من كان يحكم الكون عندما نزل المسيح من السماء؟ – سر التجسد
الفصل الثاني عشر
من كان يحكم الكون عندما نزل المسيح من السماء؟
س : من كان يحكم الكون عندما نزل المسيح من السماء ، وعندما كان في بطن العذراء ، وعندما كان ينام وينعس ، وعندما كان علي الأرض بصفه عامة ؟
ج : المسيح لكونه الله فهو غير محدود بلاهوته الذي يملأ كل شئ ويحيط بكل شئ ، ” أما أملا أنا السموات والأرض يقول الرب ” (أر24:23) ، انه الغير محدود علي الإطلاق ، بلاهوته ، يقول الرب لشعب إسرائيل في القديم :
” الرب هو الإله في السماء من فوق وعلى الأرض من اسفل ، ليس سواه ” (تث39:4) .
” لأن الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلي الأرض من اسفل “(يش11:2).
وقال لأرمياء النبي موجها كلامه إلى بني إسرائيل ؛ ” العلي اله من قريب يقول الرب ولست ألها من بعيد . إذا اختبأ إنسان في أماكن مستتره أفما أراه أنا يقول الرب . أما أملا أنا السموات والأرض يقول الرب ” (ار23:23-24) .
وعندما حل في بطن العذراء وظهر في الجسد ، لم يكن حلوله أو نزوله هذا انتقال من مكان الي آخر ومن السماء الي الأرض ، كلا ، حاشا ، فاللاهوت لا يمكن أن ينتقل من مكان الي آخر بينما هو يملأ كل شئ ويحيط بكل شئ ، فهو غير محدود في الزمن وا المكان فكيف يحده مكان ، سواء كان هذا المكان هو السماء أو الأرض أو بطن العذراء ، أو حتى الناسوت الذي حل فيه واتحد به وظهر فيه وبه ومن خلاله للناس .
– 119 –
كما انه لم يكن جزء من اللاهوت لأن اللاهوت واحد لا يتجزأ ” فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا ” (كو9:2) .
لكنه كان متجسدا في صورة إنسان وشكل العبد المحدود بالمكان ومع ذلك فقد كان يملأ الكل بلاهوته غير المحدود ، حل في الجسد المحدود وهو الغير محدود بلاهوته ، نزل علي الأرض دون أن يفارق السماء ، كان في بطن العذراء ومع ذلك كان جالسا علي العرش يدير الكون بقوه لا هوته غير المحدود . فهو كما يقول الكتاب ” حامل كل الأشياء بكلمة قدرته “(عب3:1) ، و” الذي فيه يقوم الكل “(كو16:1).
نزل من السماء ولكن دون أن يخلي مكانه فيها ، نزل منها دون أن يفارقها وذلك لأنه مالئ كل شئ ويحوي كل شئ ولا يحويه شئ .
ولم يكن نزوله انتقالا من مكان لآخر وانما كان تنازلا إذ كما يقول الكتاب ” أخلى نفسه أخذا صورة عبد … وضع نفسه ” (في6:2-7) انه أخلى نفسه ، وضع نفسه أي تنازل عن مجد لاهوته واتخذ فقر ناسوتا كما قال الكتاب ” افتقر وهو غني ” (2كو9:8) ، تنازل عن كونه ” رب المجد ” (1كو8:2) ، واخذ صورة العبد الفقير ، النجار الناصري ، وأحتمل ما لا يمكن أن يحتمله لولا تنازله وتجسده .
ومع تنازله وتجسده واتخاذه الطبيعة الإنسانية المحدودة فقد كان موجوداً في كل مكان ، ويملأ الكل بلاهوته . وقال هو نفسه عن هذه الحقيقه ” وليس أحد صعد الي السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو – كائنا- في السماء ” (يو13:3) ، فهو يقول انه نزل من السماء ومع ذلك فهو كائن ، موجود ، حاضر في السماء ، انه موجود في السماء وعلي الأرض في آن واحد ، برغم تجسده وظهوره في هيئة عبد واتخاذه صورة الإنسان ، نزل في صورة الإنسان . نزل من السماء ومع ذلك ظل موجودا في السماء ، نزل الي الأرض ولم يخل من وجوده السماء ، ظل فيها مع انه كان متجسدا علي الأرض .
ومع انه كان متجسدا كانسان ، وظاهرا في الجسد المحدود فقد قال أيضا : ” لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثه بأسمى فهناك أكون (أنا) في وسطهم ” (مت20:18)
– 120 –
وأيضا ؛ ” إن احبني أحد يحفظ كلامي ويحبه ابي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلا ” (يو23:14) . وعند صعوده بالجسد الي السماء قال ؛ ” وها أنا معكم كل الأيام الي انقضاء الدهر ” (مت20:28) . فهو يقول انه في السماء وعلي الأرض في آن واحد مع انه كان محدودا بالناسوت ، بالجسد ، ولكنه الغير محدود بلاهوته .
وفي هذه الآيات يقول انه يمكن أن يكون مع أي شخص يحبه في أي مكان أو زمان ، حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثه باسمه في أي مكان علي الأرض وفي أي زمان يكون حاضرا معهم وهذا يعني انه غير محدود بالمكان وأيضا بالزمان . ولما صعد الي السماء بجسده ظل علي الأرض في كل مكان بلاهوته ، يقول لتلاميذه : ” وها أنا معكم كل الأيام الي انقضاء الدهر ” .
قال القديس كيرلس عامود الدين :
” أن طبيعة الكلمة لا يمكن بتاتا أن تحد علي الرغم من أننا نقول انه يسكن كما في هيكل مقدس ، في الجسد المولود من القديسة العذراء “(1) .
وقال أيضا : ” إذا قيل أن الله الكلمه نزل إلينا فلا يفزع أحد ظانا كيف نزل غير المادي من مكان الي آخر . ولا يجب أن يظن أحد انه ينسحب من مكان لآخر ، فهو يملأ كل الأشياء ، بل علينا أن نفهم أن نزوله ومجيئه ليس تنقلا من مكان لآخر ، بل قبول الكلمة الخدمة المقدسة وأرسالية سلمت بعد ذلك لتلاميذ المسيح “(2).
وأيضا ” ونحن نعترف بأن الكلمه الله هو معنا ، دون أن يكون محصورا في مكان ما ، لأنه أي مكان لا يوجد فيه الله الذي يملأ كل الأشياء “(3).
قال بروكلس بطريرك القسطنطينيه وخلف نسطور : ” كان في حضن أبيه وهو هو في مستودع البتول ، هو كان محمولا علي ذراعي أمه وهو محمولا علي أجنحة الرياح مسجودا له من الملائكه ، جالس مع العشارين والشار وبيم لا يجسرون أن ينظروا إليه “(4).
قال ساويرس المقفع :
” لأن قولنا نزل (لا يعني) أن السماء كانت خاليه منه ، ولا هو محدود في موضع دون موضع ، إنما ذكر النزول ها هنا يعني به كونه أتضع واتحد بالجسد ، وصار إنسانا لأن هذا اعظم نزول انه صار موجودا محسوسا وملموسا ومحدودا بالجسد الذي اتحد به لله “(5).
انه نزل من السماء افتقر وهو غني ، أخلى ذاته وأخذ صورة العبد دون أن يفارق عرشه في السماء ودون إن يخلو منه مكان ما في الكون ودون أن يتغير عن كونه الله ، أخلي نفسه لأجل الطبيعه البشريه التي اتخذها ، وصار في صورة عبد ، شابهنا في كل شئ ما عدا الخطيه وحدها ، وهو ملء اللاهوت الذي يملأ الكل ويحيط بالكل وفوق الكل ” عظيم هو سر التقوى لله ظهر في الجسد تبرر في الروح ترآي لملائكته كُرز به بين الأمم أُو من به في العالم رُفع في المجد ” .
قال القديس اغسطينوس :
” أو ليس هو ذاك الذي جاء الي أرضنا دون أن يبتعد عن السماء ؟ أو ليس هو ذاك الذي صعد الي السماء دون أن يتخلي عنا “(6).
(1) في سر التجسد 35 .
(2) شرح تجسد الابن الوحيد 27 .
(3) المرجع السابق 2 .
(4) الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة جـ 1 : 468 .
(5) الدر الثمين في إيضاح الدين 55 .
(6) شرح رسالة يوحنا الأولى م 6 : 13 .