالبشارة قال “كان الرسول مجتهدًا أن يعبر أفسس حتى لا يبطئ في أسيا، لأنه كان يريد أن يعمل يوم عيد البنطقستي في أورشليم” (انظر أع16:20).
تأمل أنه مع مشاغل الخدمة في الكرازة ومصاعبها التي كان يتحملها الرسول، كان مع كل هذا مجتهدًا في إكرام الأعياد الإلهية الشريفة لعلمه بكرامتها. فكم بالأحرى ينبغي لنا أن نهتم بها بنقاوة القلب لكي نتقدّس بتذكارها الصالح. لأن بعض لابسي الروح قالوا ” كما أن الملك يُنعم بعطاياه في المناسبات الملّكية وأيام الأفراح والمواسم على خواصه، كذلك يفيض الله بمواهبه الروحانية على أولاده الصانعين وصاياه في الأعياد الإلهية الشريفة.
كيف نعيّد ونفرح بالعيد:
فينبغي لنا أن نعيّد الآن بنقاوة روحانية، موافقة للروح في عيد حلول الروح المعزى حتى يحلّ فينا ويطهّرنا وينقينّا من آثامنا. لنحفظ الجسد طاهرًا، لأنه هيكل الله للروح القدس حتى يحلّ فينا. لنحفظ النفس وكل الحواس نقيّة لكي تشارك أرواحنا الروح القدس، ونستحق ميراث البنّوة في الملكوت الأبدي.
والرسول يعلّمنا بمثل هذه التعاليم قائلاً:” فلنعش الآن بالروح ونوافقه بروح ضميرنا” ونحذر أن نصنع عكس ذلك لئلا يسخط الروح القدس، إذ يقول ” لا تسخطوا روح الله الذي به ختمتم ليوم النجاة، بل كل تذمر وفرية فلينزع ذلك منكم مع بقية الشرور” (انظر أف30:4و31).
لنرحم أهل الفاقة لكي نكمل مشورة الروح ونستحق الرحمة لأن الرحمة تفتخر في الدينونة، كما يقول يعقوب الرسول. لنصنع سلامًا وصلحًا مع إخوتنا لكي يصنع الروح سلامًا وصلحًا في نفوسنا المقاتلة مع أوجاع أجسادنا. ولنعزِ المتضايقين والمحبوسين بافتقادنا حتى يعضّدنا الروح القدس المعزى ويقوّينا في شدائدنا، فقد كتب “شجعوا صغار الروح”[3] بكلمة تسندك اليمين القوية. ولنغار على السيرة الروحانية التي فيها سلك الآباء الأفاضل لابسي الروح ونتشّبه بهم ليكون لنا ميراث ونصيب معهم في المظال الأبدية.
ونحن نسأل ربنا يسوع المسيح الذي افتقدنا بتحنن رحمته من علوه القدوس أن يجدّد فينا موهبة الروح ويطهر نفوسنا، ويغفر لنا خطايانا، ويتجاوز عن سيئاتنا ويسامحنا عن هفواتنا، ويمنحنا سيرة روحانية بقية أيام حياتنا، وينيح أنفس أمواتنا من كافة بني المعمودية الذين رقدوا على رجاء الإيمان باسمه القدوس. ويجعلنا مستحقين سماع صوته المملوء فرحًا القائل ” تعالوا إلي يا مباركي أبى رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم… بشفاعة سيدتنا الطاهرة البتول القديسة مريم. وشفاعة الرسل الأطهار وكافة الشهداء والقديسين الأبرار. آمين.
[1] العناوين الجانبية من وضع مُعد النص.
[2] لاحظ تأثر البوشى بنصوص القداس الإلهى.
[3] انظر 1تس14:5.