Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

روح الحق – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. جورج عوض إبراهيم

روح الحق – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. جورج عوض إبراهيم

 

روح الحق – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. جورج عوض إبراهيم

 

 

روح الحق

عظة 77

(يو 26:15ـ27) إنجيل حلول الروح القدس

 

   ” ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضًا لأنكم معي من الإبتداء” (يو26:15ـ27).

 

روح الحق[1]

   انتبه ولاحظ من فضلك، أي عزاء يقوله لتلاميذه: ” ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضًا لأنكم معي من الإبتداء[2].

   وجدير بنا أن نولي هذا الروح كل ثقتنا لأنه روح الحق. لأجل هذا لم يدعوه هنا روح قدس بل “روح الحق“. وعبارة ” من عند الآب ينبثق” تدل على أن المسيح يعرف بدقة كل شيء، مثلما يقول بالضبط عن ذاته ” أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب[3]. وهو هنا يتحدث أيضًا عن الحق، ” سأرسله أنا إليكم“. ليس فقط الآب الذي يُرسِل المعزي بل وأيضًا الابن. وأنتم ستكونون جديرين بالثقة إذا عِشتم معي عن قرب، وأنتم لم تسمعوا هذا الكلام من أُناس غرباء. وبسبب هذه العِشرة التي ربطت بينهم وبين المسيح فقد أكد الرسل هذا الأمر، قائلين: ” نحن الذين أكلنا وشربنا معه[4]. وكون أن هذه الأقوال لم يتكلموا بها من باب المجاملة والتفضل، فهذا ما يؤكده الروح الذي كان شاهدًا على أقوالهم.

   ” قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا[5] أي عندما ترون كثيرين لا يؤمنون، وعندما تتألمون بشرور كثيرة. ” سيخرجونكم من المجامع[6]، وقد حدث لهم ذلك بالفعل، فقد أعلن اليهود أن من يعترف بالمسيح يُحرَّم. ” بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمِة لله[7]. سوف يتفننون في قتلكم لدرجة أنهم سوف يعتبروا هذا الفِعل هو بدافع التقوى وإرضاء الله. أخذ يقدم لهم ما يعزيهم قائلاً:   ” وسيفعلون هذا بكم لأنهم لم يعرفوا الآب. ولا عرفوني[8].

   كأنه يقول لهم يكفيكم أن تتعزوا بأنكم تتألمون لأجلي ولأجل أبي. هنا يذكرهم أيضًا بذلك التطويب: “ طوبى لكم إذ عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. أفرحوا وتهللوا. لأن أجركم عظيم في السموات فإنهم هكذا طردوا الأنبياء من قبلكم[9].

 

المسيح يخبر التلاميذ عما يحدث لهم:

   “ لكني قد كلمتكم بهذا حتى إذا جاءت الساعة تذكرون إني أنا قلته لكم [10].

   أي إنه يقول لهم عليكم أن تصدقوا وتثقوا في صدق ما أقول، لأنكم لن تستطيعوا أن تقولوا إنني كنت أتملقكم وكلمتكم عن الأمور المفرحة فقط، كلامي لم يكن مخادعًا لأن من يريد أن يضلكم لا يفكر أن يكلمكم بأقوال تُبعدكم عنه. إذن لأجل هذا قُلت لكم هذا الكلام حتى لا تزعجكم الأحداث غير المتوقعة، ولكي لا تقولوا في أنفسكم أيضًا أنه لم يخبرنا بأن هذه الأمور سوف تحدث. ” حتى إذا جاءت الساعة تذكرون إني أنا قلته لكم“، حيث إن المُضطَهَدين يضعون مثل هذه الأقوال في الحُسبان لكي يتغلبوا على التشككات الشريرة. هكذا سوف يضطهدونكم ـ يقول المخلّص للتلاميذ ـ حتى القتل. إلا أن الأمر لن يُزعج التلاميذ، طالما أنهم قد سمعوا مسبقًا وعرفوا السبب الذي لأجله يتألمون، لأن معرفة السبب تعد قوة تعطيهم جرأة على المواجهة. لذلك يعيد على مسامعهم السبب ”  لم يعرفوا الآب ولا عرفوني [11]، ” لكنهم إنما يفعلون بكم هذا كُله من أجل اسمي لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني“،[12]وإن كانوا قد إضطهدوني فسيضطهدونكم[13].

 

ليتنا نحتمل الآلام من أجل المسيح:

   ليتنا نفكر بحق في هذه الأقوال في وقت التجارب عندما نُضطهد من جانب الأشرار، واضعين نصب أعيننا رئيس إيماننا ومكمله ونحن نتألم، من أُناس منحلين، لأجل الفضيلة ولأجله هو. لأننا إذا فكرنا في هذه الأمور فسوف نجتاز كل التجارب بسهولة. فإن تألم شخص لأجل أشخاص محبوبين لديه فإنه يتفاخر لأجل هذا، فكم بالحري أن تألم لأجل الله، أي إحساس سوف يشعر به أثناء احتماله هذه المشقات؟. لأنه إن كان الصلب ـ الذي يعتبر أمرًا مُهينًا ولعنة ـ قد دعاه المسيح مجدًا وذلك لأجلنا، فكم بالأكثر جدًا ينبغي أن نُظهر نحن مثل هذا الإستعداد. وطالما، أن لدينا قوة فيجب علينا إذًا أن نحتقر الآلام، وبالأكثر جدًا ينبغي أن نحتقر المال والطمع والشراهة. إذن، فعندما نتعرض لأمر مؤلم علينا أن نفكر ليس فقط في الأتعاب بل في الأكاليل أيضًا. لأنه كما أن التجار لا يفكرون فقط في اتساع البحر ومشقة السفر بل أيضًا في المكسب؛ هكذا يجب علينا أن نفكر في السماء والدالة التي لنا عند الله. وإن كان الطمع ما زال يبدو لك أمرًا مفرحًا، فكِر في أن المسيح يرفضه وللتو سوف يبدو لك هذا الطمع أمرًا تعيسًا، أيضًا إذا كان عطاءك للفقراء يبدو لك أمرًا مزعجًا، فعليك ألا تتوقف عن التفكير في لحظة قطف الثمار التي تنتج من البذرة التي تلقيها. وعندما يصعب عليك أن تحتقر الممارسة الجسدية مع امرأة غريبة (ليست زوجتك)، عليك أن تفكر في الإكليل الذي سوف تناله لجهادك، وعندئذ سيسهل عليك أن تتحمل التعب والألم. فإن كان خوف البشر يمنعك من ارتكاب أمور مشينة فكم بالأكثر شوقنا للمسيح.

 

ممارسة الفضيلة:

   ممارسة الفضيلة ليست بالأمر الهين؛ وبرغم ذلك ليتنا نحيطها بالوعود العتيدة لكي نتشجع على ممارستها. ومُحبو الفضيلة يرون الفضيلة في حد ذاتها جميلة ولأجل ذلك يمارسونها ليس لأجل نيل الجزاء ولكن لأن الله يُسر بها. ويعتبرون العفة أمرًا مهمًا ليس لأنهم يخافون من العقاب بل لأن الله أعطاهم هذه الوصية. أما الشخص الضعيف روحيًا فليفكر في المكافآت. دعنا نطبق هذا أيضًا على فضيلة الإحسان والصدقة، ليتنا نرحم إخوتنا في الإنسانية، ليتنا لا نحتقرهم في اللحظة التي فيها يموتون فقرًا. ليس من المعقول أن يجلس الأغنياء حول المائدة يضحكون ويستمتعون بكل ما لذ وطاب من الخيرات بينما يسمعون بكاء ونواح الآخرين وهم يعبرون الطريق أمامهم.

   ألا نلتفت، ونحن منزعجين، نحو المكان الذي يصدر منه البكاء والرثاء، بل، على النقيض، ونتكدر ونسمي هذا النوح والبكاء غشًا وخداعًا؟! ماذا تقول أيها الإنسان؟ أهل لأجل رغيف من الخبز يبتكر المرء مثل هذا الخداع والغش؟ هل تجيبني بنعم، إذًا سأقول لك إنه لأجل هذا السبب عينه ينبغي عليك أن ترحمه وتُحسِن إليه، ولأجل هذا السبب ينبغي عليك ـ قبل أي شيء ـ أن تخلّصه من العوز والاحتياج. وعلى الأقل فإن كنت لا تريد أن تُحسِن إليه، فلا يجب أن تُهينه. وإذا لم ترد أن تضع نهاية لحالته المأساوية، فعلى الأقل لا تلقه في هوة الهلاك. عليك أن تفكر في ماذا سيكون موقفك وأنت تتوسل إلى الله، في حين أنك تُبعِد الفقير الذي يطلب منك مساعدة، لأنه يقول ” وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم”[14]. تأمل، كيف ينصرف هذا الفقير في مذلة برأس منكسة وبعارٍ وخجل محتملاً بالإضافة إلى فقره جرحًا من جراء إهانتك له. لأنه إن كنتم تعتبرون التسول لعنة عليكم أن تتأملوا في مدى شناعة المصيبة التي يُبتلى بها الفقير حين يطلب ولا يأخذ، بل ينصرف والشتائم تنهال عليه من كل ناحية.

 

اسلكوا برأفة ورحمة تجاه الفقراء:

   حتى متى نتشبه بالوحوش ونجهل هويتنا بسبب الطمع؟ كثيرون منكم يسمعون هذه الأقوال ويتنهدون، لكني لا أريد الآن التأوه فقط، بل بالحري عليكم أن تسلكوا برأفة ورحمة تجاه الفقراء. أرجو أن تتأملوا ذلك اليوم حين نمثل أمام عرش المسيح، حينما نتوسل طالبين الرحمة فيقول لنا أمام هؤلاء الذين رفضنا أن نساعدهم، أنكم لأجل رغيف خبز وفلس واحد قد تسببتم في حدوث عواصف عاتية في هذه النفوس. فماذا سنقول عندئذ؟ بماذا سندافع؟ ومن حيث إنه سوف يقودهم أمامنا، اسمع ماذا يقول: ” بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا”[15]، لأن هؤلاء لن يجدوا ما يشهدوا به عنا في ذلك الوقت، بل إن الله سوف يديننا بسببهم. لأن الغني حين رأى لعازر لم يتحدث عن شيء كان قد قدمه له، بينما إبراهيم تحدث لحساب ذاك. وهذا ما سوف يحدث أيضًا مع الفقراء الذين نحتقرهم اليوم، لأننا لن نرَ هؤلاء يستعطون ويمدوا أيديهم في حالة تستحق الشفقة، بل سنراهم مستريحين في أحضان القديسين، أما نحن ـ الذين رفضنا أن نقدم العون لهم ـ سوف نصبح في حالتهم البائسة وسنبدو في نفس منظرهم حين كانوا يستعطون، وليتنا نصبح هكذا فقط ولا يحدث ما هو أكثر رعبًا، أقصد العقاب! لأن الغني هناك لم يكن يرغب في الشبع بالفتات بل كان في عِقاب مخيف في النار، وسمَّع هذا القول: ” إنك إستوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا[16]. ليتنا لا نعتبر الغني شيئًا مهمًا لأنه سيكون لنا وقودًا للجحيم إن لم ننتبه. والفقر يمكن أن يصير دافعًا للتمتع والراحة حيث نتخلص من الخطايا حين نقبل الفقير بفرح، وحينذاك نكتسب دالة كبيرة أمام الله.

 

لقد أعطاك جسده وأعطاك دمه الكريم:

   إذن ليتنا لا نطلب دائمًا الراحة هنا، حتى نستمتع هناك بالراحة الحقيقية، ليتنا نقبل الأتعاب من أجل اقتناء الفضيلة ونتجنب الأمور الباطلة ولا نطلب لأنفسنا شيئًا بل لننفق ما نملكه على هؤلاء المحتاجين. لأنه أي مبرر سيكون لنا، عندما يعدنا الرب بالسماء بينما نحن لا نعطيه حتى رغيفًا واحدًا؟ إنه يُشرق عليك الشمس (مت45:5). ويمدك بالخليقة وكل خدماتها، بينما أنت لم تعطه حتى ثوبًا واحدًا، ولا جعلته مشاركًا لك في مأواك؟ ولماذا أذكر لك الشمس والخليقة! لقد أعطاك جسده، وأعطاك دمه الكريم، أما أنت فلم تُعطه حتى كأس ماء بارد؟ هل أعطيت مرة واحدة؟ ليس هذا هو الإحسان، لأنك إن لم تساعد في كل ما لديك لن تُكمل كل عملك، لأن العذارى اللاتي كانت لديهن مصابيح كان لهن زيت أيضًا، ولكنه لم يكن كافيًا. إذن إستمر في الإحسان من خيرات الرب حتى لو سبق لك أن أعطيت إحسانًا من قبل. لأي سبب تحب المال؟ من جراء الشراهة والطمع يكنز هؤلاء أموالهم وهم كسالى في فِعل الإحسان. لأن الذي تعلم أن يربح ـ بهذه الطريقة ـ لا يعرف أن يُعطي من أمواله. كيف يمكن لمَنْ هو مُدَرب على السلب والنهب أن يرتب حياته على العكس مِن ذلك؟ الذي يخطف ممتلكات الآخرين، كيف يمكن أن يعطي، فالكلب الذي أعتاد على أن يأكل لحم لا يمكن أن يحرس قطيع من الأغنام؟ لأجل هذا يقتل الرعاة مثل هذه الكلاب. ليتنا نبتعد نحن عن هذا الطعام، حتى لا يُصيبنا نفس الأمر.

 

عليك أن تقضي على اليأس بواسطة أعمال الرحمة:

   ألم ترَ كيف أن الله أنعم علينا بكل شيء ليكون من نصيب الجميع؟ فإن كان الله سمَّح بوجود فقراء بيننا، فهذا فعله لكي يُعزي الأغنياء حتى يتمكنوا بإحساناتهم على أولئك الفقراء أن يتخلصوا من خطاياهم، بيد أنك قد صرت قاسيًا وغير إنساني.

   إذن فعلى الرغم من أنك أخذت قوة لتمتلك أعمال الرحمة، إلا أنك ترتكب جرائم قتل لا حصر لها، فأنت تقضي على النور وعلى الحياة كلها. ولكي توقف ذلك، عليك أن تقضي على اليأس بواسطة أعمال الرحمة. فإن كنت تأسف لمجرد سماع هذا الكلام، فكم ينبغي علىّ أنا أن أحزن لأنني أرى هذه الأمور تحدث. حتى متى ستظل في غِنى وذاك يظل فقيرًا؟ حتى ساعة الموت، أؤكد لك بأنها ليست بعيدة على الإطلاق، لأن الحياة قصيرة جدًا ونهاية كل شيء قريبة جدًا، حتى أن كل شيء يعبر سريعًا وكأنه ساعة زمن. ما الذي تحتاجه من الكنوز المكدسة وحشد الخدم والمدبرين؟ لماذا لا يوجد معك من يتحدث عنك وعن إحساناتك؟ أن الكنز الذي تدخره ليس لديه صوت يُنادي به لأجلك، بل إنه يجذب إليه اللصوص، أما الإحسان إلى الفقراء فيصعد إلى الله ويشهد لك أمامه، ويجعل حياتك الحاضرة سعيدة وينقذك من خطاياك، ويقدم لك المجد من قِبَل الله والكرامة من قِبَل البشر. لماذا ـ إذن ـ تحرم نفسك مثل هذه الخيرات الكثيرة جدًا؟

   فأنت في الحقيقية لا تُفيد الفقراء بل بالأكثر جدًا تفيد نفسك. لأنك سوف لا تحسن حالة الفقراء الحاضرة فقط، بل ـ بفعل الإحسان ـ تُدخر لنفسك مسبقًا المجد العتيد وتلك الدالة أمام الله التي أتمنى أن ننالها جميعًا بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة من الآن وإلى الأبد آمين.

 

عظة78 على يو4:16ـ15

 

   ” ولم أقل لكم من البداية لأني كنت معكم. وأما الآن فأنا ماضٍ إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي. لكن لأني قُلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم” (يو4:16ـ6).

 

إستحوذ الحزن على التلاميذ:

   إن ألم الحزن المفرط هو أمر صعب للغاية ونحن نحتاج إلى شجاعة كبيرة حتى نقف أمامه ونحن متشددين. والألم له فوائد، فعندما نخطئ نحن أو الآخرين فمن الصواب أن نحزن. ولكن لا يجب علينا أن نحزن بشكل مُبالغ فيه على الظروف التي تحدث لنا كبشر لأن ذلك غير مفيد. لقد استحوذ الحزن على التلاميذ الذين لم يكونوا بعد كاملين روحيًا، ولذلك راحوا يلقون عليه أسئلة كثيرة.

   فقد قال له بطرس ” أين تذهب؟” [17]، وتوما قال له: ” يا سيد لسنا نعرف أين تذهب. فكيف نقدر أن نعرف الطريق[18]. وفيلبس أيضًا قال له: ” أرنا الآب[19]. ولكن علينا أن نلاحظ كيف إنه يقومهم بشدة فها هم يسمعون أن اليهود “سيخرجونهم من المجامع” (أنظر يو2:16)، وقول المسيح لهم ” طوباكم إذا أبغضكم الناس[20]، وكذلك: ” تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله[21]، وقد فقدوا شجاعتهم حتى أن آخرين منهم لم يستطيعوا أن يقولوا له شيئًا وظلَّوا في مكانهم.

   وكان الرب يُقدر هذا الموقف، إذ قال لهم: “ ولم أقل لكم من البداية لأني كُنت معكم. أما الآن فأنا ماضٍ إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي. لكن لأني قُلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم[22].

   حقًا فإن الحزن الشديد يعد أمرًا مخيفًا، إنه مُرعب وقد يؤدي أيضًا إلى الموت. لأجل هذا قال بولس: ” لئلا يُبتلع مثل هذا من الحزن المُفرط[23]. يقول لهم: ” ولم أقل لكم من البداية “. لماذا لم يقل لهم من البداية؟ حتى لا يقول أحد إنه قال هذه الأقوال من جراء خبرته ورؤيته لأمور حدثت أمامه مرات كثيرة، أي بمثابة استنتاجات فقط. ولماذا يبدأ في قول أمر صعب جدًا؟ إنه يعرف هذه الأمور من البداية، ولكنه لم يقلها ليس لأنه لم يكن يعرفها، بل كما قال هو       ” لأني كنت معكم“. وهذا الكلام يقوله إنسانيًا، كأنه قال: لأنكم أنتم في آمان وكان في استطاعتكم أن تسألوني حين تريدون، والحرب كلها كانت تنقض علىَّ، وكان من الخطأ أن أقول لكم هذا من البداية. لكنني أتساءل: ألم يقل من قبل مثل هذه الأقوال؟ ألم يقل للتلاميذ     ” وتساقون أمام ولاة وملوك من أجلي شهادة لهم وللأمم. ولأنهم سيسلمونكم إلى مجالس وفي مجامعهم يجلدونكم[24]. كيف إذن يقول   ” ولم أقل لكم من البداية “. لأنه سبق وقال آنذاك يجلدونكم وتساقون أمام الرؤساء، ولكنه لم يحدثهم عن موتهم، هذا الأمر خطير جدًا حتى أن قتلهم سيعتبر بمثابة عبادة من جانب القاتلين كأنهم يقدمون خدمة إلى الله. وهذا الأمر سيُدهشهم إذا علموه من البداية: أي سوف يُحاكموا فيما بعد ككفار وأُناس متمردين. نستطيع أن نقول أن إعلانه الأول كان يختص بالآلام التي سوف يعانون منها على أيدي الأمم، أما هنا فإنه يضيف، مع التأكيد على آلامهم أيضًا بواسطة اليهود، وأخبرهم أن هذه الآلام قريبة جدًا.

   ” وأما الآن فأنا ماضٍ إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي. لكن لأني قُلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم [25].

   وكون أن السيد المسيح قد أعلمهم أنه يعرف مدى حزنهم قد منحهم تعزية ليست بقليلة، إذ أن القلق لأجل غيابه هذا وانتظار المشقات العتيدة أن تحدث (لأنهم لم يعرفوا ما إذا كانوا يستطيعون أن يتحملوا المشقات بشجاعة) جعلهم مندهشين تمامًا.

 

موقف التلاميذ من حديث المسيح:

   لماذا إذًا لم يحدثهم عن ذلك عندما أصبحوا جديرين بأن ينالوا الروح؟ لكي تعلم أنهم كانوا أُناسًا فاضلين جدًا؛ إذ وهم غير جديرين بأن يأخذوا الروح لم يتركوا السيد المسيح والحزن جاثم على قلوبهم، أدعوك أن تتأمل في ما سوف يصيرون عليه عندما ينالون النعمة، لقد تحملوا كل هذا الكلام وسمعوه، لأنه لو إذا كان قد قيل  بعد حلول الروح القدس عليهم لكان الثناء يُنسب للروح، أما الآن فموقفهم هذا يعد ثمرة تفكير ذهنهم وبرهان واضح على آلامهم من أجل المسيح.    ” لكن أقول لكم الحق[26]. هنا يعزيهم أيضًا، لأنه يقول لهم إنني لا أخبركم عن أمور مفرحة، أما إذا كان هذا الكلام صعب فإنني أرى إنكم لابد أن تسمعوه لفائدتكم، لأنكم ترغبون في أن أبقى معكم بينما الفائدة هي في أمر آخر. إن الذي يحب أصدقاءه ويعتني بهم يتصف دائمًا بعدم الخداع فهو يقول لهم ما يفيدهم حتى إذا كان كلامه هذا ضد رغبتهم، فهو بذلك لا يبعدهم عن ما يفيدهم، لذا يقول لهم المسيح. ” إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي[27].

 

 

عمل الروح القدس:

   ماذا يقول هنا أولئك الذين ليس لديهم معرفة لائقة عن الروح القدس؟

   يقولون: هل فائدتهم تكمن في أن يرحل الرب ويأتي العبد[28]؟ لكن، هل رأيت مدى عظمة وقيمة الروح؟ ” إن ذهبت أرسله إليكم[29]. وما هي الفائدة؟ ذاك سوف يبكت العالم، أي أن هؤلاء الذين يتطاولون على الرب لن يفلتوا من العقاب إذا جاء المعزي. لقد تحدث الرسل وقاموا بأعمال ـ قبل حلول الروح القدس ـ تسد أفواه المتطاولين، ولكن عندما تحدث أمور بواسطة الروح، ويقدم التلاميذ تعليمًا كاملاً بالروح ويصنعون معجزات أعظم، سوف يُدان أهل هذا العالم وهم ينظرون أمورًا كثيرة تحدث باسمه، الأمر الذي سيكون بمثابة برهان ساطع لقيامته، كأن المسيح يقول لهم: الآن يستطيعون أن يقولوا، أليس هذا ابن النجار الذي نعرف أباه وأمه. أما عندما يحل الروح المعزي عليكم فسوف يروا كيف يقضي على الموت ويهرب الشر وتُشفى الطبيعة البشرية من الشلل، و تُطرد الشياطين، وهكذا يتضح أن عطية الروح عظيمة وتفوق الوصف (انظر أع1:2ـ وما بعدها). إن كل هذا يحدث باسمي، فماذا إذن سيقولون؟ لأن الآب يشهد لي وسوف يشهد أيضًا الروح، لقد شهدَّ بكل تأكيد في البداية (متى17:3)، لكن سيشهد أيضًا والآن.

   ” يُبكت العالم على خطية[30]. يعني أنه سيقضي على عنادهم وسيُظهر لهم إنهم ارتكبوا أمورًا لا تُغفر. ” وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضًا[31]. لقد منحنا حياة لا تُدرك بالعقل. وهذا برهان على أنه سوف ينتقل إلى أبيه، نظرًا لأنهم دائمًا كانوا يدينونه بأنه لم يأت من الله، ولذلك دعوه خاطئًا ومخالفًا، لذا يقول أنه سيدحض هذا المبرر أيضًا. انه يريد أن يقول: إنهم لم يعتبروني آتيًا من عند الله، الأمر الذي يُظهرني مخالفًا، وعندما يُبرهن الروح بأنني أنتقل إلى هناك ليس للحظة بل إنني أبقى هناك إلى الأبد (لأنه “بعد قليل لا تبصرونني”)، ما الذي سوف يقولونه أيضًا؟ انتبه حيث أنه ثبت خطأ رأيهم الشرير من خلال نقطتين: إن عمل المعجزات ليس من سمات الخاطئ (إذ إنه لا يتمكن من عمل معجزات)، كما أن القرب من الله بصفه دائمة ليس من صفاته ولذلك فإنهم لا يستطيعون إن يقولوا أن هذا خاطئ، وأنه لم يأتِ من الله.

   ” وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين[32]. يتحدث هنا أيضًا عن البر، لأنه انتصر على المقاوم لبره. وكان من المستحيل أن ينتصر عليه لو كان هو خاطئًا. ولم يتمكن أي بار من القيام بهذا العمل. ومن حيث إن رئيس هذا العالم قد دين بواسطتي، فهذا يعرفه أولئك الذين سوف يدسونه تحت أرجلهم فيما بعد. وسوف يعرفون بوضوح قيامتي، وهذا ما يميز الشخص الذي يحكم ويُدين، لأنه لم يستطع أن يتحداني. لقد قالوا عني إن بي شيطان وأنني مُضِل، ومثل هذه الاتهامات سوف تظهر أنها لا تستند على الحق، لأنني لو كنت خاطئًا لما استطعت أن أُنازله، أما الآن فقد أُدين وهُزم.

   ” إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن ” إذن ” خير لكم أن أنطلق “، حيث آنذاك سوف تفهمون هذه الأمور وتحتملوها عندما أنطلق. ما الذي حدث؟ هل الروح أعظم طالما إنكم لا تحتملون الآن هذه الأمور، بينما ذاك (الروح) سوف يعدِّكم لكي تفهموها؟ هل عمل الروح أعظم وأكمل؟ ليس الأمر هكذا، طالما أن المعزي سيقول أن هذا هو ما قلته لكم. لذلك يقول: ” وأما متى جاء ذلك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتيه. ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم. كل ما للآب هو لي[33].

   إذًا، فلأنه قال ما يعني ” ذاك يمجدني. ويذكركم بكل شئ. ويعزيكم في حزنكم”، الأمر الذي لم يفعله هو، وكذلك حين قال: “خير لكم أن أنطلق”، وأيضًا ” لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. لكن حينذاك تستطيعون” وكذلك ” فهو يرشدكم إلى جميع الحق”، ولكي لا يعتبروا وهم يسمعون هذه الأقوال أن الروح أعظم ويقعون في كُفر رهيب، لأجل هذا يقول ” يأخذ مما لي” أي أنه سوف يقول نفس الكلام الذي قلته. وعندما يقول ” لا يتكلم من نفسه ” يقصد أنه لا يتكلم بشئ معارض، لن يقول شيئًا من عنده، بل فقط ما قلته أنا. مثلما يقول عن ذاته ” لست أتكلم به من نفسي[34]، هذا يعني، أن لا شئ من هذا الكلام الذي أقوله هو خارج عن أقوال الآب، لا شئ لديه مناقض لذاك وغريب عنه، هكذا أيضًا عندما تحدث عن الروح. “مما لي” تعني أي ما أعرفه أنا، أي من معرفتي، لأن معرفتي ومعرفة الروح واحدة. ” ويخبركم بأمور آتية ” لقد استنفر اهتمامهم لأن لا شئ يشتاق إليه الجنس البشري مثل أن يعرفوا الأمور الآتية التي سوف تحدث. لذلك كانوا يسألونه باستمرار ” أين يذهب؟”، أي مجد يكون هذا؟ (أنظر يو5:14، 36:13). إذن لقد حررَّهم من هذا الإنشغال، إذ يقول إن كل الأمور سوف يقولها لكن مسبقًا حتى تكونوا مستعدين.

   ” ذاك يمجدني” كيف؟ عندما يطلب الرسل اسمى سوف يحقق الروح أعمالاً عظيمة. فسوف يعملون معجزات عظيمة عندما يأتي الروح، لأجل هذا، يقول مشيرًا إلى المساواة: “ذاك يمجدني”. ماذا يقصد بقوله ” جميع الحق” هذا يعني أن الحق يُشهد له بواسطة المعزي، فالمعزي سوف “يرشدنا إلى كل الحق” أي إلى الرب نفسه لأنه أخذ جسدًا بشريًا ولم يحدثهم حديثًا كاملاً عن ذاته، ولم يعرفوا معرفة كاملة عن القيامة إذ كانوا غير كاملين روحيًا.

   وبالنسبة لليهود لم يقل لهم شيئًا روحيًا ساميًا حتى لا يعاقبونه مُعتبرينه مخالفًا لتعاليمهم، وذلك من جراء عدم فهمهم، وعندما أخذ التلاميذ وفصلهم عن قطيعهم ـ إذ كانوا سابقًا خارج كرم يسوع ـ آمن كثيرون وغُفرت لهم الخطايا، وآخرون تحدثوا معه بحسب المنطق الطبيعي، لذا لم يقل لهم الكثير عن ذاته. هكذا فكأنه يقول: إنني لم أقل ما ينبغي أن أقوله، وهذا لا يرجع إلى جهلي بل بسبب الضعف الروحي للسامعين. وحيث إنه قال ” فهو يرشدكم إلى كل الحق” وأضاف ” لا يتكلم من نفسه“، الروح لا يحتاج إلى تعليم، إسمع بولس الرسول حين يقول: ” أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله [35]. إذن فكما أن روح الإنسان هو الذي يعرف الإنسان دون أن يتعلم من آخر، هكذا الروح القدس ” يأخذ مما لي ويخبركم” أي سوف يتكلم بما يتفق مع أقوالي. ” كل ما للآب هو لي“. إذن الباراكليت سوف يثبت أقوالي الخاصة، وهذه الأقوال هي للآب، إذن فهو يخبر بكلام الآب الذي هو كلامي.

   لماذا لم يأتِ الروح قبل رحيل المسيح من العالم؟ لأن اللعنة لم تكن قد بَطُلت بعد، والخطية لم تكن قد هُزمت، وكان الجميع لا يزالون تحت القصاص، لذا لم يكن ممكنًا أن يأتي. وكان لابد للعداوة أن تنتهي وأن تتصالحوا مع الله وبعد ذلك تقبلون تلك العطية. لكن لماذا يقول “سأرسله[36]. أي سوف أعَّدكم لكي تقبلوه، لأنه كيف يُرسل ذاك الذي هو حاضر دائمًا؟ أراد إذن أن يُظهِر لهم تمايز الأقانيم. هناك سببان وراء ما قاله: أولاً: كان هؤلاء مرتبطين به بشدة، فلابد أن يقنعهم بأن يقبلوا إلى الروح ويطيعوه، لأجل هذا أيضًا جعل الروح يصنع عجائب لكي يدركوا قدرته ومكانته. وكما أن الآب يستطيع أن يُحضر الكائنات إلى الوجود إلا إنه جعل الابن يفعل ذلك، هكذا أيضًا فقد جعل الروح يفعل كل هذه الأمور لكي يدركوا قوته. لأجل هذا أيضًا تجسد الابن ولكنه جعل الروح هو الذي يتمم كل ما فعل. لقد وجد البعض في محبة الابن غير الموصوفة دافعًا للكفر؛ إذ اعتبروا الابن المتجسد أقل من الآب. ونحن نقول لهم: ما الذي سوف تقولونه عن الروح؟ لأنه لم يأخذ جسدًا. إنكم لن تقولوا بالطبع لأنه، لهذا السبب، أعظم من الابن، ولا الابن أقل منه. إننا ننال عمل الثالوث في المعمودية، حيث إن الآب يمكن أن يفعل كل شيء وكذلك الابن والروح القدس. الثالوث حاضر في الحياة السرائرية حتى لا يتشكك أحد في الابن والروح القدس، فنحن نتعلم شركة الأقانيم أثناء شركة عطية تلك الخيرات السرائرية.

   حقًا إن الابن يستطيع أن يفعل كل هذه الأمور بمفرده حيث انه يشترك مع الآب والروح القدس أيضًا أثناء المعمودية. أرجو أن تسمع هذه الأقوال بوضوح إذ يقول لليهود: ” ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا[37]، وأيضًا        ” لتصيروا أبناء النور[38]، و ” أنا أعطيها حياة أبدية[39]. وبعد ذلك يقول: ” أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل[40]. دعونا نرى أيضًا الروح الذي يصنع هذا بعينه. أين نراه يفعل ذلك؟ نرى هذا في الشواهد الكتابية الآتية: “ ولكل واحد يُعطى إظهار الروح للمنفعة[41]. ] ذاك الذي يمنح هذه يستطيع بالأكثر جدًا أن يغفر الخطايا[، وأيضًا ” الروح هو الذي يُحيي[42]. و”سيحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم[43].” و ” أما الروح فحياة بسبب البر[44]. وأيضًا ” إذا أنقدتم بالروح فلستم تحت الناموس[45]، ” إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا آبا الآب[46]، أليس ما فعله (الآب) فعله (بواسطة) الروح، ولذا بولس كتب إلى أهل كورنثوس قائلاً: ” ولكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم بإسم الرب يسوع وبروح إلهنا[47].

   إذًا فلأنهم سمعوا كثيرًا عن الآب ورأوا الابن يتمم أعمالاً كثيرة، بينما لم يكونوا يعرفون شيئًا بعد بوضوح عن الروح، جاء دور الروح القدس ليصنع معجزات ويمنح المعرفة التامة. لكن لئلا يعتبر البعض إنه بسبب هذا الدور الذي سوف يقوم به فهو يعتبر أعظم من الابن (كما قُلت سابقًا)، قال لتلاميذه ” كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية“.

   هل الروح سيسمع كلام الآب ثم ينقله للتلاميذ؟ يقول البعض إن لديه معرفة كاملة فقط لأجل أولئك الذين سيسمعون. وأنا أقول لهم: أي مخالفة أكثر من تلك المخالفة التي تراها في هذه الأقوال التي يتقولون بها عن الروح؟. على الجانب الآخر ما الذي سوف يسمعه؟ أليس كل هذا الكلام قيل بواسطة الأنبياء؟ سوف يتحدث عن إبطال الناموس، ونحن نقول: قد قيلت هذه الأقوال، وإنه سيتحدث عن المسيح، وإلوهيته وتدبيره، نقول: لقد قيل كل ذلك. فما هو الأهم الذي سوف يقوله بعد كل ذلك؟ ” يخبركم بأمور آتية” هنا يبرهن ـ قبل أي شيء ـ على رتبته ومكانته في الثالوث كأحد الأقانيم الثلاثة، فإنه من صفات الله أن يعرف ما سيحدث في المستقبل. هنا يُعلن أن لديه المعرفة الكاملة والدقيقة عن الله وليس مثل الأنبياء الذين تنبأوا عن بعض الأمور. لذا يستحيل على الروح أن يقول شيئًا مختلفًا عما لدى الآب والابن.

   ” يأخذ مما لي ” أي ستكون له نفس المعرفة التي لي وهو مثلي ليس في احتياج أن يتعلمها من آخر، فالمعرفة واحدة بالنسبة لي وله. إنه يحدثهم هنا بهذه الطريقة حتى يتعرفوا على الروح ويصدقوه وحتى لا يعثروا، إذ سبق وقال لهم ” معلمكم واحد المسيح[48]، حتى لا يظنوا أن سماعهم للروح فيه معصية. فالتعليم هو واحد، تعليمي وتعليم الروح. كأنه يقول لهم: لا تظنوا أن تعليم الروح مختلف، طالما أن تلك التعاليم هي من تعاليمي وتكوَّن مجدي الخاص، لأنها بمشيئة الآب والابن والروح القدس. هكذا يريد أن نكون نحن هكذا، لذا قال: ” ليكونوا واحدًا كما نحن[49].

 

المحبة والوفاق:

   لا شيء أفضل من الإتحاد والإتفاق، فيهما يصير الواحد واحدًا في كثيرين، فإن كان يوجد اثنان أو عشرة لهم نفس الرأي والوحدة، فلن يصبح الواحد من العشرة هو واحد بعد، بل كل واحد من هؤلاء يصير عشرة أضعاف، وسوف تجد في العشرة واحد وفي الواحد عشرة. والعدو لا يقدر عليهم لأنه بينما يقاتل واحدًا منهم يجد نفسه يقاتل عشرة. هل يفتقر الواحد لأي شيء؟ لا، ليس هو في إحتياج بل له ما يكفيه من حيث القسم الأعظم (التسعة)، والجزء الصغير (الواحد) يغتني بالتسعة (الجزء الأكبر). كل واحد من العشرة له عشرون يد وعشرون عين وأرجلاً وإمكانيات أخرى كثيرة.

   إذن لن يرى بعينيه فقط بل بأعين الآخرين، لا يستند فقط على أرجله بل على أرجل الآخرين، لا يعمل فقط بيديه بل بأيدي الآخرين. لديه عشرة نفوس. وبذلك لن يكون وحيدًا بمفرده في إعتنائه بنفسه بل إن الآخرين يعتنون به. ولو كانت العشرة مائة فسيحدث نفس الأمر وسوف تتسع قوتهم.

   هل رأيت كيف أن المحبة القوية تجعل الواحد لا يُهزم بل تتضاعف قوته؟ كيف يُوجد الواحد في كل مكان أيضًا؟ بمعنى يُوجد في بلاد فارس وفي نفس الوقت في روما؟ فما لم تنجح فيه الطبيعة البشرية، تحققه المحبة؟ بالمحبة يُوجد هنا وهناك. فإن كان لديه ألف صديق أو ألفان، تأمل عندئذٍ في مدى قوته المتزايدة. هل رأيت مدى تزايد المحبة؟ فالمحبة تجعل الواحد يصير ألوفًا. لماذا إذن لا نحصل على هذه القوة ونؤَّمِن ذواتنا؟ هذا هو أعظم من كل سلطان وغِنى. فالمحبة أكثر أهمية من الزعامة ومن النور نفسه، لأنها سبب الفرح. حتى متى نحصر محبتنا في واحد أو اثنين؟

   اعرف الأمر من نقيضه. فإن كان المرء ليس له صديق، الأمر الذي يعتبر مثالاً للحماقة (لأن الجاهل يقول ليس لي صديق)، فأي حياة يعيشها؟ حتى لو كان ما زال لديه ثراء ويحيا في رغد العيش، أو يكسب خيرات لا حصر لها، إلا إنه سينتهي إلى مصير يكون فيه مجردًا وعاريًا من كل شيء. أما بالنسبة للإنسان الذي له كثير من الأصدقاء والأحباب والمحبين، فحتى أن كانوا فقراء، يصيرون أغنياء ومن الأغنياء، والعمل الذي لا يستطيع أن يقوم به هذا الإنسان بنفسه يقوم به الصديق الآخر، وكل ما لا يستطيع أن يمنحه لنفسه يمكن أن يتم من صديق آخر، وسيصبح الأصدقاء سبب فرح لنا وآمان. فإن مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يعاني من أي شر في اللحظة التي يكون فيها مُحاطًا بالأصدقاء ويتمتع بحمايتهم.

   وإن كان حُراس الملك يجتهدون وينشغلون بحراسة الملك، إلا إنهم يتممون هذه الأعمال عن خوف واحتياج، بينما هؤلاء الأصدقاء بدافع المحبة يعتنون بصديقهم ويحرسونه ليس عن خوف. لذا لا يخاف هذا الإنسان من مؤامرات قد تُحاك ضده من الأصدقاء مثل شعور الملك تجاه حُراسه.

   ليتنا نستفيد إذًا من هذا الصلاح. فليشعر الفقير بالعزاء في فقره، والغني فليكن عنده أمان في غِناه، والرئيس فليمارس سلطته بآمان، والمرؤوس ينال القبول من رؤسائه. إذًا فالمحبة والوفاق يجلبان الهدوء والسكينة، هنا نبع الوداعة. فالوحوش لا تحيا في شكل قطيع بل تحيا في رُعب وخوف. لأجل هذا نحن نسكن المدن ولدينا أسواق لكي يتآلف الواحد مع الآخر. لقد أعطى بولس الرسول هذه الوصية، قائلاً: ” غير تاركين إجتماعنا[50]، لأن لا شيء يكون أكثر شرًا من الإنعزال، والإنسحاب وتجنب العلاقات بين البشر بعضهم مع بعض. فماذا ـ إذًا ـ بالنسبة للرهبان الذين احتلوا قمم الجبال؟.

   أقول لكم: ولا حتى أولئك هم بدون أصدقاء، ولكنهم تجنبوا ضوضاء السوق، وأصدقاءهم كثيرون من الذين لهم نفس توجهاتهم ومرتبطين بشدة فيما بينهم، ولكي يصلوا إلى ذلك إرتحلوا إلى الجبال. فإن العِراك من أجل الأشياء العالمية يخلق نزاعات كثيرة، لأجل هذا، تركوا العالم ومارسوا المحبة باهتمام كبير.

   ماذا إذن، إن كان شخص، يقول إنه وحيد بينما الآخر له أصدقاء لا حصر لهم؟ إنني أريد بكل تأكيد، أن يتآلف الواحد مع الآخر، وأهم شيء هو أن الصداقة ثابتة. والمكان لا يصنع الأصدقاء، فالمحبة بين الأصدقاء هي الأهم. وهؤلاء أيضًا يُصلَّون لأجل كل المسكونة، الأمر الذي يبرهن على الصداقة الكاملة. ولذلك فالواحد يقبل الآخر أثناء تتميم الأسرار، لكي يصير الكثيرون واحدًا، وجميع الداخلين للإيمان يصلون صلاة واحدة، ونطلب جميعًا من أجل المرضى، وثمار المسكونة ومن أجل الأرض والبحر. هل رأيت قوة المحبة في الصلوات، وفي الأسرار، وفي النصائح والإرشاد؟ أنها السبب وراء جميع كل الصالحات. دعونا نمارس المحبة بطريقة تليق وننظم حياتنا الحاضرة جيدًا وسوف ننال الملكوت السمائي الذي ننتمي إليه جميعًا. ليتنا نناله بنعمة مُحب البشر ربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين.

[1] العناوين الجانبية من وضع المُترجم.

[2] يو26:15ـ27.

[3] يو14:8.

[4] أع41:10.

[5] يو1:16.

[6] يو2:16.

[7] يو2:16.

[8] يو3:16.

[9] مت11:5ـ12.

[10] يو4:16.

[11] يو3:16.

[12] يو21:15.

[13] يو20:15.

[14] مت2:7.

[15] مت45:25.

[16] لو25:16.

[17] يو36:13

[18] يو5:14.

[19] يو8:14.

[20] لو22:6.

[21] يو2:16.

[22] يو4:6ـ6.

[23] 2كو7:2.

[24] مت17،10ـ 18.

[25] يو5:16ـ6.

[26] يو7:16.

[27] يو7:16.

[28] هنا يقصد الرأي الهرطوقي بأن الروح القدس هو مجرد عبد مخلوق.

[29] يو7:16.

[30] يو8:16.

[31] يو10:16.

[32] يو11:16.

[33] يو13:16ـ15.

[34] يو10:14.

[35] 1كو11:2.

[36] يو26:15.

[37] يو10:2.

[38] يو36:2.

[39] يو28:10.

[40] يو10:10.

[41] 1كو7:12.

[42] يو63:6.

[43] رو11:8.

[44] رو10:8.

[45] غلا18:5.

[46] رو15:18.

[47] 1كو11:6.

[48] مت8:23.

[49] يو11:17.

[50] عب25:1.

 

روح الحق – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. جورج عوض إبراهيم

Exit mobile version