قيامة الجسد ق.غريغوريوس النيسى – د. سعيد حكيم يعقوب
قيامة الجسد ق.غريغوريوس النيسى - د. سعيد حكيم يعقوب
قيامة الجسد ق.غريغوريوس النيسى – د. سعيد حكيم يعقوب
إن الفقراء الذين يحرصون على حضور الاحتفالات، يكرّمون هذه المناسبات بنفس مستعدة وباعتزاز كبير، حتى ولو لم يكن لديهم الإمكانيات لهذا الاحتفال المنشود، فإنهم يطلبون أفضل ما عند الأقارب والمعارف من أشياء تجعلهم يظهرون بأفضل صورة وأبهى منظر، من أجل المشاركة في مثل هذه المناسبات[1]. وكما أعتقد فإن هذا يحدث لى اليوم، فليس لدىّ أى شئ ثمين يمكن تقديمه في أمجاد هذا اليوم، لكنى سألجأ إلى نص التسبيح المقدس، الذي رتلناه منذ قليل.
من هناك سآخذ الدافع وسأسدد دينى من خلال هذا الترابط الذي يجمع بين كلماتى والكلمات الكتابية، على الرغم من أن العبد الفقير كان قد رتب بعض الأوقات، لكى يقدم كلمات الإمتنان والشكر للرب. هكذا قال داود وقلنا نحن معه ” سبحوا الرب يا كل الأمم مجدوه يا كل الشعوب “[2]. فهو يدعو للتسبيح كل أحفاد آدم ، وهو لا يترك أحد خارج هذه الدعوة، سواء في الغرب أو في الشرق، من هذا المكان أو من ذاك، في الشمال أو الجنوب، فهو يُنهض الجميع معًا للتسبيح.
وفي مواضع أخرى يتوجه لمجموعات من البشر، داعيًا إياهم أبرارًا، حاثًا الأطفال على التسبيح[3]. لكن الآن هو يجمع كل الأمم والشعوب من خلال هذا المزمور ” سبحوا الرب يا كل الأمم مجدوه يا كل الشعوب “. أى عندما ” تزول هيئة هذا العالم “[4] كما يقول الرسول بولس.
ويظهر المسيح كملك وإله، مسكتًا أيضًا كل فم، وواضعًا لجامًا على كل كلمة مجدفة، وعندما يتوقف عبث اليونانيين وخداع اليهود، وهذيان الهراطقة المنفلت، حينئذٍ فإن كل الأمم وكل الشعوب في كل العصور سيقدمون طوعًا، سجودًا بلا اضطرار، وسيمجد الأبرار والجاحدون اسم الله القدوس بحرارة. حينئذٍ سيُرتل الجميع تسبحة النصرة، المنهزمون والمنتصرون. حينئذٍ سيرى الجميع المسئول عن القلاقل (أى الشيطان) الذي حلم بعرش الرب، والملائكة تجره للعقاب المحتوم، هو وأعوانه وخدامه الأشرار، وسيُقَدمونهم للدينونة العادلة.
وسيُستعلن الملك والديان الواحد، الرب الذي يعترف له الجميع، وسيسود العالم الهدوء، عندما يجلس الديان على عرشه، والمبشر يلتزم الصمت، والشعوب بأعين وآذان مفتوحة تنتظر سماع صوت الخليقة.
ولهذا نقول مع المرنم ” سبحوا الرب يا كل الأمم، مجدوه يا كل الشعوب ” سبحوه كقادر، مجدوه كمحب البشر، لأنه حينما سقطنا ومتنا، أعطانا حياة وجعل إناءنا الضعيف جديدًا وشابًا، وغيّر الرفات الكريهة داخل القبر إلى حياة خالدة بسبب محبته غير المحدودة للبشر، والنفس التي تركت الجسد منذ آلاف السنين، كما لو كانت في رحلة بعيدة، أعادها إلى بيتها، دون أن يجد أى صعوبة في ذلك، على الرغم من عنصر الزمن وانفصال النفس عن الجسد منذ وقت بعيد، لكنه يصنع هذا، بطريقة أكثر سهولة من طيران طائر نحو عشه.
لنتحدث إذن عن الأمور الخاصة بهذا الإحتفال (القيامة)، لكى نحتفل بما يتناسب مع طبيعة هذا الإحتفال. لأن كل ما هو غير لائق وبلا هدف، هو بلا نظام كما أنه يتسم بالغرابة، بجانب أنه لا ينفع في شئ، ليس فقط من جهة العقيدة والإيمان، ولكن أيضًا فيما يختص بالأمور المتعلقة بالحكمة الخارجية العالمية.
لأنه أين هو الخطيب، الذي يحمل هذا القدر من الحماقة والمثير للهزل، الذي عندما يدعونه في احتفال زواج، يترك الحديث المناسب واللائق الملىء بفرح الاحتفال، ويبدأ في الرثاء بأغنيات حزينة وينوح داخل قاعة الفرح لأجل مصائب هذه الكارثة، أو العكس عندما يُعهد إليه أن يرثى إنسان توفى، فينسى الأسى ويبدو عليه الفرح وسط أناس مملوئين بالحزن؟ فإن كان النظام والمعرفة في الأمور العالمية هو أمر حسن، فبالطبع يكون الأمر أكثر ملاءمة في الأمور الأعظم والأسمى.
إذن فقد قام المسيح اليوم، وهو الحى إلى الأبد، هذا الذي لم يُجبر على الآلام، ولم يلزمه أحد أن ينزل عن سمائه، ولم تكن قيامته بمثابة إحسان عليه من آخر أو كأمر غير متوقع وغير مأمول، لكنه كان يعرف سير الأحداث كلها حتى النهاية. فهو بعينه الإلهية لديه المعرفة بكل الأمور التي ستحدث، فقد رأى قبل أن ينزل من السموات، اضطرابات الأمم، وقساوة إسرائيل، وبيلاطس وهو يجلس على عرشه، وقيافا وهو يمزق ثيابه، رأى الشعب وهو يثور بحدة، ويهوذا يخون، وبطرس يدافع عنه، ورأى إستعلان قيامته المجيدة قبل أن تحدث.
فقد كان يعرف مسبقًا كل المستقبل، ولم يؤجل إحساناته للإنسان، ولم يجعل التدبير بعيدًا، لكن مثلما يصنع أولئك الذين ينظرون شخصًا ضعيفًا تسحبه المياه المتدفقة إلى الأخوار أو الوديان الضيقة، فعلى الرغم من معرفتهم أنهم قد ينزلقون في الوحل الكثيف ويتعرضون للإصطدام بالحجارة التي تحركها المياه المندفعة، لكنهم لا يترددون عن الدخول في هذه الوديان الضيقة، لأجل محبتهم لذاك الذي تهدده الأخطار، هكذا مخلّصنا محب البشر لقد قَبِل السباب والشتائم، من أجل محبته لذاك الذي خُدع، وسار نحو الضياع.
أتى إلى العالم، لأنه تنبأ بصعوده الممجد قبل أن يموت كإنسان، وعرف مسبقًا بقيامته. لم يخاطر مثل إنسان عادى لا يُدرك ما يحمله له المستقبل من عواقب، لأنه يعرف كل التفاصيل الخفية لهذا المستقبل، ولهذا فقد دبر خطته بطريقة حاسمة ومعروفة.
” هذا هو اليوم الذي صنعه الرب. نبتهج ونفرح فيه “[5] لا بسكر وضحكات، لا برقص ومشروبات، لكن ” نبتهج ونفرح ” بأفكار إلهية. اليوم نستطيع أن نرى كل المسكونة كعائلة واحدة، تجمعت من أجل هدف واحد. فقد تجمعت تحت شعار واحد، وهو الرغبة في التسبيح والصلاة.
ولهذا فإن الطرق الكبيرة قد خلت من مسافريها، والبحر اليوم يفتقد المراكب والبحارة، الفلاح ترك الفأس والمحراث وتزين بملابسه الإحتفالية، البيع والتجارة توقفا، الأحزان تراجعت، مثلما يتراجع الشتاء عندما يظهر الربيع، الضوضاء والاضطرابات ومتاعب الحياة تراجعت أيضًا أمام سلام الاحتفال.
الفقير تزّين مثل الغنى، والغنى يظهر أكثر إشراقًا مما إعتاد عليه، الشيخ يركض كشاب، لكى يأخذ نصيبه من الفرح، المريض يتجاوز مرضه، الطفل يبدل ملابسه ويحتفل بأحاسيسه لأنه لا يستطيع بعد أن يحتفل ذهنيًا. ونفس العذراء تستضئ، لأنها ترى أن رجاءها المنتظر يشرق لقبول مثل هذه الكرامة.
المتزوجة تحتفل وتفرح مع كل ملء بيتها. لأن الجميع يفرحون اليوم، الزوج والأولاد والخدم وكل أهل البيت. ومثلما يحدث مع مجموعات النحل المولودة حديثًا والتي تطير لأول مرة خارجة من الخلية ومن ثقوبها نحو الهواء والنور، متحدين جميعًا الواحدة مع الأخرى مجتمعين بفروع الأشجار، هكذا نرى في هذا الاحتفال أن كل العائلات تجتمع معًا في المدينة الأم.
وبالصواب يُقال إن هذا اليوم هو حقًا انعكاس لليوم المنتظر. لأن في الحالتين يجتمع الناس، في اليوم المنتظر، الجميع بشكل عام يجتمعون، وفي هذا اليوم تجتمع مجموعات مختلفة. ولكى نقول الحقيقة الأكثر وضوحًا، من جهة التساؤل عن أيهما يثير بهجة وفرح أكثر، فإن هذا اليوم (المحتفل به) هو أكثر فرحًا من اليوم المنتظر. لأن في اليوم المنتظر بالضرورة سنشاهد أولئك الذين ينوحون، وأولئك الذين تُستعلن خطاياهم، بينما سعادة اليوم لا يعتريها أى كآبة.
البار يبتهج، والذي لا يحمل ضمير نقى، ينتظر تقويمه بالتوبة، ويختفى كل أسى في هذا اليوم، ولا أحد ينتابه أى حزن، بل يشعر بالراحة بسبب عظمة هذا الاحتفال. اليوم يُفك المربوط من قيوده، والمدين يُسدد عنه دينه، والعبد يُحرر بدعوة الصلاح ومحبة البشر التي للكنيسة، لا يُهان بصفعات على وجهه ولا بضربات، ويُسامح لأجل ضربات أعطاها، ولا يصنع استعراضًا أمام الشعب من فوق منصة عالية كبداية لتحرره، وهو مُهان ويشعر بالخجل، لكن كما هو معروف يُسامح بكرامة كبيرة، وذاك الذي مازال بعد في العبودية يُنعم عليه بالحرية. لأنه وإن كانت الخطايا كثيرة وثقيلة، تلك التي تتجاوز حدود الصفح والغفران، فإن السيد (الذي يملك العبد) يقدس قيم السلام ومحبة البشر التي يحملها هذا الاحتفال، ويعفو عن المنحرف والآثم، كما عفى فرعون عن رئيس السقاة، ورده إلى سقيه[6]. ولأننا نحتفل اليوم بالقيامة، والتي هى عربون قيامتنا العتيدة، فهو يدرك (أى السيد) أنه هو أيضًا في ذلك اليوم في احتياج لغفران وصلاح الرب. لذلك فإنه يُظهر هنا أحشاء رأفة، ويترجى المجازاة في يوم القيامة العتيدة. اسمعوا هذا أيها السادة، احفظوا إرشادى كأمر نافع، لا تتهموننى باطلاً من أجل دفاعى عن العبيد، كأننى أمتدح كذبًا هذا اليوم (أى يوم الاحتفال بعيد القيامة) اطردوا حزن النفوس المغتمة، كما محاه الرب من النفوس، غيروهم من أناس بلا كرامة، واجعلوهم مكرمين، ادخلوا الفرح لقلوب الحزانى وشجعوا الضعفاء ليصيروا أقوياء، وأخرجوهم من عزلتهم، كما يخرج الأموات من القبر، وليشرق بهاء هذا الاحتفال في الجميع، كما لو كان زهرة يانعة. فإن كانت السجون تُُفتح في احتفالات عيد ميلاد الملك أو الإحتفال بانتصار ما، ألا يُخلّص المسيح القائم، أولئك الحزانى؟ أيها الفقراء، احتضنوا مرضعتكم، وكل مَن يحمل جسد ضعيف ومهان، فإن هذه (الكنيسة) هى التي تشفى أوجاعكم. لأن رجاء القيامة يخلق فينا، شهوة الفضيلة وبغضة الخطية، لكن عندما تُنكر القيامة، سيكون هناك شئ واحد لدى الجميع ” فلنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت “[7].
في هذا اليوم، نجد الرسول بولس يستهين بهذه الحياة الحاضرة، ويترجى حياة الدهر الآتى. مُقللاً من شأن الأمور الظاهرة قائلاً ” إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس “[8]. وبسبب هذا اليوم، فإن الناس، هم ورثة الله وورثة مع المسيح. في هذا اليوم، الأجزاء الجسدية التي التهمتها الطيور الجارحة منذ آلاف السنين ستكتمل، وأيضًا التي التهمتها الحيتان وكلاب البحر والحيوانات البحرية عندما يقوم الإنسان، ستقوم معه أيضًا هذه الأجزاء. الأجساد التي أحرقتها النيران والتي أكلتها الحشرات داخل القبور، وبشكل عام كل الأجساد التي أبادها الفساد، ستقوم بلا فساد، وكما يُعلّم القديس بولس، فإن القيامة ستحدث في طرفة عين[9]. لكن أنت تفكر كإنسان، وبحسب قدرتك، تحسب كم يحتاج الأمر من السنين لكى يتحقق هذا؟ أولاً: لكى يمكن أن تتجمع العظام التي فسدت، لكى تتحد مرة أخرى، في صلة طبيعية وترابط منسجم بعد أن كانت متفرقة. ثانيًا: تفكر في تغطية العظام بالأجساد، والتشابكات المعقدة للأعصاب، والأوعية الدموية الدقيقة والشرايين الممتدة تحت الجلد، بعددها الذي لا يحصى والذي ينتشر في الخلايا الدفينة، ومن أين تعرف كل واحدة مكانها المحدد، كزى خاص بها، وتتحد مباشرةً مرة أخرى بهذا الجسد وتختاره بدون خطأ، وسط هذا العدد الضخم من الأجساد المتشابهة. تأّمل النفوس والأجساد منذ آدم، أعداد غير متناهية من الأجساد تحللت، ثم عودة أصحابها بعد أحقاب زمنية طويلة، كل هذا يتم بأسلوب عجيب. فلا هذا الجسد يتأخر عن أن يُسكن، ولا ساكنه يضل عنه، ويسهر على الباب طالبًا سكنه الخاص به. لكنها تتقدم نحوه مباشرةً، كما تتجه الحمامة إلى عشها، حتى ولو كان هناك أبراج كثيرة ومتتابعة في نفس المكان، ولها تصميم واحد. كيف تتشكل الذاكرة والتفكير التي للحياة السابقة وبهذا القدر من السرعة، بينما الجسد الحى قد تحلل منذ قرون طويلة، على الرغم من أنه عندما يستيقظ الإنسان من نوم ثقيل، ينسى للحظة مَن هو وأين يوجد، وينسى أموره المعتاد عليها، إلى أن يفيق من غفلته، وتنشط الذاكرة مرة أخرى وتصير أكثر حيوية. هذه الأمور، وأخرى مماثلة، تمر في أفكار الكثيرين، وتملأ الذهن بأشياء مثيرة، ومع ذلك لا يؤمنون بالمعجزة. لأن الذهن لا يجد حلاً لكل ما يحيّره، ولا يستطيع أن يُشبع فضوله من جهة الاكتشاف والفهم، فيُقاد إلى عدم الإيمان، ومخالفة الحقيقة بسبب ضعف أو مرض في طريقة التفكير ذاتها. ولأن موضوع الاحتفال محبب لدينا، فلنحاول قليلاً، طالما أتينا بموضوعنا إلى البداية المناسبة، أن نُعلّم هؤلاء الذين يرتابون بلا مبرر في أمورًا واضحة.
عندما أراد الله أن يخلق الإنسان، أوجده لا ككائن بلا قيمة، لكن ككائن مكرم أكثر من أى خليقة أخرى، وأعطاه سلطان على كل الخليقة التي تحت السماء. هذه هى إرادته، فقد خلقه حكيمًا، وشبيهًا بالله، وزينه بنعمة غنية. فهل يا ترى قد أحضره إلى الحياة، بهذا القصد، أى أن يولد، ويفسد ويختفى كليةً؟ هذا القصد لا وجود له، فإنه أمر شائن جدًا، أن ننسب هذا القصد لله. لأن الله بهذه الصورة، يعكس صورة أطفال يصنعون بيوتًا صغيرة بحماس كبير، وبسرعة يهدمون ما يصنعوه، دون أن ينتهى تفكيرهم إلى أية نتيجة مفيدة. لكن نحن قد تعلمنا العكس تمامًا، إن الله خلق الإنسان الأول (آدم) خالدًا، وعندما خالف وصيته، وعوقب بسبب خطيته، حُرِم من الخلود[10]. بعد ذلك فإن الله منبع كل صلاح ـ من فيض محبته للبشر ـ قد رفع الدين عن أولئك الذين أراد لهم التجديد حتى لا يسيروا نحو الفناء، وأعادهم إلى حالتهم الأولى. هذه الأمور كلها جديرة أن تُنسب بالحقيقة إلى الله. لأنه بجانب أنها تُظهر صلاحه فهى أيضًا تؤكد قدرته. فإن كان من غير المقبول أن يتعامل المرء بقسوة وبلا رحمة مع تلاميذه ومع مَن يرعاهم، ويوصف هذا السلوك بأنه سلوك غير سوى، فبالأولى كثيرًا جدًا لا يمكننا أن ننسب هذا السلوك لله الذي هو منبع المحبة والرحمة والرأفة وكل صلاح. فالراعى على سبيل المثال يريد قطيعه صحيحًا معافًا تدب فيه الحياة، ويطمح في زيادة أبقاره وأغنامه برعايتها بطرق متنوعة، وبشكل عام فإن كل مَن يرعى قطعان يتمنى أن تُحفظ سالمة وأن تتزايد وهو يرمى بلا شك إلى هدف نافع ومفيد. فإن كانت هذه الرؤية هى رؤية صحيحة، وأن ما قلناه منذ قليل، يؤكد على مشيئة الله، خالق جنسنا البشرى، بأن يعيد خليقته التي فسدت للحياة، فإنه من الواضح أن أولئك الذين لا يقتنعون بما سبق وقلناه، يستمدون في آرائهم المعارضة هذه من فكرة استحالة أن الله يُقيم الذي مات وتحلل. غير أن كل مَن ينسب الضعف والحيرة إلى الله هو بالحقيقة من الأموات وبلا احساس، إذ ينسب ضعفه الشخصى إلى الله كلّى القدرة والقوة.
ولكى نُوبّخ حماقتهم بكلمات دقيقة، يجب أن نؤكد على هذا الذي سيحدث ونسأل، كيف يمكن أن لا نؤمن بالقيامة؟ لقد سمعت أن الطينة صُنعت وصارت إنسانًا. أخبرنى إذن من فضلك أنت يا من تظن أن لديك حكمة تشمل كل شئ، كيف جُمع هذا التراب الدقيق المتفرق، وكيف صار أجسادًا، ومن نفس المادة صُنعت العظام والجلد والدهن والشعر؟ وكيف تكون هناك أعضاء متميزة عن بعضها مع انها تكوّن جسدًا واحدًا؟ كيف أتت حواء من عضو صغير من جنب آدم وصارت كيانًا كاملاً مثل آدم الذي خُلق من التراب. بمعنى أن الضلع الذي أُخذ من الجنب صار رأسًا، ويدين ورجلين. انظر إلى شكل الأمعاء بالتوائاتها المتشابكة، الجسد والشعر، العين والأنف والفم، وكل شئ بشكل عام، ولكى لا أسترسل في الكلام، فإن كل شئ فينا نحن الصغار هو عجيب ومدهش.
إن الكلام عن الخلق، هو أمر يمكن فهمه وقبوله بسهولة. إذن أولئك الذين يقبلون أن من الجنب صار إنسان، بينما لا يؤمنون بإعادة خلق الإنسان مرة أخرى كيف يدّعون بأنهم مفكرين؟ بالتأكيد ليس من السهل إدراك القدرات الإلهية من خلال التصورات الإنسانية. فإن كنا ندرك كل شئ فلن يكون هناك فارق بين الخالق والمخلوق. ولماذا أتكلم عن المقارنة بيننا وبين الله؟ لأنه في بعض الخواص لا يمكننا أن نقارن أنفسنا ولا حتى مع الحيوانات الغير العاقلة، لكننا (في بعض الأمور) نحن أقل منها. على سبيل المثال في الجرى، فإن الخيول وأيضًا الكلاب، وحيوانات أخرى تفوقنا في ذلك. أما في القوة، فإن الجِمال والبغال تتفوق علينا، وفي البصر الحاد، التيس أشد بصرًا. ولهذا فإن مَن لديه عقل عليه أن يؤمن بكلام الله، ولا يطلب معرفة الطرق والأسباب المختصة بالقدرات الإلهية، لأن هذه القدرات، تتجاوز إمكانياتهم الذهنية. اشرح لى كيف أخذ هذا العالم المرئى كيانًا ووجودًا؟ أخبرنى عن الفن الذي به تحقق هذا العمل متعدد الأشكال. ومع أنك تعرف أن هذه الأمور هى فوق قدرتك، إلاّ أنك تُظهر حيرة وغضب، لأنك تجهل موضوع إعادة تجديد الإنسان بحسب الميلاد الجديد، أنت يا مَن تجيد الكلام عن الميلاد. وإن كانت هذه الأمور، بالنسبة لك هى حلم، وخيال، وإدراكها من كل النواحى أمر مستحيل، فلا تغضب، إن كنت تجهل موضوع إعادة الخلق، أو أنك لا تستطيع أن تفهم اصلاح ذاك الذي فسد، فالفنان الذي أوجد الخليقة الأولى، هو نفسه الذي يُعيد الخلق مرة أخرى[11]. فهو يعرف كيف يُعيد مرة أخرى عمله الذي أصابه فساد. هل يحتاج إلى حكمة؟ هو نفسه مصدر كل حكمة وكل قدرة وليس في احتياج لمساعد أو معين. هذا هو الذي بحسب كلمات النبى الحكيم ” من كال بكفه المياه، وقاس السموات بالشبر، وكال بالكيل تراب الأرض “[12]. انتبه إلى الصور، التي تعطى معانى واضحة للقدرة التي لا يُعبر عنها، والتي تجعل الحيرة تتملك على أفكارنا، باعتبار أننا لا نستطيع أن نتخيل شيئًا مساويًا في القيمة لطبيعة الله. فهو ضابط الكل، ولا يوجد شئ مستحيل وغير ممكن تحقيقه لدى الله لأنه يستطيع كل شئ.
إذًا فأمامك أمور كثيرة تقود إلى الإيمان وتفرض عليك أن تقبل الأمور التي تكلمت عنها. أولاً وقبل كل شئ، إن هذا الكون كثير التنوع والتراكيب، يُعلن بجلاء وأكثر من أى عظة، أن ذاك الذي أبدع كل ما تراه[13] هو إله عظيم، وخالق حكيم. لقد تعهد الله الخليقة بالرعاية، واهتم بنفوس غير المؤمنين الضعيفة، وأكد قيامة الأموات عمليًا، بأن أعطى حياة لكثير من الأجساد التي ماتت. ولهذا فإن لعازر قام بعد أربعة أيام من بقائه في قبره[14]. والابن الوحيد للأرملة، أُقيم من موته وسُلم لأمه، وبعد أن كانوا يحملونه ليُدفن، عاد حيًا[15]. وآلاف آخرين من الصعب أن أحصيهم الآن. لكن لماذا أتطرق بحديثى عن الله، وعن المخلّص عند الحديث عن القيامة؟ لكى يخجل بالأحرى كل مَن يشك، وأقول ألم يُعطِ لعبيده الرسل، القدرة أن يقيموا أمواتًا؟ إذن فالدليل واضح على قدرته الإلهية، ولماذا أيها المتشاحنون، تُثيرون هذه الموضوعات، وهل نحن نتكلم بكلام غير مفهوم؟ فكما قام شخص من بين الأموات ، هكذا سيقوم عشرة أشخاص، ومثلما قام عشرة، هكذا سيقوم ثلاثمائة، وكما قام ثلاثمائة، هكذا سيقوم الكثيرون. النحات الذى ينحت تمثالاً ما على سبيل المثال، يستطيع بسهولة أن ينحت عددًا كبيرًا من التماثيل. ألم تروا كيف يُشكل الصناع بقليل من الشمع، الأشكال والنماذج للمبانى الكبيرة والرائعة؟
انظر إذًا إلى السماء التي لا نهاية لها، هى إبداع عمل الله، وقد خلق الله الإنسان، كائنًا عاقلاً، لكى يدرك الإبداعات الإلهية ويمجد الخالق الحكيم والمبدع، وها أنت ترى دائرة عالم الفلك، التي هى صغيرة، لكنها تتحرك بيد عَالِم الفلك، هكذا تتحرك السماء بيد الله. هكذا فإن الأعمال الفنية الصغيرة، تصير صورة للإبداعات الكبيرة، والكلمات القليلة، تُفسر الأعمال الضخمة. لماذا أذكر هذه الأمور؟ لكى تعرف، إذا ما سألتنى كيف ستحدث قيامة الأجساد التي رقدت منذ بداية الخليقة؟ سأُجيب متساءلاً، كيف قام لعازر بعد أربع أيام في القبر؟ فعندما تؤمن أن ذاك الذي يعمل، هو الله، فلن تقول إنه يوجد شئ مستحيل أمامه، ولا تعتقد أن ذهنك يستطيع أن يستوعب حكمة ذلك الذي هو غير مُدرك. لأنه لا يوجد شئ غير محدود أمام الله، أما بالنسبة لك، فغير المحدود هو أمر لا ينبغى الفحص فيه. غير أننا يُمكننا أن نفهم هذا بطريقة أفضل لو أننا أضفنا إلى ما قلناه، الطريقة التي خُلقنا بها. لا أتكلم عن بداية جبلتنا الأولى من الله، لأنها غير مدركة ولا يمكن للذهن الإنسانى أن يصل إليها، لكنى أتكلم عن الخلق الذي يظهر من خلال الطبيعة ومن خلال الإنسان. كيف أن البويضة المخصبة والتي هى مادة سائلة، وبلا شكل، تصير جامدة، ثم تصبح رأسًا، وعضلات ساق، وتصير أضلاعًا متينة، كما أن المخ وهو لين وخفيف، تصير الجمجمة التي تحتويه، جامدة جدًا وخشنة، بالإضافة إلى الأعضاء الأخرى متعددة الأشكال؟ وهذا أقوله باختصار ولا أسترسل شارحًا تفاصيل الأمور الجانبية. إذن فكما أن البويضة المخصبة في البداية، تكون بلا شكل، ثم بعد ذلك تأخذ شكلاً، وحجمًا، كما يُبدعها العمل الإلهى بشكل معجزى، هكذا يكون مقبولاً أكثر، أن الرفات التي توجد داخل القبور، والتي كان لها في وقت ما شكل محدد، تتجدد مرة أخرى. والتراب يصير مرة أخرى إنسانًا، مثلما حدث بالضبط في بداية الخلق، حيث خُلق الإنسان من تراب الأرض.
لنتقدم في الكلام عن الله، ولنفكر فيما لصانع الخزف من إمكانيات، ماذا يعمل الخزّاف؟ يأخذ قطعة من الطين، ويُعطيها شكل إناء معين، ويُعرّضه للشمس، لكى يُجففه ويجعله متينًا، ليصبح فيما بعد جرة، أو بلاطة أو إناء تخزين. لكن أحيانًا يدخل إلى داخل معمله إنسان آخر، بشكل مندفع وبلا نظام يقلب كل شئ، فيُلقى الإناء إلى أسفل، ويسحقه فيصير ترابًا لا شكل له. لكن إذا رغب الخزاف في إصلاح ما حدث على الفور، فإنه يُشكل الخزف من جديد، ويصنع بفنه إناء ليس بأقل جودة أبدًا من الإناء القديم. مع أن الخزاف هو بالتأكيد مخلوق صغير، إذا ما قورن بالقدرة الإلهية، فإننا لا نصدق الله عندما يَعد أن يُجدد ويحيي ما تلاشى. وهذا بالتأكيد هو فكر أحمق. ومن ناحية أخرى، لنر ماذا يقول لنا بولس الرسول باستخدامه مثال القمح، والذي يُعلّم به هؤلاء الأغبياء قائلاً: ” يا غبى الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت. والذي تزرع لست تزرع الجسم الذي سوف يصير بل حبة مجردة ربما من حنطة أو أحد البواقى. ولكن الله يعطيها جسمًا كما أراد “[16]. فلنفحص بعناية، كيف يصير نبات القمح، وستفهمون كلامى. فبذور القمح يلقونها في الأرض، وبعدما تتعفن بالرطوبة، بعد موتها، تنتهى إلى حالة معينة، مثلما يحدث في اللبن، الذي إذا تخمر، صار مثل مادة بيضاء، لها مذاق حامضى. وعندما تنمو البذور وتمتد في الأرض، تتحول شيئًا فشيئًا من اللون الأبيض إلى اللون الأخضر. ثم بعد ذلك تصير خضراء وتتشعب في الكتل الطينية، وعندما تكبر إلى فوق، وتتغَذى هذه الأعواد الكثيرة من أسفل، من مكان معين من الجذر، فإن الجذر يُعَد بهذا لحمل الثقل الذي سيصير في المستقبل. وكما يُضبط سارى المركب من كل اتجاه، بحبال كثيرة، لكى يبقى ثابتًا وفي حالة توازن، من خلال الجذب المناوئ للحبال، هكذا نتوءات الجذر، مثل الحبال، تصير دُعامات وحماية للساق الحامل للسنابل. وعندما يصير القمح أعوادًا وينمو مرتفعًا إلى أعلى، فإن الله يسنده ويشدّده ويقوى ساقه، ليؤّمنه، من أجل ثقل السنبلة عند نضجها، فيكون مثل بيت مبنى بحجارة مترابطة. فهكذا عندما تصل قوة الساق إلى أقصى مداها، نجد أن البراعم تتشقق وتخرج السنابل. وهذه (السنابل) نجد فيها أيضًا عجائب أخرى عظيمة. إذ نجد الحبوب الصغيرة في صفوف مرتبة متراصة بجانب بعضها وكل حبة منها لها غلاف خاص، وفي النهاية تخرج هذه السنبلة أشواك دقيقة وحادة، أتصورها كأسلحة ضد الطيور التي تريد أن تلتقط هذه الحبوب، فتمنعها من الاقتراب والتقاط حبات القمح. أرأيت كم معجزة، تخفيها بذرة متعفنة، بينما هى حبة واحدة تسقط في الأرض، عندما تنمو وتثمر، تصير حبات كثيرة؟ أما من جهة الإنسان، فإنه لا يأخذ شيئًا أكثر مما له، لكنه يأخذ ما يخصه فقط، فالإنسان الواحد الذي يموت، هو نفسه الواحد الذي يقوم. ولهذا فإن تجديدنا، يظهر أنه أسهل من زراعة القمح. من هنا اتجه إلى ما يحدث للأشجار، كيف أنها تفتقر إلى الحياة في فصل الشتاء من كل عام، أى تموت الثمار، وتسقط الأوراق، وتبقى الأخشاب جافة خالية من كل جمال. لكن عندما يأتى فصل الربيع، تزدان بالزهور اليانعة ثم تكسوها الأوراق الخضراء لتصبح في أبهى منظر يخلب الأنظار وتصبح مأوىً للطيور المغردة التي تعلوا فوق الأغصان، ويُستعلن هناك جمال رائع، حتى أن كثيرين من الناس هجروا بيوتًا مُزينة بالذهب والمرمر، واعتبروا أن بقائهم تحت الأشجار الوارفة هو أمر أكثر سعادة (من البقاء في البيوت). لهذا فإن إبراهيم أقام خيمته تحت أشجار البلوط[17]. وهذا بالطبع، لا لأنه لا يملك بيتًا بل لأنه يشعر بالارتياح والبهجة تحت ظلال الأشجار. وحياة الزواحف تقودنى لقبول هذا الكلام. لأن قدرة هذه الزواحف على الحياة تتوقف في فترة الشتاء، وخلال فترة ستة أشهر، تكون في بياتها الشتوى، وتبقى في مخابئها بلا حركة. لكن عندما يأتى الزمن المحدد ويدوى الرعد في الأفق، ويُسمع الرعد كعلامة حياة، على الفور تنطلق كما لو لم يكن قد مر كل هذا الوقت، وتبدأ في تأدية أعمالها المعتادة.
ماذا يعنى هذا الكلام؟ ليقل لي الفاحص والعارف بأعمال الله وليخبرنى، كيف يقبل أن تقوم الثعابين من مخابئها بصوت الرعد، بينما هى في حالة موت، لكنه لا يؤمن بعودة الحياة للأموات، عندما يُدوى صوت البوق الإلهى من السماء، كما تقول الكلمة الإلهية ” فإنه سيبوق فيُقام الأموات “[18]. وفي موضع آخر، يقول أيضًا بكل وضوح ” فيُرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه “[19]. إذن يجب أن نكون مؤمنين بالتجديد. لأن حياة النباتات والحيوانات على اختلاف أنواعها، وحياة البشر أنفسهم، تُعلّمنا أنه لا يوجد شئ من المخلوقات يستطيع أن يحتفظ بكيانه، لكنه يتبدل ويتحول.
ولو أردنا التأكد من ذلك، علينا أن ننظر إلى التغيير الذي يطرأ علينا في مراحل أعمارنا المختلفة. إننا نعرف كيف يكون الطفل الرضيع. فبعد مرور وقت قليل، يبدأ في اكتساب قوة لكى يحبو، وهو في هذا لا يختلف في شئ عن الكلاب الصغيرة، يسير بالأربعة (أيدى وأرجل). في العام الثالث يقف منتصب ويتمتم ببعض العبارات غير الواضحة. بعد ذلك يبدأ في تصحيح كلامه، ويصير طفلاً لطيفًا. من هذا السن يتقدم نحو المراهقة، ثم نحو سن الشباب. ونلاحظ أن بعض الشعيرات البسيطة تغطى وجهه في البداية، وبعد وقت قليل تظهر له ذقن كثيفة ويصير شخصًا آخر تمامًا. ثم بعد ذلك يصير رجلاً قويًا، صلبًا يتحمل الأتعاب. وبمرور أربعين عامًا، تبدأ مسيرة عكسية. يبيّض فيها الشعر تدريجيًا في الرأس، وتبدأ القوة تخور، وفي النهاية يصل إلى مرحلة الشيخوخة، وإنهاك القوة تمامًا، وينحنى الجسد نحو الأرض، كما يمتلئ الوجه الناعم بالتجاعيد، ويصبح الشاب الذي كان قبلاً متميزًا، مرة أخرى كالطفل المتلعثم الغير مدرك، ثم يسير بالأرجل والأيدى كما كان يفعل سابقًا. وأسألك كيف تبدو لك كل هذه الأمور؟ أليست هى تغييرات، أليست هى تحولات تليها تحولات؟ أليست هذه تجديدات مختلفة هى التي تغير هذا الوجود الفانى، فيما قبل الموت؟ كيف لا يصير نومنا واستيقاظنا درسًا للحكيم، ومدخلاً لفهم حقيقة القيامة؟ لأن النوم هو صورة للموت، بينما الاستيقاظ شبيه بالقيامة. ولهذا فإن بعض حكماء العالم، يدعون النوم توأم الموت، لأجل التشابه الذي يحدث في كلتا الحالتين (أى النوم والموت). لأنه في الحالتين يسود نسيان للأمور الماضية، وفقدان القدرة على إدراك الأمور الآتية. هكذا نجد أن الجسد في حالة النوم يرقد بلا أحاسيس، دون أن يُميَّز بين الصديق والعدو، يبدو شبيهًا بالموتى في القبور. الآن لو أن هذا الكائن الحىّ مازال يعيش، وتعبر بحياته أيام وليالى، وأمور تُثير الدهشة، تغيرات وتحولات، نسيان وتذكر، فإنه يُعد حماقة شديدة، ألاّ نؤمن بالله الذي وعد بالتجديد في الدهر الآتى، لأنه هو الذي خلق جبلتنا الأولى.
فإن كان هو أمر في غاية السهولة بالنسبة الله، أن يخلق من العدم (لأنه هكذا قد خُلقت كل الأشياء في البداية). فبكل تأكيد هو أمر أكثر سهولة أن يُعيد الخلق من العناصر الموجودة.
إذن فلا ينبغى أن نُجرد الناس من رجائهم المبارك، وأن نتجاوز ضعفاتنا، وأن نتحرر من كل الأفكار الغريبة. ودعونا ألا نتجاهل الوعد الإلهى من جهة محبة الله للبشر، لأن إنغماسنا في الشهوات الجسدية الجارفة، يجعلنا نتجاهل هذه الوعود الإلهية. إننى أرى أن المعارضين لهذا الموضوع (قيامة الأجساد) هم رفقاء للشر، وأعداء للفضيلة، يتصفون بالشراهة، لا يضبطون عيونهم وأسماعهم، ولا أنوفهم، ويستمتعون بالشهوة التي تأتى إليهم عن طريق كل الحواس. ولأن الكلام عن القيامة مرتبط بالدينونة، وهم يسمعون الكتب المقدسة التي تعلن بشكل قاطع، بأننا سنُحاسب عن أعمالنا (فعندما نتجدد فى القيامة، سنقف جميعًا أمام منبر المسيح، وسننال المجازاة التي نستحقها عن أعمالنا)، ولأنهم يدركون أنهم سلكوا سلوكًا شائنًا ويستحق لعقوبات كثيرة. وبسبب كرههم للدينونة، ينكرون القيامة، مثل العبيد المخادعين أو الغشاشين، الذين يبددون ثروة سيدهم، ويخططون لموته، متفكرين في خيالات فاسدة تتفق ورغباتهم. لكن لا يوجد إنسان عاقل، يُفكر بمثل هذه الطريقة.
فما هو النفع من البر والحق والصلاح، ومن كل شئ حسن، ولأى سبب يتعب الناس ويحيون حياة الفضيلة ويقمعون شهوة الأكل، ويمارسون ضبط النفس، ويأخذون قسطًا يسيرًا من النوم، مقاومين البرد والحر، إن لم توجد قيامة؟ هذا ما يشير إليه الرسول بولس قائلاً: “ فلنأكل ونشرب لأننا غدًا نمـوت“[20]. فإن لم توجد قيامة، فنهاية حياتنا هى الموت، إذن فلتُمحَ الإدانات والنقائص، ولتُطلق يد القاتل في إرتكاب الجرائم، وليُترك الزانى غارقًا في ممارسة آثامه، وليلهو الجَشِعْ في جشعه، ولا ينتهر أحد الشتّام ومَن تعود على نقض القسم، ليستمر في نقض قسمة مع أن المؤمن بقسمه ينتظره موت. والآخر فليقل ما يريد من الكذب، لأنه لا يوجد أى ربح من وراء الحقيقة، وإذن فلا يرحم أحد الفقير، لأن أحشاء الرأفة ليس لها مكافأة! إن هذه الأفكار الغريبة تختلط وتتداخل بصورة أصعب من الطوفان الذي يأخذ أمامه كل شئ، وتطرد كل كلمة مُهذبة، وتدعم كل فكر مهووس ومرذول.
لو لم تكن هناك قيامة، فلن تكون هناك دينونة، ستضيع مخافة الله. وحيث لا يوجد تهذيب بالترهيب، فهناك يرقص الشيطان فرحًا بالخطية. ويناسب هؤلاء ما كتبه داود في المزمور القائل ” قال الجاهل في قلبه ليس إله فسدوا ورجسوا بأفعالهم“[21]. إن لم توجد قيامة، فإن قصة لعازر والغنى والهوة العظيمة، والنار التي لا تُطفأ، واللسان المشقق، والعطش الشديد لنقطة الماء واصبع الفقير المبلل بالماء، ستكون أسطورة[22]. من الواضح، أن كل هذا يعطى صورة للقيامة العتيدة. بالتأكيد اللسان والاصبع، لا تُعتبر أعضاء النفس غير المتجسدة، بل أعضاء الجسد. ولا ينبغى لأحد أن يعتقد أن هذا قد حدث، لكن كل هذا يُشكل صوتًا صارخًا يلفت الإنتباه لما سيحدث في المستقبل. وعند قيامتنا من الموت، سيُقدِم كل أحد حسابًا عن أعماله التي عملها في هذه الحياة، وسيكون مكونًا من جسد ونفس كما كان أولاً. وأيضًا حزقيال النبى، الأعظم بين الرائين، ما الذى فكر فيه عندما رأى البقعة العظيمة المملوءة بالعظام الإنسانية، التي أخذ أمرًا إلهيًا ليتنبأ من نحوها؟ إذ أن هذه العظام قد لبست أجسادًا على الفور، وبينما كانت متفرقة ومطروحة بلا نظام، بدأت تنضم بعضها لبعض بنظام وتوافق. أليس واضحًا، بهذه الكلمات، أنه يبرز الدليل الجاد لإعادة إحياء الجسد؟ وأنا أعتقد أن كل من يتشكك في هذا الكلام الخاص بالقيامة، هو ليس فقط من الجاحدين، ولكنه بلا منطق أو عقل. لأن القيامة، والتجديد، والتجلى وكل الأسماء المشابهة تُذّكر المستمعين بالجسد الذي يخضع للفناء. لأن النفس عندما تُفحص في حد ذاتها، فهى لا تتحلل كما يتحلل الجسد ولا تتعرض للفناء، فهى غير قابلة للموت بسبب قوة الحياة التي أخذتها من المسيح. بينما نجد أن الجسد الذي يحملها يفنى، ويتوقف إتصاله بالأشياء المحيطة. إن النفس ستسكن مرة أخرى في جسدها لتقدم حسابًا أمام الديان العادل. أو من الأفضل، لكى يصير حديثنا مُتسمًا بالدقة ومنطقيًا، لنفحص الأمر كالآتى. ماذا تقول، مَن هو الإنسان؟ هل هو مكون من النفس والجسد معًا أم أنه واحد من هذين الاثنين؟ من الواضح أن الكائن الحىّ، يتكون من الاثنين معًا. لا ينبغى أن نُطيل الحديث في أمور معروفة ولا تقبل الشك. فلو إن الأمر هكذا، فلنُفكر أى من الاثنين (الجسد أم النفس)، عندما يرتكب الناس على سبيل المثال زنا، قتل، سرقة، أو أى شئ له علاقة بهذه الأمور، أو العكس أيضًا عندما يُمارس العفة، ضبط النفس، وكل عمل حسن، هل نقول إن هذه الأمور هى نتائج لعمل الاثنين (النفس والجسد)، أم تنحصر في أعمال النفس؟
وهنا تتضح الحقيقة، فمن المحال أن تشرع النفس وهى منفصلة عن الجسد في السرقة، أو في تدنيس المقدسات، ولا أيضًا تقدم وحدها خبزًا للجائع ولا تعطى ماءً للعطشان، ولا تداوم على زيارة المسجونين، بلا كلل، لكى ترعى البائسين، لكن في كل الأمور، يعملان معًا بلا انفصال، الواحد مع الآخر يشاركان في الأفعال والأعمال.
بما أن الأمر هكذا، ولأنك مقتنع بالدينونة عن الأعمال التي عملناها في هذه الحياة، فكيف إذن تفصل النفس عن الجسد وتُقصر الدينونة على النفس فقط، بينما كل ماحدث قد تم بإشتراكهما معًا في كل فعل؟ لكن إذا صار شخصًا ما قاضيًا عادلاً من جهة خطايا البشر، وفحص بعناية، من أين تنبت الأسباب الأولى للخطية، ربما يكتشف أن أول مَن يعبث ويصنع مخالفة هو الجسد. لأنه يحدث مرارًا، بينما النفس هادئة وغير مضطربة وفي سكون، تلقى العين نظرة اشتهاء إلى أمور كان من الأفضل ألا تنظر إليها، وتنقل المرض إلى النفس، فتتبدل حالة الهدوء إلى رعود وأنواء، وأيضًا الآذان عندما تسمع بعض الكلمات النابية والمنفّرة، فإنها تصب في الأفكار أمورًا تُثير الإضطراب والبلبلة. وفي بعض الأحيان تجلب الأنف على صاحبها شرورًا كبيرة لا شفاء منها عن طريق حاسة الشم، فتثير إنساننا الداخلى. وتستطيع الأيدى عن طريق اللمس، أن تُزعزع صلابة النفس. هكذا نتقدم قليلاً قليلاً ونفحص الأمر، سنجد أن الجسد مسئول عن كثير من الخطايا. لكنه أيضًا يعانى المشاق من أجل الفضيلة، ويتعب في جهاده من أجل الصلاح، وذلك عندما يُقطع بالسيف، ويحرق بالنار، ويُمزّق بالسياط، ويُثقل بأحمال ثقيلة، ويصبر على كل تعذيب، لكى لا يخون الوصية الإلهية. إذن لو أن الجسد يُشارك في أفعال النفس ولا ينبذ الآثام، فمن أين تأخذ الدافع، وتقول أن النفس غير المتجسدة وحدها هى التي تُقاد إلى الدينونة؟ بالتأكيد هذا الحديث لا يتعلق لا بأبرار ولا بعاقلين. لو أخطأت النفس وحدها وهى عارية (أى من لباس الجسد)، فلنعاقبها وحدها، لكن لو كان لديها شريك واضح، فلن يتركه الديان العادل وأنا أعرف أن هذا الأمر يقوله الكتاب، أن المذنبين سيخضعون لعقوبات عادلة[23]، نار، ظلمة، دود لا يموت. كل هذه هى عقوبات الأجساد المادية، لأن النفس وحدها لن تمسّها النار أبدًا، ولا الظلام سيُثير لديها حزن، طالما ليس لديها أعين جسدية. وماذا يستطيع أن يفعل الدود الذي يأكل الجسد وليس النفس؟ إذًا فالنفس لن تُدان وحدها بمعزل عن الجسد، لكن الإنسان كله (نفسًا وجسدًا) سيخضع للدينونة.
إن الأفكار العاقلة والرؤى المستنيرة هى التي تقود لقبول قيامة الأموات، والتي ستتحقق في أزمنة محددة، لأن الله حقق وعوده بالأعمال. إذن فلنؤمن بهذا: ” فإنه سيبوق فيُقام الأموات عديمى فساد ونحن نتغير“[24]. وأيضًا ” لا تتعجبوا من هذا. فإنه تأتى ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته. فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة “[25]. لأنه لا يقدم وعوده بالكلام فقط، لكن بالأعمال التي يحققها كل يوم، يُعلم ويُظهر بوضوح أنه كلّى القدرة. فعندما خلقنا في البداية لم يتعب، ولا عندما يُغيّرنا ستغيب عنه الحكمة. فلننظر إلى الأمور الحالية، حينئذٍ سوف لا نتشكك في الأمور المستقبلية. لأن كل عمل لله يُثير لدينا الآن أحاسيس مُفرحة وإعجاب لا يُعبر عنه، عندما نتأكد أن ملامح الآباء والأجداد تورث بالتمام في ملامح الأحفاد، والأولاد يصيرون انعكاسًا للأجداد. وعندما تُخلق التشابهات التي تعكس النماذج الأصلية، التي لم يعد لها وجود، وقتها تصل المفاجأة من نحو عمل الحكمة الفائقة لله مخلّصنا، الفنان الأعظم، إلى قمتها، وكل هذا يحدث بطريقة سرية لا يستطيع أحد إدراكها، فيُقيم الأموات، من خلال إعادة خلقه للملامح الخاصة بالنماذج الأصلية، والتي تظهر في الأبناء والأحفاد. وفي كثير من الأحيان، تظهر في جسد ما الملامح التي تحمل نفس الصورة، الخاصة بأنف الأب، وعيون الجد، وخطوة العم، وطريقة كلام الأم، وإنسان واحد يُعتبر مثل نبات تأثر من أشجار كثيرة تُثمر ثمارًا كثيرة لكل مَن يُحبها. كل هذا يستحق الاعجاب، ومع أننا نجهل كيفية حدوثها، إلاّ أننا نعرف قدرة الخالق على إبداعها. إنه لأمر غريب ويكشف عن جهل كبير، من جهة كل ما يظهر في الأجساد التي تولد كل يوم، تلك الملامح الخاصة بالأجساد التي تعفنت وفسدت، وأن صفاتًا غير مألوفة تنتقل إلى أجساد أخرى، لكنهم لا يقبلون أن كل ما لهم من صفات أو ملامح خاصة مميزة، تتجدد وتحيا مرة أخرى. تمامًا كما كانت في أولئك الذين كانوا يحملون هذه الملامح في زمن ما. بل أننا نرفض كل هذا ونتشاجر ونتصور أن الوعد الإلهى خرافة، في حين أن الله هو ذاك الذي أعطى وجودًا لهذا العالم وزيّنه كما أراد. أما من جهتنا نحن فقد آمنا بالقيامة ونعطى المجد للآب والابن والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
[1] حيث كان المناخ الإجتماعى في تلك الفترة يسمح، بل ويُشجع على تغطية إحتياجات مَن هم في حاجة إلى عون وعضد. هذا ما يؤكده القديس يوحنا ذهبى الفم في عظة له عن “المعمدين الجدد” قائلاً: ” إن المدعوين لأفراح عالمية، حتى ولو كانوا هم أكثر فقرًا من الجميع، فإنه في مرات كثيرة يستعيرون من الآخرين أفضل الملابس للظهور بالشكل اللائق. وأنت يا مَن دُعيت للفرح الروحى والعشاء الملوكى فكر في أى نوع من الملابس ينبغى أن ترتدى “. مجموعة آباء الكنيسة اليونانيين (EPE) 89، جزء30، ص555.
[2] مز1:117.
[3] مز1:149ـ2.
[4] 1كو31:7.
[5] مز24:118.
[6] تك20:40ـ21.
[7] 1كو32:15.
[8] 1كو19:15.
[9] انظر1كو52:15.
[10] يظهر هذا في صلاة الصلح، عندما يصلى الأب الكاهن قائلاىً: ” يا الله العظيم الأبدى الذي جبل الإنسان على غير فساد … وعندما خالفنا وصيتك بغواية الحية سقطنا من الحياة الأبدية ونفينا من فردوس النعيم “.
[11] يورد القديس أثناسيوس هذا التشبيه في مجال حديثه عن تجسد الكلمة، انظر كتاب “تجسد الكلمة” فصل1، فقرة 4. ترجمة د. جوزيف موريس فلتس، إصدار مركز دراسات الآباء، سنة 2003.
[12] إش12:40.
[13] حكمة سليمان1:13.
[14] يو44:11.
[15] لو11:7ـ15.
[16] 1كو36:15ـ37.
[17] تك18:13.
[18] 1كو51:15.
[19] مت31:24.
[20] 1كو32:15.
[21] مز1:14.
[22] لو19:16ـ31.
[23] مر48:9، مت12:8، حكمة يشوع بن سيراخ 17:7.
[24] 1كو52:15.
[25] يو28:5ـ29