رسالة فيلبي ع1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – جورج ميشيل أندراوس
تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي
للقديس يوحنا ذهبي الفم
جزء أول (العظات من 1 ـ 8 )
ترجمة عن اليونانية
الباحث جورج ميشيل أندراوس
مقدمة عن الرسالة
فيلبي هي أول مدينة في أوربا يكرز فيها الرسول بولس بالمسيحية. فلقد رأى في أحد الليالي رؤية؛ رجل مكدوني قائم يطلب إليه ويقول: ” أعبر إلى مكدونية وأعنا” (أع9:16). وقد فهم القديس بولس المعنى، وأن الرب يريد أن يرسله إلى هناك، فذهب إليها عام 49ـ50، بعد مروره على ساموثراكي ثم نيابولي، ومن هناك 13كيلومترًا شمال غرب إلى فيلبي[1].
ويحدثنا القديس لوقا الإنجيلي كاتب سفر أعمال الرُسل عن إنشاء أول كنيسة في أوربا وعن إيمان ليدية بائعة الأرجوان، ثم سجن بولس وسيلا في فيلبي، وأيضًا إيمان حافظ السجن هو وأهل بيته وعمادهم. (أع11:16-40).
رسالة فيلبي هي إحدى رسائل الأسر الأربعة: أي رسائل أفسس وكولوسي وفليمون بالإضافة إلى رسالة فيلبي، وذلك لأن الرسول بولس كان مقيدًا في الأسر حين كتبها، كما جاء في رسالة فيلبي 7:1، 12ـ17. ويتفق التقليد الكنسي القديم على أنه في روما، وبالتحديد أثناء سجنه الأول بها (61ـ63م) تمت كتابة هذه الرسائل الأربعة.
لقد كان للرسول بولس علاقات قوية وخاصة مع كنيسة فيلبي، ويتضح ذلك من محتوى الرسالة، فهي أكثر رسائله تعبيرًا عن مشاعره الشخصية الفياضة. يمكن أن نصفها “برسالة الفرح”، وذلك لأن موضوع الفرح ونصح القديس المستمر للفيليبيين بأن يفرحوا يسود في هذه الرسالة. ومن الممكن أيضًا أن توصف “برسالة الإتضاع”، فهذا الموضوع يتخلل الرسالة، ويتدرج حتى يصل إلى قمة الإتضاع الذي يمثِّله التسبيح والتمجيد لرب المجد يسوع المسيح، “الذي إذ كان في صورة الله.. أخلى نفسه، أخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. (في6:2-8).
+ + + + + + +
مقدمة عن العظات
يرى Baur أن العظات الـ15 أٌلقيت في مدينة أنطاكية، والسبب في ذلك كما يعتقد، إنه في أنطاكية كانت لدى القديس يوحنا ذهبي الفم الفرصة المناسبة لكي يلقي هذه العظات. ومع ذلك فإن هناك من الدلائل التي تبين إنه ألقاها أثناء فترة أسقفيته، وخاصة في العظة5:9، مما يراه البعض برهانًا على أن هذه العظات تعود إلى زمن متأخر، وأنها أُلقيت في مدينة القسطنطينية وليس أنطاكية[2].
ويرّكز القديس يوحنا ذهبي الفم في هذه العظات الثمانية على موضوعات هامة تشمل الحياة الروحية، وأيضًا الأمور اللاهوتية. فهو يتكلم عن أهمية المحبة المتمثِّلة في عمل الرحمة وتقديم العطاء، مؤكدًا على أن الذي يعطي هو شخص رابح، كما إنه من الطبيعي أن الإنسان سوف يهجر هذه الأموال سواء بإرادته أو بدونها.
ويؤكد على أن المحبة لا ينبغي أن تتوقف أبدًا. مُشيرًا إلي كلام الرسول بولس بأن المحبة يجب أن تكون بتعقل وتمييز، فلا يمكن القبول بعقائد زائفة بحجة المحبة.
وحينما يتحدث عن الفقر والغِنيَ يؤكد على أن الفقير حقًا، ليس هو من لا يملك الأشياء، بل هو من عنده الرغبة في امتلاك أشياء كثيرة، كذلك فإن الغَنِّي الحقيقي، هو ذاك الذي ليس لديه احتياج لأحد. فالميول والرغبات، وليست الثروة أو الحرمان منها، هي التي تجعل هذا غنيًا وذاك فقيرًا.
أيضًا يمتدح القديس يوحنا ذهبي الفم، الرسول بولس ويبين مكانته العظيمة، ويؤكد أن ليس هناك مثله من إجتاز هذه الصعاب الكثيرة لأجل المسيح. ويبين أن بقاء الرسول بولس في هذه الحياة كان من أجل منفعة الآخرين وخلاصهم وفرحهم. فالحياة الحاضرة لابد أن يكون لها ثمر وإلا فلا قيمة لها، أما النقطة الأساسية فهي أن تكون الحياة في المسيح.
ثم يقول إنه لا ينبغي أن نحزن على الأبرار الذين ينتقلون من هذا العالم، وإنما على هؤلاء الذين يعيشون في الخطية. كما إنه ينتقد المظاهر السيئة وغير اللائقة التي تصاحب إظهار الحزن على المنتقلين.
يحث القديس بولس أهل فيلبي على التواضع ووحدة الفكر، ويشير إلى التجسد الإلهي باعتباره النموذج الأمثل للتواضع. وفي هذا الصدد يستعرض القديس يوحنا ذهبي الفم الهرطقات المضادة للتجسد الإلهي ويفّندها، مثل هرطقة سابيليوس وماركيون وآريوس وغيرها. ويشرح القديس يوحنا ذهبي الفم بالتفصيل موضوع مساواة الإبن للآب، كذلك يشدد أيضًا على إنه أخذ جسدًا حقيقيًا. فهو يدافع عن إلوهية الرب يسوع وناسوته أيضًا. فمن ناحية لاهوته يقول إنه من غير الطبيعي أن يختلس أحد طبيعته الكائن فيها، ولا طبيعة أعلى منه أيضًا. وإنه ليس تواضعًا أن يخضع من هو أدنى لمن هو أعلى منه مقامًا، فهذا أمر طبيعي، ولكن العكس يُعّد تواضعًا. ولأنه في حالة الآب والإبن لا يوجد أعلى وأدنى فقد عرض الرسول بولس لمسألة مساواة الإبن بالآب. وهو بذلك يُعَّد النموذج الأمثل لكي نقتدي به في تعاملاتنا نحن البشر المتساويين في الطبيعة.
ويشير ق. يوحنا ذهبي الفم أن للكلمة المتجسد طبيعته الإلهية منذ الأزل، إذ هو إبن الله. لذلك فهو قادر على أن يضع نفسه ويأخذ شكل طبيعتنا دون أن يفقد ماله أصلاً. فلو كان خضوعه وطاعته وموته قد تم دون إرادته لما حُسب ذلك تواضعًا، وبالتالي لما كان الرسول بولس قد أورده كمثل أعلا للتواضع.
كما يرُّد القديس يوحنا ذهبي الفم أيضًا على أتباع ماركيون الذين يقولون إنه لم يصر إنسانًا حقيقيًا وإنما مشابهًا للإنسان، مستخدمًا آيات الكتاب المقدس مثل “الكلمة صار جسدًا” يو14:1. فكلام الرسول واضح إنه “أخذ صورة عبد”. فكما أن “صورة الله” تعني الله الكامل، هكذا فصورة الإنسان تعني الإنسان كاملاً بنفس وجسد. ولو أن الكلمة لم يأخذ جسدًا حقيقيًا فمن يكون الذي قد إتزَّر بمنشفة وغسل أرجل التلاميذ؟!.
ويُشير إلى أن الإتضاع يرفعنا، أما الكبرياء فهو عكس ذلك بل هو شر عظيم. فلا يجب أن يفتخر الإنسان بأي شيء لديه، لا بالجمال ولا بالمال ولا بالشجاعة ولا حتى بعذوبة الصوت أو بغيرها. فهذه الأمور لدى الحيوانات والطيور أيضًا وحتى لدى اللصوص والقتلَّة. فنحن لدينا العقل والرحمة واللطف، وبدون هذه الفضائل نكون أردأ من الحيوانات غير العاقلة.
نرجو أن يُبارك إلهنا الصالح هذا العمل من أجل منفعة الكنيسة، بشفاعة العذراء القديسة مريم وبصلوات القديس بولس الرسول والقديس يوحنا ذهبي الفم، وكل الآباء القديسين. وبصلوات قداسة البابا شنودة الثالث، وآبائنا المطارنة والأساقفة. ولإلهنا كل المجد والتسبيح والسجود إلى الأبد أمين.
تذكار 23 أكتوبر2007م 12بابة 1724ش + استشهاد القديس متى الإنجيلي + تذكار رئيس الملائكة الجليل ميخائيل |
المترجم |
العظة الأولى
مقدمة للقديس يوحنا ذهبي الفم
الفيلبيّون هم سكان مقاطعة مكدونية ـ وكما يقول ق. لوقا[1] ـ في هذه المدينة آمنت ليديا بائعة الأرجوان بالمسيح، وهى إمرأة واعية وفي غاية الورع. وفيها أيضًا آمن حارس السجن، وجُلد بولس وسيلا، وقد طلب الولاة منهما أن يرحلا عن هذه المدينة، إذ كانوا يخافونهما، ومنها أيضًا كانت البداية الباهرة للكرازة[2].
لقد شهد القديس بولس لأهل فيلبي بأشياء كثيرة وعظيمة، ودعاهم “إكليله”، إذ قد تألموا كثيرًا، قائلاً: ” لأنه وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضًا أن تتألموا لأجله “[3]. وقد كتب هذا حين كان محبوسًا، ولهذا يقول: ” حتى إن وثقي صارت ظاهرةً في المسيح في كل دار الولاية “[4]. داعيًا قصر نيرون: دار الولاية. ولكنه قُيّد ثم تُرك حرًا، وقد أخبر هذا لتيموثاوس قائلاً: ” في إحتجاجي الأول لم يحضر أحد معي بل الجميع تركوني. لا يُحسب عليهم. ولكن الرب وقف معي وقواني “[5]. حيث يذكر القيود التي كان فيها قبل دفاعه هذا. ومن الواضح أن تيموثاوس لم يكن حاضرًا حينذاك، هذا ما يتضح من قوله: ” في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي “. فمن غير الممكن أن يكتب له عن أمور هو يعلمها. ولكن حين كان يكتب هذه الرسالة كان تيموثاوس معه، ويتضح ذلك من قوله: ” على أني أرجو في الرب يسوع أن أُرسل إليكم سريعًا تيموثاوس ” وأيضًا « هذا (يقصد تيموثاوس) أرجو أن أرسله أول ما أرى أحوالي حالاً»[6].
إذًا لقد أُطلِق حرًا من قيوده، ثم قُيد مرة أخرى بعد زيارته لهم. أما قوله ” أنسكب أيضًا على ذبيحة إيمانكم “[7]، فهذا يذكره دون أن يكون قد حدث بالفعل، لكن ما يعنيه هو أنه إذا حدث هذا، فإنه سيكون مسرورًا وفرحًا، وبهذا أراد أن يزيل عنهم الحزن بسبب قيوده. ومن جهة أنه لم يكن على وشك الموت في ذلك الوقت، فهذا ما يظهر من قوله: ” واثق بالرب أني أنا أيضًا سآتي إليكم سريعًا “، وأيضًا: ” فإذ أنا واثق بهذا أعلم أني أمكث وأبقى مع جميعكم “[8]. لقد أرسل الفيلبيون أبفرودتس إلى ق. بولس، حاملاً معه مساعدة مادية وأيضًا لكي يعرفوا أخباره، إذ كانوا يشعرون نحوه بمحبة كبيرة. وقد أشار هو نفسه إلى المساعدة حينما قال: ” قد استوفيت كل شئ واستفضلت. قد امتلأت إذ قبلت من أبفرودتس الأشياء التي من عندكم “[9]. في الوقت نفسه كانوا قد أرسلوا له لكي يطمئنوا على أحواله، وهذا ما يعلنه ق. بولس بوضوح في بداية الرسالة، حين كتب عن أحواله قائلاً: ” أريد أن تعلموا أن أموري قد آلت أكثر إلى تقدّم الإنجيل ” وأيضًا ” أرجو أن أرسل إليكم سريعًا تيموثاوس، لكي تطيب نفسي إذا عرفت أحوالكم “[10]. فعبارة “أنا أيضًا”، تبين موقفه تجاههم، إذ يقول كما أنكم أرسلتم كي تعرفوا أحوالي، فهكذا أنا أيضًا، “لكي تطيب نفسي إذا عرفت أحوالكم”. ومنذ ذلك الحين وحتى وقت بعيد لم يرسلوا له، هذا ما يوضحه بقوله ” لأنكم الآن قد أَزْهَر أيضًا مرةً اعتناؤكم بي “[11]، وحينئذٍ علموا أنه كان مقيدًا، لأنهم إن كانوا قد سمعوا عن أبفرودتس، والذي ليس له شهرة ق. بولس، أنه مريض فكم يكون قلقهم من أجل الرسول بولس؟! لقد كان من الطبيعي أن يقلقوا. لذا نجد أنه في مستهل الرسالة يقدّم لهم الكثير من العزاء لتألمهم من أجل قيوده، مبينًا أنه ليس فقط هو أمر ضروري ألا يقلقوا، وإنما أن يفرحوا أيضًا ويتعزوا.
بعد ذلك يوصي بوحدة الفكر والحياة بإتضاع، معلّمًا إياهم أن في هذا أمان عظيم لهم، وهكذا تصير النصرة على الأعداء أمرًا سهلاً بالنسبة لهم. فليست القيود هى الشئ المؤلم لمن يعلمهم وإنما المؤلم ألاّ يكون هنالك وحدة بين تلاميذه. لأن القيود تؤدى إلى انتشار الإنجيل، أما عدم الوئام فيما بينهم فيهدم هذه البشارة. إذًا وبعد أن كان ينصح الفيلبيين بالوئام فيما بينهم ويظهر أن ذلك الوئام يأتي نتيجة الإتضاع، فإنه يشير إلى اليهود الذين كانوا يلبسون ثوب المسيحية ويحرّفون التعاليم في كل مكان، داعيًا إياهم كلاب وفعلة شر (في2:3)، فينصح أهل فيلبي بالإبتعاد عنهم والحذر منهم. وبعد أن تحدث طويلاً عن الأمور الأخلاقية، مرشدًا إياهم، نجده يشجّعهم قائلاً: ” الرب قريب “[12]. ثم يذَّكر أيضًا، وبحكمته المعتادة، بما قد تمّ إرساله من مساعدة، وهكذا يقدّم لهم تعزية كبيرة.
ومن الواضح أنه يكتب للفيلبيين بكثير من التقدير، فهو لا يوجّه لهم ـ في أي موضع ـ أي توبيخ، وهذا يُعد دليلاً على فضيلتهم، أي أنهم في سلوكهم في حياة الفضيلة لم يعطوا أي فرصة لمعلّمهم حتى يوبخهم، وهكذا نجده قد كتب إليهم بأسلوب النصح وليس التوبيخ.
إن ما سبق وقلته في البداية، سأقوله مرة أخرى، فهذه المدينة أظهَرَت غيرة في الإيمان، كما حدث بالنسبة لحارس السجن. فمع أن هذه المهنة ـ كما تعرفون ـ مملوءة بكل قسوة، فإنه أسرع واعتمد هو وكل بيته بعد أن رأى المعجزة، ومع أن المعجزة التي حدثت قد رآها هو وحده، إلاّ أن الربح لم يحصل عليه هو فقط، بل وامرأته وكل بيته أيضًا. أما هؤلاء الولاة الذين أمروا بأن يُجلد ق. بولس. يبدو أنهم قد فعلوا ذلك ليس عن شر، بل بالحري عن اندفاع، لأنهم أسرعوا وأرسلوا أن يُترك حرًا، وخافوا بعد ذلك.
ولم يشهد القديس بولس لإيمان أهل فيلبي وتعرضهم للمخاطر فقط، بل أيضًا لأعمالهم الصالحة، من خلال قوله: ” في بداية الإنجيل .. أرسلتم إليّ مرة ومرتين لحاجتي “، الأمر الذي لم يفعله أحد غيرهم. لأنه يقول: ” لم تشاركنى كنيسة واحدة في حساب العطاء والأخذ إلا أنتم وحدكم “[13].
نحن نعرف أيضًا هذه الأمور، وأمامنا الكثيرون كنماذج، ونعرف ايضًا محبته نحو هؤلاء، فمحبته الشديدة لهم هو أمر ظاهر، وهذا يتضح من قوله: ” لأن ليس لي أحد آخر نظير نفسي يهتم بأحوالكم بإخلاص”، وأيضًا ” لأني حافظكم في قلبي، في وُثقي “[14]. فلنجعل أنفسنا مستحقين لمحاكاة هذه النماذج، ولنكن مستعدين أن نتألم لأجل اسم المسيح. لكن الآن لا يوجد إضطهاد. إذًا حتى ولو لم نفعل أي شئٍ آخر، فلنتمثّل بأعمالهم الصالحة الفائقة دون أن نعتقد أننا تمّمنا كل شئ حينما نفعل الرحمة مرة ومرتين، لأننا يجب أن نفعل هذا كل أيام حياتنا. فلا ينبغي أن نُرضى الله مرة واحدة وإنما نصنع هذا كل حين. فالعدّاء إذا ركض عشرة جولات، وترك الأخيرة فإنه يخسر الكل [15]. هكذا نحن أيضًا إذا بدأنا بالأعمال الحسنة، ثم توقفنا بعد ذلك، سنخسر ونُفسِد كل شئ. اسمع الوصية النافعة القائلة: ” لا تدع الرحمة والحق يتركانك “[16]. لم يقل افعل ذلك مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثة، ولا عشرة، ولا مائة، وإنما باستمرار، لأنه يقول ” لا يتركانك ” ولم يقل لا تتركها، وإنما لا يتركانك، موضحًا أننا بحاجة لهما وليس العكس، معلّمًا إيانا أنه يجب علينا أن نفعل كل شئ، حتى نجعل هذه (الوصية) قريبة منا فيقول ” تقلدهما على عنقك “[17]. فكما هو الحال بالنسبة لأبناء الأغنياء الذين يتقلدون الحلي من الذهب حول أعناقهم ـ ولا يضعونها أبدًا في مكان آخر ـ كدليل على رِفعَة نسبهم، هكذا نحن أيضًا يجب أن نرتدي الرحمة دائمًا، مظهرين أننا أبناء الله الرحوم، الذي يشرق شمسه على الأشرار والأبرار. فإذا مارسنا هذه الأعمال، هل سيكون لديك شك في أن غير المؤمنين سيؤمنون؟ لأنهم إن رأوا إننا نُمارس أعمال الرحمة تجاه الجميع وأن المسيح هو معلمنا، فإنهم سيعرفون أننا نفعل هذا متمثلين به لأنه هكذا يقول الكتاب “رحمة وإيمان وحق”[18]. حسنًا قال: “حق” وليس سلب أو سرقة، فهذا السلب وهذه السرقة ليست من الإيمان ولا هي “حق”. فالسارق بالضرورة يكذب وينقض قسمه، لكن لا يجب أن تسلك أنت هكذا، وإنما كما يقول الكتاب أن يكون لديك مع الرحمة إيمان.
فلنلبس تلك الحلى. لنصنع لأنفسنا طوقًا من الذهب[19]، أعني الرحمة، طوال فترة وجودنا في هذه الحياة. فلو انقضى هذا العمر من حياتنا دون أن نمارس أعمال الرحمة فلن تكون هناك حاجة لها على الاطلاق كيف؟ لأنه في الأبدية لا يوجد فقراء، ولا يوجد غنىَ، ولا فقر، ولهذا ينبغي علينا أن ننتهز فرصة هذه الحياة لعمل الرحمة، فلا نحرم أنفسنا الفرصة في هذا العالم. ففي هذا العالم نحن أطفال، فكما يحدث مع الأطفال، حينما يصبحون رجالاً، فينصرفون عما هو للأطفال ويُقادون إلى عالم آخر، هكذا يحدث معنا، فلن يكون هناك مجال لممارسة أعمال الرحمة. فلا نحرم أنفسنا من العطاء في هذه الحياة، لنعمل كي تظهر نفوسنا جميلة. عظيمة هى الرحمة وجميلة ونفيسة، عظيمة هى هذه الهبة، والأعظم حياة التقوى. فإذا تعلّمنا أن نحتقر المال، فسنتعلّم أشياءً أخرى، فلنلاحظ مقدار الخيرات التي تأتي من ذلك. فإذا أراد أحد أن يتعلّم كيف يحتقر المال، عليه أن يعطي صدقة، ومن تعلّم أن يحتقر المال، يستطيع أن يقطع أصل الشرور تمامًا. حتى أنه بهذا العمل لا يقدّم شيئًا بل بالحري ينال، فهو لا ينال المكافأة فقط مقابل الصدقة، وإنما تصبح النفس أيضًا حكيمة، مترفعة وغنيّة. فإن ذاك الذي يعطي صدقة يتعلّم ألاّ يُفتتن بالغِنى أو بإقتناء الذهب، وسيبقى الدرس ثابتًا في عقله، لقد بدأ بداية عظيمة نحو الصعود للسماء، لقد قطع الأسباب العديدة المؤدّية للغضب، والعداوة، والحسد، والحزن. لأنكم أنتم أيضًا تعرفون جيدًا أن كل الأشياء تأتي بسبب محبة المال وأن الحروب التي لا تنتهي هى بسبب المال. أما ذاك الذي تعلَّم أن يحتقر المال، فيجعل نفسه هادئة. لا يخاف الخسارة، فالرحمة علّمته: ألاّ يرغب فيما هو لدى قريبه، فكيف يمكن أن يحدث هذا ممن تعوَّد أن يعطي ما اكتسبه؟ فهو لا يحسد قريبه، فكيف يفعل هذا، ذاك الذي يرغب في أن يكون فقيرًا؟ إنه يُطّهر نفسه بالكامل.
هذا ما يحدث في هذه الحياة الحاضرة، أما بالنسبة للحياة الأبدية، فليس بمقدورنا أن نتكلّم عن الخيرات التي سينالها، فهو لن يقف خارجًا مع العذارى الجاهلات، وإنما سيدخل في رفقة الحكيمات مع العريس، حاملاً مصباحًا منيرًا، صائرًا أسمى من أولئك الذين يتعبون في البتولية، برغم أنه لم يذق أتعابها.
هكذا فإن هذه الرحمة الغنية هي عظيمة جدًا، إذ أنها تقود بدالة كبيرة، أولئك الذين يمارسونها إلى السماء. فهى معروفة للقوات السمائية، لحافظي خدر العُرْس، وليست فقط هى معروفة وإنما جليلة أيضًا، وستقود هؤلاء الذين يكرِّمونها إلى الأبدية، ولن يُقدم أي شخص إعتراضات وإنما الكل سيفسح لها مكانًا. لأنه إن كانت الرحمة قد جعلت الله ينزل إلى الأرض ويصير إنسانًا، فبالحري جدًا تقدر أن ترفع الإنسان إلى السماء، عظيمة هى قوتها. فإن كان الله من رحمته ومحبته الفائقة للبشر صار إنسانًا وارتضى أن يصير عبدًا، فبالحري يقدر أن يقود عبيده إلى موضعه. فلنحب أعمال الرحمة، لنقبلها لا ليوم واحد، ولا لاثنين، وإنما في كل وقت، كي تعترف بنا أمام الله. فإن اعتَرفَتْ بنا الرحمة، فسيعترف الله بنا، أما إذا تنكّرت لنا، فسينكرنا الله أيضًا، وسيقول لنا ” لا أعرفكم”. لكن ليتنا لا نسمع ذلك الصوت، وإنما نسمع ذلك التطويب القائل ” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم “[20]. ليتنا جميعًا نفوز بهذا الملكوت بمعونة ربنا يسوع المسيح، الذي يليق به مع أبيه الصالح والروح القدس، المجد والعزة والسلطان، الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين آمين.
+ + + + + + +
[1] KarabidÒpoulpj. I.D, Eisagwg» sthn Kain» Diaq»kh, Qessalon…kh 1998, sel. 338.
2 أنظر Quasten. J. Patrology, vol 111, P 447.
[1] أع12:16.
[2] انظر أع12:16ـ40 حيث خدمة القديس بولس في فيلبي.
[3] في29:1.
[4] في13:1.
[5] 2تي16:4ـ17.
[6] في19:2ـ23.
[7] في19:2، 23.
[8] في24:2، 25:1.
[9] في18:4.
[10] في12:1، 19:2.
[11] في10:4.
[12] في5:4.
[13] في15:4ـ16.
[14] في20:2، 7:1.
[15] يتكلّم عن منافسات تبيّن مدى التحمل في الجري لمسافات طويلة.
[16] أم3:3.
[17] أم 3:3.
[18] مت23:23
[19] هذا الطوق الذهبي كانت ترتديه بعض الرتب في البلاط البيزنطي.
[20] مت34:25.