رسالة فيلبي ع2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس
تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي
للقديس يوحنا ذهبي الفم
جزء أول (العظات من 1 ـ 8 )
ترجمة عن اليونانية
الباحث جورج ميشيل أندراوس
العظة الثانية
” بُولُسُ وَتِيمُوثَاوُسُ عَبْدَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِينَ فِي فِيلِبِّي، مَعَ أَسَاقِفَةٍ وَشَمَامِسَةٍ: نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ“[1].
يظهر الرسول بولس هنا كمن يكتب إلى أشخاص يساوونه في القامة فهو لا يستخدم رتبة المعلّم، ولكن تعبير آخر وهذا أمر عظيم. وما هذا الأمر إذًا؟ إنه يدعو نفسه عبدًا لا رسولاً. لأنها عظيمة أيضًا هذه الدرجة وتمثل قمة الأمور الصالحة، أي أن يكون الشخص عبدًا ليسوع المسيح وليس مجرد أن يُدعى عبدًا فقط. إذ أن مَنْ هو عبد للمسيح هو في الواقع حر من الخطية، والعبد الأصيل ليس عبدًا لأي سيد آخر، لأنه لا يستطيع أحد أن يكون عبدًا للمسيح وهو عبد لآخر في نفس الوقت. وحينما يكتب أيضًا إلى أهل رومية يقول: ” بولس عبد ليسوع المسيح “[2]. لكن حين يكتب إلى الكورنثيين وإلى تيموثاوس، يدعو نفسه رسولاً. لأي سبب إذًا يفعل ذلك؟ ليس لأن هؤلاء أسمى من تيموثاوس، مثل هذا التفكير هو أمر مستبعد، ولكن لأنه يُجلّهم ويُظهر عناية بهم أكثر من كل الآخرين الذين كتب إليهم، كما أنه يشهد لهم بفضائل كثيرة. وهناك قد استعمل رتبته كرسول لأنه كان ينظِّم أشياء كثيرة، أما هنا فلم يكن يوجد شئ ينظِّمه، إلاّ تلك الأمور التي لا يعرفونها.
” إلى القديسين في المسيح يسوع الذين في فيلبي “. هؤلاء بالطبع هم فقط القديسون أما الآخرون فدنسون. فهو يضيف إلى كلمة “إلى القديسين” عبارة “في المسيح يسوع” لأنه كان من الطبيعي أن اليهود أيضًا يدعون أنفسهم “قديسين” وذلك حسب ما ورد في العهد القديم، حيث دُعوا شعبًا مقدسًا وأمة مختارة.
“مع أساقفة وشمامسة “. ماذا يعني هذا؟ هل كان هناك أساقفة كثيرون في مدينة واحدة؟ بالطبع لا، لكنه قد دعى الكهنة أيضًا هكذا. لأنه في ذلك الوقت كان لايزال هناك تبادل بين الألقاب[3]، كما أن الأسقف دُعى خادم. لأجل هذا كتب لتيموثاوس يقول ” تمم خدمتك ” في حين أنه كان أسقفًا. ويتضح أنه كان أسقفًا من قوله: ” لا تضع يدًا على أحد بالعجلة “، وأيضًا ” لا تهمل الموهبة التي فيك المعطاة لك مع وضع أيدي الشيوخ “[4]. وبالطبع لم يكن ممكنًا للشيوخ (الكهنة) أن يسيموا أسقفًا. وأيضًا يكتب إلى تيطس قائلاً: ” من أجل هذا تركتك في كريت لكي تقيم في كل مدينة شيوخًا كما أوصيتك، إن كان أحد بلا لوم بعل إمرأة واحدة … الخ “[5]. وهذه العبارة يقولها عن الأسقف. وبمجرد أن قال ذلك أضاف ” لأنه يجب أن يكون الأسقف بلا لوم، كوكيل الله، غير معجب بنفسه “[6]. إذًا ـ فكما قلت ـ فإن الكهنة أيضًا في ذلك الوقت كانوا يُدعون أساقفة وشمامسة المسيح، والأساقفة كانوا يُدعون كهنة[7]. ولهذا فهنا أيضًا تأتي كلمة أساقفة مع كلمة كهنة وشمامسة. لكن من ناحية أخرى فقد أُعطى لكل واحد اللقب الذي يخصه، أي لقب الأسقف ولقب الكاهن. ويستكمل قائلاً “ مع أساقفة وشمامسة، نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح “. لماذا إذًا يكتب في هذه الرسالة إلى الإكليروس، بينما لا يكتب إليهم في أي رسالة أخرى، لا في رسالة رومية، ولا في رسالة كورنثوس، ولا في رسالة أفسس، بل يكتب بصفة عامة إلى كل القديسين، والمؤمنين، والمحبوبين؟ والإجابة هى أن هؤلاء أرسلوا مساعدة وظهر ثمرهم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هم أيضًا أرسلوا إليه أبفرودتس.
” أشكر إلهي عند كل ذكرى إياكم “[8]. هذا ما يقوله هنا، أما في رسالة أخرى فإنه يقول ” أطيعوا مرشديكم واخضعوا لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يُعطون حسابًا لكي يفعلوا ذلك بفرح لا آنين “[9] إذًا فإن كان الأنين هو بسبب سوء سلوك التلاميذ، فإن قوله بخصوص تتميم العمل بفرح، يأتي بسبب نموهم وتقدمهم. إذًا هو يشكر الله كلما يتذكرهم. وهو يفعل هذا لأنه يعرف صلاحهم الكثير. يقول أشكر وأتوسل. بالطبع لن أكف عن الصلاة لأجلكم، لأنكم تقدمتم في الفضيلة، بل ” أشكر إلهي عند كل ذكرى إياكم، دائمًا في كل أدعيتي مقدمًا الطلبة لأجل جميعكم بفرح “. يقول “دائمًا”، وليس فقط عندما أصلي، ويضيف “بفرح”، لأنه من الممكن أن يفعل ذلك بحزن، مثلما قال في موضع آخر: ” لأني من حزنٍ كثيرٍ وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة “[10].
” بسبب مشاركتكم في الإنجيل من أول يوم إلى الآن “[11]. هنا هو يشهد لهم شهادة عظيمة. أجل فالشهادة التي يشهدها الرسل والإنجيليون لشخص ما هى شهادة عظيمة جدًا. يقول إنكم تهتمون ليس فقط بسبب أنكم تعهّدتم خدمة مدينة، ولكنكم تفعلون كل شئ، حتى أنكم تشاركونني في آلامي في كل مكان تعضدونني وتشاركونني كرازتي. مُحاكين غيرة الرسل وهذا تفعلوه لا لسنة واحدة فقط ولا سنتان ولا ثلاثة ولكن بصورة دائمة، منذ أن آمنتم وحتى الآن. لاحظ كيف أن كل الذين في أسيا انصرفوا عنه، اسمع ما يقوله ” أنت تَعْلَم هذا أن جميع الذين في أسيا إرتدوا عني “[12]. وأيضًا ” ديماس قد تركني ” أيضًا يقول ” في إحتجاجي الأول لم يحضر أحـد معي“[13]. لكن الفيلبيون برغم أنهم غائبون إلاّ أنهم يشاركونه أحزانه ويرسلون له رجلاً، ويقدّمون مساعدة بحسب الطاقة، وبصورة عامة لا يهملون أى شئ. هكذا يظهر أنه ليس الآن فقط، ولكن في كل وقت وبكل طريقة يقدمون العون. بالتالي فإن هذا التعضيد هو مشاركة في نشر الإنجيل. لأنه حينما ينشغل هو بالبشارة، وتهتم أنت بمن يُبشر، فإنك تشارك في مجده وكرامته. ففي المسابقات الرياضية، لا تُنسب الجائزة للرياضي فقط، ولكن لمن يرعاه وللمدرب أيضًا، وبصورة عامة لكل الذين يقومون على تدريبه وتعليمه. لأنه من الطبيعي أن هؤلاء الذين يساندونه ويشجعونه، أن يشاركونه إنتصاره أيضًا. كذلك في رياضة المصارعة، من الطبيعي أن كل الذين يتعهّدون المصارع بالرعاية يشاركون في أكاليل الإنتصار والمجد، فلا يُكلّل فقط هذا المصارع الذي فاز في المباراة، بل أيضًا الذين شاركوا في إعداده للمباراة. لذلك فإن العناية بالقديسين لا تجعلنا نفوز بأشياء صغيرة وإنما بأشياء عظيمة، لأنها تجعلنا شركاء في المكافأة المحفوظة لهم. على سبيل المثال، إن كان أحد قد ترك أموالاً كثيرة من أجل الله، واعتمد على الله في كل شئ، ومارس فضيلة عظيمة، وكان مدققًا في الأقوال والأعمال، وبشكل عام في كل شئ، فهل من الممكن أن تصير أنت أيضًا، دون أن تظهر هذا التدقيق في حياتك شريكًا في المكافأة المحفوظة لدى الله لأولئك (السالكين بحسب مشورة الله)؟ وبأي طريقة؟ نعم يمكنك هذا، إذا خدمت الله بأقوالك وأفعالك، إذا ترجّيته، وقدمت كل ما هو ضروري لأجل الخدمة. لأنك ستكون أنت من يجعل الطريق الصعب أسهل.
فإذا أُعجبتم بمَن هم في البراري الذين اختاروا المعيشة الملائكية، وأولئك الذين يحيَوْن في الكنائس نفس الحياة التي يحياها النساك في البراري، وإذا تعجبتم وحزنتم على أحوالكم لأنكم تنقصون عنهم كثيرًا، فتستطيعون بطريقة أخرى أن تشتركوا معهم، في هذه الحياة الملائكية، بأن تخدموا وتعتنوا بآخرين. لأن هذا هو مثال لمحبة الله للبشر، بمعنى أنه يقود الواهنين وغير القادرين أن يسلكوا بنفس الطريقة (التي يسلك بها النساك في البراري) والتي تتسم بالصعوبة والقسوة، والتي تحتاج إلى استقامة، يقودهم إلى طريق آخر وهو خدمة الآخرين، فيعيشوا في حياة ملائكية. وهذا يدعوه ق. بولس شركة فيقول: ” يكونوا شركاءنا “، في الإحتياجات الجسدية، ونحن نكون مشاركين ومساهمين معهم في الحاجات الروحية[14]. فإن كان الله يمنح ملكوت السموات لأجل أعمال صغيرة وضئيلة، فإن عبيده أيضًا، مقابل الأشياء الصغيرة والمادية، ينالوا الروحيات. وبالحري فإن الله هو الذي يعطي هذه وتلك لعبيده.
ألا تستطيع أن تصوم، أو أن تعيش بمفردك، أو أن تنام على الأرض، أو تسهر للصلاة؟ من الممكن أن تنال مكافأة عن كل هذه الأمور، إذا فعلت ذلك بطريقة أخرى؛ بأن تعتني بمن يقوم بها وأن تريحه وبأن تدهنه باستمرار وتخفف من أتعابه. لقد وقف كي يحارب وقد يُجرح، فلتعتن أنت به حينما يعود من جهاده، استقبله بأحضان مفتوحة، امسح عنه عرقه لكي تريحه، يجب أن تصلي وتشدّد النفس المُتعبة، وتُخفف عنها. فإن كنا نخدم القديسين بهذا الحماس، فنحن نشاركهم في مكافأتهم. هذا ما يقوله المسيح له المجد ” اصنعوا لكم أصدقاءً بمال الظلم، حتى يقبلونكم في المظــال الأبدية “[15].
انظر كيف أصبح هؤلاء مشاركين؟ ” من أول يوم .. إلى الآن “. يقول إنني أفرح، ليس فقط من أجل ما حدث في الماضي، ولكن من أجل ما سيحدث في المستقبل أيضًا، لأن ما حدث في الماضي، يجعلني أتنبأ بما سيحدث في المستقبل أيضًا.
“ واثقًا بهذا عينه، أن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحًا يكمّل إلى يوم يسوع المسيح “[16]. انتبه كيف أنه يعلّمهم أن يكونوا متواضعين. فلأنه قد شهد لهم بشئ عظيم، ولكي لا يشتهوا شيئًا بشريًا، فإنه يعلّمهم مباشرةً أن ينسبوا للمسيح كل ما فعلوه سواء في الماضي أو ما سوف يفعلوه في المستقبل. كيف؟ لأنه لم يقل، عندي ثقة أنه كما بدأتم، هكذا ستكملون، ولكن ماذا قال؟ ” إن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحًا، يكمّل “. كما أنه لم ينكر عليهم إنجازهم، حيث إنه من الواضح أن قوله: أفرح لسبب مشاركتكم، يعكس ما قد حققوه من نجاح في هذا العمل. ولم يقل إن هذه الإنجازات خاصة بهم فحسب، ولكنها خاصة بالله في المقام الأول. لأنه قد قال ” واثقًا بهذا عينه أن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحًا يكمِّل إلى يوم يسوع المسيح “، وهذا يعني أن الله هو العامل فيكم.
هكذا يقول ق. بولس إني مستعد ليس فقط لخدمتكم بل أيضًا والاعتناء بكل ما يأتي من قِبَلِكم. وهذا الثناء ليس بالمديح البسيط أى أن يكون الله هو العامل في المرء. لأنه إن كان الله لا يحابي وهو حقًا لا يحابي، ولكنه عندما يساعدنا في أعمالنا فهو ينظر إلى نيتنا، ومن الواضح أن المسئولية في أن ندعوه لموآزرتنا تقع على عاتقنا، فلو كان الله يعمل بدون تمييز حتى أنه يحركنا كالأخشاب أو الأحجار دون أن يكون لنا أى دور، لما كان هناك شئ يمكن أن يعوق عمله، بل لكان من الممكن حتى للوثنيين وجميع الناس أن يتمتعوا بعمله. وقوله “الله يُكمِّل” يُمثل مديحًا لأولئك الذين تقبلوا نعمة الله، لكي يساعدهم على النمو بصورة تفوق الطبيعة البشرية. ومن ناحية أخرى فإن هذا هو تمجيد لله، إذ أن أعمالهم الصالحة لا يمكن أن تكون بمساعدة بشر بل تحتاج إلى عمل الله. فإن كان الله سوف ” يكمّل” فلن يكون هناك تعب كثير، وبناء عليه يجب أن يكون لديهم ثقة كبيرة، إذ أنهم سوف يتممون كل شئ بسهولة كبيرة نتيجة لحصولهم على المعونة الإلهية.
” كما يحق لي أن أفتكر هذا من جهة جميعكم لأني حافظكم في قلبي في وثقي وفي المحاماة عن الإنجيل وتثبيته أنتم الذين جميعكم شركائي في النعمة “[17]. في البداية يُظهر هنا شوقه الشديد لأهل فيلبي، إذ أنهم في قلبه، يتذكرهم وهو موثق في الحبس. إن مدح هؤلاء الرجال ليس بالأمر البسيط، لأن محبة ق. بولس لم تأتِ نتيجة رؤية عادية، بل أتت بعد حكم مستقيم وتفكير سليم. وبالتالي فإن محبة ق. بولس الكبيرة لشخص ما، هى برهان على أنه شخص عظيم ويستحق الإعجاب. ثم يقول: ” وفي المحاماة عن الإنجيل وتثبيته “. ما هو العجيب أن يتذّكر هؤلاء في حبسه؟ لأنه يُعبّر عن ذلك بقوله: إنني لم أنساكم ولا حتى في لحظة دخولي إلى ساحة المحاكمة للدفاع. هكذا فإن المحبة الروحية هى بالغة العظمة، لأنها غير مرتبطة بأي وقت، بل على الدوام تبقى ملتصقة بالنفس المحبَّة، كما أنها لا تسمح لأى حزن أو ألم أن يتغلّب عليها. فكما حدث بالتمام في آتون بابل، فبالرغم من أن ألسنة اللهب كانت تعلو جدًا، كان لدى أولئك الفتية المطوّبون إحساس بأنها كالماء الرطب، هكذا أيضًا المحبة بعدما تتملك على نفس المُحب، ويُسر الله بها، فإنها تُبعد كل لهيب عنه وتمنحه برودة وسلامًا.
يقول “وتثبيته” (الإنجيل) فالقيود إذًا كانت بمثابة تثبيت للإنجيل، كانت للدفاع عنه. وهى هكذا حقًا، لكن كيف؟ لأنه إن كانت لديه الرغبة في تجنّب القيود، لكان قد أعطى إنطباعًا أنه مخادع، ولكن ذاك الذي يصبر على كل شئ، من قيود وأحزان، يُظهر أنه لم يقاسِ هذه الأمور لأجل غرض بشري، ولكن لأجل الله الذي يكافئ. لأنه لا يوجد شخصٍ يُفضّل أن يموت، وأن يتعرّض لمثل تلك المخاطر المروّعة، وأن يقبل التصادم مع مثل هذا الإمبراطور، أعني نيرون، إلاّ إذا كان يعتمد على ملك آخر أكثر عظمة منه، وبالتالي فإن قيوده كانت بمثابة تثبيت للإنجيل وشهادة للكرازة. لاحظ كيف أنه بحكمة عظيمة قد أدار كل شئ إلى الإتجاه الصحيح. لأن ما كانوا يعتقدون أنه ضعف ومحل إتهام، يُسميه هو تثبيتًا للإنجيل، ولو كان قد فعل عكس ذلك، لكان فعله هذا هو الضعف عينه.
بعد ذلك يُظهر أن محبته ليست مجرد مشاعر، وإنما مبنيّة على حكم صائب، لماذا؟ لأنه يقول إنكم في قلبي، وفي وثقي ودفاعي، ذلك لأنكم تشاركوني في النعمة، فماذا يعني ذلك؟ وهل نعمة الرسول بولس هى في أن يُحبس موثقًا، وأن يُطرد، وأن يعبر كل هذه الآلام؟ نعم، لأنه مكتوب « تكفيك نعمتي. لأن قوتي في الضعف تُكمل»[18] لذلك فهو يُسّر بالضعفات والشتائم. ويستكمل أيضًا كيف أنهم جديرين بالمحبة فيقول: ومن أجل هذا أجدني أفكر في كل ذلك، لأني أراكم راغبين أن تظهروا الفضيلة بأعمالكم، وأن تشاركوا في هذه النعمة. لأني أعرفكم حق المعرفة، أجل وأكثر من الكل، وأعرف أعمالكم الحسنة، لأنه وإن كنتم تبعدون كثيرًا جدًا عنا وتجاهدون، فلكي لا تنقصوا عنا في الضيقات، لكنكم تشاركون في التجارب لأجل الإنجيل، ولستم أقل مني في شئ، أنا الذي في خضم الجهاد، وأنتم البعيدين عنا، لذلك فإني أشهد لكم بذلك وبحق.
لكن لماذا لم يقل “مشاركين”، وإنما “مشاركين معي”؟ لأنه يقول وأنا نفسي أرتبط بآخر « لأكون شريكًا فيه »[19]، أى لأجل أن أشترك في الخيرات المذخّرة لنا بحسب وعود الله في الإنجيل. والذي يدعو للدهشة أكثر، أنهم بهذه الطريقة، جميعهم يرغبون في هذه الشركة لأنه يقول ” جميعكم شركائي في النعمة “. ولأنكم بدأتم حسنًا، فلديّ ثقة أنكم ستكونون هكذا حتى النهاية. لأنه ليس من المحتمل أن تزول وتنتهي مثل تلك البداية المتوهجة، وإنما ستؤول إلى نهايات مدهشة.
وطالما أنه يوجد طريق آخر لكي يشارك أي أحد في النعمة، وفي التجارب والأحزان فأنا أرجوكم أن تشاركوا أنتم أيضًا في هذا. فكم من الموجودين هنا ـ وربما الكل ـ لديهم رغبة في أن يصيروا شركاء مع ق. بولس في خيرات الدهر الآتي. إن هذا ممكن إن شاركتم في مساعدة هؤلاء الذين يكمّلون مسيرة الخدمة بعده، أولئك الذين يجتازون المصاعب لأجل المسيح. فإن رأيت أخيك يجتاز تجربة ما، ابسط يدك كي تساعده. وإن رأيت معلّمًا يجاهد لنشر الإنجيل، قف بجانبه. لكن قد يقول أحد إنه لا يوجد من هو مثل بولس، قد اجتاز معاناة وإزدراء ومهانة. أنا أيضًا أعترف أنه ليس أحد كبولس. غير أن الرب قد قال: ” من يقبل نبيًا باسم نبيٍّ، فأجر نبي يأخذ “[20]. وهل لأجل هذا افتخر أهل فيلبي، لأنهم عملوا مع ق. بولس؟ ليس لأجل هذا وإنما لأنهم كانوا مشاركين في الكرازة. لأجل هذا فقد احتل ق. بولس مكانة سامية، لأنه اجتاز هذه الآلام من أجل المسيح. والواقع أنه لا يوجد أحد مثل ق. بولس، ولا يستطيع أحد أن يدنوا من مكانة هذا الرجل المطوّب. ولكن العمل الكرازى هو واحد في كل وقت. على أنهم لم يكونوا مشاركين فقط في آلام ق. بولس حينما كان مقيدًا، وإنما أيضًا منذ بداية كرازته لهم. اسمعه حينما يقول ” وأنتم أيضًا تعلمون أيها الفيلبيون أنه في بداءة الإنجيل لم تشاركني كنيسة واحدة في حساب العطاء والأخذ إلاّ أنتم وحدكم “[21].
حتى بدون تجارب فإن معلّم الإنجيل عليه أيضًا أن يجوز جهادًا صعبًا، فهو يسهر ويتعب، يتكلم ويعلّم، بل ويواجه انتقادات، إتهامات، وملامة، وحسدًا. فهل هذه كلها أمور صغيرة؟ إنه يتحمل مضايقات كثيرة مثل هذه، بالإضافة إلى الإهتمام بكل شئونه. الويل لي ماذا أفعل؟ فإني محصور بين شيئين. لأنني أرغب أن أحضّكم وأحثّكم على التعاون والمساعدة في احتياجات قديسي الله، لكنني أخشى أن يرتاب أحد في شئ آخر، وهو أنني أقول هذا ليس لمنفعتكم أنتم، ولكن لأجل منفعة هؤلاء. لكنكم تعلمون أنني لم أقل هذا لأجل هؤلاء. ولكن لأجلكم أنتم. وإذا أردتم فانتبهوا، لأنني سأقنعكم بهذه الكلمات.
إن الفائدة ليست متساوية لكم ولهم. لأنكم إن أعطيتم، فإنكم تعطون ما سوف تهجرونه وتتركونه لآخرين بعد قليل، بإرادتكم أو بدون إرادتكم، لكن ما ستنالونه هو أكبر وأهّم بكثير. أم أنكم لا تفعلون ذلك وأنتم مقتنعين بأنه حينما تعطون فإنكم بالحّري تنالون؟ لأنه لو لم تكن هذه هى قناعتكم، فلا أريد أن تعطوا، ولا أقول هذا لأجل تعضيد هؤلاء (القديسين). لأنه إن كان أحد لا يهيئ نفسه مسبقًا، بهذه الطريقة وهى أنه حين يُعطي فهو في الحقيقة كأنه يأخذ أكثر مما يعطي، وكأنه يربح بدون حصر، وكأنه ينال نعم، أكثر مما يقدم، (إن لم يفكر هكذا)، فلا يجب أن يُعطى. فإن موضوع تعضيد القديسين بالنسبة لي ليس هو محل إهتمامي البالغ، ذلك لأنه حتى وإن لم تعطِ أنت فسيعطي آخر. فإن ما أريده، هو أن تتحرّروا من خطاياكم، لأن من لا يعطي بهذه النية، لن يتعزَ، فليس من الصدقة أن تقدم فقط، ولكن أن تقدم برغبة وفرح كثير، وأن تتيقن أنك تعطي بإمتنان. ” ليس عن حزنٍ ” كما يقول (الكتاب)، « أو إضطرار. لأن المُعطي المسرور يحبه الله »[22]. إذًا فإن أعطى أحد صدقة بغير هذه الطريقة، فيجب ألا يعطي، لأن هذه ستكون خسارة، وليست صدقة. فإذا عرفتم أنكم أنتم الذين ستربحون وليس هؤلاء، فإن مكافأتكم تصبح أكبر. فبالنسبة لهؤلاء فإن جسدهم سيقتات بعطاياكم، ولكن بالنسبة لكم ستنالون عطايا روحية، فحينما يأخذون إحسانًا لا تُغفر لهم أي خطية، ولكن بالنسبة لكم ستتجنبون عثرات كثيرة. لنشارك إذًا هؤلاء في جهادهم، كي يكون لنا أيضًا نصيب معهم في المجازاة العظيمة. البعض يتبنى خدمة السلطان، معتقدين بذلك أنهم ربما يحصلوا على مزايا أكثر مما يقدمون. لكن أنت فلتقدم الخدمة للمسيح، وحينئذٍ ستحيا في أمان عظيم. أتريد أن يكون لك شركة مع ق. بولس؟ ولماذا أقول شركة مع بولس، في الوقت الذي فيه المسيح هو الذي يأخذ؟ لكي تعرفوا أنني أقول وأعمل كل شئ لأجلكم، بدون أن أهتم براحة الآخرين. إن كان أحد من أراخنة الكنيسة يعيش في ثراء وليس له أي احتياج، فحتى وإن كان قديسًا لا تعطي له صدقة، لكن فلنفضِّـل ذاك الفقير، بغض النظر عن كونه ليس محط إعجاب. لماذا أتكلّم هكذا؟ لأن المسيح أيضًا يريد ذلك حينما يقول: ” إذا صنعت غداء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا أقرباءك، بل الجُدْع، العُرْج، العُمي، إذ ليس لهم حتى يكافوك “[23]. لأنه لا يجب أن تقيموا مجرد موائد وولائم، وإنما أن تقيموها للجوعى والعطشى والعراة، والغرباء، والذين افتقروا وضاعت ثرواتهم. لأنه لم يقل مجرد أنكم أطعمتموني، ولكنه يقول: ” جُعت“، أي لأنكم رأيتموني جائعًا فأطعمتموني[24].
وبالطبع إن كان يجب أن نطعم أي أحد جائع، فبالأكثر جدًا يجب أن نعطي، حينما يكون ذلك الجائع قديسًا، وحينئذٍ تكون الفضيلة مزدوجة. ومن الطبيعي أيضًا إن كان أحد قديسًا، ولكنه غير محتاج، فلا يجب أن تعطيه، لأننا لن ننتفع من هذه العطية بشيء، وبالطبع فإن السيد المسيح لم يأمر بهذا، وبالحري فإن ذاك الذي عنده خيرات وفيرة ويقبل من الآخر عطايا هو ليس قديسًا بالمرة. أرأيت كيف أن هذه الأمور لم تعطَ لنا لأجل الحصول على الربح القبيح، بل من أجل منفعتك أنت؟ اطعم الجائع، حتى لا تغذي نار جهنم. ذاك الذي يأكل مما لك، يقدس البواقي أيضًا. تذكر كيف أن الأرملة كانت تعول إيليا النبي[25]، والحقيقة أن بفعلها هذا، هى لم تقوته، بل هى التي إقتاتت، لم تعطِ بل بالحري هى التي أخذت. هذا ما يحدث الآن أيضًا، وبدرجة أكبر. حيث إن المكافأة لهؤلاء الذين يصنعون إحسانًا ليست كوار دقيق، ولا كوز زيت. ولكن ماذا تكون؟ المكافأة مقابل هذا هى مائة ضعف والحياة الأبدية. لتكن رحمة الله هى القوت الروحي، والخميرة النقيّة. فهذه الأرملة إقتربت من الجوع الشديد، ولكن لم يمنعها شئ عن تقدمتها، لم يمنعها أيضًا ولا حتى وجود أولاد لها. لقد أصبحت مساوية لتلك التي قدّمت فلسين[26]. لم تقل لنفسها، ماذا سأربح من هذا؟ إن ذاك (إيليا النبي) محتاج لي، فإن كانت لديه قوة ما، ما كان ليعاني الجوع، ولكان قادرًا أن يوقف الجفاف، ولن يكون مسئولاً عن كل هذا، فربما يكون قد أذنب إلى الله. لا شئ من هذا قد خطر ببالها.
أترى كم هو حسن أن تفعل الخير ببساطة قلب، وألاّ تكون فضوليًا بصورة مبالغ فيها من جهة ذاك الذي ينتفع بهذا الخير؟ فلو أرادت (الأرملة) أن تكون فضولية، لكانت قد تردّدت، ولما صدَّقت. هكذا أيضًا فإن ابرآم، لو كان فضوليًا، ما كان قد استقبل الملائكة. لأنه لا يمكن، ولا يقدر أن ينجح أبدًا مَن يفحص هذه الأشياء بصورة تفصيلية، بل عادة ما يقع بين مخادعين. سأقول لكم كيف يحدث هذا. إن الشخص التقِّي لا يرغب أن يُظهر تقواه، كذلك لا يرتدي زيًا خاصًا، حتى وإن كان سيُحتقر. أما المُخادع، فلأن الأمر بالنسبة له يمثل حرفة، فإنه يُحيط نفسه بكثير من التقوى المزيفة، وبصعوبة يُكتشف. حتى أن الأول (التقي) بينما يُحسن الصنيع مع أولئك الذين يظهرون أنهم غير أتقياء، فإنه سيقع بين الأتقياء، أما الثاني، فبينما يطلب هؤلاء الذين يُعتقد أنهم أتقياء، فإنه سيقع غالبًا في أيدي غير الأتقياء. لأجل هذا، أرجوكم أن تعملوا كل شئ ببساطة. لنفترض أن الذي يأتي إليك هو مُخادِع، فلا تنشغل بأن تفحص هذا. فإن الرب يقول: ” وكل من سألك فأعطه “[27]. وأيضًا ” أنقذ المنقادين إلى الموت، والممدودين للقتلِ. لا تمتنع “[28]. فبالرغم من أن الغالبية من هؤلاء الذين يُقتلون يتحملون هذا بسبب أنه قد قُبض عليهم وهم فاعلي شر، ولكنه يقول “لا تمتنع”. بذلك سنكون متشبّهين بالله، وسنصير مستحقين للتقدير، ونفوز بالخيرات الأبدية، والتي نرجوا أن نكون مستحقين لها. بالنعمة والرأفة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح، والذي يليق به ومع أبيه الصالح والروح القدس الكرامة والقوة والمجد، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
+ + + + + + +
[2] رو1:1.
[3] لقب ep…skopoj (ابيسكوبوس) عادة ما يأتي في العهد الجديد بالتبادل مع لقب presbÚteroj (برسفيتروس) (انظر أع28:20) وهو يُشير إلى الشخص المسئول عن الأمور الإدارية والرعائية بجانب خدمته الروحية.
[4] 1تي22:5، 14:4.
[5] تي5:1ـ6.
[6] تي7:1.
[7] كلمة “كهنة” تشمل كل درجات الكهنوت في لغة الكتاب، وكذلك الترجمة الخاصة بكلمة “شيوخ” فقد يكون الشيخ أسقفًا أو قسًا أو رسولاً. انظر قداسة البابا شنودة الثالث، الكهنوت الجزء الأول، القاهرة 1985م، ص66.
[8] في 3:1ـ4.
[9] عب17:13.
[10] 2كو4:2.
[11] في5:1.
[12] 2تي15:1.
[13] 2تي10:4ـ16.
[14] رو27:15.
[15] لو9:16.
[16] في6:1.
[17] في7:1.
[18] 2كو9:12ـ10.
[19] 1كو23:9.
[20] مت41:10.
[21] في15:4.
[22] 2كو7:9.
[23] لو12:14ـ14.
[24] مت35:25.
[25] راجع 1مل9:17ـ16.
[26] قارن مر42:12.
[27] لو30:6.
[28] أم11:24.