رسالة فيلبي ع4 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس
تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي
للقديس يوحنا ذهبي الفم
جزء أول (العظات من 1 ـ 8 )
ترجمة عن اليونانية
الباحث جورج ميشيل أندراوس
العظة الرابعة
” وَبِهذَا أَنَا أَفْرَحُ. بَلْ سَأَفْرَحُ أَيْضًا. لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هذَا يَؤُولُ لِي إِلَى خَلاَصٍ بِطَلْبَتِكُمْ وَمُؤَازَرَةِ رُوحِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، حَسَبَ انْتِظَارِي وَرَجَائِي أَنِّي لاَ أُخْزَى فِي شَيْءٍ، بَلْ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ كَمَا فِي كُلِّ حِينٍ، كَذلِكَ الآنَ، يَتَعَظَّمُ الْمَسِيحُ فِي جَسَدِي، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ“[1].
لا شئ من الأشياء المؤلمة في هذه الحياة الحاضرة يستطيع أن يُحزن النفس الشامخة والحكيمة، لا العداوات، ولا الاتهامات، ولا الوشايات ولا المخاطر أو المكائد. لأن كل مَن يلجأ إلى قمة جبل عالٍ لا يستطيع أحد ممن يصعدوا إليه من أسفل، من الأرض أن يلحق به. هكذا كانت نفس بولس الرسول، التي احتلت مكانًا أعلى من كل قمم الجبال، هذه هي الحكمة الروحية، الحكمة الحقة. لأن تلك (الحكمة) التي للوثنيين، هى مجرد كلام ولهو أطفال. لكن الكلام الآن ليس هو كلامهم، بل هو كلام الرسول بولس الذي سنهتم به أولاً. فإن ذاك المطوّب كان ضده أعداء كثيرين بالإضافة للإمبراطور وكل منهم يكدره بطريقة مختلفة وبوشاية مُرة. فماذا يقول؟ أنني لا أحزن لهذا وليس هذا فقط، بل ولن أفقد شجاعتي، ولكنني أفرح وسأفرح لأجل هذا الأمر، لا لفترة محدودة ولكنني سأفرح على الدوام ” لأني أعلم أن هذا يؤول إلى خلاص “، (الخلاص) الآتي، لأن العداوة والحسد ضدي يعززان أيضًا البشارة بالإنجيل.
“بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح، حسب إنتظارى ورجائي“. انتبه لتواضع ذلك الرجل المطوّب. يجاهد كل هذا الجهاد، وهو الآن يدنو من إكليله، وقد حقّق الكثير، ذاك الذي نال الخلاص خلال إنجازاته العديدة، يكتب للفيلبيين ويقول إنه بسبب طلبتكم أستطيع أن أخلص، هذا هو بولس. إذًا هل يستطيع المرء أن يضيف شيئًا لذلك؟ ويضيف ” ومؤازرة روح يسوع المسيح “. بمعنى أنه إذا كنت أعتبر نفسي أني مستحق لصلواتكم، فسأكون مستحقًا أيضًا لنعمة أكثر. لأن كلمة “مؤازرة” تعني الآتي: أن تُمنح، أو أن تُعطي لي نعمة الروح بغزارة. لقد كان يقصد بقوله “إلى خلاص”، تحرره من القيود، بمعنى أنه سينجو أيضًا من الخطر الحاضر، كما حدث في الخطر الأول. وبخصوص هذا الأمر يقول ” في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي لا يحسب عليهم. ولكن الرب وقف معي وقواني “[2]. هكذا إذًا يتنبأ الآن ” بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح، حسب انتظاري ورجائي “. فإني لهذا أترجى. ولكي لا نعتمد على صلوات الآخرين فقط، دون أن نقدم نحن أية مساهمة فلاحظ كيف يشارك هو شخصيًا. إن الرجاء سبب كل الخيرات، كما يقول النبي ” لتكن يا رب رحمتك علينا حسبما انتظرناك “[3]. هذا ما يقوله أيضًا في موضع آخر ” انظروا إلى الأجيال القديمة وتأملوا. هل توكل أحد على الرب فخزي “[4]. وأيضًا فإن المطوّب بولس يقول في موضع ثانٍ ” والرجاء لا يخزى “[5]. هذا هو رجاء بولس، رجاؤه بأنه لن يُخزى في شئ.
أترى كيف يرجو الله؟ وأنه مهما حدث، لن يُخزى، بمعنى أن هؤلاء لن يقووا عليّ. ” بل بكل مجاهرة كما في كل حين، كذلك الآن (أيضًا) يتعظَّم المسيح في جسدي “. هؤلاء ربما انتظروا من خلال هذا الفخ أن يقضوا على ق. بولس، ويطفئوا الكرازة بالإنجيل، كما لو كان لمكرهم قوة. لذا يقول (ق. بولس) إن هذا لن يحدث، فلن أموت الآن، لكن: ” كما في كل حين، كذلك الآن يتعظّم المسيح في جسدي ” كيف يكون هذا؟ يقول لقد واجهت مخاطر مرات عديدة، و” كان لنا في أنفسنا حكم الموت “. لكن الله أنقذنا من كل المخاطر. هكذا الآن أيضًا سيتعظَّم في جسدي. ماذا إذًا؟، ولكي لا يقول أحد: ألا يتعظم الرب، لو أنك أجتزت الموت، يقول نعم أعرف هذا. لذا لم أقل، إن الحياة فقط ستُمجّد الله، وإنما الموت أيضًا. في الحالة الأولى: أي حالة بقائي في هذه الحياة، سيتمجد الله في حياتي، وإذا حدث أن هددوني بالموت، فإنه ولا الموت أيضًا سيجعلني أن أنكره، لأنه سبق أن وهبني استعدادًا هذا مقداره، وجعلني أقوى من الموت. وهذا يعني إنه إذا ما بقيت حيًا يكون قد خلّصني من المخاطر، وإذا تعرضت للموت، فلن يجعلني هذا أخاف قوة الموت. هكذا سيتعظم المسيح في حياتي وفي مماتي أيضًا.
من ناحية أخرى يقول هذا، لا كمن هو مُقدِم على الموت، ولكن كي لا يصيبهم أي شئ على المستوى الإنساني، حينما ينتقل. فكونه قد قال هذا لا يعني أنه مُقدِم على الموت، وهو الشئ الذي كان سيحزنهم بشدة، فلاحظ كيف يشير إلى ذلك، تقريبًا نجده يقول: هذا الذي أقوله، ليس أنني مُقدِم على الموت. لأجل هذا يتقدّم مضيفًا ” فإذ أنا واثق بهذا أعلم أني أمكث وأبقى مع جميعكم “[6].
يقول ” لا أخزى في شئ “، أى كونه سوف يموت لا يحمل له هذا أى خزي، بل على العكس، يحمل له ربحًا كبيرًا. لكن لأي سبب يقول هذا؟ بسبب أنه سيترك هذه الحياة، ولكنه سيكون أكثر مجدًا مما لو كان باقيًا فيها. لأن هناك فرق بين أن تحتقر الموت وأنت تثق في الحياة الأبدية، وبين أن تحتقره وأنت تترجى الحياة الحاضرة فقط. ولذلك يقول فإنه ولا حتى موتي الآن يسبب لي خزيًا، ومع ذلك فإنني لن أموت الآن. ” لا أُخزى في شئ “، سواء كان بحياة أم بموت، فالاثنان سأتحملهما ببسالة، أن أبقى حيًا، أو أن أموت. حسن فإن هذه هى سمة النفس المسيحية. حيث يقول “ بكل مجاهرة“.
أرأيت كيف أنني لا أخزى؟ لأنه لو كان الخوف من الموت يمنع عني الشجاعة، لكان الموت يستحق الخزي، أما لو كان الموت لا يسبب بمجيئه أي خوف، فإن هذا لا يُعد خزيًا. ولكن أيضًا أن أبقى في الحياة فلا أُخزى، لأنني أكرز ببشارة الإنجيل. وأيضًا الموت لا يُسبب لي خزي، لأن الخوف من الموت لا يتملكني، ولكنني مستمر في إظهار نفس الشجاعة. إذًا لا تعتبروا ذِكْري للقيود أنه خزي. فقيودي قد صارت سببًا لخيرات كثيرة، لأنني قد أعطيت أيضًا شجاعة لآخرين. لأن الخزي ليس في أن يُقيد شخص لأجل المسيح، ولكن في خوفه من هذه القيود، وفي خيانته للمسيح بسبب خوفه هذا. وعندما يهرب الخوف تصير هذه القيود مصدرًا للشجاعة. فربما بسبب أنني نجوت من المخاطر في مرات كثيرة يمكنني الافتخار بهذا أمام غير المؤمنين، أما الآن إذا لم أنجو من المخاطر فهل تظنون أني أُخزى؟ الحقيقة إن هذا الأمر لا يجعلكم أقل شجاعة. لاحظ كيف أنه يتحدّث عن تجربته الشخصية، الأمر الذي سبق وأن قاله مرات عديدة، كما حدث في رسالته إلى أهل رومية، إذ يقول: ” لأني لست أستحي بإنجيل المسيح “[7]. تمامًا كما أشار إلى ذلك في رسالته إلى الكورنثيين قائلاً: ” فهذا حولته تشبيهًا إلى نفسي وإلى أبلوس “[8].
” سواء كان بحيوة أم بموت “. لم يقل هذا لأنه لا يعرف إن كان المسيح سيتعظم في حياته أو في موته، فهو يعرف بالتأكيد أنه لن يموت في ذلك الوقت، لكنه أيضًا يُريد إعدادهم مسبقًا لهذا الأمر.
” لأن لي الحياة هى المسيح والموت هو ربح “[9]. لأجل هذا فإنه يقول إن موتي لا يعني إنتهاء حياتي، لأني حيّ بالمسيح، لأنهم إن كانوا يقدرون أن يسلبوا إيماني عن طريق الخوف ـ لكان يمكنهم بذلك فقط أن يميتوني. لكن طالما أن المسيح معي، فحتى إن جاء الموت فأنا حيّ. ومن جهة الحياة الحاضرة، فهى لا تمثل لي الحياة الحقيقية، وإنما حياتي الحقيقية هى في المسيح ” فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان “[10] (إيمان ابن الله). هذا ما أقوله هناك أيضًا ” أحيا لا أنا بل المسيح يحيا في “. هكذا يجب أن يكون المسيحي. ما يقوله ق. بولس إنني لا أحيا الحياة الطبيعية. وكيف لا تحيا أيها المطوب بولس هذه الحياة؟ ألا ترى الشمس؟ ألا تتنفس نفس الهواء الذي يتنفسه الكل؟ ألا تقتات بنفس الطعام الذي يقتات به الكل؟ ألا تمشي فوق الأرض، كما نحن أيضًا؟ أليس لك حاجة للنوم؟ أليس لك حاجة للملبس والحذاء؟ لماذا تقول لا أحيا؟ كيف لا تحيا؟
لماذا تفتخر؟ نحن نعلم أنه لا يقول هذا بقصد الإفتخار. لأنه إن لم تشهد له عذاباته وآلامه، فإنه حقًا كان يمكن لأحد أن يقول إن هذه كلمات افتخار، أما إذا كانت هذه الأحداث قد شهدت له فأين كلام الافتخار هذا؟ لنرَ إذًا كيف لا يحيا. لأنه يقول في موضع آخر ” قد صُلب العالم لي وأنا للعالم “[11]. فكيف يقول إذًا ” لا أحيا أنا “، وكيف يقول أيضًا ” لأن لي الحياة هى المسيح “؟ اسمعوا، إن كلمة حياة يا أحبائي تعني الكثير، كما هو بالضبط بالنسبة لكلمة موت. فهناك حياة الجسد، وحياة الخطية، كما أن بولس بنفسه يقول في موضع آخر ” نحن الذين متنا عن الخطية كيف نعيش بعد فيها؟ “[12]. بالتالي فإن هناك حياة الخطية يمكننا أن نحياها.
انتبهوا جدًا من فضلكم، لئلا يكون جهدي باطلاً. هناك الحياة الأبدية، الحياة السماوية ” فإن سيرتنا هى في السموات “[13]. وهناك حياة الجسد، والتي يقول عنها ” لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد “[14]. إذًا فهو لا يطلب منا ألاّ نحيا الحياة الطبيعية العادية بل أن نرفض حياة الخطية التي يحياها البشر. فبولس الذي لا يريد الحياة الحاضرة، فبأي طريقة إذٍا يحياها؟ وإن كان يركض نحو الحياة الأخرى، بأي طريقة يعيش هذه الحياة؟ ومن كان يحتقر الموت، كيف يحيا هذه الحياة؟ وإن كان هو لا يرغب في أي شئ، بأي طريقة يحيا الحياة الحاضرة؟ لقد ظل بولس ثابتًا، تمامًا مثلما يحدث لحجر الماس، الذي بالرغم من أنه يتلقى ضربات عديدة، لكنه لا يتحول أبدًا عن طبيعته. ” لا أحيا أنا “؛ بمعنى ليس الإنسان العتيق يحيا فيّ بعد. وأيضًا في موضع آخر يقول ” ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت “[15]. وإن كان لا يهتم إطلاقًا بالطعام أو الملبس أو بأي شئ آخر من خيرات العالم الحاضر فبأي طريقة إذًا يحيا؟ إنه لا يهتم حتى بأمور هذه الحياة الحاضرة، فإن هذا الذي لا يهتم أبدًا بإحتياجاته المعيشية، لا يحيا (بحسب الجسد). نحن نعيش الحياة الحاضرة، ونفعل كل شئ لأجل هذه الحياة، لكن ق. بولس لا يهتم بها. فلم يكن يهتم بأي شئ في هذه الحياة، فكيف كان يحيا إذًا؟ بالتأكيد ق. بولس لا يرفض الحياة الطبيعية، حيث يقول في موضع آخر ” فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي “[16]. أي أنني أعيش حياة جديدة مختلفة تمامًا.
بالتأكيد كل هذا يقوله لأجل تعزية الفيلبيين. فلا تظنوا، كما يقول، أنني أُحرَم من هذه الحياة، لأنني حينما أعيش هذه الحياة، فإنني أحياها كما يريد المسيح. فهل يكون ذلك الذي يحتقر الملذات، وغير المهتم بالجوع والعطش، والمخاطر، والصحة، والأمان، يكون مهتمًا بهذه الحياة؟ وهل غير المتعلّق بأي شئ في هذه الحياة، ومَن يرغب باستمرار في أن ينطلق منها، هل يحيا هذه الحياة (حسب الجسد)؟ بالطبع لا. لابد أن أوضح لكم هذا. على سبيل المثال، لنفرض أن شخصًا غنيًا جدًا، وعنده خدم وذهب ولا يستخدم أي شئ من كل هذا، فهل مثل هذا يستمتع بذلك الثراء؟ أبدًا. وعندما يرى أولاده وهم يُبدّدون هذه الثروة، ويضلّون، وهو لا يهتم بشئ من كل هذا، ولا يحزن عليه، فهل نعتقد أنه يحيا في غنى، رغم امتلاكه هذه الثروة؟ بالطبع لا.
” لي الحياة هى المسيح “. يقول إن كنت ترغب في السؤال عن حياتي، فهذه الحياة هى المسيح. “الموت ربح” لماذا؟ لأنني سأكون بالحري مع المسيح بصورة أفضل، لذلك فإن موتي بالأحرى يعني أنني أحيا. فعندما يحكم علىّ هؤلاء بالموت، فهذا الحكم لن يسبب لي أية خسارة، لأنهم بهذا يقودونني إلى الحياة الحقيقية ويحررونني من الحياة الحاضرة، التي لا توافقني.
ماذا نقول إذًا؟ وأنت موجود في هذه الحياة، ألا تحيا للمسيح؟ نعم أحيا للمسيح وبشكل فائق ” ولكن إن كانت الحياة في الجسد هى لي ثمر عملي فماذا أختار لست أدري “[17]. فحتى لا يقول أحد: إذا كانت الحياة الحقيقية هى فقط الحياة الأبدية، فلأي سبب تركك المسيح أن تعيش هنا؟ يقول لأجل ثمر العمل الرسولي. بالتالي لئلا تظن أنه كان يمقت هذه الحياة، فإني أقول إنه من الممكن أن تستخدم أنت الحياة الحاضرة أيضًا دون أن تنحصر فيها، ودون أن تحياها كما يحياها الآخرون. لأنه إن كنا لا ننتفع مطلقًا بهذه الحياة، فلماذا لا نهجرها؟
يقول ق. بولس إنه من الممكن للمرء أن ينتفع بهذه الحياة، إن كان لا ينحصر فيها، وإنما يتطلع إلى الحياة الأبدية. لكن ربما يتساءل المرء عن مدى النفع الذي يعود عليه من الوجود في هذه الحياة. يجيب ق. بولس: نعم هناك نفع، إذ أن مهمتي هى مقاومة الهراطقة. إذًا يجب أن ننظر إلى أن حياتي بالجسد هى من أجل تتميم العمل الرسولي.
” فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان “[18]. لهذا فإن عملي يحقق ثمر. ” فماذا أختار لست أدري “. ياللعجب! ما أعظم حكمته (ق. بولس)، بأى وسيلة يطرد رغبة التمسك بالحياة الحاضرة، وفي الوقت نفسه لا يحتقرها؟ فمن جهة يقول إن الموت ربح فيطرد رغبة تمسكه بهذه الحياة، ولكن من جهة أخرى يقول إن الحياة في الجسد هي لي ثمر العمل الرسولي، وبذلك يكون قد برهن على أهمية الحياة الحاضرة أيضًا، إن كان السلوك فيها كما ينبغي، وإن كان قد أتي بثمار، لأن الحياة إن كانت بلا ثمر، فليست بعد حياة. فإنه حتى الأشجار التي لا تعطي ثمرًا نافعًا، نَعرِض عنها، إذ أنها تكون كفروع جافة، تلقى في النار. من ناحية أخرى فإن الحياة هى للجميع، فإن سلك المرء في الفضيلة أو في الخطية، فهذا يتوقف على توجّهه أو إختياره.
بالتالي ينبغي علينا ألاّ نحتقر الحياة، لأنه من الممكن أن نحيا في الفضيلة أيضًا. ولكن حتى لو سلكنا في هذه الحياة بشكل غير مستقيم، فلا ينبغي أن نحتقر هذه الحياة. لماذا؟ لأن الحياة ليست هى السبب في عدم الإستقامة، وإنما الاختيار الرديء لهؤلاء الذين يعيشون فيها. بالطبع فإن الله جبلك لكي تحيا لأجله. لكن طالما إنك تحيا في الخطية منجذبًا من الشر، فإنك تجعل نفسك سببًا للشر. ماذا تقول، أخبرني، ألا تعرف ماذا تفضِّل؟ هو يعلن هنا عن سر كبير، لقد كان لديه الرغبة في أن ينطلق، لأنه حينما يوجد اختيار، فلدينا الدافع أن نفعل هذا أو ذاك. يقول ” فماذا أختار لست أدري “. هل هذا يتوقف عليك؟ يقول نعم، إن كنت أريد فإني أطلب من الله هذه النعمة. ” فإني محصور من الاثنين“[19]، أي شهوة الانطلاق ورغبة البقاء. لاحظ حنو المطوّب بولس، فهو بهذا أيضًا يشجّعهم، حينما يرون أنه في وضع الاختيار، وأن هذا يحدث لا بخدعة بشريّة، وإنما بتدبير الله. يقول لماذا تحزنون حينما يأتي الموت؟ لقد كان الأفضل أن أموت منذ فترة طويلة.
” أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جدًا. ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم “[20]. بهذه الكلمات يعدّهم لوقت انتقاله في المستقبل، لكي يحتملوا هذا الفراق بشجاعة. هذه الكلمات هى حكمة عظيمة. فهو يقول إنه من الأفضل أن أنطلق من هذه الحياة وأكون مع المسيح. بالطبع ليس الموت (في حد ذاته) أمرًا رديئًًا أو نافعًا، فالشئ الردئ هو أن يُدان الإنسان (الخاطئ) بعد الموت، أما الخير هو أن يكافأ الإنسان (البار) بأن يكون مع المسيح.
لا نحزن إذًا لمجرد أن البعض ينتقلون، ولا نفرح لمجرد أن البعض الآخر لا زالوا يحيون، إنما ماذا نفعل؟ نحزن لأجل الخطاة، ليس فقط حينما يموتون، بل وحين يبقون على قيد الحياة أيضًا. لنفرح للأبرار ليس فقط حال حياتهم، وإنما حينما ينتقلون أيضًا. لأن أولئك الخطاة، حتى وهم أحياء، فإنهم موتى، بينما هؤلاء الأبرار، حتى حينما ينتقلون فهم أحياء. وأولئك الخطاة حتى في حالة وجودهم في هذه الحياة الحاضرة، فهم يستحقون أن يحزن عليهم كل البشر، لأنهم يقاومون إرادة الله. أما هؤلاء الأبرار فحتى حينما ينتقلون إلى الحياة الأخرى فيجب أن نفرح لهم، لأنهم سيكونون سعداء بسبب وجودهم مع المسيح.
إن الخطاة أينما كانوا، هم بعيدون عن الملك المسيح، لأجل هذا فهم مُستحقون للبكاء عليهم. أما الأبرار، فإن هم وجدوا في هذه الحياة، أو في الحياة الأخرى، فهم موجودون مع المسيح، وبالأحرى في الحياة الأخرى هم أقرب للمسيح، لا بالإيمان، بل بالعيان[21].
فلا نبكي إذًا الذين ينتقلون، ولكن نبكي على الخطاة، فهم يستحقون الحزن، والنحيب، والدموع. فأي رجاء لهم، حينما يأتون للحياة الأخرى حاملين معهم خطاياهم، حيث من غير الممكن أن ينزعوا عنهم خطاياهم؟ لأنهم حين كانوا في الحياة الحاضرة، ربما كان هناك أمل كبير أن يتوبوا، وأن يصيروا أفضل. لكن إذ قد ذهبوا إلى الجحيم، فمن غير الممكن أن يتوبوا، كما يقول الكتاب ” لأنه ليس في الموت ذِكرك. في الهاوية من يحمدك “[22]. فكيف لا يكونوا مستحقين للحزن؟
لنبكِ هؤلاء الذين يرحلون وهم خطاة، وأنا لا أمنعكم من البكاء، لكن لنبكِ بطريقة لائقة، أي بدون أن ننزع شعور رؤوسنا، ودون أن نجرح الوجه، بدون أن نلبس ملابس سوداء، بل بأن نسكب داخلنا دموع غزيرة لكن بهدوء. لأنه من الممكن أن نحزن بمرارة بدون هذه المظاهر السيئة، وألاّ نعبث بأنفسنا، لأن ما يفعله البعض لا يختلف إطلاقًا عن الهزل. لأن ذلك النحيب أمام العامة لا ينبع من التعاطف، وإنما من الاستعراض وحب المجد والزهو، وكثير من النساء يفعلّن هذا كحرفة. لتبكِ بمرارة وتنَّهُد في بيتك، حيثما لا يراك أحد، فهذا دليل تعاطف مع الآخرين، وعلاوة على ذلك فإن هذا يفيدك. لأن من يحزن بهذه الطريقة على الخطاة، سيحاول بالحري ألاّ يسقط أبدًا في مثل هذه الشرور، بل ستكون الخطية مرعبة له. لتبكِ غير المؤمنين، لتبكِ هؤلاء الخطاة والذين لا يختلفون مطلقًا عن أولئك الذين يموتون بدون معمودية، وبدون ختم الروح القدس. فهؤلاء حقًا يستحقون النوح،و يستحقون النحيب، لأنهم يُقيمون خارج ملكوت الله مع المدانين، والمحكوم عليهم كقول الكتاب: ” الحق أقول لكم إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله “[23].
لتبكِ هؤلاء الذين ماتوا في غناهم، ولم يجنوا من وراء هذا أي عزاء لنفوسهم، هؤلاء الذين نالوا إمكانية التطهير تمامًا من خطاياهم، لكنهم لم يريدوا. لنبكِ هؤلاء على المستوى الشخصي وأيضًا على المستوى العام، لكن بلياقة ووقار، وألا يكون لدينا رغبة في الظهور من خلال هذا السلوك. لنبكِ هؤلاء ليس يومًا واحدًا ولا اثنين، ولكن كل حياتنا. وهذه الدموع لا تأتي من عاطفة بلا معنى، وإنما بدافع من الحنو، وأما تلك الدموع الزائفة، فتأتي من عاطفة حمقاء، ولذلك فإنها تختفي سريعًا. لكن حينما تكون لأجل الله فهي تثبت دائمًا. لنبكِ إذًا هؤلاء، لنساعدهم بقدر ما نستطيع، ولنفكر في أي مساعدة يمكن أن نقدمها لهم حتى وإن كانت صغيرة، إلاّ أنها قادرة أن تُعين. كيف وبأي طريقة؟ بأن نصلي ولنطلب من آخرين أن يصلّوا من أجل هؤلاء، لنعطِ باستمرار للفقراء، لفائدة هؤلاء. إن هذا الأمر فيه عزاء. فأصغِ لقول الله ” وأحامي عن هذه المدينة من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي “[24]. فإن كانت فقط ذكرى البار لها هذه القوة، فكيف لا تكون هناك قوة حينما تُصنع أعمال أيضًا لأجل شخص ما. فليس باطلاً أن يأمر الرسل بذلك؛ أي أن نذكر أثناء إقامة الأسرار الإلهية، هؤلاء الذين تركوا الحياة، عالمين كيف إنهم ينالون ربحًا عظيمًا وفائدة كبيرة من ذلك. لأنه حينما يقف الشعب كله بأيادي مرفوعة، مع الجمع الكهنوتي، وتُقام الذبيحة المخوفة[25]، فكيف لا نتوسل إلى الله، متضرعين لأجل هؤلاء؟ وهذا التوسل يخص هؤلاء الذين رحلوا وهم في الإيمان، أما الموعوظون الذين رحلوا فليسوا مستحقين ولا حتى هذا العزاء، وإنما قد حُرموا من كل معونة، فيما عدا واحدة. إذًا ما هى هذه؟ هى أن نعطي الفقراء حتى يحصل الموعوظين على بعض العزاء[26]، لأن الله يريد أن يساعد الواحد منا الآخر. وإلاّ فلماذا يطلب أن نصلي من أجل سلام واستقرار العالم؟ ولماذا يَطلب أن نصلي من أجل كل البشر؟ فإن كان من المؤكد أنه يوجد في كل مكان لصوص ونابشي قبور وسراّق، ومرتكبي شرور أخرى كثيرة جدًا، ومع هذا نصلي من أجل كل البشر، فربما يرجع أحدهم. فكما نصلي إذًا لأجل الأحياء، الذين لا تختلف أعمالهم عن أعمال الذين ماتوا، هكذا يمكن أن نصلي عنهم أيضًا. فلقد قّدم أيوب ذبائحه لأجل أبنائه لتطهيرهم من خطاياهم. لأنه قال ” ربما أخطأ بنّي وجدَّفوا على الله في قلوبهم “[27]. وهكذا كان أهتمامه بأولاده، فلم يقل، كما يقول كثيرون في هذه الأيام، لأورّثهم ثروة، ولم يقل أن أجلب لهم مجدًا، لم يقل أشتري السلطة، ولم يقل أشتري أملاكًا، وإنما ماذا قال؟ ” ربما أخطأ بنيَّ وجدَّفوا على الله في قلوبهم “. لأنه ما هي المنفعة من وراء هذه الأشياء الأرضية؟ لا شئ على الإطلاق. لقد كان إيمانه إنه سيرضي ملك الكل لأجل هؤلاء الأولاد لأنه لن ينقصهم شئ فيما بعد. لأن ” الرب راعي فلا يعوزني شئ “[28]. فإن كان لنا خوف الله، فهذا هو الغِنَى العظيم، ولن يوجد احتياج لأي شئ. أما إن كان ليس لنا هذا الخوف، فحتى وإن كنا ملوكًا، فنحن أفقر جميع الناس. فلا شئ يساوي مخافة الرب. لأن الكتاب يقول ” مخافة الرب أعلى من كل شئ “[29]. لنكتسب هذه المخافة، لنفعل كل شئ من أجل تحقيق هذا الأمر، حتى وإن كان يجب علينا أن نبذل أنفسنا، فلا نحزن، وإن كان ينبغي أن نصلب أجسادنا، فلنفعل كل شئ كي نربح مخافة الله. لأنه هكذا سنكون أغنى وسنربح الخيرات العتيدة. بمعونة ربنا يسوع المسيح والذي يليق به مع أبيه والروح القدس المجد والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
+ + + + + + +
[1] في18:1ـ20.
[2] 2تي16:4.
[3] مز22:23.
[4] ابن سيراخ 11:2.
[5] رو5:5.
[6] في25:1.
[7] رو6:1.
[8] 1كو6:4.
[9] في21:1.
[10] غلا20:2.
[11] غلا14:6.
[12] رو2:6.
[13] في20:3.
[14] أع28:17.
[15] رو24:7.
[16] غلا20:2.
[17] في22:1.
[18] غلا20:2.
[19] في23:1.
[20] في23:1ـ24.
[21] قارن 1كو12:13.
[22] مز5:6.
[23] يو5:3.
[24] 2مل6:20.
[25] سر الافخارستيا.
[26] لأن هؤلاء الموعوظين لم ينالوا نعمة المعمودية وعليه ينطبق عليهم ما قد ذكره قبل ذلك مباشرة في قول الكتاب: “…إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو5:3).
[27] أي 5:1.
[28] مز1:23.
[29] يشوع بن سيراخ 14:25.