إله من إله نور من نور ف4 – الإيمان بالثالوث – توماس ف. تورانس
إله من إله نور من نور ف4 – الإيمان بالثالوث – توماس ف. تورانس
الإيمان بالثالوث
الفكر اللاهوتي الكتابي
للكنيسة الجامعة في القرون الأولى
توماس ف. تورانس
ترجمة
دكتور عماد موريس اسكندر
الفصل الرابع
إله من إله نور من نور
“نؤمن برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، له ذات الجوهر الواحد مع الآب، الذي به كان كل شيء..”
أوَّلية ’علاقة الابن بالآب‘ في الفكر اللاهوتي الآبائي
لقد تناولنا في الفصل الثاني العلاقة بين الآب والابن، ورأينا أنه من داخل هذه العلاقة فقط، أُعطينا إمكانية الدخول إلى معرفة الله وفقًا لما هو بالحقيقة في ذاته، لأنه في الابن فقط ـ الابن الوحيد المولود من الآب ـ وكلمة الله المتجسد، قد أظهر الله ذاته لنا بحيث نستطيع أن نعرفه وفقًا بالضبط لطبيعته الإلهية. وفي هذا السياق، وجدنا أن كلاًّ من التقوى والبحث الدقيق، وكلاًّ من علم اللاهوت (الكلام عن الله) والعلوم الأخرى، يساهمان معًا في الإدراك المنطقي لإعلان الله عن ذاته لنا في يسوع المسيح ـ في الزمان والمكان ـ ويساهمان كذلك فيما يتطلبه هذا الإدرك من تغيير جذري في أسلوبنا المعتاد في التفكير.
وفي الفصل الثالث، ناقشنا حقيقة أنه فقط من داخل علاقة الآب بالابن يمكننا أن نفهم عملية الخلق بكونها عمل الله الآب (بواسطة الابن وفي الروح القدس). فكون الله ’خالقًا‘ ينبغي أن يُفهم من منظور أو من واقع كون الله ’آبًا‘ وليس العكس، لأنه في ابنه وبواسطته قد خُلقت كل الأشياء. إن ما يفعله الآب يفعله الابن وما يفعله الابن يفعله الآب. ولذلك فإن كلاًّ من عملية الخلق وطبيعة الخليقة يجب فهمها من منظور يسوع المسيح. ومن هذا المنطلق تكون عقيدة الخلق في المسيحية وما تتضمَّنه من مفهوم ’الاعتمادية‘ قائمة على أساس عقيدة التجسد. ولذا حين نبدأ تفكيرنا من منطلق هاتين العقيدتين نجد أن مفهومنا عن الله والمسيح والعالم قد تغيَّر بالكامل.
إذن فكل شيء يعتمد على العلاقة ـ وطبيعة العلاقة ـ الكائنة بين يسوع المسيح الابن المتجسد وبين الله الآب. ولذلك فإننا في هذا الفصل سنتناول الإجابة عن الأسئلة الآتية:
– كيف يجب علينا أن ننظر إلى العلاقة الكائنة بين الابن والآب؟
– ماذا يعني الإنجيل عندما يخبرنا أن المسيح قد أُرسل من قِبَل (بواسطة) الله، وأنه من عند الله وأنه من الله الآب؟
– كيف يجب أن ننظر إلى يسوع المسيح ذاته في إعلانه عن الآب؛ إذ إن كل شيء يعتمد بالفعل على هذا الإعلان؟
وهذه الأسئلة، تجيب عنها بالفعل العبارات التي أوردها الآباء في قانون الإيمان النيقي ـ القسطنطيني[1]. ونحن في ظل تسليمنا بأولوية علاقة الآب بالابن على علاقة الخالق بالمخلوق، فإن ما يهمنا هنا هو كيف ينبغي أن نفهم علاقة الابن بالآب بشكل دقيق ومحدد، حتى نتفادى الوقوع في الأخطاء والالتباسات التي حدثت في القرن الرابع، والتي كادت أن تهدد قلب الإيمان المسيحي وجوهره.
بدعتان متناقضتان من جهة شخص يسوع المسيح
لا شك أن مشاكل القرن الرابع هذه، كانت قد نشأت بسبب الثنائية الحادة بين عالم الحسّيات (الأشياء المحسوسة) وعالم المُدرَكات (الأشياء التي تُدرَك بالعقل) ـ والتي جاء ذكرها في مطلع الفصل الثاني ـ وبسبب ما أحدثته هذه الثنائية من تأثير على ما كان يوجد في داخل الكنيسة من أنماط مختلفة للفكر العبري والهلليني. وقد بدأت هذه المشاكل في الظهور حين شرعت الكرازة في الانتشار خارج قاعدتها الأولى في أورشليم واليهودية حيث بدأت تمد لها جذورًا في داخل الثقافة الإغريقية ـ الرومانية.
وسرعان ما ظهرت محاولات متناقضة لتفسير سر يسوع المسيح، ليس فقط انطلاقًا من الفكر العبري والهلليني المتباين، ولكن أيضًا من منطلق المفهوم السائد الخاص بالتناقض الحاد بين الله والعالم. ومن ثم ظهرت بدعتان متناقضتان من جهة شخص يسوع المسيح: بدعة ’الأبيونيين‘ (ebionite) وبدعة ’الدوسيتيين‘ (docetic). وقد فصلت هاتان البدعتان بين اللاهوت والناسوت (في المسيح) وبالتالي شوَّهتا ـ وقسَّمتا بطرق مختلفة ـ كمال الصورة التي قدَّمها العهد الجديد عن المسيح بكونه إلهًا وإنسانًا معًا وفي آنٍ واحد (إله متأنس). وهنا يجب أن نتوقف قليلاً للنظر في هذه الانحرافات، لأنها تمثل الصور الأولى للمشاكل التي واجهت الكنيسة في القرن الرابع الميلادي.
البدعة ’الأبيونية‘
لقد نشأت البدعة ’الأبيونية‘ بين جماعة من المسيحيين الأوائل من أصل يهودي كانوا يُلقَّبون بـ ’الفقراء‘ (ebionim)[2]. وكانوا يفسرون سر المسيح: بأن يسوع الإنسان قد اختاره الله لبنوّة إلهية خاصة عندما حلّ عليه الروح القدس في معموديته، ولم يؤمنوا به كمولود من الآب بل كمخلوق، ولم يعتبروه أنه هو الله الذي صار إنسانًا، بل رأوه بالأحرى كنبي قد حلّ الله فيه. وبالتالي فقد رفضوا فكرة وجود أية علاقة كيانية داخلية بين المسيح والآب، مفضِّلين عن ذلك فكرة وجود علاقة معنوية خارجية بينهما، وهي التي بموجبها أتمّ المسيح رسالته المسيانية.
وقد سعى الفكر الأبيوني عن المسيح ـ ومن مدخل يتجه من أسفل إلى أعلى* ـ إلى تفسير كيفيّة حلول الله في يسوع المسيح، بطريقة تحتفظ بمكانته الفريدة في الإيمان المسيحي، ولكن أيضًا بحيث لا يمس ذلك سمو الله الفائق ووحدانيته المطلقة. إلاّ أن يسوع المسيح في نظر هؤلاء كان بلا شك ضمن صفوف المخلوقات ـ بكل ما بينها وبين الله من فرق جذري ـ ولذا لم يكن من الممكن النظر إليه على أنه يجسِّد في شخصه الذاتي حضور الله الحقيقي نفسه أو عمل الله الخلاصي بين البشر.
وبالتالي لم يكن يسوع المسيح (في نظرهم) هو مركز الإيمان، بل كان مركز الإيمان هو ’الآب السماوي‘ فقط، وهو الذي كان يشير إليه (إلى الآب) المسيح دائمًا في تعاليمه للجنس البشري. وبما أن أصحاب هذه البدعة كانوا يرون أن علاقة الله بالعالم هي علاقة هامشية، فقد ظل الله بالنسبة لهم هو إله اليهودية المخفي المجهول، الذي لا يسمح للبشر بأن يعرفوا أي شيء عنه حسبما هو في كيانه الذاتي الأزلي. ولكي يقدر الأبيونيون أن يقدِّموا للعالم رسالة فعليّة عن الإعلان والفداء الإلهي، اضطروا ـ في نظرتهم للمسيح ـ أن يعتبروه على نحو ما شخصًا إلهيًّا! مما تناقض بالطبع مع ما قالوه في أول الأمر عن طبيعة المسيح المخلوقة.
البدعة ’الدوسيتية‘
أما البدعة الأخرى التي تسمى ’الدوسيتية‘ (أي الخيالية) فقد أخذت اسمها من طوائف تُفرط في التفسير الروحاني وكانت تؤمن بأن جسد المسيح، ابن الله المتجسد، لم يكن جسدًا حقيقيًّا بل قد بدا كذلك، أي كان جسدًا وهميًّا (خياليًّا)[3]. وكانت هناك بالفعل تحذيرات من الدوسيتية وردت في العهد الجديد[4]، حيث كانت هذه البدعة سائدة وسط غنوسييّ القرن الثاني والثالث ثم انتشرت على نطاق واسع بعد ذلك. ومن خلال مدخل يتجه من أعلى إلى أسفل* سعى الفكر الدوسيتي عن المسيح ـ وبالاعتماد على مفهوم الثنائية ـ إلى تفسير كيف صار الله إنسانًا في يسوع المسيح، بطريقة تركز فقط على حقيقته الإلهية بدون مساس بثبات الله وعدم تغيره وعدم شعوره بالألم رغم اتحاده بالجسد.
وكانت النتيجة أنهم نظروا إلى طبيعة المسيح الإنسانية وشعوره بالألم كشيء وهمي (خيالي) غير حقيقي، وذلك لكي يعطوا (حسب تفكيرهم) لرسالة الإنجيل صفة المثالية، وبالتالي قوَّضوا حقيقة التجسد الموضوعية والتاريخية. إذن فتجسد الكلمة لم يكن في نظرهم إلاّ أداة في يدي الله لإدخال الحق الإلهي في العالم، ولكن هذه الأداة تنتهي عندما يتحقق الغرض منها. ومما لا شك فيه أن تلك الصورة التي توصَّلت إليها الدوسيتية عن المسيح، كانت من جهة أخرى، قد تم التوصل إليها وتفسيرها بعيدًا عن تعليم الإنجيل وحسب الأفكار البشرية المسبقة.
وهكذا اعتادت الدوسيتية ـ فيما يخص المسيح ـ أن تبتعد عن نقطة البداية، ألا وهي: ألوهية المسيح. وكانت تميل إلى الافتراضات البشرية أو الأسطورية وتطبِّقها على الله، ولم تعدو ألوهية المسيح بالنسبة لهم عن كونها فكرة بشرية أضفوا عليها شكلاً إلهيًّا.
وهنا نلاحظ أن هناك خلطًا وجدلاً واضحًا في كلتا البدعتين، لأنه بسبب ’الثنائية‘ التي ظهرت في كل منهما، وبسبب التضاد بين الخالق والخليقة، كان لا بد أن تتداخل الواحدة في الأخرى[5].
أهمية حقيقة أن المسيح هو ’ابن الله الكلمة المتجسِّد‘
وكانت حقيقة أن كلاًّ من هاتين البدعتين قد تنتهي بها الأمر إلى حيث بدأت الأخرى، إنما دليل على أن كلاًّ منهما لم تبدأ بالفعل من حقيقة الإنجيل الأساسية: أن يسوع المسيح ـ المولود من مريم العذراء والذي تألم في عهد بيلاطس البنطي ـ هو الله الذي جاء بنفسه، ليكون معنا ويعلن ذاته لنا ويتحد بنا بغير انفصال من أجل خلاصنا.
ومن هنا نجد أن الإنجيل لم يقدِّم يسوع المسيح في وضع مقارنة مع الله أو مشابهة معه، ولم يتأرجح بين الاثنين كما في البدعتين المذكورتين، بل قدَّمه في كليَّة حقيقته ’الإلهية الإنسانية‘ غير المنقسمة باعتباره الله الذي صار إنسانًا[6]. وعلى هذا الأساس، فإن يسوع المسيح يكون هو الرب والمخلِّص، وهدف الإيمان المباشر، والابن الوحيد المولود من الله، الذي بغيره لا يمكن معرفة الآب. فإذا لم يكن يسوع المسيح هو الله لما استطاع أن يعلن الله لنا، لأننا لا نستطيع معرفة الله إلاّ من خلال الله نفسه فقط، وإذا لم يكن المسيح في نفس الوقت إنسانًا لما كان ممكنًا أن يخلِّصنا (نحن البشر)، لأنه فقط من خلال كونه واحدًا معنا يستطيع الله أن يتمِّم خلاصنا من داخل وجودنا البشري الفعلي.
وقد أكَّد أوريجينوس أن الإيمان بيسوع المسيح بكونه: الله الذي صار إنسانًا وأنه هو نفسه ’الله‘ و ’إنسان‘ في آنٍ واحدٍ، (الله المتأنس) هو إيمان ينتمي إلى تعليم الكتاب المقدس وقد تسلَّمناه منذ نشأة الكنيسة الأولى[7]. وقد عقَّب ر. ف. سيلرز على تعليم تلاميذ أوريجينوس الخاص بوحدة شخص (أقنوم) السيد المسيح قائلاً “من الواضح أن تلاميذ أوريجينوس ينسبون أعمال وأقوال يسوع المسيح كلها، وبدون تمييز بينها، إلى اللوغوس المتجسد ذاته ـ أي إلى الشخص الواحد الذي هو الله وإنسان في وقت واحد[8]“.
وقد تعيَّن على ق. أثناسيوس أن يردد ما جاء في كلام أوريجينوس بأن هذا الإيمان كان هو تقليد وتعليم وإيمان الكنيسة الجامعة منذ البداية، ومن هنا جاء تأكيد ق. أثناسيوس ـ في فقرة مهمة نشير إليها مرة ثانية ـ على أن آباء نيقية “لم يكتبوا ما بدا لهم أنه حسن، بل ما آمنت به الكنيسة الجامعة، ولذا فقد اعترفوا بما كانوا يؤمنون به لكي يبيِّنوا أن آراءهم ليست آراء جديدة بل هي آراء رسولية، وأن ما كتبوه لم يكن اكتشافًا من عندياتهم بل هو نفسه ما قد علَّم به الرسل[9]“.
وكان على مجمع نيقية إعادة تأكيد الحقيقة الإنجيلية الرئيسية التي تعلن أن يسوع المسيح هو ابن الله الكلمة (المتجسد)، وأن ابن الله الكلمة (المتجسد) هو يسوع المسيح، وذلك حتى يتصدى المجمع لتعاليم الأريوسية والسابيلية وكافة البدع الأخرى التي تلت ظهور الأبيونية والدوسيتية، والتي باتت تهدد سلامة إيمان الكنيسة. وقد رفضت الكنيسة المساومة في الإيمان بأن يسوع المسيح هو الله المتأنس، لأنه إذا لم يكن المسيح هو الله بالفعل فلا تكون هناك أي حقيقة إلهية في كل ما قاله أو صنعه، وأيضًا إذا لم يكن (في نفس الوقت) هو إنسانًا بالفعل فلا يكون ما صنعه الله له أية صلة خلاصية ببني البشر.
وكان ق. أثناسيوس قد لخَّص هذه القضية الخاصة بالأعمال الإلهية والأعمال الإنسانية للكلمة المتجسد بقوله: “إذا أدركنا ما يخص كل منهما (أي نوعي الأعمال)، وإذا رأينا وفهمنا أن كلاهما قام بهما ’واحد‘، فنكون على حق في إيماننا ولن نضلَّ أبدًا. ولكن إذا نظر أحد إلى ما عُمل ’إلهيًّا‘ بواسطة الكلمة فأنكر (حقيقة) الجسد، أو إذا نظر إلى صفات الجسد فأنكر قدوم الكلمة بالجسد أو بسبب ما هو بشري قلَّل من شأن الكلمة، فإن مثل هذا الإنسان يعد مثل تاجر الخمر اليهودي الذي يخلط الماء مع النبيذ وسوف يعتبر الصليب عارًا، أو مثل الوثني الذي يعتبر الكرازة حماقة.
وهذا ما حدث بالنسبة لأعداء الله الأريوسيين الذين نظروا إلى الصفات الإنسانية للمخلِّص فاعتبروه مخلوقًا، ونظروا إلى الأعمال الإلهية للكلمة فاضطروا إلى إنكار ميلاده بالجسد وبالتالي يُحسَبون مع أتباع ماني[10]“. فالإيمان بأن يسوع المسيح هو الله الذي صار جسدًا (إنسانًا) لأجلنا ولأجل خلاصنا، يتطلب إيمانًا أكيدًا ’بألوهيته‘، لأن في المسيح، الله ذاته هو الذي صار إنساناً، وكذلك يتطلب إيمانًا مساويًا ’بإنسانيته‘ لأن في يسوع المسيح جعل الله طبيعتنا البشرية خاصة له. أما الأريوسية فقد كانت على النقيض من ذلك، حيث خلطت بين الحق والخطأ وأذنبت ضد لب الإيمان الإنجيلي وأفسدت رسالة الإنجيل الخلاصية لأنها سقطت في كلتا البدعتين الأبيونية والدوسيتية في آنٍ واحد.
موقف الكنيسة في الدفاع عن علاقة الابن المُتجسِّد بالله الآب
وسرعان ما أدرك البابا ألكسندروس بابا الإسكندرية التاسع عشر[11]، أن تعليم أريوس قد أظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن الأمر الحاسم في موضوع الإيمان والخلاص، هو طبيعة العلاقة بين يسوع المسيح الابن المتجسد والله الآب. إذن كيف كان على الكنيسة النظر إلى هذه العلاقة؟ وماذا يعني الإنجيل عندما أقرن يسوع المسيح بالله في كل أعماله الخاصة بالإعلان والخلاص؟ وما الذي يجب أن يقال عن طبيعة هذه العلاقة لتفادي أي سوء فهم أو تحريف لها؟
وقد حرص آباء نيقية على الإجابة عن مثل هذه التساؤلات عندما قاموا بصياغة اعتراف الإيمان: “وبربٍ واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب (من جوهر الآب)، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، له ذات الجوهر الواحد مع الآب (Ðμοούσιος τù Πατρί)، الذي به كان كل شيء”. وعلاوة على ذلك ألحق الآباء بإعتراف الإيمان، قانوناً مؤداه أن الكنيسة الجامعة تحرم “كل مَن يقول إن ’هناك وقت لم يكن فيه الابن كائنًا‘، أو إنه ’لم يكن كائنًا قبل أن يُولد‘، أو إنه ’أتى إلى الوجود من العدم‘، أو يزعم أن ابن الله له جوهر مختلف (عن الآب)، أو أنه مخلوق، أو قابل للتغير والتبدل”. وكان مجمع نيقية قد أخضع جميع العبارات التي وضعها للفحص الدقيق، حتى يمكنه مواجهة النقد المتواصل خلال القرن الرابع. وقد ساعد ذلك على تأكيد وتعميق إيمان وعقيدة الكنيسة، حتى أن مجمع القسطنطينية اللاحق قد أقرَّ تمامًا هذا الإيمان وأعطاه الشكل النهائي كالآتي: “وبربٍ واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، له ذات الجوهر الواحد مع الآب، الذي به كان كل شيء”. ومن الملاحظ أنه لم تطرأ تعديلات ذات أهمية كبيرة في هذه العبارات عن سابقتها (التي وُضعت في نيقية)، وإنما كان التغيير الطفيف لمجرد تفادي التكرار غير الضروري[12].
وإذ بدأ آباء نيقية المقطع الثاني من قانون الإيمان بعبارة “وبربٍ واحد يسوع المسيح”، فقد أظهروا بذلك العلاقة المباشرة للرب يسوع المسيح بـ “الله الآب ضابط الكل …” الذي بدأوا به في المقطع الأول، وبالتالي بيَّنوا أنهم سواء بالنسبة ليسوع المسيح أو بالنسبة لله الآب، فإنما كانوا يشيرون إلى نفس الجوهر الواحد. وهكذا عبَّر الآباء عن المحتوى الحقيقي للعهد الجديد فيما يخص المسيح، هذا المحتوى الذي فيه الإيمان بالمسيح يتطابق تمامًا مع الإيمان بالله الآب. فأن تؤمن ’برب واحد يسوع المسيح‘ هو أن تؤمن ’بإله واحد الله الآب‘ وتعترف به إلهًا متطابقًا مع الآب.
وقد عبَّر قانون الإيمان عن هذه العلاقة الفريدة التي للمسيح مع الآب داخل وحدانية الله بهذه العبارات “ابن الله الوحيد، المولود من أبيه قبل كل الدهور .. مولود غير مخلوق”. وكان مصطلحا ’ابن‘ و ’آب‘ إنما يشيران إلى التمايز داخل جوهر الله الواحد، لأن الابن هو ’ابن‘ وليس ’آب‘، والآب هو ’آب‘ وليس ’ابن‘[13]. ولكن بما أن هناك إله واحد، فبالتالي يكون هناك فقط ابن واحد لله، الذي هو أزليًّا ابن الآب كما أن الآب هو أزليًّا أبو الابن لأنه لا يوجد فارق زمني أو من أي نوع بينهما. وقد تم تجميع مفاد كل هذه العبارات معًا في مصطلحٍ مُركزٍ واحدٍ هو ’هوموأووسيوس‘ *(Ðμοούσιος) مع الآب أو ’له ذات الجوهر الواحد مع الآب‘[14] وذلك للتعبير عن وحدانية الجوهر بين الابن المتجسد والله الآب، وجاءت إضافة عبارة “الذي به كان كل شيء ..” للتأكيد على ارتباط الابن مع الخالق[15].
مفهوم أريوس عن علاقة الابن بالآب
وباستخدامه هذه التعبيرات في صياغة قانون الإيمان، كان مجمع نيقية بلا شك يضع هرطقة أريوس و’عدم تقواه‘ أمام عينيه.[16] فقد علَّم أريوس بأنه بسبب أن طبيعة الله فريدة تمامًا وأزلية وفائقة الإدراك، فإن جوهر الله الواحد لا يمكن معرفته أو تمييزه أو الاتصال معه، وهذا التعليم كان بالضرورة يتضمَّن رفض فكرة أن الابن أو الكلمة هو أقنوم آخر له منذ الأزل نفس طبيعة الله ذاتها، لأن هذا الأمر كان يعني بالنسبة لأريوس أن جوهر الله قابل للتقسيم أو التعددية.[17] فوجود كيان آخر غير ’الآب‘ ـ المصدر غير المبتدئ لكل حقيقة ـ كان مقبولاً عند أريوس، فقط بشرط أن يكون هذا الكيان قد أُحضر إلى الوجود من العدم. وهكذا علَّم أريوس بأن ابن الله أو كلمة الله ليس (بالطبيعة) من الآب، بل خُلق من العدم بإرادة الله، وبالرغم من تبني الله له كابن، فإنه لا يكون بأي شكل من الأشكال مكافئًا لكيان الله أو مساويًا له أو له ذات جوهر الله الواحد (Ðμοούσιος)، بل على العكس اعتقد أريوس بأن الابن ـ مثله مثل كل الأشياء الأخرى المخلوقة من العدم ـ غريب تمامًا ومختلف عن جوهر الآب[18]. وهذا يعني (بالنسبة لأريوس) أن الآب غير معروف وغير مدرَك تمامًا للابن، وبالتالي فإن الابن لا يستطيع أن تكون له ـ أو أن ينقل ـ معرفة حقيقية أصيلة بالآب، لأنه (أي الابن) يمكن أن يعرف ويفهم فقط ’بقدر ما يتناسب مع قدرته‘ كمخلوق[19]. وفوق ذلك اعتقد أريوس بأن الكلمة “مخلوق ولكن ليس كأحدٍ من المخلوقات، وأنه عمل ولكن ليس كأحد الأعمال، وأنه مولود ولكن ليس كأحد المواليد[20]“. ومعنى هذا أن الكلمة كان في نظر أريوس مخلوقًا متوسطًا بين الله والإنسان، وقد اعتبر أنه ليس هو إلهًا تمامًا ولا هو مخلوقًا تمامًا[21]. هذا بالإضافة إلى أنه بحسب رأي كل من إبيفانيوس وثيئودوريت، فإن مفهوم أريوس لإنسانية المسيح كان مفهومًا معيبًا، وقد وضح ذلك في اعتقاده بأنه في التجسد اتخذ الكلمة جسدًا مجردًا من النفس الإنسانية العاقلة، وقد حلّ هو نفسه (أي الكلمة) محل النفس الإنسانية[22].
موقف الكنيسة من الفكر الهرطوقي الأريوسي
ولا عجب في أن آباء نيقية اعتبروا أن الأريوسية هي أخطر الهرطقات على الإطلاق، لأنها طعنت في صميم جذور إيمان الكنيسة: بإثارة الشكوك حول حقيقة ألوهية المسيح وعمله الخلاصي، ناهيك عن الأمور المتعلقة بحقيقة إنسانيته. وقد جاء رد فعل الآباء قويًّا وحاسمًا وبتعبيرات وتحديدات لا لبس فيها، مؤكدين إيمانهم في أن الرب يسوع المسيح ابن الله الوحيد هو: مولود من صميم جوهر الله، وهو غير مخلوق، إله حق من إله حق، وأن له ذات الجوهر الواحد مع الآب[23].
وكانت النقطة الحاسمة في مناقشات مجمع نيقية هي كيفية فهم التعبيرات الإنجيلية: ’بواسطة الله‘، ’من عند الله‘، ’من الله‘، التي استخدمت عند الحديث عن الابن المتجسد. هل ينبغي أن تُفهم ـ كما ادعى الأريوسيون ـ على أنها تعني أن الابن المتجسد هو ابن الآب، فقط بعمل إرادته بالنعمة؟ أم نفهمها على أنها تعني أنه ابن الآب، من صميم جوهره (κ τÁς οÙσίας)، أي من طبيعته الذاتية كإله؟ لأنه إذا كان الابن فعلاً من صميم جوهر الآب ـ كما علَّم آباء نيقية ـ فإن “كل كيان الآب يكون هو الابن بجملته”، لأن الآب والابن كل منهما خاص (διος) بالآخر. وعلى هذا الأساس تكون علاقة الآب والابن كائنة في داخل جوهر الله الواحد، حيث إنهما متلازمان ويتواجد كل منهما في الآخر (يحتوي الآخر) بشكل كامل ومطلق منذ الأزل. فالله هو آب لأنه بالتحديد هو منذ الأزل أبو الابن، وبالمثل أيضًا الابن هو إله من إله لأنه بالتحديد هو منذ الأزل ابن الآب. وهناك تبـادلية أزلية مطلقـة بين الآب والابن دون أي فـارق أو فاصـل في الوجـود أو الزمن أو المعــرفة بينهمـا[24]. وقد عبَّــــر ق. غريغـوريوس النـزينـزي عن ذلـك بقـوله: إن ولادة الابن من الآب هـي ولادة ’غير زمنيــة‘، و’غير سببيــة‘، و’غير مبتـدأة‘ (¨χρoνως, ¢να τiως, ¨νaρχως)[25]. أما بالنسبة للقديس أثناسيوس وآباء نيقية، فقد كانت ولادة الابن من الآب أمر يتخطى ويفوق إدراك البشر[26]. ولا يجب أن يتصور أحد أنها (أي ولادة الابن) قد حدثت في ’لحظة ما‘ أو بواسطة ’فعل إرادة‘ من قِبَل الله ـ كما تصور ذلك بالفعل كل من أريوس ويوسابيوس[27] ـ بل هي علاقة لا يُنطق بها بين الآب والابن، كائنة منذ الأزل في الله، ولذلك يقول ق. أثناسيوس: “والله فيما هو على الدوام، هو على الدوام آب للابن[28]“.
المنهج الذي اتبعه الآباء للتعبير عن علاقة الابن بالآب
لقد أدرك ق.أثناسيوس وآباء نيقية أنه لا مفر أمامهم من استخدام أمثلة وتشبيهات (صور) من الخليقة، في السعي للتعبير عن فهمهم لعلاقة الابن بالآب، لأن هذا الأسلوب هو الكيفيّة التي تم بها نقل الإعلان الإلهي لنا ـ من خلال لغة البشر. ومع أن هذه الأمثلة والتشبيهات (الصور) في حد ذاتها لا تفي بالغرض ـ حتى إنه لا ينبغي التمادي فيها[29] ـ إلاّ أنها وعلى الرغم من ذلك قد استُخدمت في الإعلان الإلهي بدقة مبهرة، حيث كانت تشير إلى أبعد من محتواها المحدود، إلى ما يكشفه الله عن علاقاته الإلهية الداخلية[30]. وهذا يعني أننا لا بد وأن نفسِّر هذه الأمثلة والتشبيهات وفقًا للمعنى المُعطى لها في الكتب المقدسة، وفي نطاق النظرة الشاملة والإطار العام للرسالة الإنجيلية[31].
وعلى هذا النحو، كما يقول ق. أثناسيوس، استطاع آباء نيقية استخدام المثال الإنجيلي الخاص بـ ’النور‘ (φîς) و’الشعاع‘ (¢παύγασμα) ليساعدهم في شرح علاقة المسيح كابن الله الآب وكلمته[32]، مما أدى إلى تفادي تطبيق المفهوم البشري أو الجسدي لكلمات مثل ’أب‘، ’ابن‘، ’مولود‘، ’ولادة‘، ’كلمة‘… وبالإضافة إلى ذلك، أوضح هذا المثال أيضًا أنه كما أن النور لا يكون أبدًا بدون شعاعه فهكذا الآب لا يكون أبدًا بدون ابنه أو كلمته[33]. وبالضبط كما أن النور والشعاع هما واحد وكل منهما غير مختلف أو غريب عن الآخر، فكذلك الآب والابن هما واحد وكل منهما غير مختلف أو غريب عن الآخر بل لهما ذات الجوهر الواحد. وحيث إن الله هو نور أزلي، فكذلك ابن الله بكونه البهاء (الشعاع) الأزلي لله فإنه هو نفسه نور أزلي بلا بداية أو نهاية[34].
ويضيف ق. أثناسيوس أن الآبــاء استطاعوا (باستخدام هذا المثال) ـ وعلى أســـــــاس إنجيلي ـ “أن يتحــــــدثوا بثقة عن المسيـــح: بكــونه ابن الآب الحقيـقي والطبيـعي، وبكــونه خــــاص بجـوهر الآب (διος τÁς οÙσίας αÙτοà)، وأنه هو نفسه إله حقيقي وله ذات الجوهر الواحد (Ðμοούσιος) مع الآب الحقيقي، لأنه ’هو رسم* أقنوم (Øπόστασις) الآب‘، وهو نور من نور، وهو صورة كيان الآب الحقيقية وقوته[35]“. ومن هذا المنطلق، أدخل آباء نيقية في قانون الإيمان هذه العبارة على وجه التحديد: “إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق”، وذلك لكي يوضِّحوا ويحددوا طبيعة العلاقة الفريدة التي بين الابن المتجسد والآب[36].
كيف توصَّل الآباء للصياغة النهائية للفقرات التي تعبِّر عن علاقة الابن بالآب في قانون الإيمان؟
ويخبرنا ق. أثناسوس في العديد من أعماله[37]، أن مجمع نيقية قد جاهد جهادًا عنيفًا من أجل التوصل إلى الصياغة النهائية للفقرات الحاسمة في قانون الإيمان، وقد تم ذلك على مراحل متتالية. ففي أول الأمر، عندما وافق الأريوسيون على صيغة أن الابن هو ’من الله‘ أو ’من عند الله‘ كما جاء في ’نور من نور‘، أصرَّ آباء نيقية على تعريف ’من الله‘ أو ’من عند الله‘ على أنها تعني ’من جوهر الآب‘ (κ τÁς οÙσίας τοà Πατρός)، وذلك لتوضيح وتحديد العلاقات في داخل الله. وكان هذا يعني أن الابن خاص بصميم جوهر الله، وأنه ’من الله‘ الآب ـ وهو الأمر الذي لا ينطبق على المخلوقات ـ وأنه هو إله من إله.
ولكن عندما تظاهر أتباع أريوس ويوسابيوس ـ وفي موقف مثير للدهشة ـ بالموافقة على عبارة ’من جوهر الآب‘، أدرك آباء نيقية أن هؤلاء الهراطقة سيفسرون هذه العبارة على نحو يمكن فيه أن تُطبَّق أيضًا على البشر الذين خُلقوا ليس فقط كـ ’أولاد الله‘ بل على ’صورة الله ومجده‘. ولذلك قرَّر الآباء قطع الشك باليقين وإزالة أية إمكانية لسوء الفهم، فأضافوا التعبير اللاهوتي الحاسم بأن الابن ’له ذات الجوهر الواحد‘ مع الآب (Ðμοούσιος τù Πατρί)، والذي يعني أن كلاًّ من الابن والآب هو إله مساوٍ داخل جوهر الله الواحد[38]. وفي نفس الوقت أضاف الآباء ملحقًا لقانون الإيمان يدحض الاعتقاد بأن الابن ’من جوهر آخر مختلف (عن الآب)‘، وبذلك أعلن المجمع إدانته للهرطقتان السابيلية والأريوسية والتي كانت كل منهما تميل إلى التداخل في الأخرى[39].
وهكذا رفض الآباء أي تعليم يفيد أن الابن هو من جوهر آخر غير الله، أو أنه ابن الله من خلال فقط مشاركته في الله. وأقرَّوا بشكل واضح تمامًا وبدون أي لبس أن الابن من صميم جوهر الله، وأنه هو الله، على نفس النحو الذي به الآب هو الله، لأنه واحد معه بصورة كاملة وفريدة[40]. وهو (أي الابن) ـ وفي اتحاد كامل مع الآب ـ كان منذ الأزل هو الله القائل ’أنا هو‘[41].
وقد حاول بعض الأشخاص ـ في مجمع نيقية وما بعده ـ الاستعاضة عن مصطلح ’هوموأووسيوس‘ (Ðμοούσιος) بمصطلح آخر وهو ’هومي أووسيوس‘ (Ðμοιούσιος) والذي يعني أن الابن هو فقط ’مشابه في الجوهر‘ للآب[42]. وفي الواقع، كان ق. أثناسيوس ذاته قد استخدم في بعض الأحيان تعبير أن الابن ’يشبه الآب‘[43] (وذلك حين كان يتكلَّم عن الابن بكونه صورة الآب ورسمه)، ولكن سرعان ما انصرف ق. أثناسيوس عن هذا المصطلح حتى لو كان يقصد بالمشابهة أن الابن هو الصورة الكيانية المطابقة (للآب)، لأن المشابهة تنطبق على الصفات والعادات وليس على الجوهر، وعلى أية حال فإن التشابه يعني ضمنيًّا أن هناك قدرًا من عدم التشابه*[44].
ومن هنا أصبح واضحًا أمام آباء نيقية أن مصطلح ’مشابه للآب‘ لا يعتبر كافيًا لاهوتيًّا حتى ولو أضيفت إليه كلمة ’تمامًا‘ أو كلمة ’جوهريًّا‘، لأنه لا يزال عندئذ يعطي مساحة لسوء التفسير. ورغم أن مصطلح ’التشابه في الجوهر‘ (Ðμοιούσιος) يمكن أن يحمل في صورته المطلقة مفهوم ’الوحدانية في ذات الجوهر‘ (Ðμοούσιος)[45]، إلاّ أن المجمع فضَّل استخدام الأخير[46]. فالابن مولود من الآب بالطبيعة (φύσει)، وهو خاص بجوهر الله الآب ومطابق له، وله ذات الطبيعة الواحدة (Ðμοφυής) مع الآب الذي وَلَدَه ذاتيًّا منذ الأزل. وهو (أي الابن) لا يشارك في الآب مجرد مشاركة، بل هو جوهريًّا وكليًّا واحد مع الآب في الجوهر وفي الكينونة[47]. ويقول ق. أثناسيوس: “إن كل ملء لاهوت الآب هو كيان الابن، والابن هو الله بأكمله[48]“.
المعاني المتضمَّنة في مصطلح ’هوموأووسيوس‘
وحيث إن مصطلح ’هوموأووسيوس‘ لم يكن مأخوذًا من الكتاب المقدس، بل كان تعبيرًا جديدًا نسبيًّا، فقد تحتم على آباء نيقية تفسيره بمنتهى العناية والدقة كما قال ق. هيلاري[49]. وهذا هو ما شرع آباء نيقية في عمله بمجرد انتهاء أعمال المجمع[50].
وصار واضحًا تمامًا في الكنيسة، أن مصطلح ’هوموأووسيوس‘ قد تمّ استخدامه على هذا النحو، كمصطلح لاهوتي ’تقني‘ يحمل معنى ’واحد في ذات الجوهر والطبيعة‘ (مع الآب). ومن هنا فقد تمّ الاعتماد عليه ليكون بمثابة إعلان محدد ودقيق للإيمان المسيحي في مواجهة الهرطقة الأريوسية[51].
وبالطبع كان ق. أثناسيوس في مقدمة مَن أدركوا أن مصطلح ’هوموأووسيوس‘، فيما هو يعبِّر عن مساواة الابن الكاملة للآب، فإنه يحمل معنى أن الابن له ذات الجوهر الواحد مع الآب، وأنه واحد معه في الطبيعة ’هوموفيس‘ (Ðμοφυής). إذن فالفهم الدقيق والصحيح للتعبير اللاهوتي النيقي ’هوموأووسيوس‘ مع الآب (Ðμοούσιος τù Πατρί)، إنما يعني: أن (الابن) ’له ذات جوهر الآب تمامًا‘. وقد ذكر ق. أثناسيوس أن الله ذاته هو الذي أُعلن لنا كآب وابن ـ وأن الابن المتجسد مثله مثل الله الآب هو نفس الجوهر ذاته.[52] ولم تكن هناك صياغة أقوى من تلك التي عبَّر بها ق. أثناسيوس عن ذلك المعنى حين قال “إن كيان الابن بأكمله هو مكافئ تمامًا لكيان الآب”، وأن “ملء لاهوت الآب هو كيان الابن[53]“. إذن فالابن والآب هما بالضرورة نفس الله الواحد تمامًا، لدرجة ـ كما كان يردد ق. أثناسيوس ـ أن الابن هو كل ما هو الآب ما عدا كونه ’آبًا‘[54]. وبما أن الأمر كذلك، فإن أي انتقاص للابن يكون بالضرورة هو انتقاص للآب، لأن أي إنكار لطبيعة الابن الإلهية يكون إنكارًا لكون الله ’آب‘ منذ الأزل. ومن هذا المنطلق أيضًا، فإن أي إنكار لحقيقة ’الكلمة‘ الإلهي يكون بمثابة القول بأن الله في داخله هو بدون كلمة (¨λογος)، أو بدون حكمة (¨σοφος)[55]. وكما علَّم الرب يسوع المسيح نفسه في الإنجيل، فإن مَن يكرم الابن يكرم الآب ومَن لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله. حيث إن الابن المتجسد له كل ما لله الآب ما عدا ’الأبوة‘[56].
وعلاوة على ذلك فإن مصطلح ’هوموأووسيوس‘ (Ðμοούσιος) ينطوي على معنى آخر هام. لأنه إذا كان الابن مولودًا من الآب أزليًّا داخل جوهر اللاهوت، إذن فإن مصطلح ’هوموأووسيوس‘ بالإضافة إلى كونه يعبِّر عن الوحدانية بين الآب والابن، فإنه يعبِّر أيضًا عن التمايز الذي بينهما داخل هذه الوحدانية. وكما يقول ق. باسيليوس: “لأنه لا يمكن لأي أحد أن يكون له ذات الجوهر الواحد ’هوموأووسيوس‘ مع نفسه، بل يكون له ذات الجوهر الواحد ’هوموأووسيوس‘ مع آخر[57]“. وهكذا فقد كان هذا المصطلح ’هوموأووسيوس‘ يحمل معنى أنه في حين أن الآب والابن هما واحد في ذات الجوهر، إلاّ أنهما أيضًا متمايزان أزليًّا، لأن الآب بغير تغيير هو الآب وليس الابن، وكذلك الابن بغير تغيير هو الابن وليس الآب. لذلك صار مصطلح ’هوموأووسيوس‘ حصنًا منيعًا ضد كل من السابيلية والأريوسية على حَدٍّ سواء ـ أي ضد مذهب التوحيد الذي ينكر الثالوث وضد مذهب ’تعدد الآلهة‘[58]. وهذه الإشارة إلى التمايز الأزلي داخل جوهر اللاهوت الواحد، والتي يتضمَّنها مصطلح ’هوموأووســـيـوس‘، ســــوف نقــابلـها ثانيـة عندمـا نـأتي إلى تطبيـق ق. أثناسيوس لنفس المصطلح مع الروح القدس، وهو ما مكَّنه ـ ومعه الآباء الآخرون الذين دافعوا عن عقيدة الروح القدس ـ من توضيح فهم الكنيسة للثالوث القدوس في القرن الرابع[59].
وقبل انعقاد مجمع القسطنطينية بسنتين، وصف ق. إبيفانيوس الوحـــــدانية في ذات الجـــوهر بين الابن المتجســـد والآب ـ والتي تعتـــبر لب قــانـــون الإيمــــان النيقي ـ على أنها “ربــاط الإيمـان” (σύνδεσμος τÁς πίστεως)[60]. وهذا بالحقيقة ما قد ثبت صحته في الكنيسة: حيث كان لهذا المفهوم (أي الوحدانية في ذات الجوهر) الدور الرئيسي في إرشاد المؤمنين في تفسيرهم للكتب المقدسة، وفي توضيح وتأمين فهمهم ’للحق‘ الإنجيلي، وكذلك في تمكينهم من إدراك التركيب الداخلي المترابط للإيمان المسيحي. وإذا نظرنا إلى مفهوم ’الوحدانية في ذات الجوهر‘ في نطاق تلك الأهمية، سوف نستطيع أن ندرك بعمق أكثر مركزية المسيح (Christocentricity) في قانون الإيمان النيقي القسطنطيني.
أولاً: الأهمية التفسيرية لمصطلح ’هوموأووسيوس‘ (Ðμοούσιος)
العلاقة المتبادلة بين ’الإيمان الرسولي‘ و’التقليد الرسولي‘
لقد كان عصر نيقية هو العصر الذي تم فيه توضيح ’قانون الحق‘ أو ’قاعدة الإيمان‘[61]، وذلك من خلال الكشف عن مضمون الإيمان الداخلي في صياغة ثالوثية. كما كان هذا العصر أيضًا هو الذي تحقَّق فيه الاعتراف بقانونية الكتب المقدسة بكونها المستودع الذي يحتوي الإعلان الإلهي الذي نقله الرسل والأنبياء[62].
ولم يكن تزامن هذين الأمرين معًا من قبيل المصادفة، لأن توضيح وديعة الإيمان الرسولي في مواجهة التعاليم الخاطئة (أي الدفاع عن الإيمان المُسلَّم)، هو أمر متداخل ومترابط بشدة مع عملية تمييز التقليد الرسولي عن أي تقليد آخر (أي تمييز وتحديد الأسفار القانونية). وقد كان هناك تفاعل دائم بين ’قانون‘ الحق (الإيمان الرسولي المُسلَّم)، و’قانون‘ الكتب المقدسة (التقليد الرسولي). فالكتب التي قُبلت بكونها تنقل الإعلان الإلهي كانت فقط هي تلك التي جاءت متفقة مع ’قانون‘ الحق (الإيمان المُسلَّم)، وكذلك الإيمان الذي قُبل كإيمان رسولي أصيل كان فقط هو ذلك الذي جاء متفقًا مع تعاليم الكتب المقدسة المقبولة (التقليد الرسولي). وأثناء ذلك كله، كانت السلطة والأوليَّة التي أعطتها الكنيسة للإيمان الرسولي ـ على أي إيمان آخر ـ قد حملت ضمنيًّا معها سلطة وأوَّلية الكتب المقدسة الرسولية. وقد حدث الاعتراف الكامل بالأسفار المقدسة، فقط حين وُجد أن تركيبها الداخلي وتناغمها هو بالضبط نفس التركيب والتناغم الموجود في وديعة الإيمان الرسولي.
اهتمام مجمع نيقية بتوضيح الجوهر الداخلي للإنجيل وإعطائه صيغة رسمية في قانون الإيمان
إن ما نــراه جليًّا تمامـًا في “المجمـع الكبير”، هـو أن “الآبـاء بنيقيـة ـ كما عبَّر ق. أثناسيوس ـ قد تنفسوا روح الكتب المقدسة”[63]. فمن ناحية، اهتم الآباء بتحديد المعنى الأساسي الذي تضمَّنته الكتب المقدسة ـ في العديد من نصوصها ـ فيما يخص علاقة الرب يسوع المسيح بالآب، وقد حققوا ذلك من خلال التعمُّق في الجوهر الداخلي للإنجيل. ولكن من ناحية أخرى، كان اهتمام الآباء أيضًا أن يقدموا صياغة دقيقة ومحددة للإيمان بيسوع المسيح بكونه ابن الله المتجسد، وذلك من خلال استجلاء طبيعة علاقته الحقيقية بالله الآب. وفي هذا الصدد لم يكن أمام الآباء ـ ومن خلال الإعلان الإنجيلي ـ إلاّ أن يشهدوا بإيمانهم بألوهية المسيح الكاملة، بكونه إله من إله، له ذات الجوهر الواحد مع الآب. ومن هنا توصل آباء نيقية ـ ومن خلال جهودهم التفسيرية واللاهوتية ـ إلى الصيغة الفائقة الأهمية: ’هوموأووسيوس‘ (Ðμοούσιος) والذي يعني أن (الابن) ’له ذات الجوهر الواحد مع الآب‘. وترجع أهمية هذه الصيغة إلى أنها قدَّمت في تعبير محدد، العلاقة الكيانية بين الابن المتجسد والآب والتي بُنيَت عليها رسالة العهد الجديد، وفي ضوئها تُفسَّر (وتُربَط) نصوصه المختلفة.
ومن خلال خضوع مجمع نيقية للمعنى (διάνοια) المتضمَّن في الأسفار المقدسة، ومن خلال خضوعه كذلك للفكر التقوي (φρόνημα) الرسولي ـ والذي هو بكل يقين فكر (νοàς) المسيح الذي يملأهم ـ استطاع المجمع أن يوضح البناء الداخلي للإنجيل وأن يعطيه صيغة رسمية في قانون الإيمان، وبذلك أعطى المجمع للأسفار المقدسة سلطة وأوليَّة غير مسبوقة في فكر الكنيسة الجامعة[64]. وباليقين كانت الأناجيل ورسائل بولس الرسول قد قُبلت بشكل غير رسمي وألحقت بأسفار العهد القديم باعتبارها كتبًا مقدسة مقبولة ومعتَرف بها، ولكن (قائمة) الأسفار القانونية المعترف بها لم تتحدد بالضبط إلاّ بعد مجمع نيقية. إذن فلا عجب في أن يكون ق. أثناسيوس ـ والذي يرجع إليه الفضل في ترسيخ مفهوم الـ ’هوموأووسيوس‘ في فكر الكنيسة ـ هو الذي ندين له بأول قائمة محددة “للأسفار القانونية، المُسَلَّمة إلينا والمُعترف بأنها إلهية”. وقد أوضح ق. أثناسيوس ذلك بقوله: “إن هذه الأسفار هي ينابيع الخلاص، ولذلك فكل من يعطش يستطيع أن يمتلئ من الكلمات الحيَّة التي فيها. وفي هذه الأسفار وحدها يتضح قانون التقوى. فلا ندع أي إنسان يضيف إليها شيئًا أو ينتقص منها شيئًا[65]“.
ويتضح من وقائع جلسات مجمع نيقية التي وصلت إلينا، أن مصطلح ’هوموأووسيوس‘ كان يُستخدم في أول الأمر للتفسير والتوضيح، وأنه تكوَّن في داخل إيمان وعبادة الكنيسة، وتشكَّل في ظل تأثير إعلان الله عن ذاته في يسوع المسيح، ليساعد الكنيسة على إدراك معنى (διάνοια) وحقيقة (¢λήθεια) مفاهيم وعبارات وصور (أمثلة) الكتاب المقدس. ويخبرنا ق. أثناسيوس أنه نظرًا للأسلوب المراوغ الذي استخدمه وفسَّر به الأريوسيون الأسفار المقدسة، وضع آباء نيقية فقرات الكتاب المقدس الواحدة تلو الأخرى ـ من العهدين القديم والجديد ـ تحت الدراسة والفحص والتدقيق والمقارنة، مع الأخذ في الاعتبار المجال الذي قيلت فيه والزمان والمكان والشخص والموضوع قيد البحث، وكذلك أسلوب الكتاب المقدس المميَّز في الحديث، وكل ذلك من أجل توضيح الفهم الحقيقي والصحيح لهذه النصوص، ومن أجل كشف ـ بكل أمانة ممكنة ـ المعنى الدقيق الذي تنقله تلك النصوص[66]. وقد رفض الآباء الأفكار الأسطورية والمادية التي أقحمها الأريوسيون على النصوص المقدسة واعتبروها أفكارًا غير كتابية وغير إيمانية[67].
لماذا اضطر الآباء، في تعبيرهم عن الإيمان، لاستخدام مصطلحات لم ترد في الكتاب المقدس؟
لقد وجد الآباء أنفسهم مضطرين أحيانًا لاستخدام عبارات ومصطلحات غير كتابية (لم ترد في الكتاب المقدس) مثل ’أوسيا‘ (οÙσία) و ’هوموأووسيوس‘ (Ðμοούσιος)، وذلك من أجل التعبير بأقصى دقة وتحديد عن معنى (διάνοια) النصوص الكتابية وقوتها (δύναμις) فيما يختص بوحدانية يسوع المسيح غير المنفصلة مع الآب. وعند اتهامهم بأن هذا يعد خروجًا عن الكتب المقدسة، أقرَّ الآباء بأن توضيح وشرح الحق بعبارات مأخوذة من الأسفار المقدسة ـ وليس من أي مصدر آخر ـ هو الأفضل من جهة الدقة والصحة، ولكنهم بالرغم من ذلك أُجبروا ـ بسبب ضلال التفسيرات الخاطئة ـ أن يصيغوا ويشكِّلوا مصطلحات جديدة لكي يحافظوا على الحق وعلى أسس الإيمان السليم، ولكي يحموا هذا الإيمان من سوء الفهم[68]. وكما أوضح ق. أثناسيوس، فإن أهم ما في الموضوع ليس هو كلمات أو مصطلحات بعينها وردت في الكتب المقدسة، بقدر ما هو المعاني التي تنقلها والحقائق التي تشير إليها هذه الكلمات والمصطلحات[69]. وكانت القاعدة العامة عند ق. أثناسيوس: أنه عندما تُستخدم التعبيرات في الحديث عن البشر، فإنها ينبغي أن تُفهم بمعنى يختلف تمامًا عن معناها حين تُستخدم في الحديث عن الله، لأن الله يتمايز عن البشر تمايزًا كليًّا وفائقًا، ولذلك فعندما تُستخدم نفس المصطلحات مع الله ومع الإنسان، يجب أن تُفسر تفسيرًا مختلفًا وفقًا لطبيعة من تشير إليه[70]. وكان التغيير الذي حدث في استخدام اللغة وفي مفهوم المصطلحات ـ تحت تأثير قوة الإنجيل ـ هو ما عبَّر عنه ق. أثناسيوس ورسخه كمبدأ تفسيري هام، حيث قال: “إن التعبيرات(λέξεις) لا تنتقص من طبيعته (أي طبيعة الله)، بل بالأحرى فإن طبيعة الله تسحب هذه التعبيرات إليها وتحولها. لأن التعبيرات لم تسبق الكيانات (οÜσiαι)، بل الكيانات كانت أولاً ثم جاءت التعبيرات (التي تعبِّر عن هذه الكيانات وتشير إليها)[71]“. ولا ينطبق هذا المبدأ التفسيري على فهمنا لمصطلحات وتعبيرات الكتاب المقدس فقط، ولكنه يحكم أيضًا التعبيرات التي نأتي بها نحن لشرح وتفسير الكتاب المقدس. ولذلك فإن مصطلحات مثل ’أوسيا‘ (οÙσία) و’هوموأووسيوس‘ (Ðμοούσιος)، التي استخدمت في الحديث عن الله في مجمع نيقية، لم تُوظف بنفس المعنى المعتاد لها في المراجع اليونانية، ولكن أُعطيت معنى جديدًا تحت تأثير إعلان الله عن ذاته في يسوع المسيح والذي غيَّر معاني هذه المصطلحات وأعطاها أبعادًا جديدة[72].
الدور التفسيري لمصطلح ’هوموأووسيوس‘
ومن هذا المنظور، كان التعبير النيقي: أن الابن ’له ذات الجوهر الواحد‘ مع الآب (Ðμοούσιος τù Πατρί) يعتبر أداة تفسيرية بالإضافة إلى كونه أداة لاهوتية. ومع التسليم بأن هذا التعبير كان يُعتبر في البداية تعبيرًا لاهوتيًّا قاطعًا ـ نشأ من الفحص الدقيق لعبارات الكتاب المقدس وأنماط الحديث الواردة فيه، وتمت صياغته في شكل موجز (مضغوط) بلغة دقيقة ومكافئة ليس لنص كلمات الكتاب المقدس بعينها وإنما للمعنى أو الحقيقة التي تنقلها أو تشير إليها هذه الكلمات[73] ـ ولكن مع ذلك فإنه بمجرد استقرار هذا التعبير كأداة لاهوتية (تساعد الفكر على الإدراك)، بدأ يساهم أيضًا كمرشد لفهم الكتب المقدسة، وكأساس إيماني رئيسي يُرجع إليه عند تعليم المؤمنين. وعلى حد قول ق. أثناسيوس، فإن الكنيسة عندما تدخل في مثل هذا الإدراك اللاهوتي (الذي يقدمه مفهوم ’هوموأووسيوس‘)، تكون قد وضعت قدميها على الأساس الرسولي الثابت، وتكون قادرة على أن تُسلِّم للجيل التالي التعليم الصحيح كما قد تسلَّمته من الجيل السابق بدون تحريف أو تشويه[74].
وبعد أن تثبت مفهوم الـ ’هوموأووسيوس‘ (في الكنيسة) على هذا النحو، ساهم هذا المفهوم أيضًا في إعادة صياغة وتشكيل أنماط الفكر الهلليني (اليوناني) كما ذكرنا في فصل سابق*. فنجد أن معاني بعض المصطلحات مثل ’أوسيا‘ (οÙσία) و’هيبوستاسيس‘ (Øπόστασις) وكذلك ’لوغوس‘ (λόγος) و’إنرجيا‘ (νέργεια)، قد خضعت لتغييرات جذرية من خلال الاستخدام الذي وُظِّفت فيه وذلك أثناء عمل الكنيسة التفسيري واللاهوتي. وأصبح ينبغي أن تُفهم معاني هذه المصطلحات في ضوء رسالة الإنجيل التي استُخدمت (هذه المصطلحات) لنقلها، أي في ضوء حقيقة: إن الله ـ الذي هو المصدر الخالق لكل الوجود ـ قد صار إنسانًا وواحدًا معنا، لكي نُعطى بالابن وفي الروح القدس سبيلاً إلى الآب وفقًا لما هو في ذاته. ومن هنا كان يُعد تعبير ’له ذات الجوهر الواحد‘ مع الآب (Ðμοούσιος τù Πατρί) أنه تعبير فذ وحاسم: لأنه عبَّر عن حقيقة أن ’ما هو‘ الله نحونا ـ وفي وسطنا ـ من خلال الكلمة الذي صار جسدًا، هو بالحقيقة نفس ’ما هو‘ الله في ذاته#؛ أي إن ’ما هو‘ الله في العلاقات الداخلية لجوهره الفائق ـ كآب وابن وروح قدس ـ هو نفس ’ما هو‘ الله في عمله الإعلاني والخلاصي نحو البشر في الزمان والمكان[75].
المدلول اللاهوتي لمصطلح ’أوسيا، (οÙσία) ومصطلح ’هيبوستاسيس‘ (Øπόστασις)
تشير كلمة ’أوسيا‘ (οÙσία) في استخدامها اللاهوتي الحالي إلى ’الجوهر‘، ولكن ليس ببساطة كما ما هو عليه (أي لا تشير إلى الجوهر في صورة عامة مجردة)، وإنما تشير إلى ماهية هذا الجوهر فيما يتعلق بحقيقته الداخلية. وتشير كلمة ’هيبوستاسيس‘ (Øπόστασις) إلى ’الجوهر‘، ليس في وجوده المستقل، بل في توجهه أو هدفه الآخري (الذي نحو الآخر). وطبقًا لشرح برستيج، فإن ’أوسيا‘ تعني الجوهر في ’مدلوله الداخلي‘، بينما تعني ’هيبوستاسيس‘ الجوهر في ’مدلوله الخارجي‘[76]. ومما يتعيَّن ذكره أيضًا أن هذه المصطلحات في الاستخدام اللاهوتي تحمل بالضرورة ضمنيًّا المعنى أو المفهوم الشخصي (الأقنومي)، وهو ما لم تكن تتضمَّنه تلك المصطلحات في استخدامها في اللغة اليونانية الكلاسيكية. إذن فمصطلح ’هوموأووسيوس‘ (Ðμοούσιος) يشير إلى علاقات شخصية (أقنومية) كائنة في اللاهوت، ففي جوهر الله الواحد: الآب والابن والروح القدس كل منهم متمايز (¨λλος) عن الآخر وهم جميعًا لهم ذات الجوهر الواحد؛ ومن جهة عــلاقة كــل منهــم بالآخــر فإنهـم في علاقة أقنومية (Øποστατός, Øποστατικός) مع بعضهم البعض، أو يمكن القول إنهم في علاقة كيانية أقنومية داخل الجوهر الواحد (νυπόστατος, νυποστατικός). ووحدانية الابن والروح القدس في ذات الجوهر إنما تشير إلى أن لهما ذات الجوهر الواحد مع الله الآب، كما أنها تشير كذلك إلى وحدتهما وتساويهما المطلق معه داخل هذا الجوهر الواحد غير المنقسم. وهكذا صارت الصيغة “جوهر واحد، ثلاثة أقانيم” (μία οÙσία, τρες Øποστάσεις) صيغة إيمانية مقبولة عند التحدث عن الثالوث القدوس[77].
وهنا يجب أن نتذكر التغيير الذي حدث في الفهم اللاهوتي لجوهر الله، بفضل ما تضمَّنته التعبيرات التي قدَّمها ق. أثناسيوس عن: ’اللوغوس الكائن في الجوهر‘ (νούσιος Λόγος) و’الفعل (أو الطاقة) الكائن في الجوهر‘ (νούσιος νέργεια)، وقد تعرَّضنا لهذه التعبيرات في مناسبة سابقة*. فإذا كان ’ما هو‘ الله في ذاته هو نفس ’ما هو‘ في شخص وفعل ابنه وكلمته المتجسد، فإن جوهر (οÙσία) الله يجب أن يُفهم بشكل مختلف تمامًا عما كان في الفكر اليوناني. فبالنسبة لله، ’اللوغوس الكائن في الجوهر‘ (νούσιος Λόγος) و’الفعل (أو الطاقة) الكائن في الجوهر‘ (νούσιος νέργεια)، إنما يعبِّران عن حقيقة أن جوهر الله ليس بلا كلمة أو بلا فعل، أي ليس صامتًا أو خاملاً (ساكنًا)، بل هو بليغ وفعَّال. وجوهر الله ينبغي فهمه بكونه جوهر متحدِّث وبليغ، لأن ’جوهر‘ الله و’كلمته‘ متلازمان وكائن كل منهما في الآخر بغير انفصال، فصميم ’جوهره‘ هو الكلمة وصميم ’كلمته‘ هو الجوهر. وبالمثل أيضًا، فإن جوهر الله هو جوهر فعَّال (ديناميكي)، لأن ’جوهر‘ الله و ’فعله أو طاقته‘ متلازمان وكائن كل منهما في الآخر بغير انفصال، فجوهره هو هو فعله الكائن في جوهره وفعله هو هو جوهره الكائن في فعله*.
وهكذا صاغ آباء نيقية مصطلح ’هوموأووسيوس‘ (Ðμοούσιος) تحت تأثير إعلان الله عن ذاته، وعمله الخلاصي في يسوع المسيح، وقد ساهم هذا المصطلح بالفعل في دعم وتعميق العقيدة المسيحية المتميزة عن الله.
ثانيًا: الأهمية الإنجيلية لمصطلح ’هوموأووسيوس‘ (Ðμοούσιος)
مفهوم ’هوموأووسيوس‘ هو المفصل الذي يدور عليه قانون الإيمان النّيقيّ كله
لقد أصبح واضحًا لدينا الآن أن المناقشات التي جرت في نيقية والقرارت التي اتُخِذت هناك، لم تكن في الأساس تختص بأمور غيبية أو ميتافيزيقية (أي فيما وراء الطبيعة)، على الرغم من أن مثل هذه القضايا (الميتافيزيقية) وغيرها من المسائل التفسيرية كانت متضمَّنة داخل تلك المناقشات. ولكن الموضوع الرئيسي محل الاهتمام كان هو الوحدانية بين يسوع المسيح والله الآب في ذات الجوهر والفعل والقول، ومدى تأثير ذلك على صحة الرسالة الإنجيلية. وكان على الآباء أن يتخذوا القرار الحاسم فيما يخص هذا الموضوع، وهذا بالفعل هو ما قد تم في نيقية.
وكان القصد الأساسي ـ في مجمعي نيقية والقسطنطينية ـ من صياغة مصطلح ’هوموأووسيوس‘ والتمسك به، هو الالتزام الأمين بما جاء في الإنجيل الذي اؤتُمِنَت عليه الكنيسة، وتقديم اعتراف رسمي بالإيمان يحمل في جوهره ’الحق‘ الإنجيلي الأسمى الذي تأسست عليه الكنيسة. وبدلاً من فرض الفكر الهلليني على الإنجيل[78]، تم تعديل معاني المصطلحات الهللينية* حتى يمكن توظيفها لخدمة تعليم وشهادة إنجيل العهد الجديد بلا أي تحريف أو ضلال.
وعلى هذا النحو، تحوَّل مصطلح ’هوموأووسيوس‘ من كونه مجرد مصطلح لغوي بسيط، إلى أن أصبح يمثل مفهومًا فكريًّا كاملاً، لا يستطيع العقل الورع إلاّ أن يقبله إذا أراد أن يكون وفق الحق المُعلن في المسيح يسوع. وصار (هذا المصطلح) بذلك هو المفصل الذي يدور عليه قانون الإيمان النيقي كله، كما ظل هو المفهوم الرئيسي الذي حافظت عليه الكنيسة، وطالما عادت إليه في فهم وإعلان بشارة الإنجيل. وما يعنينا هنا بالدرجة الأولى هو إدراك تأثير الـ ’هوموأووسيوس‘ على رسالة الإنجيل، والذي نستطيع من خلاله أن نحكم على هذا المصطلح ونكتشف أهميته.
ويمكننا إبراز الأهمية الإنجيلية لمصطلح ’هوموأووسيوس‘ من خلال طرح هذه التساؤلات:
– ما الذي يمكن أن يحدث إذا لم تكن هناك وحدانية في ذات الجوهر بين يسوع المسيح والله الآب؟
– وإذا لم تكن هناك وحدانية في الجوهر وفي القدرة بين المسيح والله (الآب)، فما هو تأثير ذلك على فهمنا للمسيح بكونه الرب والمخلِّص، وماذا يمكن أن يحدث لرسالة الإنجيل التي تعلن عن محبة الله الخلاصية؟
– وماذا يعني كل ذلك بالنسبة لمعرفتنا لله ذاته؟
ولنبدأ الآن بمناقشة السؤال الأول.
ما الذي يمكن أن يحدث إذا لم تكن هناك وحدانية في ذات الجوهر بين الابن المتجسد والله الآب؟
هنا نجد أن الأهمية الرئيسية والشاملة لمصطلح ’هوموأووسيوس‘ تكمن في تأكيده الدامغ على أن يسوع المسيح هو ’الله‘، وبكونه ’الله‘ فهو يشترك مع الآب (وبصورة متطابقة ومطلقة) في ذات جوهر اللاهوت الواحد. وبكونه الابن الوحيد المولود من الآب، فهو التجسيد التام لكيان الله بالكامل، كما أنه هو إعلان الله الفريد عن ذاته لأنه الكلمة الذي صار جسدًا. ومن جانب آخر، إن لم يكن يسوع المسيح هو الله ـ كما زعم أريوس ـ فلابد عندئذ أن نعتبر أنه مخلوق من العدم، وبالتالي يكون ’خارجًا‘ عن الله (الخالق)، و’مختلفًا‘ تمامًا عن جوهره، بل و’غريبًا‘ عنه، ويترتب على ذلك ـ كما كان يؤكد أريوس ـ أن الله لا يمكن على الإطلاق معرفته، لأنه لا يوجد مخلوق (وهنا يقصد المسيح) مهما علت مرتبته يستطيع التوصل إلى معرفة حقيقية عن الله.
وهذا يعني أنه إذا فصلنا بين جوهر الابن المتجسد وبين جوهر الآب[79]، فلن نستطيع عندئذ أن نقول أنه توجد أية وحدانية بين ما يقدمه الإنجيل من إعلان عن الله (في المسيح) وبين الله ذاته. وإذا لم يكن ’ما هو‘ الله في ذاته هو نفس ’ما هو‘ في الرب يسوع المسيح، فلن يكون هناك تطابق بين الله وبين مضمون إعلانه عن ذاته (في المسيح)، ولن يستطيع البشر عندئذ الوصول إلى الآب بالابن في الروح القدس. وسنكون حينئذٍ في جهل تام عن الله، وسيكون الله بالنسبة لنا مبهمًا ومجهولاً تمامًا، فلا نستطيع أن نفكر فيه أو نتحدث عنه.
وقد عبَّر ق. أثناسيوس عن ذلك بقوله: لو كان الابن منفصلاً عن الآب، أو لو أن الكلمة لم يكن كائناً منذ الأزل في الله، لكان جوهـر الله صــامــتـًا تمامـًا (¨λογος) ـ بالضبــط مثل نور لا يشع (μή φωτίζων)، أو أرض جرداء بلا خصوبة (ρημος)، أو مثل ينبوع جاف (لا ينبع منه شيء) أو حفرة خاوية (λάκκος)[80]. والحقيقة الأساسية التي يؤكِّدها ق. باسيليوس هي أنه لو كان الابن مخلوقًا، لما كان للبشر أية معرفة عن الله على الإطلاق[81]. ولن يكون لدى الكنيسة في تلك الحالة إلاّ بعض الفهم البشري ـ الذي مركزه في الإنسان وليس في الله ـ لكي ما تطبقه على الله وتقدِّمه في شكل ’إعلان‘ زائف. وقد أشار ق. أثناسيوس في أحيان كثيرة إلى أن الهراطقة يتاجرون في هذا النوع من ’الإعلان‘ الزائف الذي يبتكرونه (κατ’ ε̉πίνοιαν) وفقًا لخيالاتهم الشخصية، بدلاً من أن يكون هذا الإعلان أمرًا يتسلَّموه ويدركوه (κατά διάνοιαν) وفقًا لحقيقة الله الموضوعية. وإذا لم يكن الله نفسه ’في كيانه الذاتي‘ (كآب وابن وروح قدس) هو ما يعنينا في أمر ’الإعلان الإلهي‘، فإننا في هذه الحالة نكون قد انشغلنا بالميثولوجيا (μυθολογία) أي معرفة الله من خلال الأساطير، وليس بالثيؤلوجيا (θεολογία) أي المعرفة اللاهوتية الحقيقية. وأيضًا إذا كان المسيح منفصلاً عن الله، فلن يكون هو نفسه مركزًا لكل الإنجيل (البشارة المفرحة) بل مجرد شخص زائل يمثل الله، أو صورة رمزية له فقط لا غير، وكان هذا سيؤدي بالتأكيد ـ كما ادعى أريوس ـ إلى عدد لا يُحصى من ’كلمات‘ الله و’صوره‘[82].
ومَن يكون هذا الإله الذي نعبده إذن، لو لم يكن المسيح (الذي حلّ بيننا) هو إعلان الله الذاتي لنا واتصاله الذاتي بنا؟ فلو أن الأمر كذلك، ألاّ يكون الله عندئذ هو من لا يعبأ بأن يُعلن ذاته لنا، ولم يتنازل لإظهار ذاته لنا في المسيح يسوع، أو يمكن حتى أن نقول إن محبته ستكون عندئذٍ قد عجزت عن أن يصير واحدًا معنا؟ وكان هذا سيعني بالتأكيد أنه لا توجد علاقة ’من حيث الوجود‘ وبالتالي ’من حيث المعرفة‘ بين محبة المسيح ومحبة الله ـ أي إننا بالحقيقة لن نجد إعلانًا عن محبة الله، بل على العكس سنجد ما يدعو للسخرية، لأنه في حين يُقال إن الله أظهر محبته لنا في المسيح يسوع، إلاّ أن المسيح (في هذه الحالة) لن يكون بالحقيقة هو نفس هذه المحبة في ذاته!
وقد رأى آباء نيقية أن هذه الأفكار وما يترتب عليها تنطوي على تناقض شديد مع رسالة الإنجيل التي تقول إن الإيمان بالرب يسوع المسيح هو الإيمان بالله ذاته. ولذلك أدخلوا تعبير ’هوموأووسيوس‘ في قانون الإيمان، ليؤكدوا على الحقيقة العظمى في أن الله قد أعلن لنا ذاته في التجسد، وأن الله واحد تمامًا مع إعلانه هذا. فكل شيء يعتمد على الوحدانية في ’الجوهر‘ و’الفعل‘ و’القول‘ بين يسوع المسيح الابن الوحيد المتجسد والله الآب. وإن لم تكن هذه الوحدانية في ذات الجوهر أمرًا حقيقيًّا وصادقًا، لفقد الإنجيل ’الأساس‘ الفعلي لإعلان الله الذاتي لنا واتصاله الذاتي بنا في المسيح يسوع، وهذا الأساس هو ما يجعل الإنجيل يصير إنجيلاً (أي بشارة مفرحة حقيقية).
وعلاوة على ذلك كما رأينا، فإن تعبير ’له ذات الجوهر الواحد‘ (Ðμοούσιος) مع الآب إنما يعبِّر عن الوحدانية المطلقة بين ’أنا هو‘ الخاصة بالرب يسوع و ’أنا هو‘ الخاصة بالله الآب ضابط الكل، لأن ابن الله في شخصه المتجسد هو الذي نستطيع فيه أن نعرف الآب وفقًا لما هو في ذاته، ونعرفه معرفة دقيقة وحقيقية وفقًا لطبيعته الإلهية. ويؤكِّد مصطلح ’هوموأووسيوس‘ أن ’ما هو‘ الله في ذاته منذ الأزل هو نفس ’ما هو‘ في يسوع المسيح، وبالتالي فليس هناك إله آخر (مجهول) بعيد عن الرب يسوع المسيح، بل هو فقط (الإله) الذي قد صار معروفًا لنا في يسوع المسيح. وهذا ما نسمعه من ق. أثناسيوس حين يقول “إن معرفة الآب من خلال الابن ومعرفة الابن من الآب هما نفس الشيء تمامًا[83]“، ويردد ق. باسيليوس ما قاله ق. أثناسيوس: “كل ما للآب يُرى في الابن، وكل ما للابن هو للآب، لأن الابن بجملته هو في الآب وله كل ما هو للآب في ذاته. وبذلك فإن أقنوم الابن كما لو كان هو هيئة ووجه معرفة الآب، كما أن أقنوم الآب يُعرَف في هيئة الابن[84]“.
وجدير بالذكر هنا، أن مصطلح ’هوموأووسيوس‘ ينطبق (تبعيًّا) على العلاقة بين الابن ’المتجسد‘ والله الآب. وهذا يعني أن هذا المصطلح يؤكد حقيقة ’بشرية‘ المسيح، وحقيقة أن كل ما أعلنه (المسيح) لنا وما صنعه من أجلنا إنما قد تم وهو في وحدانية غير منفصلة في جوهر الله الأزلي. وقد أشرنا سابقًا إلى أهمية ما قاله ق. أثناسيوس بأن الابن المتجسد أو ’بشرية الرب‘ أو ’الإنسان الرباني ـ Dominical Man‘ ـ على حد تعبير ق. أثناسيوس ـ يعتبر رأس (أو أول) طرق الله* لأجلنا[85]، مما كان له أكبر الأثر في الفهم المسيحي لله وفقًا ’لما هو‘ في ذاته وما قد أعلنه لنا عن ذاته. ولا بد لنا من أن نشير إلى أن أهمية مصطلح ’هوموأووسيوس‘ تكمن في ارتباط المسيح، وهو في حقيقة وكمال بشريته، بحقيقته وكماله بكونه ابن الآب الأزلي. وما يجب علينا هنا أن نعيه تمامًا هو كمال بشرية (إنسانية) المسيح: أي إن الابن (في التجسد) اتحد بطبيعة بشرية كاملة في زمان ومكان محدد، لذا فالمسيح هو أخ لنا، لحم من لحمنا ودم من دمنا[86]. وبالتحديد كما أنه بكونه الابن المتجسد هو شريك مع الآب في ذات الجوهر والطبيعة الواحدة منذ الأزل، فكذلك أيضًا شاركنا كياننا وطبيعتنا البشرية المخلوقة. ومن المدهش فعلاً أن الإنجيل كشف لنا أن الله ذاته جاء بيننا كإنسان[87]، وليس مجرد أنه أقام أو سكن في إنسان بل إنه هو نفسه صار إنسانًا كاملاً. وهكذا هو يلتقي بنا، ويعلن ذاته لنا، لأنه يشاركنا في كل كياننا وطبيعتنا البشرية: في الجسد والعقل والنفس[88].
وكانت هذه هي إحدى حقائق الإنجيل الأوليَّة التي سعى الأريوسيون إلى إغفالها إصرارًا منهم على إبقاء الله على مسافة بعيدة للغاية عن الإنسان، ولذا فقد نادوا بفكرة غريبة مفادها أنه بما أن المخلوقات لا تحتمل حضور الله المطلق أو يد الله، فقد خلق الله اللوغوس أولاً، ثم من خلال اللوغوس وبواسطته أحضر بقية الخليقة إلى الوجود[89]. ولذلك اعتبر الأريوسيون أن اللوغوس يحتل مكانة ودور مخلوق متوسط بين الله والعالم. وقد انزعج آباء نيقية جدًّا عند سماعهم تلك الأقوال، وصمّموا بالإجماع على استبعاد الهرطقة الأريوسية بشكل قاطع ـ وكان هذا هو الهدف الأول لتعبير ’له ذات الجوهر الواحد مع الآب‘ (Ðμοούσιος τù Πατρί)[90]. وفي وجه النزعات الانقسامية الخاصة “بفصل الابن، غير القابل للإنفصال، عن الآب” ـ تلك النزعات التي “مزَّقت رداء المسيح” و “ثوب الله الذي بغير خياطة” ـ كان لمصطلح ’هوموأووسيوس‘ أكبر الأثر في رفض ثنائية الفكر، والحفاظ على حقيقة وكمال طبيعة المسيح الإنسانية، التي يتأسس عليها كمال وحقيقة خلاصنا[91]. وتُعد هذه النقطة ذات أهمية خاصة في فهمنا للوحدانية في ذات الجوهر بين الابن ’المتجسد‘ والله الآب ـ لأن هذه الوحدانية هي التي تربط الخلق والفداء معًا، حيث تكون محبة الله هي القاعدة الحقيقية التي يرسو عليها كل موضوع الخلق. ولذلك فإن عدم قبول هذه الحقيقة ـ أي الوحدة في ذات الجوهر بين المسيح والله ـ يعتبر رفضًا لنظرة المسيحية نحو الله والخلق والفداء، لأن كل شيء يعتمد في النهاية على حقيقة وكمال بشرية الابن المتجسد ووحدانيته في ذات الجوهر مع الله الآب.
ماذا يمكن أن يحدث لو لم تكن هناك وحدانية في القدرة والعمل بين الابن المتجسد والله الآب؟
وحين ننتقل إلى السؤال الثاني، سنجد أن تعبير ’له ذات الجوهر الواحد مع الآب‘ (Ðμοούσιος τù Πατρί) قد أكَّد بوضوح عدم وجود انفصال ليس فقط بين جوهر الابن وجوهر الآب، بل أيضا بين أعمال الابن وأعمال الله الآب. وحين قال السيد المسيح في إنجيل ق. يوحنا: “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل”، فقد كان يطابق بين عمله وعمل الله الخالق[92]. ويقول ق. أثناسيوس: “هو الذي صنعنا بكلمته، صنع كل الأشياء الصغيرة منها والكبيرة. وليس لنا أن نقسم الخليقة ونقول إن هذا صنعه الآب وذاك صنعه الابن، لأن الكل صنعه الله الواحد الذي يعمل بكلمته الحقيقي مثل يده ويخلق الكل به ’لنا إله واحد، الآب الذي منه جميع الأشياء، ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء‘[93]“. ولكن إذا فصلنا بين الابن والآب، فإن ذلك سوف يجعلنا بالتالي نفصل عمل الابن عن عمل الآب، لأنه سوف ينزل بعمل الابن إلى مستوى عمل المخلوق[94]. فلو لم يكن يسوع المسيح هو نفسه الله، لغاب كل سلطان وكل شرعية في أي شيء قاله أو صنعه لأجل البشر؛ ولو لم يكن هو الله لما استطاع أن يعمل كإله؛ ولو لم يكن هو الخالق لما استطاع أن يخلِّص ويعيد خلقة البشرية[95] كما أكَّد ق. أثناسيوس أنه “لا يمكن لمخلوق أن يخلِّص مخلوقًا أبدًا[96]“.
إذن فللإجابة عن سؤالنا الافتراضي، لا بد أن نقول إنه لو فُصلت أعمال يسوع المسيح عن أعمال الله الآب ضابط الكل خالق السماء والأرض وكل الأشياء ما يُرى وما لا يُرى، لسقط أساس الإنجيل كله. ولو اعتبرنا أن ما صنعـه المسيـح لأجلنـا ليس هـو عمــل الله الذي صـار إنسـانًا بل فقـط هـو عمــل إنســــــــان قد لُقّــِب بـ ’ابن الله‘ ـ كمكافأةٍ له مقابل خدمته للآخرين من البشر ـ لكان المسيح لا يجسد نعمة (χάρις) الله الخلاصية للبشر، ولكان عاجزًا تمامًا عن عمل التأليه (θεοποίησις)[97]. وفي المقابل، إذا كان يسوع المسيح لا ينفصل لا في ’الجوهر‘ ولا في ’العمل‘ عن الله الآب، فإنه بالتالي يكون ’بالجوهر‘ و’بالعمل‘ ـ وفي حضوره المتجسد وتدبيره الخلاصي ـ هو إعطاء الله ذاته للجنس البشري[98]. وهكذا فكما أن تعبير ’له ذات الجوهر الواحد مع الآب‘ يؤكد أن الله ذاته هو ’مضمون‘ إعلانه ’في يسوع المسيح‘، فإن هذا التعبير أيضًا يؤكد أن الله ذاته هو محتوى (أو مضمون) نعمته الخلاصية ’في يسوع المسيح‘[99]. ففي يسوع المسيح: مُعطي النعمة وعطية النعمة هما واحد تمامًا*، لأن في المسيح وبالمسيح لا يكون إلاّ الله ذاته هو الذي يعمل لأجلنا ولأجل خلاصنا[100].
وكان المصطلح المميَّز الذي استُخدم ـ في الفكر اللاهوتي الآبائي المدوَّن باليونانية ـ للتعبير عن إعطاء الله ذاته للجنس البشري بالمسيح وفي الروح القدس: هو التأله# (θέωσις)[101]. فالمسيح لم يكن إلهًا لأنه يشترك في الله، بل هو ذاته الله بالتمام والكمال وله ذات الجوهر الواحد مع الآب. وبفضل حقيقته الإلهية، وحضوره المتجسد داخل الجنس البشري، فهو يعمل في البشر بفعله الإلهي الخالق بطريقة فائقة، جاعلاً إياهم يشتركون فيه من خلال النعمة، وبهذا يشتركون في الله. وهكذا فإن مصطلح التأليه (θεοποίησις) أو التأله (θέωσις) قد اُستخدم لوصف الفعل الفريد لله المتجسد*، ذلك الفعل الذي يلازم جوهره الإلهي بغير انفصال: فهو فعله الكائن في جوهره أو هو جوهره الكائن في فعله. فيسوع المسيح في شخصه المتجسد هو فعل الله الفريد الذي به نخلص ونتجدد، ولكن بطبيعة الحال نحن لا نحصل على الخلاص أو التجديد بواسطة عمل المسيح دون أن نكون متحدين به وشركاء فيه. وقد بنى لاهوتيّو نيقية مفهومهم عن التأليه (θεοποίησις) معتمدين على قول الرب في إنجيل يوحنا (35:10)، بأن الكتب المقدسة قد دعتهم “آلهة (θεοί) أولئك الذين صار(ت) إليهم كلمة# الله[102]“. وقد فهم الآباء أن هذا يشير إلى أولئك الذين رغم أنهم مخلوقون قد صاروا شركاء ’للكلمة‘ بواسطة فعله الخالق فيهم. فالمسيح وحده هو الله (Θεός)، إله حق من إله حق، وهو وحده الابن الحقيقي للآب، ولكن بواسطة فعله ’التأليهي‘ (θεοποίησις)، تم تبنينا وصرنا أبناءً لله فيه، ومن هذا المنطلق فإن أولئك الذين من خلال الاتحاد بالمسيح قد قبلوا نعمة ونور روحه القدوس يُقال عنهم أنهم ’آلهة‘ (θεοί)[103].
وفي تطبيقهم لمصطلح ’هوموأووسيوس‘ على الابن المتجسد وكلمة الله، رفض آباء نيقية رفضًا قاطعًا فكرة أنه مخلوق متوسط (بين الله والإنسان)، بل بالأحرى رأوا أنه ينبغي النظر إليه على أنه وسيط بكل ما تعنيه الكلمة، وذلك بكونه هو الله وإنسانًا في آنٍ واحد. ففي الابن المتجسد، الله ذاته وهو في جوهره الأزلي، قد تنازل ليصير إنسانًا، وذلك لكي يعطي ذاته ويعلن ذاته ـ وليس جزءً من ذاته ـ للبشرية. وبنفس الطريقة عند تطبيقهم مفهوم الـ ’هوموأووسيوس‘ على عطية النعمة، رفض الآباء رفضًا قاطعًا فكرة أن النعمة هي مجال مخلوق بين الله والإنسان، بل على العكس اعتبروا أن النعمة هي إعطاء الله ذاته لنا في ابنه المتجسد، والذي فيه (أي في الابن المتجسد) المُعطي والعطية هما واحد بغير انفصال[104]. ويقول ق. أثناسيوس: “من خلال الابن نحن نُعطى ما نُعطَى، فالآب لا يعمل شيئًا إلاّ بالابن، لذلك فالنعمة محفوظة لمَن يحصل عليها[105]“. وفي ظل هذا النمط من العطاء الذي تحكمه الوحدانية التي بين الآب والابن، فإن النعمة لا يمكن أن تكون هبة إلهية ’قابلة للانفصال‘ عن الله أو ’قابلة للانتقال‘ منه لتُعطى للإنسان، وهي التي بفضلها يصير الإنسان بصورة ما ’مؤلَّهًا‘ أو ’إلهيًّا‘*[106].
إن نعمة ربنا يسوع المسيح ينبغي أن نفهمها بنفس الطريقة التي نفهم بها حقيقة الروح القدس الذي كما عبَّر قانون الإيمان النيقي القسطنطيني عنه، هو ’الرب المحيي‘. وقد أكد ق. أثناسيوس هذه النقطة مرات كثيرة وبصفة خاصة في رسائله إلى سرابيون إذ قال: “إن الروح القدس هو هو بغير تغيير على الدوام، وهو لا ينتمي إلى طبيعة الذين يشتركون فيه رغم أن كل الأشياء تشترك فيه[107]“. كذلك أيضًا النعمة، لأن النعمة هي ’إعطاء‘ الله ذاته لنا في المسيح يسوع، ولا يمكن فصلها، أو بالحري فصله (أي المسيح) عن الله بأي شكل من الأشكال، لأنه واحد في ذات الجوهر مع الله ’المعطي‘[108]. وإعطاء الله ذاته لنا في النعمة لا يمكن فصله أبدًا عن الجوهر الواحد والفعل الواحد الذي للثالوث القدوس. ويقول ق. أثناسيوس في ذلك: “الثالوث القدوس المبارك واحد في ذاته بغير انقسام. وعندما يُذكر الآب، فإن ذلك يتضمن كلمته والروح القدس الذي هو في الابن. وعندما يُذكر الابن، فإن الآب هو في الابن والروح القدس ليس خارج الكلمة. لأنه توجد نعمة واحدة من الآب تتحقق بالابن في الروح القدس[109]“. ويعود ق. أثناسيوس ليؤكِّد مرة أخرى: “هذه النعمة والعطية التي تُعطى، إنما تُعطى في الثالوث القدوس، من الآب بالابن في الروح القدس. وكما أن النعمة المعطاة لنا هي من الآب بالابن، فإنه لا تكون لنا شركة في العطية إلاّ في الروح القدس. لأننا حينما نشترك فيه، تكون لنا محبة الآب ونعمة الابن وشركة الروح القدس ذاته[110]“.
ولمصطلح ’هوموأووسيوس‘ أهمية إنجيلية تتضح تمامًا في أعمال المسيح الخلاصية مثل الشفاء والغفران والمصالحة وفداء البشرية الساقطة، لأن هذا المصطلح أكَّد بأقصى ما يمكن على أن كل هذه الأعمال تمت نتيجة علاقة الوحدة غير المنفصلة والشركة التامة الكاملة بين يسوع المسيح والله الآب. كما تكمن أهمية موضوع التأليه (θεοποίησις) في تأكيده القاطع على الوحدانية في الفعل كما في الجوهر بين الابن والآب، مما يجعل أعمال المسيح الخلاصية في الإنجيل هي نفسها أعمال الله ذاته ’لأجلنا ولأجل خلاصنا‘. وهكذا ينكشف مدى تأثير وشرعية هذه الأعمال من خلال الإصرار على أن هذه الأعمال هي تلك التي يستطيع الله الآب وحده ـ بكونه ضابط الكل خالق السماء والأرض ما يرى وما لا يرى ـ أن يعملها.
وبدون هذا الأساس ـ كما رأى آباء نيقية ـ فإننا نفرغ الإنجيل من جوهره الخلاصي. وعلى سبيل المثال: ماذا تكون قيمة وفاعلية كلمة الغفران التي قالها السيد المسيح لأحد الخطاة لو أن المسيح كان مجرد مخلوق، لأن الله وحده هو الذي يستطيع أن يغفر الخطايا ـ وهو يغفرها بالفعل كما لو كان الخاطىء لم يفعل هذه الخطية ـ بل ويجدد كيانه أيضًا؟ الحقيقة أنه فلو لم تكن كلمات يسوع المسيح وأعمال محبته الغافرة مؤسسة على كيان الله وحقيقته، لما كان لها أي أثر أو معنى.
ثم ماذا عن آلام السيد المسيح وفدائه للبشرية؟ وماذا تكون غاية الصليب لو أن المسيح الذي عليه كان منفصلاً عن الله، أي لو أن المسيح وهو على الصليب كان مجرد مخلوق والله بعيد تمامًا عنه ومنعزلاً في كيانه الإلهي؟ كيف كان ممكنًا أن يتم الفداء ما لم يكن الله ذاته ـ في حبه وتحننه الفائق ـ هو الذي أتى إلينا في يسوع المسيح ليجعل طبيعتنا وموتنا خاصًّا به من أجل خلاصنا؟ وكان هذا هو السؤال الذي طرحه ق. أثناسيوس في جداله الطويل مع الأريوسيين، حيث أظهر أنه في يسوع المسيح اتخذ ابن الله الأزلي ’شكل العبد‘ ليصير بالتحديد كاهنًا وذبيحة (في آنٍ واحد)، وذلك في تدبيره الخلاصي لأجلنا[111]. ولم يكن لدى آباء نيقية أدنى شك في أن موت المسيح على الصليب كان هو عمل الله نفسه ـ في أعماق وجودنا البشري المخلوق ـ من أجل خلاصنا، وإلاّ فيكون ما حدث على الصليب بلا أي معنى أو فائدة. وقد عبَّر ق. غريغوريوس النزينزي عن هذا المعنى في عظة في عيد الفصح: “الله مصلوب … هذه هي ’المعجزة‘. لقد كنا في حاجة إلى إله يتجسد، إله يموت لكي نحيا نحن. فكلنا قد متنا معه حتى نتطهر، وقد قمنا ثانيةً معه لأننا متنا معه. وقد تمجَّدنا معه لأننا قمنا معه[112]“. إذن فهذا الفداء يكون مفرغًا من مضمونه تمامًا، لو لم يكن الابن المتجسد، الإله الحق من الإله الحق، هو الذي تألم ومات لأجلنا على الصليب.
ثم ماذا عن المصير النهائي للبشرية عندما يأتي السيد المسيح في مجيئه الثاني ليدين الأحياء والأموات؟ كيف يكون التفكير في ذلك لو لم يكن يسوع المسيح هو نور من نور، إله حق من إله حق، بل مجرد كيان زائل يرحل عن هذا العالم مع بقية الخليقة؟ ولن يكون السيد المسيح في هذه الحالة كفيلاً لمستقبلنا، بل سيكون كل ما يمكن أن نرجوه في النهاية هو ملاقاة إله مستبد ومجهول لنا تمامًا، ولا علاقة له بيسوع المسيح أو بكل ما كان قد أعلنه. ولكن ما هو الوضع إذا كان المسيح هو الله الظاهر في الجسد، الذي قد أخذ على عاتقه دينونة العالم ـ وبحكم هذا فهو الوسيط بين الله والإنسان ـ وبه يدين الله جميع الناس في اليوم الأخير؟[113] هذا بالتحديد هو ما يوضحه قانون الإيمان النيقي، لأن لمصطلح ’هوموأووسيوس تأثيره البالغ في فهمنا للدينونة الإلهية، لأنه يؤكد أنه لا يوجد فاصل أو مسافة من أي نوع بين يسوع المسيح والله ديَّان العالم كله. فدينونة المسيح ودينونة الله هي واحدة تمامًا، لأنه حتى في الدينونة الأخيرة فإن الله الآب والابن المتجسد هما واحد تمامًا في الجوهر وفي العمل. وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت قانون الإيمان يؤكد أن المسيح “ليس لملكه انقضاء”، لأن التجسد لن يزول أبدًا بل سيدوم وسيبقى إلى أبد الآبدين[114].
المكانة المحورية لمصطلح ’هوموأووسيوس‘ في الكنيسة
عندما شرع آباء الكنيسة العظام في التأمل بدقة في كل ما يمكن أن يترتب على تعبير ’هوموأووسيوس‘ (Ðμοούσιος)، اكتشفوا أن هذا التعبير يحمل في طياته معاني تزيد بكثير عما كان مُدركًا وقت صياغته واستخدامه في قانون الإيمان. وسرعان ما صار هذا التعبير هو ركيزة أرثوذكسية المسيحية أو التقوى، وصار مَن يرفضه “كمَن أنكر رسالة الخلاص إنكارًا صريحًا” كما قال ق. غريغوريوس النيصي[115]. بل ما هو أكثر من هذا، أن الآباء قد غمرهم الانبهار والدهشة إزاء دلالة العلاقة الداخلية التي للابن المتجسد بجوهر الله الحي، وماذا تعني هذه العلاقة بالنسبة لحياة السيد المسيح كلها، والتي ينبغي اعتبارها متضمَّنة داخل علاقات التواجد (الاحتواء) المتبادل التي للثالوث القدوس. فما صار فيه ابن الله في تجسده، وما اختبره وقاله وصنعه لأجلنا ولأجل خلاصنا، كان مؤسسًا في الله، ومُعتبرًا أنه في داخل الله وخاصًّا به تمامًا. والأدهش من هذا كله، أن يسوع ابن العذراء مريم الذي عاش حياة بشرية كاملة بيننا كواحد منا، لم يكن هو إلاّ الله ذاته الذي قد صار إنسانًا، وهو ـ وفي نفس الوقت وإلى الأبد ـ ينتمي إلى عمق جوهر اللاهوت[116]. ولا عجب إذن في أن آباء الكنيسة قد جاهدوا بشدة من أجل الحفاظ على صحة هذا الإيمان الذي توهج نوره بقوة في ذهن الكنيسة في نيقية، مما ولَّد قناعة لدى المؤمنين بأن ما حدث في هذا المجمع كان بالحقيقة من الله.
وفي أثناء التوصل إلى صياغة مصطلح ’هوموأووسيوس‘ بنيقية، حدث أمر جوهري في فكر الكنيسة الأولى، فقد تمت خطوة حاسمة نحو مستوى أعمق في فهم الإنجيل، وفي نفس خط التقليد الرسولي الذي لا يمكن للكنيسة أن تتراجع عنه طاعة منها لإعلان الله الخلاصي في المسيح يسوع. وقد كانت هذه الخطوة حدثًا لا رجعة فيه في تاريخ الفكر اللاهوتي المسيحي. ويمكننا أن نستدل على أهمية ما قد تم إذا نظرنا إلى ما نفعله في لعبة لغز الصورة المُقطَّعة (jig-saw puzzle) أي الأحجية المؤلفة من قطع صغيرة يتعين على المرء أن يرتبها بحيث تشكِّل صورة ما. فنحن نرتب القطع المتناثرة حتى يظهر منها الشكل المطلوب، وإذا أعدنا تفكيكها فلن نجد صعوبة كبيرة في إعادة ترتيبها مرة أخرى. ولكننا لا نستطيع عمل هذا بدون تذكر الصورة التي توصلنا إليها في المرة الأولى، لأن شيئًا ما قد حدث في العقل والذاكرة يتعذر إلغاؤه، وهو الذي يؤثر على كل المحاولات التالية للرجوع إلى الشكل المتكامل الأصلي المكوَّن من القطع المختلفة.
وقد وقع حدث ’لن يُمحى‘ من هذا النوع في عقل وذاكرة الكنيسة في مجمع نيقية عام 325م، وكان هذا نقطة تحول ذات أهمية كبرى وتطور في الفهم لا رجوع عنه. وعندما تأكد مفهوم الوحدانية في ذات الجوهر بين الابن المتجسد والآب، وتمت صياغته بوضوح في مصطلح ’هوموأووسيوس‘ (Ðμοούσιος)، كان هذا خطوة عملاقة إلى الأمام نحو إدراك أعمق لترابط الإنجيل كما نقلته إلينا كتابات الرسل. وبمجرد الوصول إلى هذا المفهوم في الكنيسة، لم يكن من الممكن التراجع عنه، لأن المضمون الإنجيلي للإيمان كان قد تم حفظه وتأمينه في ذهن الكنيسة بشكل دائم وباقٍ. وكما قال ق. أثناسيوس: “إن كلمة الله التي جاءت خلال المجمع المسكوني بنيقية تدوم إلى الأبد[117]“.
مصطلح ’هوموأووسيوس‘ ينطبق على علاقة الابن الأزلي بالآب، وينسحب بالتالي على علاقة الابن المتجسد بالآب
لقد تناولنا في هذا الفصل، الأهمية الكبرى التي ينطوي عليها مصطلح ’هوموأووسيوس‘ في توضيحه وتأكيده للوحدانية في ذات الجوهر بين يسوع المسيح والله الآب. وقد اهتممنا بتوضيح حقيقة إنجيلية هامة، ألا وهي أن ’ما هو‘ الله في يسوع المسيح ـ في كل إعلانه وعمله الخلاصي نحونا ـ هو نفس ’ما هو‘ الله في جوهره الذاتي. ولكن يوجد جانب آخر لهذه الحقيقة وهي أن مفهوم ’هوموأووسيوس‘ أي الوحدانية في ذات الجوهر، ينطبق ليس فقط على العلاقة بين الابن الأزلي والآب، بل أيضًا ـ كما أشرنا ـ على العلاقة بين يسوع المسيح الابن المتجسد والآب، ولذا كان علينا أن نبحث فيما يعنيه هذا من جهة بشرية المسيح. وقد طُرح هذا السؤال في الكنيسة فورًا عقب مجمع نيقية كما نرى من رسالة ق. أثناسيوس إلى إبكتيتُس: وماذا عن بشرية الرب يسوع، إذا كان علينا أن نعطي مفهوم ’هوموأووسيوس‘ هذه المكانة الرئيسية في إيماننا وفكرنا؟ وبلا شك ـ كما ذكرنا ـ فإننا نقول، إن يسوع المسيح ـ وهو في كمال وتمام طبيعته البشرية ـ له ذات الجوهر الواحد مع الآب، وبكونه هو الوسيط الوحيد بين الله والإنسان، فلابد أن يكون إنسانًا كاملاً من إنسان، كما أنه في نفس الوقت إله من إله.
1 كان نص اعتراف الإيمان النيقي يحتوي على عبارة ” إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق”، ولكن مجمع القسطنطينية رأى حذف عبارة إله من إله باعتبارها مكررة.
2 See Justin Martyr, Dial.c. Tryph., 47-48, Irenaeus, adv. haer., 1.22.1, vol.1, pp. 212f; 3.11.10, vol.2, p. 45; 3.15.1f, pp.78f; 4.52.1f, pp. 259f; 5.1.3, pp. 316f; Hippolytus, Ref. haer., 7.34f; 9.13ff; Origen, De prin., 4.1.22; Con. Cel., 2.1; 5.61, 65; Minucius Felix, Dial. Oct., 36; Tertullian, De praescr., 33; Eusebius, Hist. eccl., 3.27; 4.22; Hilary, De Trin., 1.26; 2.4; 7.3,7; 8.40; De syn., 38f, 50; Epiphanius, Haer., 29f; Jerome, Ep., 112,13. Cf. Ignatius, Philad., 8; Magn., 8ff.
* من أسفل إلى أعلى هو تعبير يشرح نظرة هذه البدعة للمسيح باعتباره كان إنسانًا عاديًّا (من أسفل) ثم أصبح ابنًا لله في المعمودية أي إنه انتقل إلى هذه الحالة (إلى أعلى). (المترجم)
3 Ignatius, Eph., 7.18-20; Trall., 9; Smyrn., 1-3, 5, 7; Magn., 11; Justin, De res., 2; Irenaeus, Adv. haer., 1.16.2, vol.1, p. 193f; 3.17.5f, vol.2, pp. 86ff; 4.55.2ff, p.266ff; 5.1.2, pp. 315f; Hippolytus, Ref. haer., 8.8-11; 10.16; Clement Alex., Strom., 7.17; Eusebius, Hist. eccl., 6.12; Theodoret, Haer., 5.12; Ep., 82. See also Tertullian, De carne Christi, passim.
[4] 1يو 22:2؛ 2:4؛ 2يو 7.
* من أعلى إلى أسفل هو تعبير يشرح مدخل الدوسيتيين إلى المسيح باعتباره الله المتعالي (من أعلى) الذي ظهر في شكل جسد غير حقيقي، أي إنه تنازل وظهر في هذه الحالة ـ الوهمية ـ الأقل (إلى أسفل). (المترجم)
[5] كان ق. أثناسيوس مدركًا بالفعل لهذه الأمور الجدلية، ولكنه كان يعتبر أن قانون الإيمان النيقي هو الحصن الحامي ضدها جميعاً:
- Con. Ar., 1.8; 2.12, 14; De decr., 12, 32; De syn., 45; Ad. Afr., 11. See also Evagrius/Basil, Ep., 8.3; and Basil, Ep., 125.1.
[6] انظر تأكيد ق. أثناسيوس في (ضد الأريوسيين 35:4) على أن المسيح هو “إنسان وإله كامل معًا (وفي آنٍ واحد)” (ο̉́λον αυ̉τόν α̉́νθρωπόν τε καί Θεόν ο̉μου̃)، ويعتبر هذا القول هو ضد كل من البدعة الدوسيتية والبدعة الأبيونية. انظر كذلك قوله في (ضد الأريوسيين 3: 41) بإن المسيح “هو إله حقيقي في الجسد، وجسد حقيقي في الكلمة“
7 Origen, De prin., 1.praef, ; 1.2.1ff; 2.6.2f, etc. Cf. Ignatius; Eph., 7.2- cited by Athanasius, De syn., 46.
8 R. V. Sellers, Two Ancient Christologies, 1940, p.29.
9 Athanasius, De syn., 5;see De decr., 5; Ad Ser., 1.28; Ad Afr., 1; Fest. Ep., 2.4-7, etc. Cf. also Alexander of Alexandria, Ep., 1.12-13; Theodoret, Hist. eccl., 1.3.
10 Athanasius, Con. Ar., 3.35.
وقد كان يشير إلى الكتاب المقدس في: إش 22:1 (الترجمة السبعينية)، و1يو 3:4.
11 See the epistles of Alexander preserved by Theodoret, Hist. eccl., 1.3; and by Athanasius, De decr., 35; Socrates, Hist. eccl., 1.6; Gelasius, Hist. eccl., 2.3. Consult Vlasios Pheidas, ‘Alexander of Alexandria and his two Encyclical Epistles’, in Άντίδωρον Πνευματικόν, Athens, 1981. Cf. the earlier teaching of Dionysius of Alexandria discussed by Athanasius, De sent. Dion.
12 Cf. the creed cited by Epiphanius, Anc., 120.
[13] كان هذا التمييز يتضمن رفضاً لبدعة سابليوس:
Athanasius, De syn., 16; cf. De sent. Dion., 5ff; Con. Ar., 3.4, 36; 4.1ff; Ad Ant., 3-6, 11; Con. Ar., 4.2.
* مصطلح ’هوموأووسيوس‘ هو صفة من مقطعين: ’هوموس ο̉μος‘ ويعني ذات الشيء الواحد (one and the same) ، و’أوسيا ούσια‘ والذي يعني الجوهر، فيكون المعنى الكامل لمصطلح ’هوموأووسيوس مع الآب‘: له ذات الجوهر الواحد مع الآب أو واحد مع الآب في ذات الجوهر (of one and the same being with the father). (المترجم)
14 Archbishop Methodios, ‘The Homoousion’, The Incarnation. Ecumenical Studies in the Nicene-Constantinopolitan Creed, 1981, p.6 (ed. By T. F. Torrance).
15 Athanasius, De decr., 7, 18f; De syn., 12, 35; Con. Ar., 1.9ff; Ad Afr., 4-9; Ad Ser., 2.2-5.
16 Athanasius, Ad episc., 13; De decr., 1f; De syn., 3; Con. Ar., 1.7; Basil, Ep., 52.2, etc.
[17] انظر المقاطع التي ذُكرت من أقوال وخطابات أريوس في كتابات كل من ق. أثناسيوس وق. إبيفانيوس والبابا ألكسندروس:
See the citations from Arius’ Thalia in Athanasius, De syn., 15-16; Con. Ar., 1.5ff; De decr., 16; Ad episc., 12; Arius’ Letters to Alexander, in Athanasius, De syn., 16, and to Eusebius, in Epiphanius, Haer., 69.6.Cf. also the first Encyclical of Alexander on the Arian heresy, Theodoret, Hist. eccl., 1.3; and Socrates, Hist. eccl., 1.6.
18 Athanasius, Con. Ar., 1.5-6; De syn., 15.
19 Athanasius, ibid., and cf. also Ad episc., 12.
20 See Athanasius, Con. Ar., 2.19, and De syn., 16, for this citation from Arius’ Letter to Alexander.
21 Athanasius, Con. Ar., 2.24-26, 30; De decr., 8, 24.
22 Epiphanius, Anc., 33; Theodoret, Haer., 5.11. Cf. Eustathius, De an. adv. Ar., MPG, 18.689B; Athanasius, Ad Ant., 7; Gregory Naz., Ep., 101, MPG, 37, 134A; Gregory Nyss., Con. Eun., 2.124, Jaeger, II, p.365; Athanasius, Con. Apol., 1.15; 2.3, 17; Theodoret, Ep., 103. See also the evidence adduced by V. Pheidas from the Colluthian schism, Τό Κολλουθιανόν Σχίσμα καί Άρχαί τοà Άρειανισμοà, 1973.
[23] انظر تفسير ق. أثناسيوس لهذه العبارات في:
Athanasius, De decr., 6ff; Con. Ar., 1.9ff; De syn., 41ff.
24 Athanasius, Con. Ar., 1.1-29, 34; 2.22ff, 33; 3.1ff; 65f; 4.1ff; De syn., 41-54; De decr., 24, 27; Basil, Ep., 52.2; Hilary, De syn., 25.
25 Gregory Naz., Or., 30.11&19; cf. 29.3f; 31.14.
[26] يقول ق. باسيليوس: “إن طريقة الولادة الإلهية (للابن)، هي أمر لا ينطق به ويفوق كل تخيلات الفكر البشري” (Ep., 52.3). انظر كذلك:
Basil, Con. Eun., 2.16 & 24; Gregory Naz., Or., 29.8
27 Cf. C. Stead, Divine Substance, 1977, pp. 26 & 229.
28 Athanasius, De decr., 12; cf. 20. Also Ad Episc., 2;
إن هذا الفهم للأبوة والبنوة بكونها علاقات أزلية كائنة في الله، هو ما قد أيده بشده ق. غريغوريوس النزينزي ـ ونفس الوضع ينطبق بالطبع على الروح القدس ـ حيث نراه يشرح ذلك بوضوح في ’عظاته اللاهوتية‘، كما يمكننا أيضاً أن نجد نفس المعنى تقريباً عند بقية الآباء الكبادوك:
Gregory Naz., Or., 29.16 & 20; 31.9. Cf. Basil, (or his brother) Ep., 38.4; and Gregory Nyss., Con. Eun., 1.33; 8.5; 9.2; Or. Cat., 1.
29 Athanasius, In ill. om., 3.
30 Athanasius, In ill. om., 3-5.
ارجع إلى مفهوم ق. أثناسيوس عن الصور الإنجيلية بكونها ’أمثلة‘ (παραδείγματα):
De decr., 12; Con. Ar., 1.20; 2.30; 3.3, 10; De syn., 42; Ad Ser., 1.19f, etc.
[31] ارجع إلى كتاب المؤلف:(Reality and Evangelical Theology, 1982, pp.100ff)
32 Athanasius, De decr., 21-24.
33 Athanasius, Con. Ar., 1.24; De decr., 27; In sent. Dion., 25.
34 Athanasius, De decr., 24; Con. Ar., 1.13, 25; 2.33; Ad episc. Aeg., 13; Ad Afr., 8.
* أي الصورة الكاملة المطابقة لأقنوم الآب. (المترجم)
35 Athanasius, Con. Ar., 1.9, with reference to Hebrews 1.3.
36 Jaroslav Pelikan, The Light of the World. A Basic Image in Early Christian Thought, 1962, pp.55ff.
37 Athanasius, De syn., 33ff, 46; De decr., 19ff; Ad Afr., 5f.
39 See Basil, Ep., 125.1; Ep., 214. See also Ep., 236.6; Gregory/Basil, Ep., 38.1ff, etc. Cf. Athanasius, Con. Ar., 3.65; 4.33; Ad Afr., 4ff & 8.
40 Athanasius, De syn., 48-54; Ad Afr., 8-9.
41 Athanasius, , Con. Ar., 1.11ff, 34, 46ff, 60; 2.12, 14, 18, 20, 53f, 56, 59, 61, 82; 3.1f, 5f, 9, 19, 22, 24f, 27, 33; 4.4; De decr., 22, 30; De syn., 34, 48f; Ad Afr., 4; Ad Ser., 1.28; 2.2; In ill. om., 4. See also Gregory Naz., Or., 30.18.
42 Athanasius, De decr., 20; De syn., 8, 26, 29 (the Arian creed); 37f, 41, 46, 50, 52f. Cf. Theodoret, Hist. eccl., 1.3.
43 Athanasius, Con. Ar., 1.20f, 26, 40; 2.17f, 22, 34; 3.11, 20, 26, 67; Ad episc., 17; Ad Afr., 7; cf. Exp. Fidei, 1.
* إن لفظة ’مشابه‘ تعني أنه ليس هو تمامًا، ولكن يشبهه في بعض الأمور وبالتالي فإنه لا يشبهه في أمور أخرى. ونلاحظ أن الفرق بين المصطلحين اليونانيين هو حرف واحد (ι). (المترجم)
44 Athanasius, De syn., 41 & 53; De decr., 20; cf. Evagrius/Basil, Ep., 8.3.
45 Athanasius, Con. Ar., 1.21, 26, 40; 2.17f, 22, 33; 3.10f, 14, 26, 67; De syn., 26, 38, 41. 47-54; De decr., 20, 23; Ad episc., 17; Hilary, De syn., 89; Evagrius/Basil, Ep., 8.3; 9.3. Cf. Epiphanius, Haer., 73.22; and Cyril of Jerusalem, Cat., 4.7; 11.4, 18.
46 Athanasius, Cf. the stance taken by Basil of Ancyra, Athanasius, De syn., 41; Epiphanius, Haer., 73.22.
[47] كان ق. أثناسيوس يرى أن علاقة ’الكلية‘ التي بين الابن والآب متضمَّنة في تشبيه النور والشعاع. (Con. Ar., 2.33, 35; cf. De inc., 17; Con Ar., 3.6.)
وكان يرى أن هذا التشبيه يتضمَّن أيضاً علاقة التواجد المتبادل بينهما.(De decr., 25.)
48 Athanasius, Con. Ar., 3.3 Cf. Ad. Ser., 1.16 and Exp. Fidei, 1.
حيث قيل عن الابن أنه ’كلي من كل‘ (wholly from the whole).
50 Hilary, De Trin., 4.4-7; De syn., 84.
51 Cf. Archbishop Methodios, ‘The Homoousion’, op. cit., pp. 1-15.
52 Athanasius, De syn., 49-54; Ad Afr., 8.
53 Athanasius, Con. Ar., 3.3, 6; 4.1ff.
54 See Athanasius, Con. Ar., 3.4; De syn., 49; Ad Afr., 8, etc. Gregory Naz., Or., 30.11.
55 Athanasius, Con. Ar., 1.8, 14ff, 18ff, 24f; 2.2, 32f; 3.42, 61ff; 4.2f, 14; De decr., 15, 26; De sent. Dion., 16, 23; Ad Ser., 2.2.
56 Athanasius, Con. Ar., 1.8, 15ff, 33; 2.24f, 32; 3.4ff, 35f, 44; Ad episc., 17; Ad Afr., 8; Ad Ser., 1.30; 3.2; 4.6.
58 Athanasius, De decr., 23; Con. Ar., 3.4; 4.2; De syn., 34, 45; Basil, Ep., 52. 1ff; Epiphanius, Anc., 6.4; Haer., 65.8; 69.72; 76.7.
59 Cf. Athanasius, Ad Ser., 1.27; 3.2; and Ad Jov., 4; Ad Ant., 6; Con. Apol., 1.9.
60 Epiphanius, Anc., 6.4; cf. Haer., 69, 70; Ambrose, De fide, 3.15.
[61] ارجع إلى مفهوم ق. إيرينيئوس عن ’قانون الحق‘ في الفصل الأول:
Adv. Haer., 1.20, vol. 1, p. 87f; 1.15, pp. 188f; 2.8.1, p. 272; 2.40f, pp. 347ff; 3.1-5, vol. 2, pp. 2-20; 3.11.7, pp. 41; 3.12.6f, pp. 58ff; 3.15.1, p. 79; 3.38.1f, pp. 131f; 4.57.2ff, pp. 273ff; 5. Pref., p.313f; 5.20.1f, pp. 377ff; and Dem., 1-6.
ارجع أيضاً إلى مفهوم أوريجينوس في الفصل الأول عن ’قانون التقوى‘ الذي يمكِّن الكنيسة من فهم وتفسير الكتب المقدسة وفقاً لـ ’فكر المسيح‘:
De prin., praef. 1-2; 1.5.4; 2.6.2; 3.1.17, 23; 3.3.4; 3.5.3; 4.2.2f; 4.3.14f.
[62] انظر للمؤلف: ’وديعة الإيمان‘ (SJT, 1983, vol. 36.1, pp. 1-28)
64 Alfred Robertson, St Athanasius: Select Works and Letters, pp. xvii and Lxxv.
65 Athanasius, Fest. Ep. (of 367), 39.1-7; cf. Eusebius, Hist. eccl., 4.26.14.
66 Athanasius, Con. Ar., 1.55; 2.44; 3.28ff; De decr., 10f, 14, 19-22; De syn., 38-45; Ad Afr., 4-9; Ad Ser., 2.8.Cf. also Ep. Euseb., 5- appended to the De decr.
67 Athanasius, De decr., 24; Ad episc., 4, 9, 12f; De syn., 39, 42, 45; Con. Ar., 1.1, 8ff, 15, 37, 53; 2.1ff, 33, 72; 3.18f, etc.
68 Athanasius, De decr., 18f, 32; Hilary, De syn., 88, 91.
وقد أشار ق. أثناسيوس إلى أن المصطلحات غير الإنجيلية التي استُخدمت، كانت مأخوذة بالفعل من آباء سابقين:
De decr., 18, 25; De syn., 43; cf. 33ff. See C. Stead’s examination of the use of (οÙσία) and (Ðμοούσιος) before the Council of Nicaea, op. cit., pp. 199-232.
69 Athanasius, De decr., 18, 21; De syn., 39, 41, 45; Con. Ar., 2.3; Ad Afr., 9; Ad episc., 4, 8; cf. Ad Ant., 8.
ينطبق هذا الأمر على الأفعال ’يخلق‘ و’يصنع‘:
De decr., 11; De syn., 51. Cf. Hilary, De syn., 17; Basil, Con. Eun., 2.23; Gregory Naz., Or., 20.9.
انظر أيضًا للمؤلف:
‘The Hermeneutics of St Athanasius’, Ekklesiastikos Pharos, vol. 52, 1970, pp. 446-468; 89-106; 237-49; vol. 53, 1971, pp. 133-149.
71 Athanasius, Con. Ar., 2.3. Cf. also Gregory Naz., Or., 42.16; Gregory Nyss., Con. Eun., 1.37, and Hilary, De Trin., 4.14.
[72] وفي ضوء هذا الاستخدام المتنوع للمصطلحات، أعلن ق. أثناسيوس أن “كل مجمع له أسبابه ومنطقه في استخدام لغته الخاصة”. (De syn., 45)
73 Athanasius, De decr., 10f, 20-24; Con. Ar., 1.20, 55ff; 3.19ff.
* ارجع إلى الفصل الثاني من صفحة 97 إلى صفحة 106. (المترجم)
# لأنه إذا كان الكلمة الذي صار جسدًا وحل بيننا هو ’هوموأووسيوس‘ مع الآب (والروح القدس)، فإن كل ما أعلنه لنا يكون مطابقًا تمامًا لـ ’ما هو‘ الله في ذاته.
75 Athanasius, Con. Ar., 2.11; 3.1ff; Ad Ser., 1.14-17, 20f, 30f; 2.2; 3.1f; 4.6.
76 G.L. Prestige, Fathers and Heretics, 1954, p. 88; God in Patristic Thought, pp. 168f, 188f. See also, T.F. Torrance, Theology in Reconciliation, 1975, pp. 243ff; and Methodios Fouyas, The Person of Jesus Christ in the Decisions of the Ecumenical Councils, 1976, pp. 65ff.
* ارجع إلى صفحتي 103، 104 في الفصل الثاني. (المترجم)
* إن الحديث عن أن الله يتعامل معنا بأفعاله (أو طاقاته) وليس بجوهره، ينبغي ألاّ يُفهم بمعنى وجود ثنائية في الله وكأن الله مثل دائرتين لهما مركز واحد: واحدة داخلية تمثل الجوهر وحولها الأخرى مثل الهالة تمثل فعل الله (أو طاقته). وحيث إن الله لا توجد به مثل هذه الثنائية، فيمكننا أن نمثل جوهر الله وفعله (أو طاقته) كأنهما دائرتان متساويتان تمامًا ولهما مركز واحد (أي كائنتان في بعضهما البعض تمامًا) فيكون جوهر الله هو هو فعله الكائن في جوهره وفعله هو هو جوهره الكائن في فعله. ولكن مع ذلك تبقى علاقة الله معنا هي علاقة مشاركة من الخارج Κατ£ Μετοχ»ν `ΕπακτÒν أي علاقة خارجية. لأنه توجد هناك علاقة شركة في الجوهر وهي التي بين الآب والابن والروح القدس فقط، وهناك علاقة شركة خارجية مثل حلول الروح القدس علينا. (المترجم)
* أي إن هذه المصطلحات الهللينية ـ عند استخدامها في التعليم المسيحي ـ أصبحت تحمل معاني لم تكن تحملها حين كانت تُستخدم في التعبير عن الفكر الهللّيني. (المترجم)
79 Cf. Athanasius, De syn., 45.
80 Athanasius, Con. Ar., 1.19; 2.2, 14, De decr., 15. Cf. G. D. Dragas, Athanasiana, vol. 1, 1980, p. 54.
82 See the citations from Arius’ Thalia, in Athanasius, De syn., 15; De decr., 16; Ad episc., 14, 16.
83 Athanasius, Con. Ar., 2.82.
84 Basil, Ep., 28.8. Cf. Athanasius, Con. Ar., 2.18, 22; 3.3f.
* ارجع إلى الفصل الثاني صفحة 88 ، والفصل الثالث صفحة 119. (المترجم)
85 Athanasius, Exp. Fidei, 1 & 4; De decr., 13f; Ad episc., 17; Con. Ar., 2.18-67, etc.
86 Athanasius, Ad Epict., 2-9; Con. Ar., 4.30-36.
87 Athanasius, Con. Ar., 3.30. Cf.
يقول ق. إبيفانيوس: “إنه هو ذاته، كان الله وإنسان (في آنٍ واحد)، ليس كما لو كان يسكن في إنسان ولكنه هو نفسه صار إنسانًا بالكامل”. (Haer., 77.29 )
[88] تحتوي رسالتا ق. أثناسيوس ضد أبوليناريوس (Contra Apollinarem) على حجج قوية عن حقيقة بشرية المسيح الكاملة وأثر ذلك على خلاص الإنسان ككل.
- D. Dragas, St Athanasius Contra Apollinarem, 1985.
[89] وهنا كان للقديس أثناسيوس السؤال التالي: كيف يستطيع اللوغوس نفسه في هذه الحالة، أن يحتمل حضور الله المطلق أو يد الله، لو كان هو أيضًا ـ حسب رأي الأريوسيين ـ مخلوقًا؟ :Athanasius, De decr., 7ff
91 Athanasius, Ep. fest., 4.4; 5.6; 10.9; Ad Adel., 2ff.
[92] كان لاهوتيو نيقية يقتبسون هذه الآية (يو 17:5) بصورة متكررة، كما نرى في:
Athanasius, In ill. om., 1; Ad episc., 17; Con. Ar., 2.21f, 29, etc.
93 Athanasius, De decr., 7, & 1Cor. 8.6-see further De decr., 19ff; Con. Ar., 1.19; 2.31; 3.4, 39; De syn., 35, etc.
95 Athanasius, Con. Ar., 2.21ff, 29, 31, 56ff; Ad Max., 3f.
97 Athanasius, Con. Ar., 1.6, 38-39, 42-43.
98 Athanasius, De decr., 1, 25; Con. Ar., 2.6, 9f, 45, 51f, 75f; Ad Ant., 7.
[99] يقول ق. أثناسيوس: “هي نفس النعمة الواحدة، من الآب في الابن، كما أن النور الذي للشمس وللشعاع هو واحد، وكما أن إضاءة الشمس تتحقق من خلال الشعاع”.
(Athanasius, Con. Ar., 3.11; cf. also 3.13)
* إن نعمة ربنا يسوع المسيح هي كل ما عمله في جسد بشريته لأجلنا، ولا يمكن فصل ما عمله المسيح (نعمة المسيح) عن المسيح نفسه. وبما أن هناك وحدانية في العمل بين المسيح الابن المتجسد والله الآب (وذلك بسبب الوحدانية في ذات الجوهر بينهما) فإن النعمة (العطية التي لنا في المسيح) ومُعطي النعمة (الله الآب) هما واحد تمامًا. (المترجم)
100 Athanasius, De decr., 14; Con. Ar., 1.16, 39f, 50; 3.12f.
# انظر شرح المفهوم الأرثوذكسي لمصطلح ’التأله‘ في “كتاب طبيعة وأقنوم” للقمص تادرس يعقوب ملطي، مراجعة نيافة الأنبا بيشوي (كنيسة مارجرجس سبورتنج طبعة سبتمبر 1987 صفحة 26). (المترجم)
[101] رغم أن مصطلح التأله (θέωσις) لم يرد حرفيًّا في كتابات ق. أثناسيوس، إلاّ أنه بالتأكيد كان متضمَّنًا في استخدامه للفعل يؤله (θεοποιεî): “لقد صار إنساناً، لكي ما يؤلهنا نحن”
(αÙτός γάρ νηνθρώπησεν να ºμες θεοποιηθîμεν). De inc., 54.
* إن مفهوم ’تأليه الإنسان‘ عند الآباء لا يعني أبدًا أن الإنسان سيصبح غير محدود وعالم بكل شيء، ولا يلغي طبيعة الإنسان المخلوقة أو يغير جوهره، لأن هذا معناه انتهاء الشركة نفسها التي بين الإنسان والله. ولكنه يعني تحقيق غاية خلقة الإنسان بالشركة مع الله والاتحاد به ونوال نعمة الحياة الأبدية. ولكن الله سيظل على الدوام ’آخر‘ بالنسبة للإنسان، وسيظل الإنسان المخلوق متلقيًا من الله الخالق. وفي هذا يقول ق. اثناسيوس: “ورغم أننا بشر من الأرض، ومع ذلك نصير آلهة، ليس مثل الإله الحقيقي أو كلمته، بل كما قد سُر الله الذي وهبنا هذه النعمة” (ضد الأريوسيين 3: 19). (المترجم)
# كان ق. أثناسيوس قد فسَّر ’كلمة الله‘ في هذه الآية على أنها تشير إلى اللوغوس الذي حل بيننا متجسدًا. (ضد الأريوسيين 39:1). (المترجم)
[102] يو 35:10 – انظر ق. أثناسيوس (Con. Ar., 1.39; Ad Afr., 7)
وكان مفهوم ’التأليه‘ (θεοποίησις) هذا، يُدعِّم بمفهوم ’الاستنارة‘ (φωτισμός)، لأنه حيث إن المسيح هو إله من إله ونور من نور، وليس مجرد أنه يشهد للنور بل هو النور الحقيقي، فإن إنارته لنا تكون بالحقيقة فعلاً إلهيًّا ومؤلِّهًا. انظر:
Athanasius, De decr., 23f; Con. Ar., 1.43; 2.41; 3.3ff, 125; 4.18; Ad Ser., 1.19f, 30, etc.
103 Athanasius, Con. Ar., 1.9, 16, 37-43, 46-50; 2.47, 53, 59, 63-70, 74, 76-78; 3.17, 19-25, 34, 39-40, 53; 4.33-36. See also De decr., 14; De syn., 51; Ad Adel., 4; Ad Ser., 1.24.
[104] وفي تعليقه على (فيلبي 9:2-10) كتب ق. أثناسيوس: “لأنه كما مات المسيح ثم مُجِّد كانسان، فبالمثل قيل عنه أنه أخذ كانسان ما كان له دائماً كإله، وذلك لكي يمكن للنعمة المعطاه أن تصل إلينا. لأن الكلمة لم يُنتقص منه شيئاً بأخذه جسداً حتى يسعى للحصول على النعمة، لكن بالأحرى هو قد ألّه (θεοποίησεν) ما قد أخذه (جسده الخاص)، بل والأكثر من هذا أنه أنعم (χαρίσατο) بهذه العطية (التأليه) على الجنس البشري”.
(Con. Ar., 1.42. Cf. 2.69; 3.39-40)
105 Athanasius, Con. Ar., 3.12.
* وحيث إن نعمة ربنا يسوع المسيح لا يمكن فصلها عن المسيح، فإن نوال هذه النعمة تعني الاشتراك في المسيح ذاته (لأنها ليست أمرًا بعيدًا عنه)، وهذا يتم من الآب في الروح القدس. وحيث إن المسيح هو واحد في ذات الجوهر مع الآب والروح القدس، فبالتالي يصبح نوال نعمة ربنا يسوع المسيح هو هو شركة الثالوث الأقدس. (المترجم)
[106] كثيراً ما يُستخدم ـ مع الأسف ـ هذا المعنى الضعيف للنعمة لتفسير مفهوم ’التأله أوالتأليه‘
(θέωσις, θεοποίησις) وذلك في الإشارة إلى الآية “شركاء الطبيعة الإلهية” (2بط 4:1) – وهذا الأمر هو ما رفضه ق. أثناسيوس بشدة وبوضوح. (Con. Ar., 2.17ff, 24f)
انظر استخدام ق. أثناسيوس للآية 2بط 4:1 في (Ad Adel., 4) مع الإشارة إلى حقيقة أن ابن الله بكونه صار إنسانًا، فإنه قد نقل ’نسلنا المخطىء‘ (πλανηθεσαν γέννησιν) إلى نفسه، حتى ما يمكن أن نكون ’جنسًا مقدسًا‘.
107 Athanasius, Ad Ser., 1.27.
108 Athanasius, Con. Ar., 2.18; 3.11ff, 24-25, 39f; 4.6f.
109 Athanasius, Ad Ser., 1.14; cf. 3.5.
110 Athanasius, Ad Ser., 1.30.
111 Athanasius, Con. Ar., 1.41ff, 59ff; 2.7ff, 68ff, 75f; 3.31ff, 56f; 4.6f; and see especially the Athanasian Con. Apol., I & II.
112 Gregory Naz., Or., 45.28f; cf. also ibid., 22.
113 Athanasius, Con. Gent., 47; De inc., 20f, 56; In ill. om., 2; Con. Ar., 1.59f; 2.14, 31, 69, 76; 4.6f; Con. Apol., I.II; cf. De inc. et con. Ar., 22; and Serm. maj. de fid., 26.
114 See Athanasius, Con. Ar., 1.42f.
115 Gregory Nyss, Con. Eun., 1.15; cf. 2.12.
116 See especially Athanasius, Con. Ar., 1.46; 2.69-76; 3.1-6, 30-35; 4.1ff. 33-36; Ad Epict., 5-9.