الله والصلاة – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد
الله والصلاة - الطريق الأرثوذكسي - د. نصحى عبد الشهيد
الله والصلاة – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد
الطريق الأرثوذكسي للأسقف كاليستوس وير
الفصل السادس
الله والصلاة
” لا أنا بل المسيح فىَّ ” (غلا20:2)
” لا توجد حياة بدون صلاة. بدون صلاة يوجد فقط جنون ورعب. موهبة الصلاة هي روح الأرثوذكسية ” (فاسيلى روزانوف)
” سأل الاخوة الأنبا أغاثون: يا أبانا ما هي الفضيلة التي تحتاج إلى أعظم جهاد بين كل أنشطتنا المتنوعة؟. فأجاب: اغفروا لى فإنى اعتقد أنه لا يوجد جهاد أعظم من الصلاة لله. ففى كل مرة يريد الإنسان أن يصلى، يحاول أعداؤه أن يمنعوه، لأنهم يعرفون أنه لا يوجد شئ يعوقهم اكثر من الصلاة لله. ففى كل أمر يقوم به الإنسان، فإنه إذا ثابر سيصل إلى الراحة. ولكن لكى يصلى الإنسان فإنه ينبغى ان يصارع إلى النفس الأخير ”
(من أقوال آباء البرية)
ثلاث مراحل على الطريق:
بعد سيامتى كاهنًا، سألت أسقفًا يونانيًا أن يعطنى نصيحة فى تقديم العظات. فكان إجابته محددة ومختصرة، إذ قال: ” كل عظة يجب أن تحتوى على ثلاث نقاط لا أكثر ولا أقل “.
وكذلك، فإنه قد جرت العادة أن نقسّم الطريق الروحى إلى ثلاث مراحل. وعند القديس ديونيسيوس الأريوباغى هذه المراحل هي: التطهير، والاستنارة، والاتحاد. وهذا التقسيم صار هو المتبع عادة فى الغرب. والقديس غريغوريوس النيسى، إذ يتخذ حياة موسى نموذجًا، فإنه يتحدث عن مراحل النور، السحاب، والظلام. ولكننا فى هذا الفصل سوف نتبع التقسيم الثلاثى الذي وضعه أوريجينوس ثم طوره مكسيموس المعترف. المرحلة الأولى: هي مرحلة العمل والممارسة أى ممارسة الفضائل؛ والمرحلة الثانية هي مرحلة الطبيعة، أى التأمل فى الطبيعة؛ والمرحلة الثالثة والأخيرة هي الثيؤولوجيا أى المرحلة اللاهوتية بالمعنى الدقيق للكلمة، أى تأمل الله ذاته.
المرحلة الأولى: ممارسة الفضائل، تبدأ بالتوبة. فالمسيحى المُعمّد، بإنصاته إلى ضميره وباستخدام إرادته الحرة يجاهد بمعونة الله ليفلت من تأثير النزوات الشهوانية. وبتتميمه للوصايا، ونموه فى التمييز بين الصواب والخطأ وبتنمية إحساسه “بما يجب”، فإنه يصل تدريجيًا إلى نقاوة القلب؛ ونقاوة القلب هذه هي التي تشكل الغاية النهائية للمرحلة الأولى.
فى المرحلة الثانية، مرحلة تأمل الطبيعة، يشحذ المسيحى إحساسه بوجود الأشياء المخلوقة ويزيد من حدة إحساسه بمخلوقيتها، وهكذا يكتشف الخالق حاضرًا فى كل الأشياء المخلوقة. وهذا يقود إلى المرحلة الثالثة، مرحلة رؤية الله المباشرة، الذي ليس هو فقط موجود فى كل الأشياء بل هو فوق كل الأشياء ووراء كل الأشياء. فى هذه المرحلة الثالثة، لا يعود المسيحى يختبر الله فقط من خلال ضميره أو من خلال الأشياء المخلوقة، بل هو يلتقى بالخالق وجهًا لوجه فى اتحاد حب بدون وسيط. إن الرؤية الكاملة للمجد الإلهي هي محفوظة للدهر الآتى، ومع ذلك، فحتى فى هذه الحياة الحاضرة، فإن القديسين يتمتعون بالعربون الأكيد وبباكورة الحصاد الآتى.
المرحلة الأولى يُطلق عليها عادة وصف “حياة العمل”، بينما المرحلتين الثانية والثالثة تُجمعان معًا تحت وصف واحد وتسميان “حياة التأمل”. وحينما يستخدم الكُتّاب الأرثوذكس هذه العبارات فهم عادة يشيرون إلى الحالات الروحية الداخلية وليس إلى الحالات الخارجية. فليس الخادم الاجتماعى أو الكارز فقط هو الذي يتبع “حياة العمل”، بل أن الناسك أو المتوحد يتبع أيضًا “حياة العمل” وذلك إن كان هو أو هي (الناسك أو الناسكة) لا يزال يصارع ليتغلب على الشهوات ولكى ينمو فى الفضيلة.
وبنفس الطريقة فإن “حياة التأمل” ليست مقصورة على الصحراء أو صومعة الراهب: فالعامل فى المنجم، والكاتب على الآلة الكاتبة أو ربة البيت يمكن أن يكون عندهم هدوء داخلى ويمارسون صلاة القلب، وبذلك يمكن أن يكونوا بمعنى حقيقى من الذين يحيون “حياة التأمل”. وفى كتاب “أقوال آباء البرية” نجد هذه القصة عن القديس أنطونيوس أعظم المتوحدين: ” أُعلن للأنبا أنطونيوس وهو فى البرية: أنه يوجد فى المدينة إنسان معادل لك، ومهنته طبيب. وكل ما يوفره يعطيه للمحتاجين، وطول اليوم يرتل تسبحة الثلاثة تقديسات مع الملائكة “.
إن صورة المراحل الثلاثة للرحلة، رغم أنها مفيدة، إلاّ أنها لا ينبغى أن تؤخذ حرفيًا. الصلاة هي علاقة حية بين شخصين، والعلاقات الشخصية لا يمكن أن تُقسّم تقسيمًا دقيقًا. وينبغى التأكيد، بوجه خاص على أن المراحل الثلاث لا تتبع إحداها الأخرى بدقة بحيث تنتهي مرحلة قبل أن تبدأ المرحلة التي تليها.. فأحيانًا يمنح الله لمحات من المجد الإلهي لشخص كعطية غير متوقعة، قبل أن يكون هذا الشخص قد بدأ أن يتوب وقبل أن يسلم نفسه لجهاد “حياة العمل”. وبالعكس، فمهما كان الإنسان قد دخل بعمق ـ بمعونة الله ـ إلى أسرار التأمل، فما دام يحيا على الأرض ينبغى أن يواصل الجهاد ضد التجارب. وحتى آخر حياته على الأرض هو لا يزال يتعلم التوبة.. يقول القديس أنطونيوس: ” ينبغى أن يتوقع الإنسان مجيء المحاربات عليه، حتى آخر نسمة فى حياته”. وفى موضع آخر من ” أقوال آباء البرية ” يوجد وصف لموت أنبا صصوى، أحد أقدس وأحب الشيوخ: كان الاخوة الواقفون حول فراشه يرون شفتيه تتحركان. فسألوه: من هو الذي تكلمه يا أبانا ؟ فأجاب “جاء الملائكة ليأخذونى وأنا أسالهم أن يعطونى وقتًا أكثر ـ وقتًا أكثر للتوبة ” فقال له تلاميذه ” أنت لا تحتاج إلى توبة “، فأجاب الشيخ ” فى الحقيقة، أنا لست متأكدًا إن كنت قد بدأت التوبة أم لا “، وهكذا تنتهي حياته. هو فى نظر تلاميذه الروحيين إنسان كامل، ولكن فى نظر نفسه هو لا يزال فى البداية.
إذن، لا يستطيع أحد، وهو لا يزال فى هذه الحياة أن يدّعى أنه قد اجتاز أكثر من المرحلة الأولى. المراحل الثلاث ليست متتابعة بل هي متداخلة معًا. وعلينا أن نفكر فى الحياة الروحية على أنها من ثلاث مراحل بمعنى ثلاث مستويات. وتعتمد على بعضها بعضًا، وموجودة معًا فى وقت واحد.
ثلاث افتراضات:
قبل أن نمتد أكثر فى الكلام عن هذه المراحل والمستويات، أرى أنه من الحكمة أن نوضح ثلاث عناصر لا غنى عنها، يُفترض أن تكون موجودة فى كل نقطة على الطريق الروحى.
أولاً: يُفترض أن يكون المسافر على “الطريق” هو “عضو فى الكنيسة”. فالرحلة تتم فى زمالة مع الآخرين، وليست على انفراد. فالتقليد الأرثوذكسى يدرك إدراكًا قويًا الطبيعة الكنسية لكل حياة مسيحية حقيقية. فلنأخذ اقتباسًا من ألكسى خومياكوف: ” لا أحد يخلص بمفرده. الذي يخلص إنما يخلص فى الكنيسة، كعضو فيها، وبالاتحاد مع كل أعضائها الآخرين. فإن كان أحدًا يؤمن، فإنه يصير فى شركة (جماعة) الإيمان، إن أحب، فهو فى شركة الحب، وإن صلى فهو فى شركة الصلاة”.
ويقول الأب ألكسندر إلشانينوف: “الجهل والخطية هي سمات الأفراد المنعزلين بأنفسهم. وفى وحدة الكنيسة فقط نجد أن هذه العيوب يتم التغلب عليها. الإنسان يجد نفسه الحقيقية فى الكنيسة وحدها: هو لا يجدها فى عجز الانعزال الروحى بل يجدها فى القوة التي يحصل عليها من شركته مع اخوته ومع مخلصه”.
صحيح طبعًا أنه يوجد بعض الناس الذين يرفضون المسيح وكنيسته بعقلهم الواعى، أو ربما لم يسمعوا عنه بالمرة؛ ومع ذلك ـ هؤلاء الأشخاص الذين لا يعرفون أنفسهم ـ هم عبيد حقيقيون للرب الواحد فى عمق قلبهم وفى الاتجاه الضمنى الخفى لكل حياتهم.
الله يستطيع أن يخلص أولئك الذين لم ينتموا أبدًا لكنيسته فى هذه الحياة. ولكن إذا نظرنا للأمر من ناحيتنا نحن، هذا لا يجعلنا أن نقول: “الكنيسة ليست ضرورية بالنسبة لى”. لا يوجد فى المسيحية ما يُسمى “بنخبة روحية” غير ملزمة بضرورات العضوية العادية للكنيسة. فالمتوحد فى الصحراء هو عضو فى الكنيسة تمامًا مثل الحِرَفى فى المدينة. فالطريق النُسكى السرى (الصوفى)، رغم أنه من ناحية معينه هو “انطلاق الوحيد إلى الوحيد” إلاّ انه فى نفس الوقت هو أساسًا هو طريق اجتماعى وطريق شركة. المسيحى هو الشخص الذي له اخوة وأخوات. هو ينتمى إلى عائلة ـ عائلة الكنيسة.
ثانيًا: الطريق الروحى يفترض ليس فقط الحياة فى الكنيسة، بل يفترض أيضًا “الحياة فى الأسرار”. وكما يؤكد نيقولا كاباسيلاس بشدة؛ فإن الأسرار هي التي تكوّن حياتنا فى المسيح. وهنا أيضًا لا يوجد مكان “للنخبة المتميزة“. فلا ينبغى أن نتصور أنه يوجد طريق “للمسيحى العادى” ـ طريق العبادة الجماعية التي تجتمع حول الأسرار ـ وطريق آخر لقلة مختارة مدعوة للصلاة الداخلية. بالعكس ـ هناك طريق واحد فقط؛ فطريق الأسرار وطريق الصلاة الداخلية ليسا بديلين (أحدهما عكس الآخر)، بل هما يشكلاّن وحدة واحدة. لا يمكن لأحد أن يكون مسيحيًا حقًا إن كان ينظر إلى الأسرار كطقس ميكانيكى. فالناسك فى الصحراء ربما يتناول من الأسرار مرات أقل من المسيحى فى المدينة، ولكن هذا لا يعنى أن الأسرار أقل أهمية بالنسبة للناسك، بل يعنى أن نظام حياته السرائرية مختلف. إن الله يستطيع أن يخلّص الذين لم تكن لهم الفرصة أن يعتمدوا ولكن حتى إن كان الله غير مقيد بالأسرار، فنحن مقيدون بالأسرار.
وقد سبق أن لاحظنا مع القديس مرقس الناسك (فى الفصل السابق ص126)، كيف أن كل الحياة النسكية والتصوفية هي متضمنة فى سر المعمودية: فمهما تقدم الإنسان فى الطريق، فإن كل ما يكتشفه ليس سوى كشف وإظهار للنعمة التي نالها فى المعمودية. ونفس الشىء يمكن أن يُقال عن التناول من الأسرار المقدسة: فكل حياتنا النسكية والروحية هي تعميق وتحقيق لاتحادنا الإفخارستى مع المسيح المخلص. فى الكنيسة الأرثوذكسية يُعطى التناول للأطفال ابتداءً من لحظة معموديتهم فصاعدًا. وهذا معناه أن أولى ذكريات الطفولة التي تتكوّن عند المسيحى الأرثوذكسى تكون مرتبطة بمجيئه لتناول جسد المسيح ودمه؛ كما أنه يأمل أن يكون آخر عمل فى حياته؛ هو أن يتناول هذه الأسرار المقدسة. وهكذا فإن اختباره للتناول من الأسرار يمتد ليملأ كل مجال حياته الواعية. إنه من خلال الشركة فى الأسرار ـ فوق كل شئ ـ يصير المسيحى “واحدًا مع المسيح”، يُغرس فى الله ingodded، أو يؤله (يصير إلهيًا). إنه من خلال التناول ـ فوق كل شئ ـ ينال باكورة الأبدية. يقول مار اسحق السريانى: [ مغبوط هو الذي قد أكل خبز المحبة الذي هو يسوع”. “هو يستنشق، وهو لا يزال فى هذا العالم ـ هواء القيامة ـ الذي سيبتهج به الأبرار بعد أن يقوموا من الأموات”. يقول نيقولا كاباسيلاس: “كل البشر الذين يجاهدون يصلون إلى غايتهم النهائية هنا، لأننا فى هذا السر نبلغ إلى الله نفسه، والله نفسه يصير واحدًا معنا بأكمل صورة من صور الاتحاد الممكنة. هذا هو السر النهائى: أبعد من هذا لا يمكن الذهاب، ولا يمكن أن يضاف إليه شئ آخر ].
ثالثًا: الطريق الروحى ليس كنسيًا وسرائريًا فقط، بل هو أيضًا إنجيلى، هذا هو الافتراض الثالث بالنسبة للمسيحى الأرثوذكسى. فى كل خطوة على الطريق، نحن نلجأ لطلب الإرشاد من صوت الله الذي يكلمنا من خلال الكتاب. تخبرنا ” أقوال آباء البرية ” بأن “الشيوخ اعتادوا أن يقولوا: الله لا يطلب من المسيحيين شيئًا سوى أن يسمعوا للكتب المقدسة ويعملوا بالأمور التي تقولها الكتب”. (ولكن فى موضع آخر يؤكد نفس كتاب أقوال آباء البرية على أهمية الحصول على إرشاد من أب روحى ليساعدنا فى تتميم الكتاب باستقامة). وحينما سُئل القديس أنطونيوس: [ ما هي القوانين التي أحفظها لكى أرضى الله؟” أجاب: “حيثما ذهبت ليكن الله أمام عينيك ؛ وفى كل ما تفعل أو تقول ليكن لك شاهد من الكتب المقدسة؛ وأى مكان تسكن فيه لا تتعجل بتركه إلى موضع آخر. أحفظ هذه الثلاثة وأنت سوف تحيا “.
يكتب المطران فلاريت مطران موسكو:
“ المصدر النقى الوحيد والكافى تمامًا لتعاليم الإيمان هو كلمة الله الموحاة الموجودة فى الكتب المقدسة ]
والأسقف أغناطيوس بريانتشانينوف يعطى للمبتدئ الذي يدخل الدير هذه التوصيات، وهي توصيات تصلح بالتساوى للعلمانيين:
[ منذ أول دخوله إلى الدير ينبغى للراهب أن يكرس كل اهتمامه وانتباهه لقراءة الإنجيل المقدس. يجب أن يدرس الإنجيل بتدقيق حتى يصير حاضرًا دائمًا فى ذاكرته. وينبغى أن يكون تعليم الإنجيل حاضرًا فى ذهنه عند كل موقف أخلاقى، عند كل عمل، وعند كل فكر استمر فى دراسة الإنجيل حتى نهاية حياتك. لا تتوقف أبدًا. لا تظن أنك قد عرفته بدرجة كافية حتى لو كنت قد حفظته كله غيبًا ].
ما هو موقف الكنيسة الأرثوذكسية من الدراسة النقدية للكتاب المقدس التي جرت فى الغرب فى العصور الحديثة؟. ينبغى أن نضع فى أذهاننا أن الكتاب المقدس ليس مجرد مجموعة وثائق تاريخية، بل هو كتاب الكنيسة، ” الذي يحوى كلمة الله “. وهكذا فنحن لا نقرأ الكتاب كأفراد منعزلين، نفسره فقط على ضوء فهمنا الخاص أو على أساس النظريات الشائعة عن نقد المصادر، أو نقد النص أو غيره من نظريات النقد. نحن نقرأه كأعضاء الكنيسة، ونحن فى شركة مع كل الأعضاء الآخرين طوال الأجيال. المعيار النهائى لتفسيرنا للكتاب هو ذهن الكنيسة. وهذا يعنى أن نضع أمامنا ما هو المعنى الذي شُرح به الكتاب فى التقليد المقدس: أو بمعنى آخر كيف فهم آباء الكنيسة القديسون الكتاب المقدس، وكيف تستخدم الكنيسة الكتاب فى عبادتها الليتورجية.
وفى قراءتنا للكتاب، نحن عادة نجمع معلومات، أو نبحث فى معنى جملة غامضة، ونقارن ونحلل. ولكن هذا كله أمر ثانوى. الهدف الحقيقى لدراسة الكتاب هو أهم من ذلك بكثير. هو أن نغذى حبنا للمسيح، أن نشعل قلوبنا للدخول فى الصلاة، ولكى يزودنا الكتاب بالإرشاد فى حياتنا الشخصية.
إن دراسة الكلمات ينبغى أن تقودنا إلى حوار مباشر مع الكلمة الحى نفسه. يقول القديس تيخون من زادونسك ” كلما تقرأ الإنجيل، فالمسيح نفسه هو الذي يكلمك. وبينما أنت تقرأ، أنت تصلى وتتحدث معه “.
وبهذه الطريقة فإن الأرثوذكس يعتادون على ممارسة قراءة بطيئة متأملة واعية للكتاب، بها تقودنا دراسة الكتاب مباشرة إلى الصلاة كما يحدث فى الرهبنات البندكتية والسسترسيانية فى الغرب. ولكن الأرثوذكس ليس لديهم قواعد مفصلة أو طرق لهذه القراءات التأملية. فالتقليد الروحى الأرثوذكسى لا يستخدم الأنظمة الخاصة بالهذيذ والتأمل، التي وُضعت فى الغرب بواسطة أغناطيوس ليولا أو فرانسوا دى سال. السبب الذي يجعل الأرثوذكس يشعرون عادة أنهم لا يحتاجون لمثل هذه الأنظمة هو أن الخدمات الليتورجية التي يشتركون فيها خاصة فى الأعياد الكبرى والأصوام، هي طويلة جدًا وتحتوى على عدة نصوص من الكتاب تكرر كثيرًا. كل هذا يكفى لتغذية الخيال الروحى للمصلى، حتى أنه لا يحتاج أن يضيف أفكارًا جديدةً لتطوير رسالة الكنيسة فى خدماتها لتوضع فى فترات يومية للتأمل الرسمى المنظم.
وإذ نقترب من الكتاب بروح الصلاة، فإننا نجده دائمًا معاصرًا لنا، لا كمجرد كتابات كتبت من عصور سحيقة، بل هو رسالة موجهة مباشرة لى هنا والآن. يقول القديس مرقس الناسك: ” المتواضع فى أفكاره والمنشغل بالعمل الروحى، حينما يقرأ الكتاب المقدس، يطبق كل شئ على نفسه وليس على غيره”. والكتاب لأنه مُوحى به من الله، وموجه لكل مؤمن شخصيًا فإنه يملك قوة سرية، تنقل النعمة إلى القارئ، وتأتى به إلى نقطة اللقاء الحاسم. المعنى الحقيقى للكتاب سينكشف فقط للذين يدرسونه بذهنهم الروحى ودماغهم المفكر.
الكنيسة، الأسرار، الكتاب ـ هذه هي الافتراضات الثلاث لرحلتنا.
[ والآن لنعالج المراحل الثلاث: (1) حياة العمل أى ممارسة الفضائل، (2) تأمل الطبيعة، (3) تأمل الله ].
المرحلة الأولى: حياة العمل:
ملكوت السموات يُغضب:
كما يظهر من عنوانها، فإن حياة العمل تستلزم من ناحيتنا مجهودًا وصراعًا وبذل جهد متواصل من إرادتنا الحرة. ” ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدى إلى الحياة.. ليس كل من يقول يارب يارب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبى الذي فى السموات ” (مت21،14:7). يلزمنا أن نُمسك بحقيقتين مكملتين لبعضهما بشكل متوازن: فبدون نعمة الله لا نستطيع أن نعمل شيئًا؛ ولكن بدون تعاوننا الإرادى فإن الله لن يعمل شيئًا. ” إرادة الإنسان شرط أساسى لأنه بدونها فإن الله لا يعمل شيئًا ” (عظات القديس مقاريوس). إن خلاصنا يتم بتلاقى عاملين، هذان العاملان غير متساويين فى قيمتهما إلاّ أنه لا يمكن الاستغناء عن أى عامل منهما، وهما: المبادرة الإلهية والاستجابة البشرية. إن ما يعمله الله هو الأكثر أهمية بدون أى وجه للمقارنة، ولكن مشاركة الإنسان هي أيضًا لازمة.
فى حالة ما قبل السقوط، فإن استجابة الإنسان للحب الإلهي تكون تلقائية تمامًا ومملوءة فرحًا. ولكن حتى فى هذا العالم الساقط فإن عنصر التلقائية يظل موجودًا، ولكن هناك حاجة أيضًا لأن نكافح بتصميم ضد العادات العميقة الجذور والميول الناتجة عن الخطية؛ سواء الخطية الأصلية أو الخطايا الشخصية. إحدى الصفات الهامة جدًا التي يحتاجها المسافر على “الطريق”، هي المثابرة والإخلاص. والاحتمال المطلوب من الشخص الذي يتسلق الجبل جسميًا، هو مطلوب بالمثل من أولئك الذين يريدون صعود جبل الله.
يجب أن يغصب الإنسان نفسه ـ أى ذاته الساقطة ـ لأن ملكوت السموات يُغصب، والغاصبون يختطفونه (أنظر متى12:11). هذا ما يكرره لنا مرشدونا فى “الطريق” ويجب أن نتذكر أنهم يقولون هذا للمسيحيين المتزوجين مثلما يقولونه للرهبان والراهبات. ” الله يطلب كل شئ من الإنسان ـ فكره، وعقله، وأعماله… هل تريد أن تخلص عند موتك؟ أذهب وأبذل نفسك؛ اذهب واتعب؛ اذهب، وأطلب وسوف تجد؛ أسهر وأقرع؛ وسوف يُفتح لك” (من أقوال آباء البرية). “الحياة الحاضرة ليست وقتًا للراحة والنوم، بل هي كفاح، هي صراع، هي سوق، هي مدرسة، هي رحلة. لذلك ينبغى أن تجهد نفسك، ولا تكن مكتئبًا وكسولاً بل كرّس نفسك للأعمال المقدسة ” (الشيخ نازارى من فالامو). ” لا شئ يحدث بدون مجهود. معونة الله دائمًا حاضرة، ودائمًا قريبة، ولكنها تُعطى فقط لأولئك الذين يسعون ويعملون، تُعطى فقط لأولئك الساعين الذين ـ بعد أن يضعوا كل قواهم تحت الامتحان، فإنهم بعد ذلك يصرخون بكل قلبهم: يارب أعنا” (الأسقف ثيوفان الناسك). “حيث لا حزن لا يوجد خلاص” (القديس سيرافيم من صاروف). “أن تستريح يساوى أن تنسحب” (تيتو كولياندر). ومع ذلك، لئلا نُصاب بالكآبة بسبب هذا التشدد، فإنهم يقولون لنا أيضًا: “حياة الإنسان كلها هي يوم واحد، وذلك بالنسبة للذين يجاهدون بحماس” (من أقوال آباء البرية).
كل هذه الكلمات عن بذل الجهد والمعاناة، ماذا تعنى عمليًا ؟ إنها تعنى أن نجدد علاقتنا مع الله كل يوم من خلال الصلاة الحية، والصلاة ـ كما يقول أنبا أغاثون ـ هي أصعب كل الأعمال. إن كنا لم نجد صعوبة فى الصلاة، فهذا ربما لأننا لم نبدأ بعد الصلاة الحقيقية. هذه الكلمات تعنى أيضًا أن نجدد كل يوم علاقتنا مع الآخرين من خلال التعاطف الوجدانى، من خلال أعمال الشفقة العملية، ومن خلال قطع مشيئتنا الذاتية. إنهم يقصدون أن نحمل صليب المسيح، ليس مرة واحدةً بإيماءة متعظمة مفردة، بل أن نحمله كل يوم من جديد: ” إن أراد أحد أن يأتى ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم.. ” (لو23:9). ولكن هذا الحمل اليومى للصليب هو فى نفس الوقت اشتراك يومى فى تجلى الرب وقيامته: “ كحزانى ونحن دائمًا فرحون، كفقراء ونحن نغنى كثيرين، كأن لا شئ لنا ونحن نملك كل شئ.. كمائتين وها نحن نحيا ” (2كو10،9:6).
تغيير الذهن:
هذه هي الصفة العامة لحياة العمل. إنها تتميز فوق كل شئ بأربعة خصائص:
1 ـ التوبة 2 ـ السهر 3 ـ التمييز 4 ـ حفظ (حراسة) القلب.
فلننظر باختصار فى هذه الخصائص:
1 ـ التوبة: ” بداية الخلاص هي أن يحكم الإنسان على نفسه ” (إيفاجريوس). التوبة هي أول خطوة فى رحلتنا. الكلمة اليونانية metanoia كما سبق أن لاحظنا (أنظر الفصل الأول: الله سر ص15) تعنى أساسًا، ” تغيير الذهن “. والتوبة عندما تُفهم فهمًا صحيحًا ليست سلبية بل إيجابية. إنها تعنى، ليس العطف على الذات أو الندم، بل تعنى التغير، تعنى إعادة تركيز كل حياتنا حول الثالوث. هي أن ننظر ـ لا للوراء بأسف، بل إلى الأمام فى رجاء ـ لا إلى أسفل فنرى تقصيراتنا، بل إلى أعلا لنرى محبة الله. التوبة هي أن نرى ـ لا ما فشلنا أن نكون عليه (فيما سبق)، بل أن نرى ما يمكن أن نصير عليه الآن بالنعمة الإلهية ـ وأن نعمل على أساس ما نراه. أن نتوب هو أن نفتح أعيننا للنور.
وبهذا المعنى، فالتوبة ليست مجرد عمل مفرد، أو خطوة أولية، بل هي حالة مستمرة، هي موقف القلب والإرادة الذي نحتاج أن نجدده بلا توقف حتى نهاية الحياة. وبكلمات الأنبا إشعياء الأسقيطى: ” الله يريدنا أن نستمر فى التوبة حتى آخر نسمة “. ويقول مار اسحق السريانى: ” هذه الحياة أُعطيت لك لأجل التوبة، فلا تضيعها فى أمور أخرى “.
2 ـ السهر: أن تتوب يعنى أن تستيقظ. التوبة، أى تغيير الذهن، تقود إلى “السهر“. الكلمة اليونانية “للسهر” nepsis، تعنى حرفيًا: ” التعقل والسهر” ـ وهي عكس حالة أن يكون الإنسان فى حالة تخدير أو حالة سُكر بالخمر، وهكذا ففى إطار الحياة الروحية، هي تعنى حالة التنبه، واليقظة والتركيز وجمع الفكر. وحينما تاب الابن الضال قال الإنجيل عنه إنه “رجع إلى نفسه ” (لو17:15). فالإنسان “اليقظ الساهر” هو ذلك الإنسان الذي رجع إلى نفسه، الذي لا يحلم أحلام يقظة ـ فينساق بلا هدف تحت تأثير المؤثرات العابرة ـ بل هو الذي يملك إحساسًا واضحًا بالاتجاه والهدف الذي يتجه إليه. وتعبّر إحدى كتابات القرن الثانى (سفر الحق) عن التائب بقولها “التائب يُشبه شخصًا يستفيق من السكر، ويرجع إلى نفسه… وهو يعرف من أين يأتى وإلى أين يذهب “.
” السهر” ـ يعنى ضمن معانى أخرى ـ أن نكون حاضرين حيثما نوجد ـ فى هذه النقطة المحددة من المكان، وفى هذه اللحظة المعينة من الزمان. نحن كثيرًا ما نكون مشتتين موزعين، فنعيش ـ ليس بانتباه وصحو فى الحاضر ـ بل فى حنين إلى الماضى، أو بشكوك أو تمنيات من جهة المستقبل. فبينما علينا مسئولية فى الواقع أن نخطط للمستقبل ـ لأن السهر هو عكس العجز والتواكل ـ فإننا ينبغى أن نفكر فى المستقبل فقط بقدر ما يعتمد على اللحظة الحاضرة. فالقلق على الاحتمالات البعيدة التي تقع خارج حدود مسئوليتنا المباشرة هو مجرد تضيع لطاقاتنا الروحية.
الإنسان “الساهر” إذن، ينجمع فى “الحاضر” وفى “الآن”. هو ذلك الشخص الذي يمسك ” بالوقت أى الفرصة ” kairos، الذي يمسك بلحظة الفرصة الحاسمة. ” الله يرغب أن ينتبه الناس لأمرين أساسيين: للأبدية نفسها، ولتلك النقطة من الزمن التي يسمونها “الحاضر“. لأن الحاضر هو النقطة التي فيها يتلامس الزمن مع الأبدية. ومن هذه اللحظة الحاضرة، ومنها وحدها يحصل البشر على الاختبار الذي عند الله ـ عن الحقيقة ككل، وفى هذه اللحظة وحدها تقدم للبشر الحرية والحقيقة ” (من كتابThe Screwtape Letters لـC.S. Lewis سى إس لويس). وكما يعلم Meister Eckhart مايستر إيكهارت: “ذلك الذي يبقى دائمًا فى” حاضر الآن “، فإن الله يلد ابنه فيه باستمرار “.
الإنسان ” الساهر ” هو ذلك الشحص الذي يفهم “سر اللحظة الحاضرة”، ويحاول أن يحيا بها. هو يقول لنفسه بعبارات بول أفدوكيموف: [ الساعة التي تمر بها فى الحاضر، الإنسان الذي تقابله هنا والآن، المهمة التي تنشغل بها فى هذه اللحظة ذاتها ـ هذه هي دائمًا أهم الأمور فى حياتك كلها “. وهو يأخذ لنفسه الشعار المكتوب على معطف روسكن Ruskin للأسلحة. ” اليوم، اليوم، اليوم “]. ” هناك صوت يصرخ مناديًا الإنسان حتى آخر نسمة، هذا الصوت يقول: تغيّر اليوم ” (أقوال آباء البرية).
3 ـ التمييز والإفراز: بالنمو فى السهر ومعرفة النفس، فإن المسافر على الطريق يبدأ فى اكتساب قوة التمييز أو الإفراز. وهذا التمييز يعمل كحاسة للتذوق الروحى. فكما أن حاسة التذوق الطبيعى ـ إن كانت سليمة ـ فإنها تُعرّف الإنسان إن كان الطعام متعفنًا أم صحيًا؛ هكذا أيضًا فإن التذوق الروحى، عندما ينمو وينضج بالمجهود النسكى والصلاة، فهو يجعل الإنسان قادرًا أن يميز بين الأفكار والدوافع المختلفة فى داخله. فهو يتعلم الفرق بين الخير والشر، بين ما هو غير ضرورى وما هو ملئ بالمعنى، بين الخيالات التي يوحى بها الشيطان والصور التي تنطبع فى مخيلته المبدعة من النماذج الأصلية السماوية.
4 ـ فبواسطة التمييز إذن، يبدأ الإنسان أن يلاحظ بحرص أكثر، ما هو الذي يحدث فى داخله، وهكذا فإنه يتعلم أن ” يحفظ (يحرس) القلب “، فيغلق الباب أمام تجارب العدو وإثاراته. “بكل تحفظ أحفظ قلبك” (أم23:4).
حينما يُذكر “القلب” فى الكتابات الروحية الأرثوذكسية، فينبغى أن يُفهم فى معناه الكتابى الكامل. القلب لا يعنى فقط العضو الطبيعى داخل الصدر، ولا يعنى مجرد العواطف والانفعالات، بل يعنى المركز الروحى لكيان الإنسان، الشخص الإنسانى كمخلوق على صورة الله ـ النفس بكل الأكثر عمقًا والأكثر صدقًا، الهيكل الداخلى الذي يجب الدخول إليه فقط عن طريق التضحية والموت. لذلك، فالقلب يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالذهن الروحى الذي سبق الحديث عنه (أنظر الفصل الثالث: الله خالق ص59) وأحيانًا كثيرة يُستعمل التعبيران بالتبادل بنفس المعنى. ولكن “القلب” له فى الغالب معنى أشمل من تعبير “ الذهن “.
فإن “صلاة القلب” فى التقليد الأرثوذكسى، تعنى الصلاة التي تُقدم من الشخص بكليته بما يشمل: الذهن، والعقل، والإرادة، والمشاعر، والجسد أيضًا.
أحد النواحى الأساسية فى “حفظ القلب” هو “الحرب ضد الأهواء أو الشهوات” والمقصود “بالشهوة” هنا ليس فقط الشهوة الجنسية، بل أية شهوة مضطربة أو أية رغبة شديدة تتملك النفس بعنف: كالغضب، الغيرة، الشراهة، الجشع، شهوة القوة، الكبرياء، وغير ذلك. بعض الآباء يعتبرون أن الشهوات هي شئ شرير فى ذاتها، أى، أنها أمراض داخلية غريبة عن طبيعة الإنسان الحقيقية. ولكن البعض الآخر منهم لهم وجهة نظر إيجابية أكثر، إذ يعتبرون الشهوات كمؤثرات ديناميكية موضوعة أصلاً فى الإنسان من الله، ولذلك فهي أساسًا صالحة، رغم أنها حاليًا قد شوهتها الخطية. وبناءً على هذا الرأى الثانى اللطيف، فإن هدفنا ليس أن نستأصل الشهوات بل أن نعيد توجيه طاقتها. فالغضب الشديد غير المنضبط يجب أن نحوله إلى سخط على الشر، والغيرة الحقودة نحولها إلى غيرة لأجل الحق، والشهوة الجنسية نحولها إلى حب نقى فى حرارته. إذن، فالشهوات يجب أن نطهرها لا أن نقتلها؛ أن نهذبها لا أن نستأصلها؛ أن نستعملها إيجابيًا لا سلبيًا. فنقول لأنفسنا وللآخرين: لا ” تكبت ” بل “جلّى” ” اصنع تجليًا ” (أى غيّر الشكل).
هذا المجهود لتطهير الشهوات يحتاج منا أن نتممه على مستوى النفس والجسد كليهما. فعلى مستوى النفس يتم تطهير الشهوات بواسطة الصلاة، وبالممارسة المنتظمة لسرى الاعتراف والتناول، وعن طريق القراءة اليومية فى الكتاب المقدس، وبواسطة تغذية ذهننا بأفكار صالحة، وممارسة أعمال وخدمات محبة للآخرين. أما على مستوى الجسد فالشهوات تتطهر ـ قبل كل شئ ـ بواسطة الصوم والتقشف، وبواسطة السجدات الكثيرة أثناء الصلاة. فالكنيسة الأرثوذكسية لأنها تعرف أن الإنسان ليس ملاكًا بل هو وحدة من جسد ونفس، لذلك تُصر وتؤكد على القيمة الروحية للصوم الجسدى. نحن لا نصوم بسبب وجود أى نجاسة فى عملية الأكل والشرب ذاتها. على العكس، فإن الطعام والشراب هما عطية من الله، يجب أن نتناولهما بفرح وشكر. نحن نصوم لا لأننا نحتقر العطية الإلهية، بل لكى نجعل أنفسنا تعى، أن عطية الطعام هي حقًا هبة ـ أى لكى نطهر أكلنا وشربنا، ولكى نجعلهما ـ ليس بعد إذعانًا للشراهة، بل يصيران “سر” ووسيلة للشركة مع ” الواهب“. وإذ نفهم الصوم النسكى بهذه الطريقة، فإنه يكون موجهًا ليس ضد الجسد Body بل ضد “اللحم” Flesh (أنظر الفصل الثالث: الله خالق ص59. فهدفه ليس الهدم لإضعاف الجسد، بل هدفه بنّاء خلاّق لجعل الجسد أكثر روحانية.
تطهير الشهوات يؤدى فى النهاية ـ بنعمة الله ـ إلى ما يسميه إفاجريوس apatheia “عدم الهوى”. وهو يقصد بهذا التعبير ـ ليس حالة سلبية من عدم المبالاة أو عدم الإحساس ـ أى لا نعود نشعر بأى إغراء أو تجربة ـ بل يقصد حالة إيجابية من إعادة التكامل والحرية الروحية حيث لا نعود نستسلم للتجربة. وربما يكون أفضل ترجمة لتعبير apatheia “أباثيا” هو ” نقاوة القلب”. إنها تعنى التقدم من “التزعزع” إلى “الثبات“، من الإزدواجية إلى البساطة أو إخلاص القلب، من حالة الخوف والتشكك المرتبطة بعدم النضج إلى حالة البراءة والثقة المرتبطة بالنضج. عند إفاجريوس، عدم الهوى والمحبة، مرتبطان ارتباطًا وثيقًا مثل وجهين لعملة واحدة. فإن كنت تشتهي فأنت لا تستطيع أن تحب. عدم الهوى يعنى أننا لم نعد بعد تحت سيطرة حب الذات والرغبة غير المضبوطة، وهكذا نصير قادرين على المحبة الحقيقية. الشخص “عديم الهوى”، ليس عديم الحس، بل هو ذلك الشخص الذي يشتعل قلبه بالمحبة لله، وبالمحبة للبشر الآخرين، ولكل مخلوق حى، ولكل ما خلقه الله. وكما يكتب القديس مار اسحق السريانى:
[حينما يفكر الإنسان الذي له مثل هذا القلب فى المخلوقات وينظر إليها، تمتلئ عيناه بالدموع بسبب الحنان الغامر الذي يضغط على قلبه. فقلب مثل هذا الإنسان يصير رقيقًا، ولا يستطيع أن يحتمل أن يسمع أو يرى أى أذى أو حتى أى ألم يُوجه إلى أى شئ فى الخليقة. لذلك، فهو لا يكف عن الصلاة بدموع حتى لأجل الحيوانات العجماء، ولأجل أعداء الحق ولأجل جميع الذين يسيئون إلى الحق، متوسلاً (إلى الله) أن يُحفظوا وينالوا رحمة الله. ويصلى أيضًا بحنان عظيم لأجل الزواحف، هذا الحنان الذي يزداد بلا نهاية فى قلبه، على مثال الله].
المرحلة الثانية: تأمل الطبيعة:
إلى الخالق من خلال الخليقة:
المرحلة الثانية على الطريق ذى المراحل الثلاث هي تأمل الطبيعة ـ وبدقة أكثر هي تأمل الطبيعة فى الله، أو تأمل الله فى الطبيعة ومن خلال الطبيعة. وهكذا فإن المرحلة الثانية هي تمهيد وطريق للدخول إلى المرحلة الثالثة. أى بتأمل الأشياء التي خلقها الله، فإن رجل الصلاة يأتى إلى تأمل الله نفسه. هذه المرحلة الثانية ” للتأمل الطبيعى ” كما سبق وذكرنا ـ ليست بالضرورة تالية “لمرحلة العمل” بل قد تكون معها فى نفس الوقت.
ليس هناك إمكانية لأى تأمل من أى نوع بدون “سهر” (يقظة). لأنى لا أستطيع أن أتأمل الطبيعة أو أتأمل الله بدون أن أتعلم أن أكون حاضرًا حيثما أوجد، منجمعًا معًا فى هذه اللحظة الحاضرة، فى هذا المكان الحاضر. قف، أنظر وأنصت. هذه هي البداية الأولى للتأمل. تأمل الطبيعة يبدأ حينما افتح عينى ـ حرفيًا وروحيًا ـ وأبدأ فى ملاحظة العالم المحيط بى ـ حينما أبدأ أن ألاحظ العالم الحقيقى، أى عالم الله. الإنسان المتأمل، هو ذلك الإنسان الذي يخلع نعليه، مثل موسى أمام العليقة المشتعلة(خر5:3) ـ أى أنه يعرى نفسه من الاعتياد والضجر ـ والذي يدرك بعد ذلك أن المكان الذي يقف فيه هو أرض مقدسة. أن تتأمل هو أن تصير واعيًا لأبعاد المكان المقدس الزمان المقدس. هذا الشيء المادى، هذا الشخص الذي أتحدث إليه، هذه اللحظة من الزمن ـ كل من هؤلاء، مقدس. كل منهم ـ بطريقته الخاصة ـ هو غير قابل للتكرار ولذلك فهو ذو قيمة لا نهائية، وكل منهم يمكن أن يكون نافذة تفتح على الأبدية. وعندما أصير حساسًا لعالم الله المحيط بى، فإنى أنمو أكثر أيضًا فى إدراك عالم الله فى داخلى. وإذ أبدأ أن أرى الطبيعة فى الله، فإنى أبدأ أن أرى مكانى الخاص كشخص بشرى ضمن النظام الطبيعى؛ أى أبدأ أن أفهم ما معنى أن أكون “كون صغير” ووسيط.
لقد أوضحنا فى فصول سابقة الأساس اللاهوتى لتأمل الطبيعة هذا. طاقات الله غير المخلوقة تنفذ فى كل الأشياء المخلوقة وتحفظها فى الوجود، وهكذا فإن كل الأشياء تكون تجليات يتحقق بها حضوره (أنظر الفصل الأول: الله سر تحت عنوان الجوهر والطاقات من ص30 إلى 33). ففى قلب كل شئ يوجد أساسه الداخلى أى كلمته (لوغوس logos)؛ مغروس فيه من الكلمة (اللوغوس) الخالق؛ وهكذا فإننا من خلال هذه الكلمات logoi ندخل فى شركة مع اللوغوس logos (أنظر الفصل الثانى ـ الله ثالوث ص38). الله أعلا من كل الأشياء وهو يفوق عليها كلها، ومع ذلك فهو كخالق موجود أيضًا داخل كل الأشياء ـ أى وجود الله فى كل الكون Panentheism وليس ألوهية الكون Pantheism (أنظر الفصل الثالث ـ الله خالق ص59). إذن، فأن نتأمل الطبيعة، هو بعبارة Blake (بليك)، ” أن نطهر أبواب حواسنا “، على المستويين الجسدى والروحانى، وبذلك نرى طاقات الله أو كلماته logoi فى كل شئ صنعه الله. أى نكتشف، ليس بواسطة عقلنا المنطقى أساسًا بل بالحرى بواسطة ذهننا الروحانى ـ أن العالم كله هو “عليقة كونية مشتعلة”، مملوءة بالنار الإلهية ولكنها لا تحترق.
هذا هو الأساس اللاهوتى ؛ ولكن تأمل الطبيعة يحتاج أيضًا أساسًا أخلاقيًا. فنحن لا نستطيع أن نتقدم فى المرحلة الثانية للطريق الروحى إن لم نتقدم فى المرحلة الأولى بممارسة الفضائل وتكميل الوصايا. فتأملنا الطبيعى ـ إن كان ينقصه أساس راسخ من “حياة العمل” ـ يصير مجرد إحساس جمالى أو يصير رومانسيًا خياليًا، ويخفق فى أن يرتفع إلى مستوى “السهر” أو ما هو روحانى حقيقةً. لا يمكن أن يكون هناك إحساس بالعالم فى الله بدون توبة جذرية، بدون تغيير مستمر للذهن.
تأمل الطبيعة له وجهان. الوجه الأول، أنه يعنى تقدير الـ ” هكذا ” (Thusness) أو الـ”هذا” (thisness) للأشياء على وجه التخصيص، (أى تقدير كل شئ كما هو فى ذاته (وفى وضعه كما هو موجود) وللأشخاص واللحظات. يلزمنا أن نرى كل حجر، كل ورقة شجر، كل عشب، كل ضفدعة، كل وجه بشرى كما هو حقيقة فى ذاته، فى كل التميز والكثافة التي تميز وجوده الخاص به. وكما يحذرنا النبى زكريا، فإننا لا ينبغى أن ” نزدرى بيوم الأمور الصغيرة ” (زك10:4). يقول أوليفيه كليمنت إن “التصوف الحقيقى (True Mysticism) (المستيكية الحقيقية) هو أن نكتشف ما هو غير معتاد فى ما هو معتاد “. ليس هناك شئ مخلوق يعتبر تافهًا أو يستحق الازدراء، فلأنه صنعة يد الله، فكل شئ مخلوق، له وضعه الفريد فى العالم المخلوق. الخطية وحدها هي وضيعة وتافهة، مثلها مثل معظم منتجات التكنولوجيا الساقطة الخاطئة؛ ولكن الخطية كما سبق أن لاحظنا، ليست شيئًا حقيقيًا، ومنتجات الخطية ـ رغم صلابتها الظاهرية وقوتها المدمرة ـ هي بالمثل أيضًا ليست حقيقية.
والوجه الثانى لتأمل الطبيعة، يعنى أننا نرى كل الأشياء، والأشخاص واللحظات كعلامات وأسرار لله. ففى رؤيتنا الروحية نحن لا نرى فقط كل شئ بارزًا بشكل حاد، متميزًا جدًا بكل بريق وجوده الخاص، بل يجب أيضًا أن نرى كل شئ شفافًا: فيجب أن نرى الخالق فى كل ـ ومن خلال كل ـ شئ مخلوق. وعندما نكتشف فرادة كل شئ، فنحن نكتشف أيضًا كيف أن كل شئ يشير إلى من هو أبعد من ذاته ـ يشير إلى ذاك الذي صنعه. وهكذا نتعلم ـ بكلمات “هنرى سوزو” Henry Suso ـ أن نرى “الداخلى” فى “الخارجى” إذ يقول: “ذلك الذي يستطيع أن يرى ” الداخلى” فى “الخارجى”، يكون “الداخلى” بالنسبة إليه أكثر داخلية من ذاك الذي يستطيع فقط أن يرى “الداخلى” فى “الداخلى”.
هذان الوجهان لتأمل الطبيعة يشار إليها بالضبط فى قصيدة شعر “جورج هربرت George Herbert”، الإكسير The Elixir:
علمنى، يا إلهي وملكى، أن أراك فى كل الأشياء،
وما أعمله فى أى شئ، أن أعمله كأنه لأجلك.
الإنسان الذي ينظر إلى مرآة يمكن أن يبقى ناظرًا إليها،
أو إن رغب، يعبر خلالها، ويلمح السماء من بعيد.
أن تنظر إلى المرآة هو أن تدرك ” الـ هذا “، أى الحقيقة الكثيفة لكل شئ؛ أما أن تنظر “خلال” المرآة وهكذا تلمح السماء هو أن ترى حضور الله فى ذلك الشيء ووراء ذلك الشيء. هاتان الطريقتان فى النظر إلى العالم تؤكدان وتكملان إحداهما الأخرى. فالخليقة تقودنا إلى الله، والله يعيدنا مرة أخرى إلى الخليقة، إذ يعطينا الإمكانية أن ننظر إلى الطبيعة بعينى آدم فى الفردوس. لأننا عندما نرى كل الأشياء فى الله، فنحن نراها مملوءة بحيوية وإشراق لم يكن ممكنًا لها أن تملكهما بدون ذلك.
لا ينبغى أن نحصر حضور الله فى العالم فى مجال محدود من الأمور والمواقف “التقوية”، بينما نلقب كل الأشياء الأخرى بلقب “دنيوى”؛ بل ينبغى أن ننظر إلى كل الأشياء على أنها أساسًا “مقدسة”، كهبة من الله وكوسيلة للشركة معه. ولكن هذا لا يعنى أن نقبل العالم الساقط بشروره كما هو. فهذا الموقف (قبول العالم الساقط) هو الخطية التعيسة التي سقطت فيها “المسيحية الدنيوية” فى الغرب المعاصر. كل الأشياء هي فى الحقيقة مقدسة فى كيانها الحقيقى، بحسب جوهرها العميق؛ ولكن علاقتنا بخليقة الله قد تشوشت بالخطية ـ الخطية الأصلية والخطايا الشخصية ـ ونحن لن نكتشف هذه القدسية الداخلية (فى المخلوقات) بدون أن يتنقى قلبنا. بدون إنكار الذات، بدون انضباط نسكى، لا نستطيع أن نجزم بالجمال الحقيقى للعالم. ولهذا السبب، فإنه لا يمكن أن يكون هناك تأمل حقيقى أصيل بدون توبة. التأمل يعنى أن نجد الله ليس فى كل الأشياء فقط، بل نجده بالتساوى فى كل الأشخاص. حينما نوقر الأيقونات المقدسة فى الكنيسة أو فى البيت، ينبغى أن نفكر جديًا أن كل رجل وكل امرأة هو أو هي أيقونة حية لله. ” وبما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى هؤلاء الأصاغر فبى فعلتم” (مت40:25). لكى نجد الله، نحن لا نحتاج أن نترك العالم، أن نعزل أنفسنا عن اخوتنا البشر، ونغمر أنفسنا فى نوع من الفراغ التصوفى. على العكس، فإن المسيح ينظر إلينا من خلال عيون جميع الذين نلاقيهم. فعندما يحدث أن ندرك حضوره الشامل هذا (فى كل الأشخاص)؛ فإن كل أعمال خدمتنا العملية للآخرين تصير أفعال صلاة.
إنه لأمر شائع أن يعتبر التأمل كموهبة نادرة عالية جدًا، ولاشك أنها كذلك عندما يكون التأمل فى ملئه. ومع ذلك فإن بذور الموقف التأملى موجودة فينا جميعًا. فمن هذه الساعة وهذه اللحظة يمكننى أن أبدأ بالتمشى فى العالم، مدركًا أنه عالم الله، وأن الله قريب منى فى كل شئ أراه وألمسه، فى كل إنسان ألتقى به. وحتى إن كنت أفعل هذا بشكل متقطع وغير كامل، فإنى قد وضعت قدمى فعلاً على طريق التأمل.
وأناس كثيرون من الذين يجدون صلاة السكون الخالية من كل تصور، فوق طاقتهم الحالية، والذين صارت العبارات المألوفة فى الكتاب المقدس أو فى كتب الصلاة، مملة وجافة بالنسبة لهم، هؤلاء يمكنهم أن يجددوا حياتهم الداخلية بواسطة ممارسة تأمل الطبيعة. وإذ أتعلم أن أقرأ كلمة الله فى كتاب الخليقة، وأكتشف توقيعه فى كل الأشياء، فإننى أجد حينئذٍ ـ حينما أعود لأقرأ كلمته فى الكتاب المقدس وفى كتب الصلاة ـ أن العبارات المألوفة قد صار لها معنى عميق جديد. وهكذا فإن الطبيعة والكتاب المقدس يكملان أحدهما الآخر ـ وبكلمات القديس مار افرام السريانى:
حيثما تحول عينيك، فهناك رمز الله؛
حيثما تقرأ فستجد هناك علاماته
تطلع وأنظر كيف أن الطبيعة والكتاب مرتبطان معًا…
فالتسبيح لرب الطبيعة،
والمجد لرب الكتاب.
المرحلة الثالثة: تأمل الله:
من الكلام إلى الصمت:
كلما سعى الإنسان أن يتأمل الله فى الطبيعة، بقدر ذلك يكتشف أيضًا أن الله هو فوق الطبيعة ويتجاوزها. وإذ يجد الإنسان بعض آثار قليلة لله فى كل الأشياء، يقول: ” هذا أيضًا هو أنت؛ كما أن هذا ليس هو أنت “. وهكذا فإن المرحلة الثانية للطريق الروحى تقود الإنسان ـ بمعونة الله ـ إلى المرحلة الثالثة، حينما لا يعود الله يُعرف فقط من خلال الأشياء التي خلقها، بل يُعرف بواسطة اتحاد مباشر وبدون وساطة.
الانتقال من المستوى الثانى إلى المستوى الثالث، يتحقق بأن نطبق منهج النفى السالبى (Apophatic) (أنظر الفصل الأول: الله سر ص**)، على حياة الصلاة، وهذا ما نتعلمه من معلمينا الروحيين فى التقليد الأرثوذكسى. فالكتاب المقدس والنصوص الليتورجية والطبيعة تقدم لنا عددًا لا يُحصى من الكلمات، والصور، والرموز عن الله؛ وهم يعلموننا أن نعطى لهذه الكلمات والصور والرموز كل الأهمية، وأن نمعن النظر فيها، فى صلاتنا. ولكن بما أن هذه الأمور لا يمكن أن تعبر عن الحقيقة الكاملة بخصوص الإله الحى؛ فإنهم يشجعوننا أيضًا أن نوازن هذا الجانب الإيجابى (Cataphatic) للصلاة بالمنهج السالبى النافى (Apophatic) للصلاة. وكما يقول إيفاجريوس: ” الصلاة هي تنحية الأفكار جانبًا “. وهذا طبعًا لا يجب أن يعتبر تعريفًا كاملاً للصلاة، ولكنه يشير إلى نوع الصلاة التي تقود الإنسان من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة للطريق الروحى. فالإنسان الذي يسعى فى الطريق، إذ يمتد نحو الحق الأبدى الذي يعلو على كل الكلمات والأفكار البشرية، يبتدئ أن ينتظر الله فى هدوء وسكوت، فلا يعود يتكلم عن الله أو يتكلم معه بل ينصت فقط. ” اسكتوا، وأعلموا أنى أنا هو الله ” (مز10:46).
هذا السكوت، أو السكون الداخلى يعرف فى اليونانية بـ “الـ هيزيخيا hesychia”، والذي يطلب صلاة السكون يسمى”هيزيخاست hesychast”. الـ”هيزيخيا” تعنى التركيز مع الهدوء الداخلى. ولا ينبغى أن تُفهم بمعنى سلبى على أنها: غياب الكلام وغياب النشاط الخارجى، ولكنها تعنى، بطريقة إيجابية، انفتاح القلب البشرى لمحبة الله. وغنى عن القول، إنه بالنسبة لمعظم الناس إن لم يكن لكل الناس، “فالهيزيخيا” (صلاة الهدوء) ليست حالة دائمة. فالإنسان الهيزيخى، مثلما يدخل إلى صلاة الهدوء، فإنه يستعمل أشكالاً أخرى للصلاة أيضًا، إذ يشترك فى العبادة الليتورجية الجماعية، ويقرأ الكتاب المقدس، ويتناول من الأسرار المقدسة. فالصلاة السلبية (Apophatic) والصلاة الإيجابية (Cataphatic) توجدان معًا، وكل منهما تقوى الأخرى. فالطريق السالبى والطريق الإيجابى ليسا بديلين أحدهما للآخر، بل يكمل أحدهما الآخر.
ولكن كيف نتوقف عن الكلام ونبدأ أن ننصت؟ هذا هو أصعب درس يمكن أن نتعلمه، من بين دروس الصلاة كلها. لن ينفعنا كثيرًا أن نقول لأنفسنا، “لا تفكر”، لأن منع تجول الفكر ليس أمرًا يمكن أن نصل إليه بمجرد جهد إرادى من ناحيتنا. فالذهن الذي لا يستريح أبدًا، يتطلب منا عملاً ما لكى يشبع حاجته المستمرة للنشاط. فلو أن خطتنا الروحية كانت سلبية تمامًا ـ أى إن حاولنا أن نستبعد كل تفكير شعورى دون أن نقدم لذهننا أى نشاط بديل ليقوم به ـ فمن المحتمل أن ينتهي الأمر بنا إلى أحلام يقظة غامضة. الذهن يحتاج إلى عمل ما ينشغل به، وفى نفس الوقت يمكّنه من أن يمتد ويتجاوز نفسه إلى الهدوء. وفى التقليد الهدوئى الأرثوذكسى، فإن العمل الذي يُقدم للذهن هو الترديد المستمر “لصلاة سهمية” قصيرة، وأكثرها شيوعًا هي “صلاة يسوع”: “يا ربى يسوع المسيح ابن الله، ارحمنى أنا الخاطئ”.
حينما نردد صلاة يسوع ينبغى أن نتحاشى قدر الإمكان أية صورة معينة. يقول القديس غريغوريوس النيسى: ” العريس حاضر، ولكنه غير منظور”. صلاة يسوع ليست من أشكال التأمل التخيلى فى أحداث متنوعة فى حياة المسيح. بل بينما نتحول عن الصور، نحتاج أن نركز كل انتباهنا على الكلمات أو بالأحرى فى الكلمات. صلاة يسوع ليست تعزيم (رقية) منّوم، بل هي عبارة مملوءة بالمعانى، هي استدعاء موجه إلى شخص آخر. هدف صلاة يسوع، ليس الاسترخاء بل اليقظة، ليس النوم أثناء الصحو بل الصلاة الحية. ولذلك، فإن صلاة يسوع لا يجب أن تُقال بطريقة آلية بل بقصد داخلى؛ ومع ذلك، ففى نفس الوقت، يجب أن تُنطق الكلمات بدون توتر، وبدون عنف أو تشديد زائد. فالخيط الذي يلف حول حزمتنا الروحية يجب أن يكون محكمًا، متدليًا بارتخاء؛ كما أنه لا ينبغى أن يُشد بإحكام زائد حتى يقطع أطراف الحزمة.
هناك ثلاث مستويات أو ثلاث درجات فى ترديد صلاة يسوع. فهي تبدأ “كصلاة بالشفتين“، أى صلاة شفوية. ثم تنمو وتتعمق إلى الداخل لتصير “صلاة الذهن“، أى صلاة عقلية. وأخيرًا فإن الذهن “ينزل” إلى القلب ويتحد به، وهكذا تصير الصلاة، “صلاة القلب“، أو بدقة أكثر “صلاة الذهن فى القلب“. وعند هذا المستوى فإنها تصير صلاة الشخص كله ـ فلا تكون بعد شيئًا نفكر فيه أو نقوله، بل شيئًا نكونه: لأن الهدف النهائى للطريق الروحى ليس شخصًا “يقول” صلوات من وقت لآخر، بل الهدف هو شخص يكون “هو” صلاة كل حين. أى أن صلاة يسوع تبدأ كمجموعة من “أفعال” الصلاة، أما هدفها النهائى فهو أن تؤسس فى الشخص الذي يصلى، “حالة” صلاة بلا انقطاع، والتي تستمر بلا توقف حتى أثناء ممارسة الأنشطة الأخرى.
وهكذا، فصلاة يسوع تبدأ كصلاة شفوية كأى صلاة أخرى. لكن التكرار المنتظم لنفس العبارة القصيرة يمكّن المصلى الهدوئى (الهزيخاست)، بسبب بساطة الكلمات نفسها التي يستعملها أن يتقدم متجاوزًا كل لغة وكل صورة ليدخل فى سر الله. وبهذه الطريقة، فإن صلاة يسوع، تنمو وتتطور ـ بمعونة الله ـ إلى ما يسميه الكُتّاب الغربيون بـ “صلاة الانتباه الحبى” أو “صلاة التفرس البسيط”، حيث تستريح النفس فى الله بدون التتابع المتواصل لمختلف الصور والأفكار والمشاعر. وبعد هذا توجد مرحلة أخرى، حينما تكف صلاة المصلى الهدوئى عن أن تكون نتيجة مجهوداته الخاصة، بل تصير ـ من وقت إلى آخر ـ “عاملة من ذاتها self-acting” كما يسميها الكُتّاب الأرثوذكس، أو “مسكوبة in fused” (أى موهوبة) كما يسميها الكُتاب الغربيون. وبكلمات أخرى، أنها لا تكون بعد صلاتى ” أنا “، بل تصير ـ بدرجة كبيرة أو قليلة ـ صلاة “المسيح فىَّ”.
ومع ذلك لا ينبغى أن تتصور أن هذا الانتقال من الصلاة الشفوية إلى صلاة الصمت والهدوء، أو من ” الصلاة النشطة ” إلى الصلاة ” العاملة من ذاتها ” يحدث بسرعة وسهولة. المؤلف المجهول لكتاب “سائح روسى على دروب الرب” قد وُهب حالة صلاة مستمرة ” عاملة من ذاتها ” بعد أسابيع قليلة فقط من ممارسته ” لاستدعاء اسم يسوع “، ولكن هذه حالة نادرة جدًا ولا ينبغى بأى حال أن تُعتبر أنها هي القاعدة. ويحدث أحيانًا، لبعض الذين يرددون صلاة يسوع أن تحدث لهم من وقت إلى آخر لحظات ” نشوة روحية ” بصورة غير متوقعة تُعطى لهم كهبة مجانية، وذلك حينما تتراجع كلمات الصلاة أو تختفى كلية، ويحل محلها إحساس مباشر بحضور الله ومحبته. ولكن بالنسبة للغالبية العظمى فإن هذا الاختبار يكون لمحة خاطفة فقط، وليس حالة مستمرة. وعمومًا يكون من عدم الحكمة أن يحاول الإنسان أن يتمم بوسائل مصطنعة، ما يمكن أن يحدث فقط كثمرة لفعل الله المباشر. إن أفضل طريقة، حينما ندعو الاسم القدوس (اسم يسوع)، أن نركز كل جهودنا على تلاوة الكلمات؛ وإلاّ، فإننا فى محاولتنا غير الناضجة للوصول إلى صلاة القلب التي بلا كلمات، يمكن أن ننتهي إلى أننا فى الحقيقة لا نصلى بالمرة بل نكون فقط فى حالة شبه نوم. فلنتبع نصيحة القديس يوحنا الدرجى، ” أحصر ذهنك فى كلمات الصلاة “. إن الله سوف يتمم بقية العمل، ولكن بطريقته هو وفى الوقت الذي يراه هو“.
الاتحاد بالله:
منهج النفى (apophatic)، سواء كان فى حديثنا اللاهوتى، أم فى حياة الصلاة يبدو كأنه سلبى، ولكنه فى هدفه النهائى هو إيجابى بشكل فائق. إن تنحية الأفكار والصور جانبًا يؤدى لا إلى فراغ بل إلى ملء يفوق كل ما يمكن أن يدركه العقل البشرى أو يعبر عنه.
إن منهج النفى يشبه ليس تقشير بصلة بل يشبه نحت تمثال. حينما نقشر بصلة، فنحن نزيل قشرة بعد أخرى، حتى لا تبقى فى النهاية أية بصلة بالمرة: أى أننا ننتهي إلى لا شئ بالمرة. أما النحات، فحينما يقطّع فى كتلة من الرخام فإنه يلغى بعض أجزاء (ينفى) ليصل إلى نتيجة إيجابية. هو لا يحيل كتلة الرخام إلى كومة من أجزاء عشوائية، ولكنه بواسطة ما يبدو ظاهريًا أنه عملية تحطيم فى تكسيره للرخام، فإنه ينتهي بأن يكشف لنا عن شكل واضح له معنى.
هكذا هو الأمر، على مستوى أعلى، عندما نستعمل منهج النفى apophaticism. فنحن نقول إن شيئًا ما ليس كذلك من أجل أن نقول إن شيئًا ما هو كذلك. طريق النفى يتحول إذن لكى يصير طريق التوكيد الفائق. إن تنحية الكلمات والمفهومات جانبًا، يكون كنقطة انطلاق أو منصة وثوب، نقفز منها إلى السرّ الإلهي. اللاهوت السالبى (النافى apophatic)، يؤدى فى معناه الحقيقى والكامل ليس إلى غياب بل إلى حضور، ليس إلى لاأدرية (agnosticism) أو عدم معرفة بل إلى اتحاد الحب. وهكذا فإن اللاهوت السالبى هو أكثر جدًا من تمرين كلمات مجرد، نوازن فيه التعبيرات الإيجابية بتعبيرات سالبية. هدف اللاهوت السالبى أن يأتى بنا إلى لقاء مباشر مع إله شخصى، وهو الذي يعلو بصورة لا نهائية على كل ما يمكننا أن نقوله عنه سواء كان سالبيًا أو إيجابيًا.
هذا الاتحاد بالحب، الذي يشكّل الهدف الحقيقى للمنهج السالبى، هو اتحاد بالله فى أفعاله (طاقاته) وليس اتحادًا بجوهره (أنظر الفصل الأول: الله سرـ الجوهر والطاقات ص30). وإذ نضع فى اعتبارنا ما قد قلناه سابقًا عن الثالوث والتجسد، فمن الممكن أن نميز بين ثلاثة أنواع من الاتحاد:
أولاً: يوجد بين أقانيم الثالوث الثلاثة اتحاد بحسب الجوهر: الآب والابن والروح القدس هم “واحد فى الجوهر”. أما بين الله والقديسين فلا يحدث مثل هذا الاتحاد. فرغم أن القديسين “طُعموا فى الله” (ingodded) أو “تألهوا” (deified) (أى تقدسوا) إلاّ أنهم لا يصيرون أعضاء إضافيين فى الثالوث. الله يظل هو الله، والإنسان يظل هو الإنسان. الإنسان يصير إلهًا بالنعمة وليس إلهًا بالجوهر. فالتمييز بين الخالق والمخلوق يستمر موجودًا: المحبة المتبادلة توصل بين الاثنين ولكنها لا تلغى التمييز بينهما. فمهما اقترب الله من الإنسان، يظل هو ” الآخر الكلى The Wholly Other “.
ثانيًا: يوجد بين الطبيعتين الإلهية والإنسانية للمسيح المتجسد اتحاد بحسب الأقنوم، اتحاد أقنومى أو اتحاد شخصى: فاللاهوت والناسوت فى المسيح متحدان بطريقة تامة حتى أنهما يشكلان شخصًا واحدًا أو هما يخصان شخصًا واحدًا. ومرة أخرى، فإن الاتحاد بين الله والقديسين ليس من هذا النوع. ففى الاتحاد السرى (المستيكى Mystical) بين الله والنفس، يوجد شخصان وليس شخص واحد. إنها علاقة ” أنا ـ أنت “: الأنت لا تزال “هي الأنت”، مهما اقتربت “الـ أنا ” منها. القديسون يُغمرون فى لجة الحب الإلهي، ولكنهم لا يُبتلعون. “الصيرورة فى المسيح Christification ” لا تعنى التلاشى. فى الدهر الآتى يكون الله ” الكل فى الكل ” (1كو28:15)؛ ولكن ” بطرس يظل هو بطرس، وبولس هو بولس، وفيلبس هو فيلبس. كل واحد يحتفظ بطبيعته الخاصة وبذاتيته الشخصية، ولكنهم جميعًا مملؤون بالروح ” (عظات القديس مقاريوس).
ثالثًا: إذن، حيث إن الاتحاد بين الله وبين البشر الذين خلقهم هو ليس اتحادًا حسب الجوهر ولا اتحادًا حسب الأقنوم، يبقى، ثالثًا أنه ينبغى أن يكون اتحاد حسب “الطاقة”. القديسون لا يصيرون هم الله بالجوهر ولا يصيرون شخصًا واحدًا مع الله، ولكنهم يشتركون فى طاقات الله، أى فى حياته، فى قوته، فى نعمته وفى مجده. الطاقات كما أكدنا سابقًا لا يجب أن تُشيئ (objectified) (أى لا نجعلها أشياء)، أو أن نعتبرها كأنها وسيط بين الله والإنسان، أو “شئ” أو هبة يمنحها الله لخليقته. الطاقات الإلهية هي الله نفسه ـ ولكنها ليست هي الله كما هو كائن فى ذاته، فى حياته الداخلية، بل هي الله كما يوّصل أو يعطى نفسه فى محبة متدفقة. لذلك فالذي يشترك فى طاقات الله، إنما يلتقى بالله نفسه وجهًا لوجه، بواسطة اتحاد حب مباشر وشخصى ـ على قدر إمكانية المخلوق. أن نقول إن الإنسان يشترك فى الطاقات الإلهية وليس فى جوهر الله، هو أن نقول إنه يحدث بين الله والإنسان اتحاد وليس اختلاطًا. هذا يعنى أننا نتكلم إيجابيًا عن الله ـ بأقصى طريقة حرفية ويقينية، بأن “حياته هي لى”، ولكننا فى نفس الوقت نرفض مذهب ألوهية الخليقة pantheism. نحن نؤكد قرب الله منا ولكننا فى نفس الوقت نعلن آخريته (أنه آخر تمامًا غيرنا).
الظلمة والنور:
وعند الإشارة إلى هذا ” الاتحاد حسب الطاقة “، الذي يفوق كل ما يمكن أن يتخيله الإنسان أو يصفه، فإن القديسين بحكم الضرورة قد استعملوا لغة التضاد والرمزية. لأن اللغة البشرية اعتادت أن تصور الموجودات بحسب المكان، والزمان وحتى فى هذه الحالات فإنها لا تستطيع أن تزودنا بوصف كامل. أما من جهة ما هو لا نهائى وأبدى، فإن اللغة البشرية لا تستطيع أكثر من أن تشير أو تلّمح.
” العلامتان ” أو الرمزان الرئيسيان اللذان استخدمهما الآباء هنا هما رمزًا الظلمة والنور. وطبعًا، هذا ليس معناه أن الله فى ذاته هو إما نور أو ظلمة: فنحن هنا نتحدث بالأمثلة والتشبيهات. والكُتّاب الصوفيون (Mystical) يمكن أن يُوصفوا إما بأنهم كُتّاب ” ليل” (Nocturnal) أو كُتّاب ” شمس” (Solar) بحسب الاتجاه الذي يفضلونه فى استعمال ” رمز” على آخر. فكليمنضس الأسكندرى (الذي يأخذ عن فيلو) وغريغوريوس النيسى وديونيسيوس الأريوباغى يفضلون “رمز” الظلمة؛ أما أوريجينوس وغريغوريوس اللاهوتى، وأفاغريوس، وعظات القديس مقاريوس، وسمعان اللاهوتى الجديد وغريغوريوس بالاماس فيستعملون ” رمز” النور بصفة رئيسية.
واستعمال لغة ” الظلمة ” عند الكلام عن الله جاءت أصلاً من وصف الكتاب المقدس عن موسى حينما قال إنه ” دخل إلى الضباب حيث كان الله” (خر21:20). والجدير بالملاحظة فى هذه العبارة إنه يقول لا إن الله ظلمة، بل يقول إنه يسكن فى ظلمة (ضباب): والظلمة (الضباب) لا تعنى غياب الله أو أنه غير حقيقى، بل تعنى عدم قدرة ذهننا البشرى على إدراك طبيعة الله الداخلية. فالظلمة فينا وليست فيه.
أما الأساس الأول للغة “النور” فهو عبارة القديس يوحنا الرسول: ” الله نور وليس فيه الظلمة البتة” (1يو5:1). الله أُعلن كنور ـ فوق كل شئ آخر ـ فى تجلى المسيح على جبل تابور، حينما ” أضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور“(مت2:17). هذا النور الإلهي ـ الذي رآه التلاميذ الثلاثة على الجبل ـ والذي رآه أيضًا قديسون كثيرون أثناء الصلاة ـ هو ليس شيئًا آخر سوى “ طاقات الله غير المخلوقة“. أى أن نور تابور ليس نورًا طبيعيًا مخلوقًا، كما أنه ليس نورًا عقليًا بمعنى مجازى أى ليس مجرد استنارة ذهنية. ورغم أنه نور غير مادى إلا أنه حقيقة موجودة بشكل موضوعى. فالطاقات غير المخلوقة لأنها إلهية فهي تفوق قدراتنا البشرية على الوصف؛ وهكذا عندما نسمى هذه الطاقات ” نور” فنحن بالضرورة نستخدم لغة “العلامة” والرمز. وهذا لا يعنى أن الطاقات هي نفسها مجرد رموز. فالطاقات موجودة حقًا ولكنها لا يمكن أن تُوصف بالكلمات، وعندما نشير إليها بكلمة “نور” فنحن نستعمل أقل التعبيرات التباساً، ولكن لا ينبغى أن تفسر لغتنا تفسيرًا حرفيًا.
ورغم أن النور الإلهي نور غير طبيعى إلا أنه يمكن للإنسان أن يراه بعينه الطبيعية على أن تكون حواسه قد تغيرت وتطهرت بواسطة النعمة الإلهية. فعيناه لا تنظران النور (الإلهي) بقدرات الإدراك الطبيعية بل بقوة الروح القدس العامل فى داخله.
يقول مكسيموس المعترف إن: [ الجسد يتأله (يتجلى) فى نفس الوقت مع النفس]. فالذي ينظر النور الإلهي يتغلغل فيه النور أكثر فأكثر حتى أن جسده يضئ بذلك المجد الذي يتأمله. فهو نفسه يصير نورًا. إن فلاديمير لوسكى لم يكن يتكلم بتشبيهات مجردة حينما كتب: [ نار النعمة التي تشتعل فى قلوب المسيحيين بالروح القدس تجعلهم يضيئون مثل شموع أمام ابن الله ]. وعظات القديس مقاريوس تؤكد على هذا التجلى لجسد الإنسان إذ تقول:
[ كما أن جسد الرب تمجد حينما صعد على الجبل وتغيرت هيئته إلى حالة مجد الله وإلى النور غير الموصوف، هكذا أيضًا تتمجد أجساد القديسين وتضئ كالبرق… ” المجد الذي أعطيتنى قد أعطيتهم” (يو22:17): ومثلما توقد مصابيح كثيرة من شعلة واحدة، هكذا أجساد القديسين ـ إذ هي أعضاء المسيح ـ لابد أن تكون مثل المسيح وليس شيئًا آخر.. إن طبيعتنا البشرية تتحول إلى قوة الله وتشتعل لتصير نارًا ونورًا]
توجد أمثلة عديدة لمثل هذا التجلى الجسدى فى حياة القديسين شرقًا وغربًا. حينما نزل موسى من ضباب (ظلام) سيناء، كان وجهه يضئ بلمعان شديد حتى لم يستطع أحد أن ينظر إلى وجهه وكان عليه أن يضع برقعًا على وجهه حينما يكلم الشعب (انظر خر29:34ـ35). وتخبرنا “أقوال آباء البرية” كيف أن تلميذًا نظر من خلال نافذة قلاية الأنبا أرسانيوس ورأى الشيخ ” مثل شعلة نار“. كما تخبرنا عن أنبا بامبو أن “الله مجّده حتى لم يستطع أحد أن ينظر إلى وجهه بسبب المجد الذي كان لوجهه”. وبعد حوالى1400 سنة يستعمل نيكولاس موتوفيلوف هذه الكلمات ليصف الحديث الذي جرى مع شيخه الروحانى القديس سيرافيم من ساروف إذ يقول: [ تصور فى وسط قرص الشمس. فى شدة لمعان أشعتها فى منتصف النهار أنك ترى وجه إنسان يتحدث إليك].
وعند بعض الكُتّاب فإن أفكار النور والظلمة توجد مرتبطة معًا. هنرى فوغان Henry Vaughan يتحدث عن ” ظلمة تخطف البصر” فى الله، بينما القديس ديونيسيوس يستعمل عبارة ” لمعان الضباب الإلهي”. كما يقول أيضًا: [ الضباب (الظلمة) الإلهي هو النور الذي لا يُدنى منه الذي يُقال إن الله يسكن فيه]. لا يوجد تناقض بين تعبيرات مثل هذه اللغة، لأنه بالنسبة لله فإن ” الظلمة مثل النور” (مز12:139). وكما يعبّر يعقوب بوهِم Jacob Boehm: [ الظلمة ليست هي غياب النور، بل هي الرعب الذي يأتى من النور الذي يعمى البصر]. فإن قيل إن الله يسكن فى الظلمة (الضباب)، فهذا لا يعنى أنه يوجد فى الله أى نقص أو عوز، بل إنه هو ملء المجد وملء المحبة بما يفوق إدراكنا تمامًا.
C D C D C D C D C D C D
[ الصلاة هي مقياس كل شئ: إذا كانت الصلاة سليمة يكون كل شئ سليمًا ]. (الأسقف ثيوفان الناسك)
[ اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم” (يع8:4). علينا نحن أن نبدأ. إن خطونا خطوة واحدة نحو الرب، فهو يخطو نحونا عشر خطوات ـ هو الذي رأى الابن الضال بينما كان لا يزال بعيدًا، فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله]. (تيتو كولياندر)
[ كلما تقدمت النفس أكثر كلما كثر الأعداء الذين يجب عليها أن تحارب ضدهم.
طوباك، إن كانت الحرب تزداد ضراوة ضدك فى وقت الصلاة.
لا تظن أنك اقتنيت أية فضيلة قبل أن تقدم دمك فى قتالك لأجلها. يجب أن تحارب ضد الخطية حتى الموت، مقاومًا بكل قوتك.
لا تعطى لعينيك نومًا ولا لأجفانك نعاسًا حتى ساعة موتك، بل اتعب بلا انقطاع لكى تتمتع بالحياة التي لا نهاية لها ]. (إيفاغريوس البنطى)
[ سُئِلَ راهب مرة: ماذا تفعلون هنا فى الدير ؟ فأجاب: نسقط ونقوم، نسقط ونقوم ونسقط ونقوم مرة أخرى.] (تيتو كولياندر)
[ إن لم يعط الإنسان نفسه للصليب كلية، بروح التواضع وإذلال الذات؛ إن لم يطرح نفسه إلى تحت لكى تدوسه أقدام الكل ويكون محتقرًا، ويقبل الظلم والازدراء والسخرية، إن لم يحتمل كل هذه الأمور بفرح لأجل الرب، ولا يطالب بأى نوع من المكافأة البشرية أيًا كانت ـ مجد أو كرامة أو ملذات الطعام والشراب والثياب ـ فإنه لا يستطيع أن يكون مسيحيًا حقيقيًا].
(القديس مرقس الناسك)
[ إن أردت أن تكون منتصرًا، فتذوق آلام المسيح فى ذاتك لكى يختارك لتتذوق مجده. لأننا إن كنا نتألم معه فسوف نتمجد معه أيضًا. الذهن لا يمكن أن يتمجد مع يسوع إن لم يتألم الجسد مع يسوع.
طوباك إن كنت تتألم لأجل البر. انظر فإن طريق الله ـ طوال سنين وأجيال قد صار ممهدًا بواسطة الصليب والموت. الطريق إلى الله هو صليب يومى.
الصليب هو باب الأسرار ]. (مار اسحق السريانى)
[ لكى تتحرر من الأهواء ـ أى تصير عديم الهوى ـ بالمعنى الآبائى للكلمة وليس بمعناها الرواقى ـ هذا يحتاج إلى وقت وعمل شاق، فى حياة متقشفة، وصوم وسهر، وصلاة وعرق كالدم، وانسحاق، وازدراء العالم بك، والصلب، والمسامير، والحربة فى الجنب، وخل ومرارة، وأن يتخلى عنك الكل، وإهانات من أخوة أغبياء مصلوبين معنا، وتجديفات من العابرين: وبعد ذلك ـ القيامة فى الرب، القداسة الخالدة التي لعيد القيامة].
(الأب ثيئوكليتس من دير ديونيسيوس بجبل أثوس)
[ صلِ ببساطة. لا تنتظر أن تجد فى قلبك أى موهبة واضحة للصلاة. اعتبر نفسك غير مستحق لها. حينئذ ستجد السلام. استعمل جفاف وبرودة صلاتك كغذاء لتواضعك. كرر باستمرار: أنا غير مستحق، يا رب، أنا غير مستحق. ولكن قل هذا بهدوء وبدون توتر. هذه الصلاة المتضعة ستكون مقبولة عند الله.
حينما تمارس صلاة يسوع، تذكر أن أهم شئ هو الاتضاع، وبعد ذلك المقدرة ـ وليس القرار فقط ـ أن تحتفظ دائمًا بإحساس مرهف بالمسئولية نحو الله، ونحو مرشدك الروحى، ونحو الناس وحتى الأشياء أيضًا. تذكر أن مار اسحق السريانى يحذرنا أن غضب الله يأتى على كل من يرفض صليب الألم المر، من يرفض صليب المعاناة الفعاّلة، والذي يسعى وراء الرؤى ونعم الصلاة المتميزة، فإنه يسعى بتمرد إلى امتلاك أمجاد الصليب. وهو يقول أيضًا، ” نعمة الله تأتى من نفسها، فجأة، بدون أن نراها وهي تقترب منا. هي تأتى حينما يكون المكان نقيًا”. لذلك، طهّر المكان بحرص، واجتهاد وبصفة مستمرة؛ إكنس المكان بمكنسة التواضع].
(الشيخ مكارى من دير أوبتينو)
[ حينما نكون قد أغلقنا كل منافذ العقل بواسطة تذكّر الله، فإنه يتطلب منا مهمة ما تشبع حاجته إلى النشاط. ولكى نحقق هدفه تحقيقًا تامًا ينبغى ألا نعطيه سوى صلاة “يا ربى يسوع..”. دع العقل يركز باستمرار على هذه الكلمات فى هيكله الداخلى بقوة شديدة حتى أنه لا يتحول إلى أية صورة ذهنية. وكما أن الأم تعلّم طفلها نطق اسم “بابا” وتجعل الطفل يكرر الكلمة معها مرة تلو مرة إلى أن تجعله يستعمل هذا الاسم بدلاً من أية صرخة طفولية أخرى، وحتى وهو نائم ينادى أباه بصوتٍ عالٍ: هكذا ينبغى أن تتعلم النفس أن تردد وأن تصرخ قائلة ” يا ربى يسوع “ ].
(القديس ديودوخوس)
[ صلاة يسوع تساعد على رفع الحياة كلها ـ الجسد والنفس ـ إلى مستوى لا تعود فيه الحواس تطلب تغييرًا خارجيًا أو إثارة، بل يكون كل شئ خاضعًا لهدف واحد هو تركيز كل انتباه الجسد والنفس على الله، بمعنى أننا نسعى إلى العالم ونعرفه من خلال جمال الله، وليس إلى الله من خلال جمال العالم ]. (الأم ماريا من نورماندى)
[ ما هو المقصود بأن موسى دخل إلى الضباب (الظلمة) لكى يرى الله فى الضباب ؟
إن نص الكتاب يعلمنا هنا أنه كلما يتقدم الذهن وبواسطة انتباه أعظم وأكمل يأتى إلى إدراك ما هي معرفة الحقيقة. وكلما اقترب أكثر من التأمل، كلما أدرك أكثر أن الطبيعة الإلهية غير ممكن التأمل فيها. لأن الذهن إذ يترك وراءه كل منظر خارجى ـ ليس فقط المناظر التي يمكن أن تُرى بالحواس، بل أيضًا تلك المناظر التي يظن الذهن أنه يراها ـ فإن الذهن يتقدم باستمرار نحو ما هو كائن بالداخل أكثر، إلى أن ينفذ الذهن إلى ذلك الذي لا يمكن تأمله أو إدراكه، وهناك يرى الله. المعرفة الحقيقية والرؤية الحقيقية لما نسعى إليه تكمن بالضبط فى هذا ـ فى عدم الرؤية. لأن ما نطلبه يفوق كل معرفة، وهو منقطع الصلة بنا من كل جهة بواسطة ضباب (ظلمة) عدم القابلية للإدراك]. (القديس غريغوريوس النيسى)
[ فى التأمل السرى، فإن الإنسان لا يرى بواسطة العقل ولا بواسطة الجسد بل يرى بالروح ؛ وهو يعرف بيقين كامل أنه بطريقة تفوق الطبيعة ينظر نورًا يفوق كل نور آخر. ولكنه لا يعرف ما هو العضو الذي بواسطته يرى هذا النور، ولا يمكنه أن يحلل طبيعة ذلك العضو ؛ لأن طرق الروح ـ الذي بواسطته يرى ـ تفوق الفحص. وهذا ما أكده القديس بولس حينما سمع كلمات لا يسوغ لإنسان أن ينطق بها ورأى أشياء لا يستطيع أحد أن يراها: ” أ فى الجسد أم خارج الجسد لست اعلم” (2كو3:12). أى أنه لم يعرف إن كان ذهنه هو الذي رآها أم جسده. لأنه لم يدرك هذه الأشياء بالحواس، ومع ذلك كانت رؤيته واضحة تمامًا مثل رؤيتنا للأشياء بالحواس بل حتى أكثر وضوحًا من رؤيتنا. لقد رأى نفسه محمولاً خارج نفسه بواسطة العذوبة السرية لرؤية الله؛ أنه نُقل ليس فقط خارج كل الأشياء والأفكار بل حتى خارج نفسه.
هذا الاختبار السعيد والمفرح الذي اختطف بولس وجعل ذهنه يعبر خارج كل الأشياء فى حالة الدهش، والذي جعله ينعطف ويدخل تمامًا داخل نفسه، هذا الاختبار أخذ شكل نور ـ نور الكشف والإعلانات، ولكنه لم يعلن له موضوعات تدرك بالحواس. كان نورًا بغير حدود أو نهاية سواء من أسفل أم أعلى أم من الجوانب، فهو لم يرَ أى حد للنور الذي ظهر له وأشرق حوله، ولكنه كان مثل شمس أكثر ضياء بلا نهاية وأكبر من الكون بلا نهاية: وفى وسط هذا النور وقف هو، إذ قد صار عينًا فقط. هذه تقريبًا كانت رؤيته]. (غريغوريوس بالاماس)
[ حينما تحسب النفس أهلاً أن تتمتع بشركة روح نور الله، وحينما يضئ الله عليها بجمال مجده الذي لا يعبر عنه، لكى يجهزها كعرش ومسكن لنفسه،فإنها تصير كلها نورًا وكلها وجهًا، وكلها عينًا، ولا يكون فيها جزء غير مملوء بعيون النور الروحانية. لا يوجد فيها جزء فى الظلمة، بل تصير بكليتها وبكل جزء فيها نورًا وروحًا ].
(عظات القديس مقاريوس)