Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

الله روح – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد

الله روح – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد

 

الله روح – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد

 

الطريق الأرثوذكسي للأسقف كاليستوس وير

الفصل الخامس

الله روح

 

          ” روح الله الذي أُعطى لجسدنا لا يمكن أن يحتمل الحزن أو تقييد الحرية”

الراعى لهرماس

          ” حينما يحل روح الله على إنسان ويظلله بملء انسكابه، فحينئذ تفيض نفسه بفرحٍ لا يمكن وصفه، لأن الروح القدس يحوّل كل ما يلمسه إلى فرح.

          ملكوت السموات هو سلام وفرح فى الروح القدس. اقتنى سلامًا داخليًا، وألوف حولك سيخلصون ”                                                        القديس سيرافيم من ساروف.

 

القبضة المغلقة أم الأيدى المفتوحة ؟:

          يوجد على جدران “السراديب” فى روما رسمًا يصور امرأة تصلى أى The Orans الأورانز. إنها تحدق نحو السماء، ويداها المفتوحتان مرفوعتان والراحتان إلى فوق، هذه الصورة هي واحدة من أقدم الأيقونات المسيحية. من تمثل هذه المرأة؟ ـ هل العذراء القديسة مريم، أم الكنيسة، أم أنها تمثل النفس وهي تصلى؟ أم أنها ربما تمثل هذه الثلاثة كلها معًا؟ ومهما كان التفسير الذي يُعطى لهذه الأيقونة فإنها توضح موقفًا مسيحيًا أساسيًا: وأعنى موقف الدعاء والتوسل أى ” إبيكلسيس ” (Epiclesis)، أى طلب الروح القدس وانتظار حلوله.

 

          توجد ثلاث أوضاع رئيسية يمكن أن تتخذها أيدينا، وكل وضع له معناه الرمزى. فيمكن ان تكون أيدينا مغلقة، وقبضة يدنا مقفلة بإحكام، كإيماءة تحدى أو كمحاولة للامساك بإحكام، وهكذا فهذا الوضع لليد يعبر إما عن التحفز للعدوان أو يعبر عن الخوف (من شخص أو شئ). وعلى العكس تمامًا يمكن أن تتدلى أيدينا على الجانبين خاملتين لا فى تحدى ولا فى تقبل. والاحتمال الثالث أن تكون أيدينا مرفوعة إلى فوق مثل يدى أيقونة “الأورنز”، فهي ليست مغلقة بل مفتوحة كما أنها لم تعد خاملة بل مستعدة لتقبل مواهب الروح. والدرس الذي هو فى غاية الأهمية على الطريق الروحى هو أن نفهم كيف نفك قبضتنا ونفتح أيدينا. فنحتاج أن نجعل عمل أيقونة المرأة المصلية “الأورانز” هو موقفنا فى كل ساعة وكل دقيقة: بأن نرفع أيدينا المفتوحة نحو السماء بطريقة غير منظورة قائلين للروح، “تعال”.

 

          فالهدف الكامل السليم للحياة المسيحية هو أن يكون الإنسان حاملاً للروح، أن يحيا فى روح الله، أن يتنفس روح الله.

 

الريح والنار:

          يوجد سر خفى متصل بالروح القدس مما يجعل الكلام عنه أمرًا صعبًا. وكما يقول القديس سمعان اللاهوتى الجديد عنه:

إنه يتخذ اسمه من المادة التي يستريح عليها،

لأن ليس له اسم يميزه بين البشر  “.

          وفى موضع آخر يكتب كلمات تنطبق على الأقنوم الثالث من الثالوث: ” هو غير منظور ولا تستطيع أى يد أن تُمسك به ؛

هو لا يُلمس ومع ذلك يمكن أن نشعر به فى كل مكان..

ماذا يكون؟ يا للعجب! وماذا لا يكون؟ فليس له اسم،

فى غباوتى حاولت أن أمسك به،

وأغلقت يدى، ظانًا أننى امسكت به:

ولكنه أفلت منى ولم أستطع أن احتفظ به بين أصابعى.

وأنا فى ملء الحزن فتحت قبضتى.

ورأيته مرة أخرى فى راحة يدى.

أه يا للدهش الذي لا يُنطق به!

أه يا للسر العجيب!

لماذا نتعب أنفسنا باطلاً ؟ لماذا نتوه كلنا بعيدًا ؟

 

          صعوبة الإمساك بالروح القدس هذه نجدها واضحة فى الرموز التي يستعملها الكتاب المقدس ليشير بها إلى الروح. فهو مثل ” هبوب ريح عاصفة ” (أع2:2). فلقبه نفسه “روح” (وباليونانية بنفما Pneuma) يشير إلى الريح أو النسمة. كما قال يسوع لنيقوديموس ” الريح (أو الروح) تهب حيث تشاء وتسمع صوتها ولكنك لا تعلم من أين تأتى وإلى أين تذهب” (يو8:3). نحن نعرف أن الريح موجودة، ونسمع صوتها فى الأشجار بينما نرقد يقظين بالليل، نحن نشعر بها على وجوهنا عندما نسير على التلال ولكن إذا حاولنا أن نقبض عليها بين أيدينا، فإنها تفلت منا، هكذا الأمر مع روح الله. نحن لا نستطيع أن نزن الروح ونقيسه أو أن نحتفظ به فى صندوق مغلق بمفتاح. ويشبه “جيرارد مانلى هوبكنز”، العذراء المباركة مريم، فى أحد أشعاره بالهواء الذي نستنشقه: ونفس التشبيه يمكن أن ينطبق بالتساوى على الروح. فالروح مثل الهواء هو مصدر حياة، ” الحاضر فى كل مكان والمالئ الكل “، هو دائمًا يحيط بنا وهو دائمًا موجود فينا. وكما أن الهواء يظل كما هو غير منظور بالنسبة لنا ولكنه يعمل كوسيط نرى ونسمع من خلاله الأشياء الأخرى، هكذا أيضًا الروح لا يكشف لنا وجهه الخاص ولكنه يرينا وجه المسيح.

          وأيضًا يُشبَّه الروح القدس فى الكتاب المقدس بالنار. حينما حل المعزى (البارقليط) على المسيحيين الأولين فى يوم الخمسين فإنه نزل مثل ” ألسنة منقسمة كأنها من نار” (أع3:2). والنار مثل الريح، لا يمكن الإمساك بها: فهي حية، حرة، دائمة الحركة، لا يمكن أن تُقاس، أو توزن، أو تُحصر داخل حدود ضيقة. نحن نشعر بحرارة ألسنة اللهب، ولكننا لا نستطيع أن نغلق عليها أو نحتفظ بها فى أيدينا.

 

          وهكذا الأمر أيضًا فى علاقتنا مع الروح القدس. فنحن نشعر بحضوره ونحن نعرف قوته ولكننا لا نستطيع بسهولة أن نصور شخصه لأنفسنا.

          الأقنوم الثانى من الثالوث (الابن) تجسد وعاش على الأرض كإنسان؛ والأناجيل تخبرنا عن كلامه وأعماله، ووجهه ينظر إلينا من الأيقونات المقدسة، وهكذا ليس من الصعب أن نرسم صورة له فى قلوبنا. ولكن الروح لم يتجسد وشخصه الإلهي لم يُعلن لنا فى هيئة بشرية. فى حالة الأقنوم الثانى من الثالوث فإن تعبير “ولادة” أو “مولود”، تُستخدم لتُشير إلى أصله الأزلى من الآب، وتنقل إلى أذهاننا فكرة محددة ومفهومًا خاصًا، رغم أننا نُدرك أن هذا المفهوم لا ينبغى أن يُدرك بطريقة حرفية. ولكن التعبير المُستخدم للإشارة إلى علاقة الروح الأزلية مع الآب: “انبثاق” أو “منبثق” لا ينقل إلينا فكرة واضحة ومحددة. إنه مثل رسوم هيروغليفية مقدسة يشير إلى سر لم ينكشف بوضوح بعد. وهذا التعبير يوضح أن العلاقة بين الروح والآب ليست مثل العلاقة بين الابن والآب؛ ولكن الوحى لم يخبرنا عن ما هي طبيعة الاختلاف بالضبط.

          هذا أمر لابد منه، لأن عمل الروح القدس لا يمكن أن يُحدد بالألفاظ. فعمل الروح ينبغى أن نعيشه ونختبره مباشرة. ومع ذلك، فرغم هذه الخاصية السرية فى الروح القدس، فإن التقليد الأرثوذكسى يعلّم بشكل أكيد ـ بأمرين عن الروح القدس. الأول: أن الروح شخص. فهو ليس مجرد “تيار إلهي” (كما سمعت أحدهم مرة يصفه)، وهو ليس مجرد قوة عادمة الحس، بل هو أحد الأقانيم الثلاثة الأزلية للثالوث القدوس؛ وهكذا، رغم كل ما يبدو من صعوبة الإمساك به، فإننا يمكن أن ندخل فى علاقة شخصية معه، علاقة ” أنا ـ أنت ” بل إننا ندخل فعلاً فى هذه العلاقة معه.

 

          والأمر الثانى، أن الروح ـ الأقنوم الثالث فى الثالوث ـ مساوى للأقنومين الاخرين وأزلى معهما؛ هو ليس مجرد وظيفة معتمدة عليهما وليس مجرد وسيط يستخدمانه. إن أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الكنيسة الأرثوذكسية ترفض الإضافة اللاتينية: “والابن” إلى قانون الإيمان، وترفض أيضًا التعليم الغربى عن ” الانبثاق المزدوج ” للروح ـ الذي هو سبب هذه الإضافة ـ هو خوفنا من أن مثل هذا التعليم، قد يجعل الناس يتصورن أن الروح القدس ليس شخصًا، ويضعونه فى مرتبة أدنى.

 

          إن أزلية الروح أو مساواته للأقنومين الآخرين هو موضوع يتكرر كثيرًا فى التراتيل الأرثوذكسية فى عيد الخمسين (العنصرة):

          الروح القدس كان كائنًا منذ الأزل، وهو كائن، وسيكون ؛

          فليست له بداية ولا نهاية،

          بل هو دائمًا مرتبط بالآب والابن ويُحصى معهما:

          حياة ومعطى الحياة،

          نور ومانح النور،

          المحبة ذاتها وينبوع المحبة:

          من خلاله يُعرف اللآب،

          من خلاله يُمجد الابن ويُعلن للكل،

          قوة واحدة، كيان واحد،

          سجدة واحدة للثالوث القدوس.

 

الروح والابن:

          تُوجد علاقة متبادلة بين “اليدين” اللذين للآب، أى بين ابنه وروحه، كما توجد بينهما رابطة خدمة متبادلة. وفى أحيانٍ كثيرة يكون هناك ميل للتعبير عن العلاقة بين الاثنين بطريقة أحادية الاتجاه، تحجب هذه التبادلية.

          فيُقال، إن المسيح يأتى أولاً؛ ثم بعد صعوده إلى السماء يُرسل الروح يوم الخمسين. ولكن حقيقة الأمر، أن الروابط المتبادلة هي أكثر تشابكًا وأكثر توازنًا. المسيح يرسل الروح إلينا، ولكن فى نفس الوقت فإن الروح هو الذي يرسل المسيح. دعونا نتذكر بعضًا من النماذج الثالوثية التي سبق أن شرحناها (أنظر الفصل الثانى من الكتاب “الله ثالوث” تحت عنوان “يدا الله” ص48):

          1 ـ التجسد: الروح القدس يحل على العذراء مريم وقت البشارة، وهي تحمل بالمسيح “اللوغوس”: بحسب قانون الإيمان، يسوع المسيح      ” تجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء”، فهنا نجد أن الروح هو الذي يرسل المسيح إلى العالم.

          2 ـ المعمودية: هنا نجد نفس العلاقة. فعند صعود يسوع من مياه الأردن ينزل الروح عليه فى هيئة حمامة: إذن فالروح هو الذي ” يجهزّ ” المسيح ويرسله إلى خدمته الجهارية. وهذا يصير واضحًا جدًا فى الأمور التي حدثت مباشرة بعد المعمودية. فالروح يقتاد المسيح إلى البرية (مر12:1) ليُجرب أربعين يومًا، قبل أن يبدأ الكرازة. وحينما يرجع المسيح فى نهاية هذا الصراع، فهو يعود “بقوة الروح” (لو14:4). والكلمات الأولى التي نطق بها فى كرازته تشير مباشرة إلى حقيقة أن الروح هو الذي يرسله: فهو يقرأ إشعياء1:61، مطبقًا نص إشعياء على نفسه: “روح الرب علىّ، لأنه مسحنى لأبشر المساكين ” (لو18:4). ولقب “المسيح ” أو ” المسيا ” يعنى بالضبط أنه هو الشخص الممسوح بالروح القدس.

          3 ـ التجلى: ومرة أخرى ينزل الروح على المسيح وفى هذه المرة لا ينزل فى هيئة حمامة بل “كسحابة نيرة”. وكما أرسل الروح يسوع فى السابق إلى البرية ثم إلى كرازته الجهارية، هكذا الآن فإن الروح يرسله إلى “خروجه” أى موته مذبوحًا فى اورشليم (لو31:9).

          4 ـ يوم الخمسين: هنا تتحول العلاقة المتبادلة إلى العكس: فبعد أن كان الروح يرسل المسيح، فالآن، نجد أن المسيح الحى المُقام هو الذي يرسل الروح. يوم الخمسين يشكّل هدف التجسد كما يشكِّل تكميل التجسد. يقول القديس أثناسيوس: ” الكلمة أخذ جسدًا، لكى ننال نحن الروح “.

          5 ـ الحياة المسيحية: ولكن التبادل بين “اليدين” لا ينتهي هنا. فكما أن الروح يرسل الابن فى البشارة، وفى المعمودية، وفى التجلى، وكما أن الابن بدوره يرسل الروح يوم الخمسين، هكذا أيضًا بعد يوم الخمسين، فإن الروح هو الذي يتولى مهمة الشهادة للمسيح، وبذلك يجعل المسيح المُقام حاضرًا فى وسطنا على الدوام. فإن كانت غاية التجسد هي إرسال الروح يوم الخمسين، فغاية يوم الخمسين هو استمرار تجسد المسيح فى حياة الكنيسة. وهذا بالضبط هو ما يفعله الروح عند “استدعائه” (epiclesis) فى التقديس الإفخارستى. ” واستدعاء ” الروح هذا للتقديس يقدم لنا نموذجًا ومثالاً لما يحدث فى مجالات حياتنا فى المسيح.

          ” حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمى أكون حاضرًا فى وسطهم ” (مت20:18). كيف يكون المسيح حاضرًا فى وسطنا؟ الجواب، “بواسطة الروح القدس”. ” وها أنا أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر(مت20:28). كيف يكون المسيح معنا كل الأيام؟ الجواب، ” بواسطة الروح القدس”. وبسبب حضور المعزى فى قلوبنا، فإننا ببساطة لا نعرف المسيح من خلال أربعة أو خمسة أشخاص.. قبلنا، لا نعرفه كشخص كان يعيش فى الماضى البعيد ونعرف عنه معلومات حقيقية بواسطة السجلات المكتوبة، ولكننا نعرفه مباشرة، هنا والآن، نعرفه فى الحاضر، كمخلصنا الشخصى وصديقنا. ويمكننا أن نؤكد مع توما الرسول قائلين: ” ربى وإلهي” (يو28:20). نحن لا نقول فقط، ” وُلد المسيح ” مرة، منذ أزمنة قديمة جدًا؛ بل نقول ” المسيح يُولد ” الآن، فى هذه اللحظة فى قلبى. نحن لا نقول فقط: “المسيح مات”، بل المسيح مات من أجلى. نحن لا نقول فقط: “المسيح قام”. بل “المسيح قائم” ـ هو يحيا الآن لأجلى، يحيا فىّ. هذه الصلة الحميمة الشخصية والمباشرة فى علاقتنا بيسوع هي بالضبط من عمل الروح القدس.

          الروح القدس، إذن، لا يكلمنا عن نفسه بل يكلمنا عن المسيح. قال يسوع وقت العشاء الأخير، ” متى جاء روح الحق فسيرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه.. سيأخذ مما لى ويخبركم ” (يو14،13:16). هنا نجد سبب عدم وجود اسم للروح أو بدقة أكثر، شفافية الروح القدس: إنه يُوجه الأنظار لا إلى نفسه، بل إلى المسيح القائم الحى.

 

عطية يوم الخمسين:

          هناك ثلاثة أمور تلفتنا بنوع خاص بخصوص موهبة الباراقليط فى يوم الخمسين:

          أولاً: أنها عطية مقدمة لكل شعب الله: وامتلأ الجميع من الروح القدس” (أع4:2). فموهبة أى Charisma كاريزما الروح القدس لا تُمنح فقط للأساقفة والإكليروس بل هي تُمنح لكل واحد من المُعمّدين. فجميعهم يحملون الروح، أى هم حاملوا الروح، فالجميع ـ بالمعنى الصحيح للكلمة ـ هم “كاريزماتيك Charismatics ” أى حاملوا الموهبة.

 

          ثانيًا: عطية المعزى هي عطية الوحدة: وكان الجميع معًا بنفسٍ واحدة” (أع1:2). الروح القدس يجعل الكثيرين يصيرون جسدًا واحدًا فى المسيح، فنزول الروح يوم الخمسين يقلب تأثير برج بابل (أنظر تك7:11)، ولذلك نقول فى إحدى ترانيم عيد الخمسين:

          حينما نزل العلى وبلبل الألسنة،

          فإنه قسّم الأمم؛

          ولكنه حينما وزع ألسنة النار،

          فإنه دعا الجميع إلى الوحدة.

          لذلك نحن نمجد الروح الكلى القداسة بصوت واحد.

          الروح يصنع الوحدة والفهم المتبادل، ويعطينا الإمكانية أن نتكلم “بصوت واحد”، الروح يحول الأفراد إلى أشخاص. فقد كُتب عن الجماعة المسيحية الأولى فى أورشليم فى الفترة التالية مباشرة ليوم الخمسين أنهم: ” كان عندهم كل شئ مشتركًا “، وكان: ” لهم قلب واحد ونفس واحدة ” (أع44:22، 32:4)، وهذه الوحدة ينبغى أن تكون علامة الجماعة الكنسية فى كل عصر.

 

          ثالثًا: عطية الروح هي عطية التنّوع: فألسنة النار كانت موزعة أو “منقسمة”، وهي تُوزع على كل واحد مباشرة. فالروح القدس ليس فقط يجعلنا جميعًا واحدًا، بل يجعل كل منا مختلفًا عن الآخر. ففى يوم الخمسين لم تُلغَ الألسنة الكثيرة لكنها لم تعد سببًا للانفصال، فكل واحد تكلم بلغته الخاصة كما كان يفعل سابقًا ولكن بقوة الروح القدس يستطيع أن يفهم الآخرين. وأن أكون حاملاً للروح فهذا معناه بالنسبة لى أن أحقق فى شخصيتى كل الخصائص المميزة لها؛ هذا يعنى أن أصير حرًا حقًا وأن أكون أنا نفسى حقًا فى فرادتى. الحياة فى الروح تملك تنوعًا لا ينضب؛ إن فعل الشر وليس القداسة هو الذي يتسم بالضجر والتكرار. وكما اعتاد كاهن صديق كان يقضى ساعات طويلة كل يوم يسمع الاعترافات، أن يقول ” يا للغرابة لم تعد هناك خطايا جديدة!”. ولكن هناك دائمًا أشكال جديدة للقداسة.

 

آباء فى الروح وجُهال:

          فى التقليد الأرثوذكسى يظهر العمل المباشر للباراقليط داخل الجماعة المسيحية بصورة قوية فى صورتين “حاملتين للروح” وهما “الشيخ” أى الأب الروحانى، والأخرى ” الجاهل فى المسيح “.

          فالشيخ أو المتقدم فى السن الذي يُعرف فى اليونانية بلقب “جيرون geron” وبالروسية “ستارتز Starets”، لا يلزم بالضرورة أن يكون شيخًا فى عدد السنين ولكنه يكون حكيمًا فى اختباره للحق الإلهي ويكون موهوبًا فى نعمة “الأبوة فى الروح”، “بالكاريزما” الخاصة بإرشاد الآخرين فى الطريق. وما يقدمه لأبنائه الروحيين ليس هو فى الأساس تعليمات أخلاقية أو قانون للحياة، بل يقدم لهم علاقة شخصية. يقول ديستوفسكى: الـ “ستارتز هو الشخص الذي يأخذ نفسك، وإرادتك إلى نفسه وإرادته”. وقد اعتاد تلاميذ الأب زكريا أن يقولوا عنه “كأنه كان يحمل قلوبنا فى يديه”.

 

الـ “ستارتز”: هو إنسان السلام الداخلى الذي عنده يمكن أن يجد الألوف خلاصهم. هذا الإنسان أعطاه الروح القدس موهبة التميز أو الإفراز كثمرة لصلاته وإنكاره لذاته. وهذه الموهبة تمكّنه من قراءة خفايا قلوب الناس؛ وهكذا فهو يجيب ليس فقط على الأسئلة التي يسألها له الآخرون، بل أيضًا على الأسئلة ـ التي عادة ما تكون أساسية جدًا أكثر من التي يسألونها له ـ والتي لم يكونوا قد فكروا أن يسألوا عنها. وهو يملك مع موهبة التمييز موهبة أخرى وهي موهبة الشفاء الروحى ـ أى القدرة على استعادة وشفاء نفوس الناس، وفى بعض الأحيان شفاء أجسادهم أيضًا. وهو يعطى هذا الشفاء الروحى، ليس فقط بكلمات النصح التي ينصح بها بل أيضًا بواسطة سكونه وحضوره الحقيقى. ورغم أهمية نصيحته التي يعطيها، فإن الأكثر أهمية جدًا هي صلاته الشفاعية. فهو يجعل أبنائه الروحيين أصحاء بالصلاة الدائمة لأجلهم وبتوحيد نفسه معهم وتقبل أفراحهم وأحزانهم كأفراحه وأحزانه الخاصة، وأن يأخذ على عاتقه ثقل ذنبهم أو قلقهم. فلا يستطيع أحد أن يكون “ستارتز” إن لم يكن يصلى بلا انقطاع لأجل الآخرين.         

          وإذا كان الـ “ستارتز” كاهنًا فإن خدمته فى التوجيه الروحى تكون عادةً مرتبطة تمامًا بسر الاعتراف. ولكن الـ “ستارتز” بالمعنى الكامل كما يصفه ديستوفسكى أو كما يتمثل فى شخصية الأب زكريا، فهو أكثر من مجرد كاهن اعتراف. فالـ”ستارتز” بالمعنى الكامل لا يمكن أن يُعيّن ليكون هكذا بواسطة أية سلطة أعلى منه. وما يحدث فى حالة الـ “ستارتز” هو ببساطة أن الروح القدس ـ يتكلم مباشرة فى قلوب الشعب المسيحى، ويوضح لهم أن هذا الشخص أو ذاك قد باركه الله بنعمة خاصة تجعله يرشد الآخرين ويشفيهم. فالـ “ستارتز” الحقيقى هو بهذا المعنى شخص نبوى وليس موظفًا رسميًا من سلطة معينة. وبينما فى أغلب الأحوال يكون الـ “ستارتز” كاهنًا راهبًا إلاّ أنه يمكن أن يكون أيضًا كاهن راعية متزوج، أو ربما يكون راهبًا غير حاصل على رتبة كهنوتية أو ـ حتى قد يكون أحيانًا راهبة ـ أو مؤمن عادى أو مؤمنة عادية من الذين يحيون فى العالم الخارجى، رغم أن هذه الحالات الأخيرة تحدث قليلاً جدًا. فإذا كان الـ “ستارتز” هو نفسه ليس كاهنًا فإنه بعد أن يستمع إلى مشاكل الناس ويقدم لهم المشورة المناسبة فإنه كثيرًا ما يرسلهم إلى كاهن لممارسة سر الاعتراف ولنوال الحل بالمغفرة.

 

          العلاقة بين الابن وأبيه الروحى تتنوع كثيرًا. فالبعض يزورون الـ “ستارتز” مرة واحدة أو مرتين طوال حياتهم وذلك فى لحظة حدوث أزمة خاصة، بينما آخرون هم على صلة منتظمة بالـ “ستارتز”، إذ يرونه شهريًا أو أحيانًا ربما يوميًا. وهنا لا يمكن وضع قوانين محددة مسبقًا ؛ فالعلاقة تنمو من نفسها تحت الإرشاد المباشر للروح.

          وهذه العلاقة تكون دائمًا علاقة شخصية. فالـ “ستارتز” لا يطبق قوانين مجردة يتعلمها من كتاب ـ كما فى كتاب “فتاوى الضمير”         (Casuistry) الخاص بالثورة الكاثوليكية الإصلاحية المضادة ـ ولكنه يرى فى كل مناسبة بذاتها هذا الرجل أو هذه المرأة المعينة الذي أو التي أمامه ولأنه مستنير بالروح، فهو يسعى لأن يوصل مشيئة الله بشكل فريد وخاص بهذا الشخص الواحد (الذي أمامه). ولأن الـ “ستارتز” الحقيقي يفهم الشخصية المتميزة لكل واحد ويحترمها، فهو لا يلغى حريتهم الداخلية بل يساعد على تقويتها. هو لا يهدف إلى إيجاد طاعة ميكانيكة عند أبنائه، بل يقودهم نحو نقطة النضج الروحى الذي بواسطته يستطيعون أن يقرروا لأنفسهم. فهو يكشف لكل واحد أو واحدة وجهه أو وجهها الحقيقي الذي كان فيما سبق مخفيًا بدرجة كبيرة عن ذلك الشخص؛ والكلمة التي يقولها الـ “ستارتز” خلاّقة ومعطية للحياة، إذ أنها تمكّن الشخص الآخر من أن يتمم أعمالاً ومهامًا كانت تبدو مستحيلة فى السابق. ولكن الـ “ستارتز” يستطيع أن يحقق كل هذا فقط بسبب أنه يحب كل واحد شخصيًا. وبالإضافة لذلك فإن العلاقة تكون متبادلة: فلا يستطيع الـ “ستارتز” أن يساعد الشخص الآخر إن لم يكن الآخر يرغب بشكل جاد بتغيير طريقة حياته وأن يفتح قلبه بثقة ومحبة للـ “ستارتز”. وأى شخص يذهب ليرى “ستارتز” وهو مدفوع بروح النقد وحب الاستطلاع  فغالبًا يعود بيدين فارغتين، دون أن يتأثر بأى تأثير. ولأن العلاقة دائمًا شخصية فإن “ستارتز” معينًا لا يستطيع أن يساعد كل الناس بطريقة متساوية، بل يستطيع أن يساعد فقط أولئك الذين أرسلهم الروح خاصة إليه. وبالمثل فإن التلميذ لا ينبغى أن يقول: الـ “ستارتز” الذي يرشدنى هو أفضل من كل “ستارتز” آخر”. بل ينبغى أن يقول فقط إن الـ “ستارتز” الذي يرشدنى هو أفضل “ستارتز” بالنسبة لى.

والأب الروحانى فى إرشاده للآخرين ينتظر مشيئة وصوت الروح القدس. قال القديس سيرافيم ” أنا أعطى فقط ما  يخبرنى الله أن أعطيه وأيضًا أنا أؤمن أن الكلمة الأولى التي تأتينى هي ملهمة بواسطة الروح القدس“. ومن الواضح أنه لا يستطيع أحد أن يتكلم ويتصرف بهذه الطريقة إن لم يكن قد بلغ إلى وعى تام وإدراك واضح لحضور الله. فبالنسبة لأى شخص لم يصل بعد إلى هذا المستوى، فمثل هذا التصرف منه يكون إدعّاءً غير مسئول.

 

          والأب زكريا يتكلم بنفس العبارات مثل القديس سيرافيم إنه يقول:      ” أحيانًا لا يعرف الإنسان نفسه ماذا سوف يقول. والرب نفسه يتكلم من خلال شفيته فينبغى أن يصلى هكذا: يارب ليتك تحيا فىَّ، ليتك تتكلم من خلالى، ليتك تعمل من خلالى. وحينما يتحدث الرب من خلال شفتى إنسان فإن كل كلمات ذلك الإنسان تكون فعّالة وكل ما يقوله يتحقق، والإنسان الذي يتكلم هو نفسه يندهش من هذا.. فقط ينبغى للواحد منا أن لا يعتمد على حكمته “.

          العلاقة بين الأب الروحى وابنه تمتد إلى ما بعد الموت حتى الدينونة الأخيرة. وقد أكد الأب زكريا لتلاميذه قائلاً: ” بعد موتى سأكون حيًا أكثر كثيرًا جدًا مما أنا الآن، ولذلك لا تحزنوا حينما أموت.. وفى يوم الدينونة فإن الأب سوف يقول ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الرب “.

 

          وقد طلب القديس سيرافيم أن تُنقش هذه الكلمات الهامة على قبره:

          “ بعد موتى تعالوا إلى قبرى، ومن الأفضل أن تأتوا كثيرًا، وأى شئ يثقل نفوسكم ومهما كان الشئ الذي حدث لكم، تعالوا إلىَّ كما كنتم تأتون وأنا حى, واركعوا على الأرض واطرحوا كل مرارة عنكم على قبرى. وأخبروني بكل شئ وأنا سوف أنصت إليكم، وكل المرارة التي عندكم سوف تهرب وتفارقكم. وكما كنتم تتحدثون إلىّ عندما كنت حيًا أفعلوا هكذا بعد موتى. لأنى أنا حى وسأظل هكذا إلى الأبد “.

 

          ولكن ليس لجميع الأرثوذكس أب روحى خاص بهم. فماذا نفعل إذا كنا نبحث عن مرشد ولا نجد؟ طبعًا يمكن للإنسان أن يتعلم من الكتب، فسواء كان لنا “ستارتز” أم لا فنحن نلجأ للكتاب المقدس لطلب الإرشاد الدائم. (أنظر الفصل القادم ص150). لكن الصعوبة فى حالة الكتب هو كيف أعرف بالضبط ما ينطبق علىَّ شخصيًا فى هذه النقطة الخاصة أثناء مسيرتى الروحية.

          وبالإضافة للكتب وللأبوة الروحية أيضًا فهناك الأخوة الروحية (من الاخوة بالنسبة للرجال أو من الأخوات بالنسبة للنساء) ـ وهي المعونة التي تُعطى لنا ليس بواسطة المعلمين فى الرب، بل بواسطة زملائنا فى التلمذة. ولا يجب أن نهمل الفرص التي تُقدم لنا بهذه الطريقة. ولكن أولئك الذين يلتزمون بالطريق بشكل جاد ينبغى إضافة إلى ذلك أن يبذلوا كل جهد لكى يجدوا لهم أبًا فى الروح القدس، فإن كانوا يبحثون باتضاع فبلا شك سوف يُعطى لهم الإرشاد الذي يحتاجونه. وليس معنى هذا أنهم سوف يجدون “ستارتز” مثل القديس سيرافيم أو الأب زكريا. ينبغى أن نأخذ حذرنا أننا فى توقعنا لشئ أو لشخص هام جدًا ومشهور، فإننا نغض النظر عن المعونة التي يقوم الله فعلاً بتقديمها لنا فى الوقت الحاضر. فقد يكون هناك شخص ما فى نظر الآخرين ليس له أية أهمية أو قيمة ولكن ربما يصير هو نفسه الأب الروحى الذي يستطيع أن يتكلم إلىَّ شخصيًا، بكلمات نارية هي تلك الكلمات التي أحتاج أن أسمعها أهم من كل الكلمات الأخرى.

 

          والنوع الثانى من الذين يحملون الروح بطريقة نبوية داخل الجماعة المسيحية هو “الجُهال فى المسيح”. واليونانيون يدعونهم “Salos” والروس يدعونهم “IURODIVYI”. وعادة يكون من الصعب أن نكتشف كيف أن هذا “الجهل” قد اختاره هؤلاء الأشخاص بوعى وبإرادتهم وإلى أى مدى يكون هذا الجهل تلقائيًا أو غير إرادى. فهذا الإنسان “الجاهل” فى المسيح يقوم بفعل التوبة أى تغيير الذهن فيمتد بها إلى أقصى حد. وهو يفعل هذا بإلهام الروح وبطريقة جذرية أكثر من أى أحد آخر، فهو يجعل الهرم مقلوبًا على رأسه. وهو شهادة حية لحقيقة أن مملكة المسيح ليست من هذا العالم؛ هو يشهد لحقيقة “ضد العالم”. يشهد لإمكانية تحقيق المستحيل، هو يمارس فقرًا إراديًا مطلقًا ويوحد نفسه مع المسيح المذلول، المسحوق. وكما كتبت عنه “جوليا ديبوسوبر”، “هو ليس ابنًا لأحد، وليس أخًا لأحد، وليس أبًا لأحد، ولا بيت له”. وإذ هو يترك الحياة العائلية فإنه يعيش جوالاً أو سائحًا، وهو يشعر كأنه فى بيته فى كل مكان يذهب إليه، مع ذلك فهو لا يستقر فى أى مكان. هو يلبس أسمالاً بالية حتى فى البرد القارس وينام فى السقيفة أو فى مخزن إحدى الكنائس. وهو يتخلى ليس فقط عن الممتلكات الأرضية بل أيضًا عن ما يعتبره الآخرون سلامة عقله واتزانه. ومع ذلك فهو بذلك يصير مجرى تتدفق فيه حكمة الروح العليا.

 

          وغنى عن القول إن “الجهل لأجل المسيح” هو دعوة نادرة غاية الندرة كما أنه ليس من السهل أن نميز بين الحقيقى والمزيف فى هذه الدعوة، وبين “الانحلال” و”النفاذ”. ولكن فى النهاية يوجد محك واحد فقط للاختبار  ” من ثمارهم تعرفونهم” (مت20:7) “فالجاهل” المزيف هو عقيم وهدام،  لنفسه وللآخرين. وأما “الجاهل” فى المسيح حقًا فهو يملك نقاوة القلب، وله تأثير ينمى الحياة ويزيدها فى الجماعة التي يتعامل معها. ورغم أنه من وجهة النظر العملية لا يوجد أى هدف نافع من وراء أعمال ” الجاهل ” إلاّ أنه بواسطة عمل مثير أو كلمة غامضة وغالبًا ما تكون كلمة موبّخة عن قصد وصادمة فإنه يوقظ الناس من الفريسية ومن حالة الرضا عن الذات التي يعيشون فيها عادة. ولأنه هو نفسه متحرر من كل الارتباطات فإنه يطلق ردود أفعال فى الآخرين ويجعل اللاشعور يصعد إلى السطح وهكذا يصير ممكنًا أن يتطهر العقل الباطن ويتقدس. هو يقرن الجرأة بالاتضاع. وبسبب أنه تخلى عن كل شئ فهو حر فعلاً. ومثال لذلك هناك “الجاهل” المعروف فى روسيا “نيكولاس من بيسكوف”؛ الذي وضع فى يدى القيصر “إيفان الرهيب” قطعة لحم يقطر منها الدم، فإنه بذلك يستطيع أن يوبخ الأقوياء فى هذا العالم بجسارة تنقص الآخرين. وهو بهذا يكون الضمير الحى للمجتمع.

 

صر إلى ما أنت عليه:

          قليلون فقط من المسيحيين فى كل جيل هم الذين يصيرون شيوخًا روحيين، وأقل منهم يصيرون “جُهّال” فى المسيح. ولكن كل الذين اعتمدوا بلا استثناء هم “حاملون للروح”، إذ تقول عظات القديس مقاريوس ” اعرف قدرك وافهم الدرجة السامية التي أُعطيت لك.. فكل منكم قد مُسح بالمسحة السماوية، وقد صار مسيحًا بالنعمة، كل واحد قد صار ملكًا ونبيًا للأسرار السماوية ” (عظة1:17).

          وما حدث للمسيحيين الأولين يوم الخمسين يحدث أيضًا لكل واحد منا بعد معموديتنا مباشرة، فإننا فى الممارسة الأرثوذكسية ـ نُمسح بالمسحة أى الميرون. (هذا السر الثانى فى طقس الدخول المسيحى يقابل التثبيت فى التقليد الغربى). فسواء كان المعتمد طفلاً أو بالغًا، فإن الكاهن ـ بعد المعمودية مباشرة ـ يمسحه على جبهته، وعينيه، وأنفه، وفمه، وأذنيه، وصدره، ويديه وقدميه، وهو يقول ” ختم موهبة الروح القدس”. وهذا المسح هو عنصرة شخصية لكل واحد منا: فالروح الذي نزل بشكل منظور على الرسل بألسنة من نار، ينزل على كل واحد منا بطريقة غير منظورة، دون أن ينقص هذا من نزول الروح حقيقةً أو يُنقص من قوته. فكل واحد يصير “ممسوحًا”، “مسيحًا” على مثال يسوع الماسيا. كل واحد يُختم بموهبة المعزى. فمنذ لحظة معموديتنا ومسحنا، فإن الروح القدس يأتى مع المسيح ليسكن فى أعمق أعماق قلبنا. ورغم أننا نقول للروح: “تعال”، إلاّ أنه موجود داخلنا قبل أن ندعوه.

 

          ومهما كان المُعمّدون مهملين وغير مبالين فى حياتهم فإن سُكنى الروح هذا لا يتلاشى تلاشيًا تامًا. ولكن من الجهة الأخرى إن لم نتعاون مع نعمة الله ـ إن لم نجاهد ـ بإرادتنا لتتميم الوصايا ـ فمن الممكن أن حضور الروح القدس داخلنا يظل محتجبًا وغير محسوس. وكسائحين على “الطريق“، فإن هدفنا ـ هو أن نتقدم من مرحلة تكون فيها نعمة الروح حاضرة فى داخلنا بطريقة خفية، إلى المرحلة التي يكون لنا “معرفة واعية”، فيها نعرف قوة الروح بوضوح تام، ومباشرة وبكل إدراك قلوبنا. يقول المسيح الرب “جئت لألقى نارًا على الأرض فماذا أريد لو اضطرمت” (لو49:12). فشعلة الروح ـ الخاصة بيوم الخمسين ـ الموجودة فى كل منا منذ المعمودية، ينبغى أن تُضرم لتصير لهيبًا حيًا. ينبغى أن نصير إلى ما نحن عليه.

 

          ” ثمر الروح، محبة فرح سلام طول أناة لطف.. ” (غلا22:5). “فالمعرفة الواعية” لعمل الروح ينبغى أن تكون حالة تتخلل كل حياتنا الداخلية وتنفذ فيها. ليس من اللازم لكل واحد أن يحدث له ” اختبار تحول ” بارز. والأولى ليس من الضرورى لكل واحد  أن  “يتكلم بألسنة”. ومعظم الأرثوذكس المعاصرين ينظرون بحذر شديد إلى ذلك القسم من الحركة الخمسينية الذي يعتبر أن “الألسنة” هي البرهان الذي لا غنى عنه  على أن الشخص هو “حامل الروح” حقًا. إن موهبة “الألسنة” كانت منتشرة طبعاً في العصر الرسولي، ولكن منذ منتصف القرن الثانى صارت نادرة الحدوث رغم أنها لم تختفِ كلية. وعلى أى حال، فالرسول بولس يصر على أن هذه الموهبة هي أقل المواهب الروحية أهمية (أنظر 1كو5:14).

 

          وحينما يكون “التكلم بألسنة” روحيًا حقًا فهو يمثل نوعًا من إطلاق السراح أو الإفلات ـ أى اللحظة الحاسمة فى تحطيم الثقة الخاطئة فى ذواتنا، ليحل محلها الخضوع والتسليم لله لكى يكون هو العامل فينا. وفى التقليد الأرثوذكسى، فإن عملية إطلاق السراح هذه غالباً ما تأخذ صورة “موهبة الدموع”. يقول القديس مار اسحق السرياني: ” الدموع تمثل الحد الفاصل بين الحالة الجسدانية والحالة الروحانية, بين حالة الخضوع للشهوات و حالة النقاوة ” و يكتب في فقرة جديرة بأن تذكر ما يلي:

ثمار الإنسان الداخلي تبدأ بسكب الدموع. حينما تصل إلي موضع الدموع, فاعرف حينئذ أن روحك قد خرجت من سجن هذا العالم وبدأت تسير فى الطريق الذي يؤدى إلى العالم الجديد. وفى هذه اللحظة تبدأ روحك أن تستنشق الهواء العجيب الموجود هناك، وتبدأ فى سكب الدموع. ولحظة ولادة المولود الروحاني تكون الآن على وشك الحدوث, ويصير مخاض الولادة شديداً جداً. والنعمة ـ التي هي أمنا جميعاً ـ تسرع لتلد النفس ولادة سريعة ـ النفس التي هي صورة الله ـ و تأتي بها إلى نور الدهر الآتى. وحينما يأتى وقت الولادة، يبدأ العقل أن يحس بشىء من أمور ذلك العالم الآخر ـ كرائحة حقيقية، أو كالنفس الذي يأخذه الطفل حديث الولادة فى هيكله الجسمى. ولكننا لم نتعود على مثل هذا الاختبار، وإذ نجد أنه يصعب علينا احتماله، فإن جسدنا ينغلب فجأة ببكاء ممزوج بالفرح “.

 

          ولكن توجد هناك عدة أنواع من الدموع، وليست كلها موهبة من الروح. فإلى جانب الدموع الروحانية، هناك دموع الغضب والإحباط، والدموع التي تُسكب فى العطف على الذات، والدموع العاطفية. وهناك احتياج للتمييز بين أنواع الدموع، ولذلك توجد أهمية الحصول على مساعدة مرشد روحى مختبر. أى “ستارتز”. والتمييز يصير اكثر ضرورة فى حالة “الألسنة” وفى أغلب الأحوال، لا يكون روح الله هو الذي يتكلم من خلال “الألسنة” بل يكون المتكلم هو الروح البشرية التي تصنع الإيحاء الذاتى والهستريا الجماعية. بل فى بعض الحالات يكون “التكلم بالألسنة” هو صورة من صور التلبس بروح شيطانى. ” أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح لتعرفوا هل هي من الله؟“(1يو1:4)

 

          لذلك، فالأرثوذكسية، بينما تصر على الحاجة إلى اختبار مباشر للروح القدس، فإنها تصر أيضًا على الحاجة إلى التمييز والتعقل. إن البكاء وكذلك اشتراكنا فى مواهب الروح الأخرى تحتاج أن تتطهر من كل الخيالات ومن الإثارات العاطفية. فالمواهب الروحية الحقيقية لا يجب أن تُرفض، ولكن لا ينبغى أن نسعى وراء هذه المواهب كهدف فى ذاتها. ما نهدف إليه فى حياة الصلاة ليس الحصول على مشاعر معينة أو اختبارات “حسية” من أى نوع خاص، بل ما نهدف إليه هو بكل بساطة، أن تتوافق مشيئتنا مع مشيئة الله.

          يقول الرسول بولس لأهل كورنثوس: ” لا أطلب ما هو لكم بل إياكم ” (2كو14:12)، ونحن نقول نفس الشىء لله. نحن لا نطلب المواهب بل الواهب.

?>?>?>?>

دعاء للروح القدس:

تعال, أيها النور الحقيقي.

تعال, أيها الحياة الأبدية.

تعال, أيها السر الخفي.

تعال, أيها الكنز الذي بلا أسم.

تعال, أيها الحقيقة التي تفوق كل الكلمات.

تعال, أيها الشخص الذي يفوق كل فهم.

تعال, أيها الفرح الذي بلا نهاية.

تعال, أيها النور الذي لا يعرف مساء.

تعال, يا رجاء المخلّصين الذي لا يخزي.

تعال, يا قيامة الساقطين.

تعال, يا قيامة الأموات.

تعال, يا كلى القدرة , لأنك تخلق بلا توقف , ودائماً تعيد صياغة كل الأشياء وتغيرها بإرادتك وحدك.

تعال, يا غير المنظور الذي لا يستطيع أحد أن يلمسك أو يمسك بك.

تعال, لأنك تستمر دائماّ غير متحرك , ومع ذلك فأنت دائم الحركة كليةً في كل لحظة ؛ أنت تقترب منا نحن الذين نقيم في الهاوية , ومع ذلك فأنت تظل اعلي من السموات.

تعال, فإن اسمك يملأ قلوبنا بالشوق , واسمك دائماً علي شفاهنا ؛ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نقول أو نعرف،من أنت أو ما هي طبيعتك.

تعال, أيها الوحيد , لمن هو وحيد.

تعال, فأنت نفسك هو الرغبة التي في داخلي.

تعال, يا نسمتي , ويا حياتي.

تعال, يا عزاء نفسي المنسحقة   

تعال, يا فرحي , يا مجدي , ويا بهجتي التي لا نهاية لها.

(القديس سمعان اللاهوتي الجديد )

 

الروح القدس هو نور وحياة,                                         هو ينبوع المعرفة الحي,

روح الحكمة ,                                                                            روح الفهم ,

مُحب , وبار , ومملوء بكل معرفة وقوة ,   مُطهرنا من كل خطايانا ,

إله ويجعلنا إلهيين ,                                                  هو النار التي تأتي من النار,

هو يتكلم , ويعمل , ويوزع مواهب النعمة.

بواستطه تكلّل كل الأنبياء , ورسل الله والشهداء.

عجيبة كانت الأخبار , عجيبة كان المنظر يوم الخمسين:

النار نزلت, مانحة مواهب النعمة لكل واحد.

(من صلوات عيد الخمسين في الطقس البيزنطي )    

” كل من قد أعتمد بطريقة أرثوذكسية, قد نال سراً ملء النعمة؛ فإن سار في طريق ممارسة الوصايا, فإنه سيصبح عارفاً بطريقة واعية بهذه النعمة التي في داخله.

ومهما تقدم الإنسان في الإيمان؛ ومهما كانت البركات التي يصل إليها عظيمة, فهو لا يكتشف ولا يمكن أبداً أن يكتشف أي شيء أكثر مما سبق أن ناله سراً بواسطة المعمودية. فالمسيح لأنه إله كامل, يمنح المُعمّدين نعمة الروح الكاملة. ونحن من جانبنا لا نستطيع أن نضيف شيئاً إلي هذه النعمة, ولكن هذه النعمة تُعلن وتكشف ذاتها لنا أكثر فأكثر بقدر تتميمنا للوصايا. إذن , فكل ما نقدمه للرب بعد ولادتنا بالمعمودية ,كان موجوداً في داخلنا وهو نابع منه هو أصلاً.”                                        (القديس مرقس الناسك )

 

الأقانيم الإلهية لا يؤكدون ذواتهم , بل كل أقنوم منهم يشهد للأخر لهذا السبب قال القديس يوحنا الدمشقي إن ” الابن هو صورة الآب, والروح صورة الابن ” وينتج عن ذلك أن الأقنوم الثالث للثالوث هو الأقنوم الذي ليس له صورته في أقنوم آخر. الروح القدس, كأقنوم, يظل غير منكشف, يظل خفياً, مخفياً نفسه في ذات عملية ظهوره…

الروح القدس هو المسحة الفائقة التي مُسح بها المسيح ومُسح بها كل المسيحيين المدعويين ليملكوا معه في الدهر الآتي. فحينئذ ـ في الدهر الأتي ـ فإن هذا الأقنوم الإلهي, غير المعروف الآن, والذي ليست له صورته في أقنوم آخر في الثالوث, سوف يظهر نفسه في الأشخاص المؤلهين: لان جماعة القديسين سوف تكون هي صورته.

(فلاديمير لوسكي )

 

 

الروح القدس يهب كل الأشياء:

    هو ينطق بالنبوات ,

    هو يقدس الكهنة ,

    هو يعلم الجهال الحكمة,

    هو الذي حول الصيادين إلي لاهوتيين.

    هو الذي يمسك بكل تركيبة الكنيسة معاً ويجعلها في وحدة.

    هو واحد في الجوهر وواحد في العرش مع الآب والابن.

أيها الباراكليت , المجد لك!

(من صلوات عشية عيد الخمسين فى الطقس البيزنطي)

 

 

الله روح – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد

Exit mobile version