Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

المسيح باكورة الراقدين – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

المسيح باكورة الراقدين – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

 

المسيح باكورة الراقدين – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

 

المسيح باكورة الراقدين

 

رجاء الحياة الأبدية:

   ” إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس” (19:15). ماذا تقول يا بولس؟ كيف يكون لنا رجاء في هذه الحياة فقط، إن كانت الأجساد لا تقوم، بينما  تبقى النفس خالدة؟ فإذا بقيت النفس خالدة بدون الجسد، فهي لن تتمتع بتلك الخيرات المدخرة لنا، وبالطبع لن يعذب الإنسان؟ ثم يقول “لأنه لابد أننا جميعًا نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرًا كان أم شرًا”[1]. ومن أجل هذا يقول “إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس. لأنه إن لم يقم الجسد فلن تحصل النفس على الأكاليل، وستبقى خارج دائرة التطويب والغبطة السماوية، ولن تتمتع بأي شيء هناك، وحينئذٍ تقتصر المكافآت على هذه الحياة الحاضرة فقط. فهل هناك ما هو أشقى من هذا.   

    يتكلم بهذه الأمور، لكي يؤكد على عقيدة قيامة الأموات، ويقنع أهل كورنثوس بالحياة الأبدية، حتى لا يتصوروا أن الحياة الإنسانية، تنتهي بإنتهاء هذه الحياة الحاضرة. وهكذا أراد أن يشرح لهم أنه إذا كان أحد يريد أن يتعلم العقائد الأساسية المستقيمة، فعليه أن يؤمن بها أولاً، ويتحرر من الدافع الأخلاقي الناتج عن الخوف.

    وهو بهذا العرض السابق، قد وضعهم في حالة صراع، لأنه إن كان بعد كل هذا الجهاد، والميتات الكثيرة، والكوارث العديدة، سنسقط ونفقد جميع هذه الخيرات الأبدية، وننال مكافآتنا في هذه الحياة الحاضرة، فما الفائدة، لأننا هكذا سنكون “أشقى جميع الناس”.

 

باكورة الراقدين:

   ” لكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين” (20:15)، وبعدما أظهر كم الشرور الذي ينشأ جرّاء عدم الإيمان بالقيامة، يكرر مرة أخرى الحديث ذاته، ويقول “الآن قد قام المسيح من الأموات”. وهو على الدوام يضيف عبارة “من الأموات”، وذلك لكي يسد أفواه الهراطقة. “وصار باكورة الراقدين”، وطالما هو باكورة الراقدين، فينبغي أن يقوم الراقدين أيضًا. أما من حيث أنهم دعوا التحرر من الخطية، قيامة، فهناك رد على ذلك، إذ لا يوجد أحد خارج نطاق الخطية، لأن ق. بولس يقول: “لست أحكم في نفسي أيضًا.. لكنني لست بذلك مبررًا”[2]. أرأيت أن مجمل كلامه يشير إلى قيامه الأجساد؟ ولكي يجعل كلامه موضع تصديق، فإنه يشير دائمًا إلى قيامة المسيح بالجسد. ثم بعد ذلك يتحدث عن إثبات صحتها، لأنك إذا كنت تعلّم عن حقيقة ما ولا تبرهن على صحتها، فهذا التعليم لا يصير مقبولاً من الكثيرين. إذًا ما هو الدليل الذي يثبتها؟ يقول “فإنه إذ الموت بإنسان. بإنسان أيضًا قيامة الأموات” (21:15). فقوله بإنسان، يعني، إنسانًا نفسًا وجسدًا.

    لنرَ إذًا أي موت يقصد، بقوله “كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع” (22:15). ماذا إذًا؟ أخبرني: هل الجميع ماتوا موت الخطية في آدم؟ إذًا كيف كان نوح بارًا في جيله؟ وكيف كان إبراهيم أيضًا؟ وكيف كان يعقوب؟ وكيف يتكلم عن الجميع؟ وأخبرني: كيف سيحيا الجميع في المسيح؟ وأين هم هؤلاء الذين سيلقون في جهنم؟ فإذا كان هذا الكلام يخص الجسد فقط، فإنه يكون كلامًا صحيحًا، أما إذا كان قد قيل عن القداسة والخطية، فإنه لن يُقبل على الإطلاق.   

    وحتى لا تعتقد أن الخطاة أيضًا يخلصون، لأنك سمعت أن الجميع سيحيون في المسيح، أضاف بعد ذلك “ولكن كل واحد في رتبته” (23:15). ولا تتصور إذًا، بعدما سمعت عن القيامة، أن الجميع سيتمتعون بمكانة واحدة. لأنه الجميع لن توقع عليهم عقوبة واحدة في الدينونة الأخيرة، بل ستكون هناك فروق كبيرة، فبالأكثر جدًا ستكون المسافة شاسعة بين الأبرار والخطاة.

    “المسيح باكورة ثم الذين للمسيح في مجيئه” أي المؤمنين الذين نموا في الفضيلة. “وبعد ذلك النهاية” (24:15).

    أي عندما يقوم البشر، ستكون النهاية، فهو يتكلم عن المجيء الثاني، لذلك أضاف “في مجيئه”. ثم يقول “متى سلم الملك لله الآب. متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة”. لنسأل هؤلاء أولاً عن معنى “متى سلم الملك لله الآب”، لأنه إذا كان المقصود هو المعنى الإنساني، وليس المعنى الذي يليق بالله، حينئذ يجب أن تكون خلاصة ذلك ما يلي: أنه بعدما سلّم الملك، لن يكون لديه مُلكًا، لأن من يسلّم شيئًا لأخر، لن يكون مالكًا لهذا الشيء فيما بعد. وليس هذا فقط، بل إن الآب أيضًا الذي يتسلم الملك، سيظهر أنه لم يكن ملكًا، قبل أن يتسلم هذا الملك، وهذا أمر غير معقول ولا مقبول. وبحسب ما يقوله هؤلاء الهراطقة، لم يكن الآب ملكًا من قبل، ولا الابن سيبدو ملكًا، بعد أن يسلم الملك. إذًا كيف يقول الابن عن الآب “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل؟”[3]، وعن الآب يقول دانيال النبي “يقيم إله السموات مملكة لن تنقرض.. وهي تثبت إلى الأبد”[4].

    أرأيت كم تقال أمور غير معقولة، تتعارض مع الكتاب المقدس، وتنسب ذلك للبعد الإنساني؟ ثم ما هي الرئاسة التي يقول عنها هنا أنها ستبطل؟ هل هي رئاسة الملائكة؟ حاشا. هل هي رئاسة المؤمنين؟ ولا هذه أيضًا. فما هي هذه الرئاسة التي ستبطل؟ يقصد رئاسة الشياطين، والتي يقول عنها “فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم. بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر”[5].. فهي لم تبطل نهائيًا، بل تنشط في مواضع كثيرة، إلا أنه كل رئاسة ستبطل في القيامة الأخيرة. “لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه” (25:15).

    ويجب أن تُفهم هذه الكلمات فهما لائقًا بها، لأن كلمة “حتى” تعني وجود نهاية وتحديد في الله، الأمر الذي لا وجود له في الله.

    “وأخر عدو يبطل هو الموت” (26:15).

    وما معنى أخر عدو؟ أي بعد كل شيء، وبعد الأشياء الأخرى. فالموت آتى أخر شيء في الخليقة. إذ أن النصيحة قد أُعطيت أولاً من قبل الشيطان، ثم تبعها العصيان، ثم آتى الموت أخيرًا.

    “لكن يقول قائل كيف يُقام الأموات وبأي جسم يأتون. يا غبي الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت” (35:15).

 

كيف يُقام الأموات:

   بينما نجد أن الرسول بولس هادئ ومتواضع في كل موضع، نجده هنا يستخدم الكلمات القاسية، بسبب عدم لياقة هؤلاء المعترضين. فهو لم يكتف بهذا، بل يقدم أفكارًا، ويسوق أمثلة، ويُخضع بهذه الطريقة أكثر الكل إعتراضًا. وفيما سبق كتب يقول: “فإنه الموت بإنسان. بإنسان أيضًا قيامة الأموات”، لكنه هنا يجيب على اعتراض طُرح من قِبل الوثنيين. ولاحظ كيف أنه يُلطّف من قسوة الإتهام. أي أنه لم يقل، ربما ستقولون، بل أشار إلى المعترضين بصورة غير محددة، حتى يكون حرًا في إستخدامه للكلمة، وأيضًا كي لا يهين المستمعين إليه، ويضعهم في حيرتين، الأولى تخص طريقة القيامة، والأخرى تخص نوعية الأجساد التي تقوم. لأنهم قالوا من جهة الحديث عن الجسد، كيف يُقام هذا الذي يتحلل؟ “وبأي جسم يأتون”؟ هل بهذا الجسم الذي يفسد، الذي يتلاشى، أم بجسم آخر؟

    بعد ذلك لكي يبيّن أنهم يطلبون إجابة لأمور ليست مثارًا للشكوك، بل التي إعترفوا هم بها بالفعل، فإنه يجيب على الفور وبقسوة قائلاً: “يا غبي الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت”. ولماذا تحوّل هكذا وبصورة مباشرة إلى الحديث عن قوة الله؟ فعل هذا لأنه يتكلم مع غير المؤمنين، لأنه حين يكلم المؤمنين، لا يكون في حاجة لأن يقدم أفكارًا كثيرة. ومن أجل هذا عندما قال في موضع أخر أنه “سيغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده”[6]، وأوضح أمرًا يفوق قيامة الأجساد، فهو لم يذكر أمثلة، بل استعرض القوة التي بها يستطيع أن يخضع كل شيء لنفسه، قائلاً “بحسب عمل إستطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء”. ولكنه هنا هو يقدم حججًا وأمثلة، ويقول “يا غبي الذي تزرعه”، بمعنى أنه لديك الدليل على قيامة الأجساد من خلال ممارساتك في الحياة اليومية. ولاحظ كيف يستخدم الكلمات كما يليق بالموضوع الذي يتكلم عنه، إذ يقول “لا يحيا إن لم يمت”. أي أنه بعدما ترك الكلمات التي تتناسب مع الزروع، مثل يزرع، ويغرس، ويتحلل، فقد جعل أسلوبه يتماشى مع حديثه عن الجسد، بكلمات مناسبة، مثل كلمة “يحيا” و “يمت”، الأمر الذي لا يختص بالزروع بشكل أساسي، بل بالأجساد. أرأيت كيف أنه يعيد طرح كلمته بطريقة عكسية؟ أي أن ما يستخدمه هؤلاء المعترضين على قيامة الأموات كدليل على أن الإنسان لن يقوم من الموت، يستخدمه هو كدليل، لكي يبرهن على أن الإنسان سيقوم حتمًا من الموت. لقد قال المعترضون أنه لن يقوم، لأنه قد مات. فماذا كان رد الرسول بولس على حجتهم؟ قال إن لم يمت الإنسان، فلن يقوم، إذًا فهو يقوم لأنه مات. هذا ما أشار إليه المسيح له المجد، حين قال: “إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير”[7]. وقد أخذ ق. بولس المثل الذي قاله، من هذا الكلام، مشيرًا إلى قوة الله، ومبيّنًا أن الله هو الذي يعمل كل شيء، وليست طبيعة الأرض.

    تُرى لماذا لم يذكر ذلك الأمر الذي يتناسب بالأكثر مع البذرة الإنسانية؟ إن ولادتنا تبدأ بالفساد، مثل حبة الحنطة. ذلك لأن البذرة الإنسانية ليست مثل حبة الحنطة، بل إن المثل الذي ساقه كان أفضل. لأنه كان يبحث عن شيء يموت تمامًا، ويتحلل، بينما البذرة الإنسانية تموت جزئيًا. ومن ناحية أخرى البذرة الإنسانية تأتي من أعضاء جسمية حية، وتسقط في بطن حية، ولكن المثل الذي ساقه الرسول بولس يوضح أن البذرة تقع على الأرض، وتتحلل في باطن هذه الأرض، مثل الجسد الذي مات. ولهذا فإن هذا المثل يتناسب أكثر مع هذه الحالة.

    “والذي تزرعه لست تزرع الجسم الذي سوف يصير” (37:15). إذًا ما سبق وقاله الرسول بولس، هو إجابة على التساؤل، كيف يُقام الأموات؟ ولكنه هنا يُزيل الشكوك، ويرد على تساءل أخر وهو بأي جسم يأتون للحياة الأخرى. وماذا يعني قوله “لست تزرع الجسم الذي سوف يصير؟” يعني أنه ليس سنبلة كاملة، ولا هو نباتًا جديدًا. فهو هنا لم يتحدث عن القيامة، بل عن طريقة القيامة، وعن طبيعة الجسد الذي سيقوم، فهل سيظل كما هو بعد القيامة، أم سيُصبح في حالة أفضل، أم أكثر بهاءً. ويقدم الإجابتين من المثل نفسه ويبيّن أنه سيكون أفضل جدًا. إلا أن الهراطقة لا يفهمون ويهاجمون قائلين إن الجسد الذي يُدفن، ليس هو الذي يقوم. إذًا كيف يمكن أن تكون هناك قيامة؟ لأن القيامة تحدث في الجسد الذي دُفن. ولأجل أي شيء تحديدًا، يكون هذا الاحتفال المدهش والعجيب ببطلان الموت، طالما أن الجسد الذي يقوم، ليس هو الذي يُدفن؟ لأن الذي أخذ الجسد أسيرًا لن يرده إلى الحياة. وكيف لا يتناسب المثل مع كل ما قيل؟ لأن الجسد الذي زُرع ليس من طبيعة مختلفة عن الذي يقوم، بل هو من نفس الطبيعة وأفضل. لأنه إن لم يكن الأمر هكذا، فلا ينبغي أن نؤمن بأن المسيح حين صار باكورة الراقدين، قد أخذ نفس الجسد، عندما قام. فبحسب أقوالكم يكون قد أخذ جسدًا أخرًا، وإن كان لم يخطئ مطلقًا. من أين إذًا أخذ هذا الجسد الآخر؟ لأننا نعرف أن الجسد المولود به قد أخذه من العذراء، لكن الذي قام به إذًا من أين قد أخذه؟ أرأيت مقدار الحماقة في هذا الكلام الذي ينطلق بلا ضابط؟ لأنه لماذا تظهر كل الجراحات في الجسد المُقام؟ أليس لأنه يريد أن يبرهن على أن هذا الجسد هو الذي صُلِبَ، وهو نفسه الذي قام أيضًا؟ ماذا يريد أن يقول في هذا الإطار، بإشارته إلى يونان النبي؟ يريد أن يوضح أن الذي خرج من جوف الحوت ليس هو يونان آخر غير الذي إبتلعه الحوت. أيضًا لماذا قال المسيح “إنقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه”[8]. من الواضح إذًا، أن ما سيُنقض، سيقيمه المسيح. ولهذا أضاف ق. يوحنا الإنجيلي “وأما هو فكان يتكلم عن هيكل جسده”[9].

    إذًا ماذا يعني الرسول بولس بقوله “الذي تزرعه لست تزرع الجسم الذي سوف يصير؟” يعني أن الذي قام هو الجسد ذاته، وفي نفس الوقت ليس كما كان تمامًا، لأنه صار أفضل، وحبة الحنطة أيضًا تقوم جديدة. لأنه إن لم يحدث هذا، فلا حاجة للقيامة، إن لم يقم الجسد بصورة أفضل. فما الهدف وراء هدم هيكل الجسد، إن لم يكن يهدف إلى أن يعيد بناءه مرة أخرى بصورة أكثر بهاءً؟

    بعد ذلك ولكي لا يعتقد أحد أنه تكلّم هنا عن جسد أخر في القيامة، فإنه يُزيل هذا الغموض ويفسر ما قيل، حتى لا يترك المستمع يذهب بالمعنى إلى موضع آخر. إسمعه وهو يشرح ما قاله “لست تزرع الجسم الذي سوف يصير” ثم يضيف مباشرةً “بل حبة مجردة ربما من حنطة أو أحد البواقي”. أي ليس الجسم الذي سوف يصير” ، ليس هو بوص جاف، ولا سنابل، “بل حبة مجردة ربما من حنطة أو أحد البواقي”.

    “والله يعطيها جسمًا كما أراد” (1كو38:15). وقد يجيب أحدهم ويقول أن الأمر مختص بعمل الطبيعة الخاصة بالبذور. أخبرني عن أي طبيعة تتحدث؟ لأن الله هو الذي يصنع كل شيء، وليست الطبيعة، ولا الأرض، ولا المطر. من أجل هذا تحديدًا فإن ق. بولس عندما يتحدث عن هذه الأمور، بعدما يتحول بالحديث عن الأرض، والمطر، والهواء، والشمس، والأيدي الصالحة فهو يضيف “والله يُعطيها جسمًا كما أراد”. إذًا لا تفحص كثيرًا عن كيف وما الشكل الذي يصبح عليه (الجسد بعد القيامة)، حين تسمع أنه يصير بهيًا بقوة الله. “ولكل واحد من البذور جسمه”. إذًا ما الغريب في هذا؟ لأنه يعطي جسمًا لكل أحد حتى أنه عندما يقول “والذي تزرعه لست تزرع الجسم الذي سوف يصير”، فهو لا يقصد أن جوهرًا أخرًا هو الذي يقوم بدلاً من الحالي، بل أن الجسد فقط سيكون أفضل وأكثر بهاءً. لأنه يقو “ولكل واحد من البذور جسمه”؟

    لا تتصور أن كل البذور ستكون واحدة لأنكم قد زرعتم حنطة، ونبتت سنابل، بل أن البعض منها سيكون أفضل، والبعض الأخر سيكون بمستوى أقل، هكذا يكون الوضع في القيامة. ولهذا أضاف “ولكل واحد من البذور جسمه”. ولم يكتف بهذا فقط، بل إنه أراد أن يقدم رؤية أكثر وضوحًا، حتى لا تعتقد حين تسمع أن الجميع يقومون، أنهم يتمتعون جميعًا بنفس المكانة، وقد تحدث مسبقًا عن البذور بهذا المعنى، حين قال “ولكل واحد من البذور جسمه”. لكنه جعل هذا أكثر وضوحًا هنا أيضًا، بقوله “ليس كل جسد جسدًا واحد” (1كو39:15).

    ولماذا يتحدث عن البذور؟ تحدث هكذا حتى نطبق ما قاله على الأجساد، ولهذا أضاف “بل للناس جسد واحد وللبهائم جسد أخر وللسمك أخر، وللطير أخر. وأجسام سموية وأجسام أرضية. لكن مجد السمويات شيء ومجد الأرضيات أخر. ومجد الشمس شيء ومجد القمر أخر ومجد النجوم أخر لأن نجمًا يمتاز عن نجم في المجد” (42:3).

 

نجم يمتاز عن نجم في المجد:

   ماذا يريد أن يقول بهذا الكلام؟ ولماذا إنتقل بحديثه من قيامة الأجساد إلى النجوم والشمس؟ لم ينتقل ولم يبتعد عن الموضوع، حاشا، فهو مازال في صُلب الموضوع. فبعدما تحدث عن القيامة، بيّن أن الفرق في المجد سيكون كبيرًا في ذلك الحين، وإن كانت القيامة عامة للجميع، وعند هذا الحد أو هذه النقطة يقسم الرسول بولس كل شيء إلى أثنين، إلى السماويات والأرضيات.

    إذًا فبالنسبة لقيامة الأجساد، فهذا ما برهن عليه، بمثل حبة الحنطة، ومن حيث إن الجميع لن يكونوا في نفس المجد، فهذا ما برهن عليه هنا. لأنه كما أن عدم الإيمان بالقيامة يجعل الناس متهاونين، هكذا أيضًا الإعتقاد بأن الجميع سيكونوا مستحقين لنفس المجد، يجعلهم خاملين وغير مبالين. ولهذا فهو يصحح كلا الرؤيتين، ويميز بين مستويين، بين الأبرار والخطاة، ونجد التمييز بينهما في مواضع كثيرة، وهو يفعل هذا لكي يبيّن أن الخطاة لن يستحقوا نفس إستحقاق الأبرار، بل ولا الأبرار أنفسهم سيكونوا مستحقين لدرجة واحدة من المجد، ولا الخطاة سينالون عقابًا متساويًا. إذًا فهو يُميز أولاً بين أبرار وخطاة “أجسام سموية وأجسام أرضية”، ويقصد بالأجسام الأرضية، الخطاة، والأجسام السموية، الأبرار. ثم يميز بعد ذك بين الخطاة والخطاة، ويقول “ليس كل جسد جسدًا واحد.. للبهائم جسد آخر وللسمك آخر وللطير آخر”. وإن كان للجميع أجسام، إلا أن للبعض له أجسام ضخمة الحجم، والبعض الآخر له أجسام ضئيلة. وبعدما تحدث عن هذا، تحدث مرة أخرى عن السماء، قائلاً: “مجد الشمس شيء ومجد القمر آخر”، فكما يوجد إختلاف بين الأجسام الأرضية، هكذا يوجد إختلاف أيضًا بين الأجسام السموية. والإختلاف ليس بين الشمس والقمر فقط، ولا بين القمر والنجوم فقط، بل بين النجوم والنجوم أيضًا. لأنه وإن كان جميعهم في السماء، ولكن البعض يشرق ببهاء أكثر، والبعض الآخر أقل بهاءً. إذًا ماذا نتعلم هنا؟ نتعلم أنه: إذا كان جميع الأبرار سيدخلون ملكوت الله، إلا أنهم لن يتمتعوا بنفس القدر من المجد، وإن كان جميع الخطاة سيدخلون جهنم، إلا أنهم لن يُعانوا بنفس القدر من العذاب. ولهذا أضاف “هكذا أيضًا قيامة الأموات” (42:15). يقول “هكذا”، لكن كيف سيحدث ذلك؟ ستكون هناك فروق كبيرة فيما بينهم.  

    ثم يتطرق إلى الحديث عن هذا الدليل وللكيفية التي تتم بها القيامة، قائلاً “يزرع في فساد ويُقام في عدم فساد”. لاحظ مقدار الحكمة التي للرسول بولس، فهو يستخدم أسماء الأجساد عندما يتكلم عن البذور، عندما يقول “لا يحيا إن لم يمت”، من ناحية أخرى يسمي الأجساد زروعًا، قائلاً “يزرع في فساد ويُقام في عدم فساد”، ولم يقل ينبت، لكي لا تعتقد أن الإنسان من نتاج الأرض، بل قال، يُقام. ولا يقصد بالزرع أو البذرة هنا، الحمل في الرحم، بل يقصد الدفن في الأرض وتحلل الأجساد، التي تموت، في التراب. ومن أجل هذا عندما قال “يزرع في فساد ويُقام في عدم فساد” أضاف “يزرع في هوان..وضعف”. وهل هناك ما هو أكثر نفورًا وسؤًا من ميت يتعفن ويتحلل؟. ثم يقول “يزرع في هوان ويُقام في مجد. يزرع في ضعف ويُقام في قوة”. إذ لا تمر ثلاثون يومًا، إلا ويكون الجسد قد إنتهى تمامًا، ولا يستطيع أن يحتفظ بشكله، لأنه يكون قد تحلل تمامًا.

    “يُقام في قوة” لأنه لا يستطيع شيء أن يهزمه عندما يقوم. إذًا فقد كانت هناك حاجة لهذه الأمثلة، حتى لا يظن البعض وهم يسمعون هذه الأمور، أنه لا توجد أي فروق بين أولئك الذين سيُقامون، عندما يُقامون في عدم فساد، وفي مجد، وفي قوة. إن الجميع سيقومون حقًا في قوة، وعدم فساد، وفي مجد، ولكنهم لن يتمتعوا جميعًا بدرجة واحدة من الكرامة.

    “يزرع جسمًا حيوانيًا ويُقام جسمًا روحانيًا” (42:15). ماذا تقول؟ هل هذا الجسم الذي لنا ليس روحانيًا؟ هو روحاني نعم، ولكن الجسم الذي سيُقام سيكون أكثر روحانية. لأنه في هذه الحياة الحاضرة قد يحدث أن تنسحب نعمة الروح القدس من البعض عندما يرتكبون خطية كبيرة. غير أن ذلك لن يحدث مطلقًا بعد القيامة، بل سيبقى الروح القدس إلى الأبد في جسد الأبرار، وسيعطي للجسد قوته الخاصة. إذًا فهو يشير إلى هذا المعنى حين يقول “روحانيًا”، إما من حيث أن الجسد سيكون أكثر خفة وبهاءً، فربما يكون الرسول بولس يشير إلى المعنيين معًا. فإن كنت لا تؤمن بهذا الكلام، فلتلاحظ الأجسام السمائية التي هي في بهاء فائق ولم تشيخ حتى الآن، ولتؤمن بسبب هذا، فالله قادر أن يجعل هذه الأجسام الفاسدة، عديمة الفساد، وأفضل بكثير من تلك الأجسام المرئية. هكذا هو مكتوب أيضًا:”صار آدم الإنسان الأول نفسًا حية وآدم الأخير روحًا محييًّا” (45:15).

 

آدم الأول وآدم الأخير:

   ولكن فيما يختص بآدم الأول، فقد كُتِبَ عنه في العهد القديم: أما آدم الأخير فلم يُكتب عنه (بالمثل)، إذًا فكيف يقول “هكذا هو مكتوب”. هو يشرح هذا على اعتبار ما سيكون، الأمر الذي اعتاد أن يفعله دومًا. بل إن الأنبياء قد اعتادوا هذا التوجه، فإشعياء قال عن أورشليم أنها ستُدعى مدينة البر، ولم تُدعَ هكذا؛ ماذا إذًا؟ هل كذب النبي؟ لم يكذب أبدًا، لأنه كان يتكلم عن خاتمة الأمور. وقال عن المسيح، أنه سيُدعى عمانوئيل، لكن لم يُدعى المسيح هكذا، لكن الأحداث ذاتها تعبر عن هذا المعنى بشكل صارخ (أن الله معنا). هكذا هنا أيضًا يقول “آدم الأخير روحًا مُحيّيًا”. تكلّم بهذه الأمور لكي تَعلم أن الرموز، وعربون الحياة الأبدية، والحياة الأبدية، قد تحققت بالفعل. لأنه يرى أن خيرات الحياة الأبدية هي أفضل بكثير من خيرات الحياة الحاضرة، وأن بداية هذه الحياة الأبدية قد تحققت بالفعل، وأن الأصل والمصدر قد إستُعلنا. فينبغي ألا نتشكك أبدًا من جهة الثمار. من أجل هذا يقول “آدم الأخير روحًا مُحيّيًا”، لكنه في موضع أخر يقول “سيُحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم”[10]. إذًا فالروح القدس يُحيي.

    ” لكن ليس الروحاني أولاً بل الحيواني وبعد ذلك الروحاني ” (46:15). ولم يقل لماذا الحيواني أولاً ثم بعد ذلك الروحاني، بل إكتفى بالإشارة إلى النظام الذي وضعه الله، لأن الأمور الحياتية ذاتها تشهد لعناية الله، ولكي يُظهر أن هناك تقدم ونمو في حياتنا الروحية بإستمرار، وهو يملك من الخبرة ما يؤهله للتأكيد على هذه الأمور. وهكذا سنكون مستعدين لنوال الحياة الأبدية. إذًا فلنلاحظ أنفسنا مادمنا نحيا داخل هذا النظام الإلهي المشرق كالشمس، حتى نكون مؤهلين للدخول في الحياة الأبدية ونتمتع بالخيرات المعدة للأبرار.

 

سر يفوق كل عقل:

   ثم يأتي لموضوع قيامة الأجساد، ويقول “هوذا سر أقوله لكم” (1كو51:15)، هو سر لا يعرفه الجميع، فهو يريد أن يقول شيئًا، يُظهر به أنه يقدرهم جدًا، إذ يكشف لهم هذا السر. ما هو إذًا هذا السر؟ هو أننا “لا نرقد كلنا ولكن كلنا نتغير”. ما يقصده هو الآتي: من ناحية، فإننا لن نرقد كلنا، بل سيتغير جسدنا، ومن ناحية أخرى فالذين لم يرقدوا سيتغير جسدهم، لأن أجسادهم فاسدة. لا تخف إذًا من هذا، أي لا تخف لئلا لا تقم من الموت. ويوجد البعض ممن لن يجتازوا الموت، ولكن هذا لن يكفِ، بل لابد لتلك الأجساد التي لن ترقد أن تتغير وتصير غير فاسدة.

    “في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير”. أي أن ما يدعو للإعجاب والدهشة، ليس فقط هو أن الأجساد تتعفن ثم بعد ذلك تقوم، ولا أيضًا أن هذه الأجساد التي ستقوم هي أفضل من الأجساد التي لنا الآن، ولا لأنها ستنتقل إلى ميراث لا يفنى، وأن كل واحد سيتمتع بما له، ولا أحد سيأخذ ما للأخر، بل لأن كل هذه الأمور التي تفوق كل عقل ستحدث في لحظة في طرفة عين.

    ثم يبرهن على ذلك بقوله “فإنه سيُبوق فيُقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير”، لفظة “نحن” لا يقولها عن نفسه، بل تشمل كل مَنْ سيكون على قيد الحياة في ذلك الوقت. “لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد” (53:15).

    إذًا لكي لا يعتقد أحد أن لحمًا ودمًا لا يرث ملكوت الله، أضاف “هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت“. إنه يقصد بالفاسد والمائت، الجسد. فالجسد سيبقى، لأنه هو الذي سيلبس عدم فساد، ولكن الفساد والموت سيبطلان، إذ سيصير الجسد إلى عدم فساد وعدم موت. إذًا ينبغي ألا تشك في أنك ستحيا إلى الأبد، لأنه يقول “سيلبس عدم فساد”. “ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد ولبس هذا المائت عدم موت. فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة أبتلع الموت إلى غلبه” (54:15)، يحدث هذا حين يختفي هذا الجسد الفاسد والمائت تمامًا ولا يبقى منه أثر، ولا يكون هناك رجاء في عودته، إذ أن عدم الموت قد لاشى الموت.

    “أين شوكتك يا موت. أين غلبتك يا هاوية” (1كو55:15). أرأيت النفس الشجاعة؟ أنه يتساءل وكأنه يحتفل بالغلبة، وهو مملوء حماسًا، ناظرًا للأبدية كأمر حدث بالفعل، محتقرًا للموت الذي بطل، ويصرخ صرخة الغلبة من أعلى رأس الموت الذي داسه، وينادي قائلاً: “أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية؟”. لقد جرّده، وغلبه، بل ولاشاه، وجعله غير موجود، لا كيان له.

    “أما شوكة الموت فهي الخطية. وقوة الخطية هي الناموس” (1كو56:15). أرأيت أن الكلام قد صار عن الموت الجسدي؟ وبناء على ذلك، فإن الكلام عن القيامة، هو أمر يختص بالجسد. لأنه إن لم يقم الجسد، فكيف يُبتلع الموت؟ وليس هذا فقط، بل كيف يعتبر الناموس قوة الخطية؟ لأنه من حيث أن شوكة الموت هي الخطية، وأنها أسوأ من الموت، أما أن قوة الموت هى في الخطية، فهذا أمر واضح، ولكن كيف يكون الناموس هو قوة الخطية؟ لأنه بدون الناموس كانت الخطية ضعيفة، ولم يكن للناموس قوة ليدينها. لأن الشر قد حدث، غير إنه لم يكن واضحًا بشكل كبير، حيث ساهم الناموس، مساهمة ليست بالقليلة، في أن تعرف الخطية أكثر.

    وبعد ما أظهر الخطية، بهدف أن يمنع سقوط الإنسان فيها بشكل أسوأ، بات واضحًا أن المسئولية لا تقع على عاتق الطبيب، بل من يستخدم الدواء بطريقة غير صحيحة. لأن ظهور المسيح بالجسد وضع مسئولية أكثر على اليهود، فعندما صاروا مُبغَضين أكثر فذلك يرجع لأنهم فقدوا الكثير، من خلال كل ما كان ينبغي أن ينتفعوا به. فالناموس لم يجعل الخطية أقوى، لأن المسيح نفسه أكمل الناموس، وكان بلا خطية. لاحظ كيف أنه إنطلاقًا من هنا هو يؤكد على القيامة. لأنه إن كانت خطية الإنسان هي سبب الموت، فإن المسيح بعدما جاء أبطل الخطية، وحررنا منها بالمعمودية، وأبطل قوة الناموس، فلماذا تشك في القيامة إذًا؟ وكيف سيسود الموت إذًا؟ هل بالناموس؟ فقد أُبطل. هل بالخطية؟ لقد نُقضت.

    “لكن شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح” (57:15). فالمسيح قد غلب وقهر الموت وأبطل سلطانه، وجعلنا شركاء في التمتع بالأكاليل، ليس عن اضطرار، بل فقط بسبب محبته الفائقة للبشر. وهكذا وجّه لهم هذه النصيحة قائلاً: “إذًا يا أخوتي الأحباء كونوا راسخين غير متزعزعين” (58:15).

    لأنه لا شيء يهز كيان المرء بهذا القدر الكبير، سوى أن يعتقد أنه يتعب باطلاً وبلا هدف. ثم يضيف “مكثرين في عمل الرب كل حين عالمين أن تعبكم ليس باطلاً في الرب”. أنه يشير هنا إلى الحياة النقية التي يجب أن نحياها. ولم يقل عمل الصلاح، بل “عمل الرب كل حين” لكي نتمم عمل الرب بغيرة وحماس شديدتين. “عالمين أن تعبكم ليس باطلاً في الرب”، ماذا تقول؟ ولماذا تتحدث مرة أخرى عن التعب؟ نعم هو تعب، ولكنه يتوج بالأكاليل، ويصير لأجل ملكوت السموات. لأن التعب السابق الذي نتج بعد الطرد من الفردوس، كان عقابًا على الخطية، إلا أن هذا التعب (في الرب)، هو أساس للمكافآت التي سننالها فيما بعد. إذًا فذلك لا يعد تعبًا، طالما أن الجهاد يصير من أجل الرب، وإننا سنتمتع فيه بمساعدة كبيرة من السماء، ومن أجل هذا أضاف “في الرب”. لأن التعب القديم أدى إلى العقاب والإدانة، أما هذا التعب فهو من أجل أن ننال الخيرات الأبدية.

    إذًا لا ينبغي أن نبقى خاملين أيها الأحباء. لأنه من غير الممكن، نعم من غير الممكن، أن يرث ملكوت السموات مَنْ هو خامل، ولا أيضًا الذين يُسلّمون أنفسهم للمتع وللكسل والتراخي. أم أنكم لا ترون كم هي عظيمة هذه المسافة بين الأرض والسماء، وكم يميل الإنسان بشدة إلى الخطية، وكيف تحيطه الخطية بقوة، وكم من الفخاخ تصادفه؟ إذًا لماذا لا نهتم بما يعلو على الماديات الزائلة، ونثقّل كاهلنا بإهتمامات ومتع فانية، ونجعل الحمل أثقل؟ ألا يكفي أن تعتني بالطعام والملبس والمسكن؟ ألا يكفي أن نهتم بالإحتياجات الضرورية؟ وإن كان المسيح، قد طلب منا أن لا نهتم بهذه الأمور أيضًا، حيث قال “لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون”[11].

    إذًا فطالما ينبغي علينا أن لا نهتم بالمأكل والملبس الضروري، ولا حتى بالمستقبل فمتى سيفيق إذًا الذين يثيرون كل هذا الصخب في الحياة، ويدفنون أنفسهم أحياء؟ ألم تسمع ق.بولس وهو يقول “ليس أحد وهو يتجند يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضي مَنْ جنده”[12]. إلا إننا دائمًا ما نسلّم أنفسنا للمتع، وللشراهة، وللسكر، ونهتم بأمور عالمية ونتعب من أجل تحقيقها، بينما نتكاسل ونتراخى فيما يختص بالأمور السمائية. ألا تعلمون أن الوعد يتجاوز الإنسان؟ لذلك فلا يمكن لمن إلتصق بالأرضيات، أن يصعد إلى السماء. إننا لا نحاول أن نعيش كبشر، لكننا صرنا أسوأ من الحيوانات. ألا تعرفون كيف سنقف أمام الله؟ ألا تفهمون أننا سنُُعطى حسابًا عن أقوالنا وأفعالنا، فكيف لا نهتم بأن نتحرر من كل أخطائنا؟ إن “مَن ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه”[13]. وبكل أسف فحتى أولئك الذين ينظرون النظرة الرديئة، لا يطلبون غفرانًا، بل ويتعفنون في خطيئتهم.

    إن من يقول لأخيه في الإنسانية، يا أحمق، فسيُلقى في جهنم، بينما نحن لا نكف عن إدانة شركائنا في الإنسانية، بإدانات لا حصر لها، ونكيد لهم بطرق مختلفة. وذاك الذي يُحَب من أخيه، لم يفعل شيئًا أكثر مما يفعله الوثني، لكن نحن لا زلنا نحقد عليه. إذًَا أي غفران سنحصل عليه، حين تكون حياتنا قد وصلت إلى مستوى لا يرقى حتى إلى مستوى العهد القديم؟ وأي كلام سيخلّصنا؟ ومَن سينقذنا عندما نُلقى في الجحيم؟ بالطبع لا أحد، بل إن هؤلاء الأشرار الذين يسلكون ضد إرادة الله، سينوحون ويبكون، ويصرّون بأسنانهم، وسينقادون إلى الظلمة الشديدة، وإلى العقاب الذي لا خلاص منه.

    من أجل هذا أتضرع إليكم وأترجاكم أن تنسحقوا وترجعوا لله وتتوبوا لكي تصيروا أفضل، حتى لا يكون مصيرنا مثل الغني الغبي. فالله سيحاسبك عن أعمالك، أقول هذا الكلام لا لكي أحزنكم، أو ألقيكم في اليأس، بل لكي لا نهمل ممارسة الفضيلة، مستندين على رجاء باطل وكاذب، معتمدين على هذا القديس أو غيره. لأننا إن صرنا خاملين فلن يساعدنا لا بار، ولا نبي، ولا رسول. أما إذا جهادنا الجهاد الحسن، ورفعنا صلوات، وعملنا أعمالاً صالحة، فإننا سننال الخيرات المعدة للذين يحبون الله.

    هذه هى مفاعيل القيامة التي تحققت في حياة الكثيرين، بعد أن تأكدت بشهود كثيرين أيضًا. هكذا سُلِّم الإيمان بالقيامة، كما تسلّمه الرسل، وهذا ما سبق وأشار إليه الرسول بولس في بداية حديثه إذ يقول: ” فإنني سلّمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضًا أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب وأنه دُفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب” (1كو15ـ1).

 

مات من أجل خطايانا:   

    قد يتساءل البعض ماذا يعني بقوله: “فإنني سلّمت إليكم في الأول؟”، يعني منذ البداية، وليس الآن. فهو يقول هذا الكلام حتى يستدعي الزمن كشاهد أيضًا، ولأن الإيمان بهذا كان يثير خجلاً شديدًا، إذ أنهم عاشوا كل هذا الزمن بإيمان معين مختلف، والآن يحيدون عنه، وليس هذا فقط، بل لأن الإيمان بهذه العقيدة كان أمرًا هامًا جدًا، ولذلك فقط “سلّم” منذ البداية وعلى الفور ومن أول لحظة. وماذا سلّمت؟ أخبرني. أنه لم يتكلم عن هذا مباشرةً، ولكنه يقول ما قبلته. وماذا قبلت؟ “أن المسيح مات من أجل خطايانا”. ولم يقل مباشرةً أن الأجساد ستقوم، لكنه يمهد للحديث عنه مع موضوعات أخرى. يقول أن المسيح مات، بعدما وضع قاعدة عظيمة  وأساسًا متينًا لا يهتز، بشأن الحديث عن القيامة. لأنه لم يقل فقط أن المسيح مات، وإن كان هذا كافيًا لكي يُعلن القيامة، ولكنه أضاف أن المسيح مات من أجل خطايانا.

    لكن يجدر بنا أولاً أن نسمع ماذا قال هنا أولئك الذين أصابهم مرض المانويين، الذين هم أعداء الحقيقة، ويحاربون خلاصهم ذاته. إذًا ماذا قال هؤلاء؟ قالوا أن الموت الذي تحدث عنه بولس هنا ليس سوى سقوط الإنسان في الخطية، وأن القيامة ليست إلا التحرر من الخطية. أرأيت كيف أن الخداع يُعد أخطر مرض، لاحظ كيف أن هؤلاء يحاولون أن يفسدوا أنفسهم بكل ما قالوه لأنه إذا كان هذا هو الموت (أي السقوط في الخطية)، وأن المسيح لم يأخذ جسدًا بحسب رأيهم، فحينئذ يكون المسيح قد أخطأ بحسب أقوالهم. لكنني حين أقول أنه أخذ جسدًا، أقول أنه مات بالجسد، بينما أنت حين ترفض هذا، ستضطر أن تقول ما سبق وأشرت إليه من قبل (أنه أخطأ). فإن كان المسيح قد أخطأ، فكيف يقول “من منكم يبكتني على خطية؟”[14] و”رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء”[15] وأيضًا “أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله”[16]. فكيف يموت من أجل الخطاة، إن كان هو خاطئًا؟ لأن الذي يموت من أجل الخطاة، ينبغي أن يكون هو نفسه بلا خطية، كذلك إذا كان قد أخطأ، فكيف يموت من أجل خطاة آخرين؟ فإن كان قد مات من أجل خطايا الآخرين، فإنه يكون قد مات وهو بلا خطية. وإن كان قد مات وهو بلا خطية، فإنه لا يكون قد مات موت الخطية، لأنه كيف يكون قد مات موت الخطية، وهو بلا خطية؟ لكنه مات بالجسد. وإن كان قد مات بالجسد، حينئذٍ تكون القيامة بالجسد. ومن أجل هذا فإن ق. بولس لم يقل فقط “مات” بل أضاف “من أجل خطايانا”، وذلك لكي يجعلهم، وبدون أن يريدوا، يعترفوا بالموت الجسدي، ولكي يُظهر بهذا أنه كان بلا خطية قبل الموت. لأنه كان لابد لمن يموت من أجل خطايا الآخرين، أن يكون بلا خطية.

    بل أنه لم يكتف بهذا أيضًا، بل أضاف “حسب الكتب” لكي يضفي مصداقية على حديثه، ويعلن عن أي موت كان قد تكلّم. لأن الكتب تكرز بموت الجسد في كل موضع. فيقول على سبيل المثال: “ثقبوا يديّ ورجليّ”[17] و أيضًا “فينظرون إلى الذي طعنوه وينوحون”[18]، ونبؤات أخرى كثيرة، ويضم الكتاب عددًا كبيرًا من الآيات التي تتحدث عن أن السيد المسيح قد ذُبح من أجل خطايانا بالجسد، مثل لأنه “قطع من أرض الأحياء أنه ضرب من أجل ذنب شعبي”[19] و “الرب وضع عليه إثم جميعنا”[20] و “مجروح لأجل معاصينا”[21]. وإذا لم تقتنع بما جاء بالعهد القديم، إسمع يوحنا الذي يصرخ ويظهر الأمرين، ذبح الجسد، وسبب الذبح، قائلاً “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم”[22]، وإسمع بولس الذي يقول “أنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه”[23]. وأيضًا “المسيح إفتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا”[24] وأيضًا “إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه”[25]. وهناك جوانب أخرى كثيرة إتضحت خلال ذبح الجسد من أجل خطايانا. فالمسيح ذاته يقول “لأجلهم أقدس أنا ذاتي”[26] و “رئيس هذا العالم قد دين”[27]. وهكذا أوضح أنه ذُبح وهو بلا خطية. “وأنه دُفن” وهذا يبرهن على ما سبق، لأن هذا الذي يُدفن، هو على كل الأحوال جسد. وهنا لم يضف عبارة “حسب الكتب”. على الرغم من أن عبارة “بحسب الكتب” قد ذُكرت، فلماذا لم يضفها؟ إما لأن القبر كان معروفًا للجميع آنذاك، وإما أنه معروف للكافة “بحسب الكتب”. إذًا لماذا أضاف “بحسب الكتب” في قوله “وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب” ولم يكتف بما ورد سابقًا وبشكل عام؟ لأن هذا الأمر كان مجهولاً للكثيرين. ومن أجل هذا يذكر هنا عبارة حسب الكتب، ملهمًا بالروح، بعدما أدرك هذا المعنى الحكيم والإلهي. كيف إذًا يصنع نفس الشيء فيما يتعلق بموت المسيح؟ خاصةً وأن الصليب كان واضحًا للجميع في ذلك الوقت، والسيد المسيح قد صُلِبَ أمام الكل، إلا أن السبب لم يكن معروفًا. لأنه من حيث أنه مات، فهذا يعرفه الجميع، ولكن من جهة أنه مات من أجل خطايا كل البشر، فهذا ما لم يعرفه الكثيرون قط، ولذلك فهو يستشهد بالكتب.

 

شهود القيامة:       

    ما قيل يعد دليلاً كافيًا بالنسبة لنا، لكن أين تقول الكتب أنه دُفن وقام في اليوم الثالث؟ هذا ورد في حادثة يونان النبي، والذي أشار إليها المسيح نفسه، عندما قال “لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاثة ليال هكذا يكون إبن الإنسان”[28]. وورد أيضًا في العليقة المشتعلة في البرية، فرغم أنها كانت مشتعلة إلا أنها لم تحترق، هكذا جسد المسيح، فمن ناحية قد مات، إلا أن الموت لم يسد عليه إلى الأبد. بل والتنين في سفر دانيال، يشير إلى هذا أيضًا فكما أن ذاك قد أخذ الطعام الذي أعطاه له النبي، وأنشق من وسطه، هكذا الجحيم عندما إبتلع جسد المسيح، إنشق، لأن جسده شق بطنه وقام. لكن إن أردت أن تسمع كلمات تعبر عن الأمثلة التي ذُكرت عن (يونان، والعليقة، والتنين)، فإسمع ما يقوله إشعياء “قطع من أرض الأحياء”[29] و”أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن”[30]، وداود قبل إشعياء يقول “لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فسادًا”. ومن أجل هذا فإن بولس يرجعك إلى الكتب، لكي تعلم أن كل ذلك لم يحدث مُصادفة، لأنه كيف كان ممكنًا لكل هؤلاء الأنبياء أن يصفوا كل هذا ويعلنوا عنه على مدى قرون طويلة قبل أن تحدث، ولكي تعلم أنه لم يَرِد مطلقًا في الكتاب المقدس ما يشير إلى أن موت المسيح هو سقوط في الخطية، فعندما يُذكر موت الرب، يُذكر الموت، والدفن، وقيامة الجسد.

    “وأنه ظهر لصفا”. ويذكر مباشرةً بعد ذلك بطرس الذي كان يحظى بثقة أكثر من الجميع. “ثم للأثنى عشر وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة أخ أكثرهم باق إلى الآن ولكن بعضهم قد رقدوا. بعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل أجمعين وأخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا” (1كو5:15ـ8).

    ولأنه ذكر الدليل، الذي يثبت القيامة من الكتب المقدسة، أضاف ما قد حدث بالفعل وهو شهادة الرسل عن القيامة، وشهادة مؤمنين آخرين، بعدما قدم شهادة الأنبياء. فإن كان التحرر من الخطية يُدعى قيامة، فسيكون تزّيد منه أن يقول أنه ظهر لهذا وذاك. لأن هذا يؤكد قيامة الجسد، ولا يشير إلى التحرر من الخطية. ولذلك فهو لم يقل كلمة “ظهر” مرة واحدة، على الرغم من أن ذِكرها مرة واحدة دون تكرارها كان كافيًا للتعبير عن كل هذه الظهورات. ولكنه يذكرها مرة، ومرتين، وثلاثة، عندما يتحدث عن كل شخص رأى المسيح بعد قيامته. لأنه يقول، ظهر لصفا، وظهر لأكثر من خمسمائة أخ، وظهر ليعقوب، وظهر لي. غير أن الإنجيل يذكر العكس، أنه ظهر أولاً لمريم المجدلية، نعم ولكنه ظهر لصفا أولاً بين الرجال، لأنه كان يشتهي بشدة أن يراه، ولم يذكر الرسول بولس اسم متياس وهو أحد الأنثى عشر، وذلك لأن متياس قد أُختير بعد صعود المسيح وليس بعد القيامة مباشرةً. إن هذا الرسول دُعي أن يرى المسيح بعد الصعود، وعن هذا الأمر، لم يشر لزمن محدد، لكنه أحصى بشكل عام وغير محدد، عدد الظهورات. لأنه ظهر مرات عديدة، ومن أجل هذا قال يوحنا “هذه مرة ثالثة ظهر يسوع”[31].

    “وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة أخ”. البعض قالوا أنه يقصد أنه ظهر من السماء، لأنه لم يظهر ماشيًا على الأرض، بل ظهر فوق رؤوسهم، لأنه أراد أن يؤكد ليس فقط حقيقة القيامة، بل وحقيقة الصعود أيضًا. لكن البعض الأخر يقول أن عبارة “لأكثر من خمسمائة أخ”، تعني أكثر من خمسمائة. “أكثرهم باقٍ إلى الآن”. فهو يقول وإن كنت أروي أحداثًا قد حدثت في الماضي، إلا أنني لدىّ شهودًا لا يزالوا أحياء حتى الآن. “ولكن بعضهم قد رقدوا”. لم يقل قد ماتوا، بل قال “رقدوا”. وهذه الكلمة “رقدوا” تؤكد أيضًا حقيقة القيامة. “وبعد ذلك ظهر ليعقوب” أنا أعتقد أنه يقصد يعقوب أخوه (أخو الرب). ويُقال أن المسيح نفسه رسمه وجعله أسقفًا لأورشليم. “ثم للرسل أجمعين”. لأنه كان يوجد رسل آخرين، مثل السبعين رسولاً. “وأخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا”. هذا حديث يعكس تواضعًا كبيرًا. كذلك فإن ظهوره له آخر الكل، لا يعني أنه لم يكن مستحقًا لأنه وإن كان قد دعى نفسه أخر الكل فهذا ما يثبت أنه الأكثر بهاءًا، فمن المؤكد أن الخمسمائة أخ لم يكونوا أفضل من يعقوب لأنه ظهر أولاً لهم.

 

الإيمان بالقيامة:

    ولماذا لم يظهر للجميع معًا؟ فعل هذا لكي ينثر بذار الإيمان مسبقًا. فإن من يراه أولاً سيخبر بالقيامة بثقة مطلقة وسيعلنها للآخرين. وبعدما تصل كلمة الخبر أولاً، سيجعل الذي يسمعها يترجى هذه المعجزة العظيمة، وهكذا سيُمهد الطريق للظهور بواسطة الإيمان. لهذا السبب لم يظهر للجميع معًا، ولا لهم مجتمعين منذ البداية، بل ظهر أولاً لواحد فقط، ثم لصفا والذي هو أكثر إيمانًا من الجميع. لأن الأمر يحتاج إلى نفس مؤمنة جدًا لكي تقتنع أولاً بهذا الظهور. لأن أولئك الذين سيرونه، بعدما يسمعون أولاً عن القيامة من أولئك الذين رأوه، سيساهمون بدورهم في إعداد نفوس الآخرين لقبول الإيمان. لكن مَنْ يستحق أن يراه أولاً، يحتاج كما قلنا، إيمانًا كبيرًا، حتى لا يخف من المعجزة العظمى التي سيراها. لأن الذي إعترف أولاً بالمسيح، سيكون مستحقًا أن يرى القيامة، وهذا أمرًا منطقيًا.

    لكنه لم يظهر لبطرس لهذا السبب فقط، بل لأن بطرس كان قد أنكره ولهذا ظهر له لكي يعزيه، ولكي يطمئنه أنه ينبغي ألا ييأس من أجل هذا الأمر، فقد كرّمه بأن جعله مستحق أن يرى أولاً هذا الظهور، وسلّم له أولاً المؤمنين كخراف. وظهر للمرأة (مريم المجدلية)، لأن جنس النساء أهين، ومن أجل هذا، فالمرأة هي التي تمتعت أولاً بهذه النعمة في الميلاد وفي القيامة، ثم ظهر لكل واحد على حدى بعد ظهوره لبطرس، مرة للبعض، ومرة لكثيرين، وجعل هؤلاء شهودًا ومعلمين، وجعل الرسل جديرين بالثقة في كل ما تكلموا به. “وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا” ما هي أهمية وقيمة الحديث المتواضع هنا؟ ولماذا قيل؟ لأنه إن كان يريد أن يظهر كمحل ثقة وأن يحصي كل شهود القيامة، فحينئذ كان ينبغي أن يفعل عكس ما يريد. أي أنه كان ينبغي أن يرفع نفسه وأن يظهر أنه عظيم، الأمر الذي فعله في مواضع كثيرة عندما كانت الضرورة تدعوه إلى هذا. إذًا فقد ظهر متواضعًا هنا، لأن هذا هو ما ينوي أن يفعله، لكن ليس بشكل مباشر، بل بحكمة وتعقل يليق بالرسول بولس. تُرى، لماذا وصف نفسه هكذا؟ فعل هذا لكي يجعل كلامه مقبولاً بصورة أسهل.

    “ولكن إن كان المسيح يكرز به أنه قام من الأموات. فكيف يقول قوم بينكم إنه ليس قيامة أموات؟” (1كو12:15).

    أرأيت كيف أن الرسول بولس يضع أساسًا للتفكير بطريقة صحيحة، ويبرهن على حقيقة القيامة من الأموات، من خلال قيامة المسيح، وذلك بعدما برهن على قيامة المسيح بطرق عديدة؟ إذ يقول إن الأنبياء أيضًا تنبأوا بهذه القيامة، التي برهن المسيح عليها بظهوراته بعد قيامته من الموت. ونحن من جانبنا نبشر بها، أما أنتم فقد أمنتم ونلتم غفران الخطايا. صدقتم نبؤات الأنبياء، وشهادة الرسل، بخصوص حياة الدهر الآتي.

    وبعدما برهن على قيامة المسيح، إتجه نحو إثبات قيامة الموتى بشكل عام. وهو إذ يتحدث عن حقيقة مؤكدة، فإنه يدين البعض، وفي ذات الوقت يتعجب منهم، قائلاً: “إن كان المسيح يكرز به أنه قام من الأموات. فكيف يقول قوم بينكم إن ليس قيامة أموات؟”. وبهذه الكلمات يتصدى لوقاحة الذين يقولون أنه لا توجد قيامة للأموات. لأنه لم يقل كيف تقولوا أنتم، بل قال: “كيف يقول قوم بينكم؟” وهو بهذا لا يوجه إتهامًا للجميع، ولا يحدد مَنْ هم الذين يتهمهم، حتى لا يزدادون سفاهة، وأيضًا لم يحجبهم تمامًا، وذلك لكي يُصلحهم. ولذلك، فبعدما أفرزهم عن جموع المؤمنين، واجههم، وأضعف حججهم، وأصابهم إصابة قوية، وهكذا حفظ الآخرين سالمين في الحقيقة التي يؤمنون بها، بجهاده ضد هؤلاء المعترضين. وجعلهم ثابتين في مواجهة هؤلاء المفسدين.

    بعد ذلك وحتى لا يقولوا أن الأمر لا يتعلق بقيامة المسيح، إذ هي حقيقة لا يشك أحد فيها وهي واضحة للجميع، وقد سبق التنبؤ بها، وشهد بها الكثيرون من خلال ظهورات المسيح بعد القيامة. إلا أن هؤلاء يرون أن قيامة المسيح لا تؤكد حقيقة قيامة البشر، لذلك فقيامتنا نحن هي موضع شك بالنسبة لهم بل وهي مجرد رجاء وليست حقيقة. لاحظ ماذا قال “فإن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام” (1كو13:15).

    أرأيت مدى قوة الرسول بولس، كيف أنه لا يبرهن فقط على المشكوك فيه، من خلال هذه الحقيقة الواضحة (أي قيامة المسيح)، بل أنه، بواسطة ما هو مشكوك فيه، يبرهن للمعترضين على هذا الأمر الحقيقي والواضح؟، ليس لأن ما حدث (أي قيامة المسيح) يحتاج إلى برهان، بل لكي يظهر أن قيامة البشر، تستحق أيضًا التصديق بنفس القدر مثل قيامة المسيح.

 

بموته أبطل الموت:

    وقد يسأل البعض وما هي النتائج المترتبة على ذلك؟ النتيجة هي إن لم يكن المسيح قد قام، فلا يقوم آخرون. لكن كيف يستقيم منطقيًا أن نقول، إن لم يقم آخرون، فالمسيح لا يقوم؟ أنظر كيف يعالج هذا الأمر، ويجعله واضحًا لأن ما طرحه لم يكن مقنعًا بشكل كاف، حيث أنه ألقى البذور مسبقًا، من خلال التعاليم التي حملتها تلك الكرازة، مثل قوله، بعدما مات لأجل خطايانا وقام، وأنه باكورة الراقدين. لأنه لمن كانت هذه الباكورة الأولى، إن لم تكن لأولئك الذين قاموا؟ فإن لم يقوموا، فلماذا قام المسيح؟ لماذا أخذ جسدًا إن لم يكن في تدبيره أن يقيم الجسد؟ فالمسيح لم يكن محتاجًا لذلك، لكنه تأنس من أجلنا، وقام من أجلنا. ولذلك يقول “فإن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام”، فقيامتنا مرتبطة بقيامة المسيح. ومن أجل هذا إن لم يكن في تدبير المسيح أن يقوم، ما كان له أن يتجسد. أرأيت كيف أن عدم إيمان هؤلاء بالقيامة، يؤدي إلى رفض خطة الله من أجل خلاص البشر؟ لكنه هنا لم يتكلم عن التجسد، بل تكلّم عن القيامة، لأنه بالموت أبطل الموت.

    ثم يضيف “وإن لم يكن المسيح قد قام فباطلة كرازتنا..” (1كو14:15). يريد هنا أن يحرك نفوسنا، فإن لم يكن المسيح قد قام، فهذا معناه أننا قد فقدنا كل شيء. أرأيت كم هو عظيم هذا السر، سر التدبير الإلهي لخلاص البشر؟ لأنه إن كان المسيح لم يستطع أن يقوم بعد موته، فهذا يعني أن الخطية لم تُنقض، ولا الموت أُبطل، ولا اللعنة رُفعت، ونكون نحن، ليس فقط قد كرزنا باطلاً، بل أنتم أيضًا قد آمنتم باطلاً. ثم يتوجه نحو هؤلاء المعترضين  قائلاً: “ونوجد نحن أيضًا شهود زور لله. لأننا شهدنا من جهة الله أنه أقام المسيح وهو لم يقمه. إن كان الموتى لا يقومون” لأنه إن كان الموتى لا يقومون فلا يكون المسيح قد قام، وإن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم” (1كو15:15ـ17).

    هكذا تجده دائمًا يركز على القيامة، ويؤكد حقيقتها، منطلقًا من قيامة المسيح، كحدث حقيقي قد شهد به الكثيرون، كي يجعل ما قد يبدو ضعيفًا ومشكوك فيه (أي قيامة البشر)، أمرًا واضحًا وموضع تصديق.

    ثم يقول “وأنتم بعد في خطاياكم”. لأنه إن لم يكن قد مات وقام، فيكون سلطان الخطية لا زال قائمًا والخطية لم تبطل بعد، لأن موته أبطل الخطية. هكذا قال يوحنا المعمدان “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم”[32]. ولكن كيف يرفع الخطية؟ يرفعها بالموت، ومن أجل هذا دعاه حملاً. لأنه كان في تدبيره أن يُذبح. فإن لم يكن قد قام، فلا يكون هناك ذبح، وإن لم يكن قد ذبح، فلا تكون الخطية قد أُبطِلت، وإن لم تكن قد أُبطِلت، أنتم بعد في خطاياكم، وباطلة هي كرازتنا، وإن كانت كرازتنا باطلة، فباطل إيمانكم، لكنكم قد تحررتم من الخطية، بقيامة المسيح. ومن ناحية أخرى إن لم يكن المسيح قد قام، فسيبقى الموت إلى الأبد. وإن كان الموت قد ساد على المسيح، فكيف خلّص الآخرين من براثنه، بينما هو أسيرًا له؟ ولذلك أضاف “إذًا الذين رقدوا في المسيح أيضًا هلكوا” (18:15)، فهل هؤلاء الذين لم يخضعوا بعد للشكوك (من جهة قيامة الأموات)، قد هلكوا جميعًا؟ بالطبع لا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عبارة “في المسيح” تعني إما الإيمان بالمسيح، أو الموت من أجل المسيح، أي أولئك الذين إحتملوا الأتعاب الكثيرة، وتعرضوا للمخاطر، وساروا في الطريق الضيق.

    أين هي الآن تلك الأفواه الخبيثة التي للمانويين، التي تقول إن ق. بولس يقصد بالقيامة هنا، الخلاص من الخطية؟ لأن هذه الأفكار الكثيرة تثبت في تتابعها عكس ذلك. من المؤكد إن إقامة من سقط، تُدعى قيامة. ولذلك حتى يفرق بين هذه وتلك، يقول إن المسيح ليس فقط قد قام، بل قام من بين الأموات. والكورينثيون حين يتشككون فإن تشكُكَهم لا يتعلق بمسألة غفران الخطايا، بل بقيامة الأجساد. فهل كان لابد أن يكون المسيح غير بار، حتى يقوم (من خطيئته)؟ فإن لم يكن ينوي القيامة من الموت، فلماذا تجسد إذًا؟ ومع هذا، فسواء كان البشر خطاة، أم أبرارًا، تبقى صفة البر وعدم الخطية أمرًا ثابتًا في الله.

1 2كو10:5.

2 1كو3:4.

3 يو17:5.

4 دا 42:2.

5 أف12:6.

6 في21:3.

7 يو24:12.

8 يو19:2.

9 يو21:2.

10 رو11:8.

11 مت25:6.

12 2تيمو4:2.

13 مت28:5.

14 يو46:8.

15 يو30:14.

16 يو34:4.

17 مز16:22.

18 زك10:12.

19 إش8:53.

20 إش6:53.

21 إش5:53.

22 يو29:1.

23 2كو21:5.

24 غل13:3.

25 كو15:2.

26 يو19:17.

27 يو11:16.

28 مت40:12.

29 إش8:53.

30 إش10:53.

31 يو21:14.

32 يو29:1.

 

المسيح باكورة الراقدين – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

Exit mobile version