ثوب الحداد ف21 – الأربعة والعشرون ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض
ثوب الحداد ف21 - الأربعة والعشرون ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض
ثوب الحداد ف21 – الأربعة والعشرون ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض
اقرأ وافهم
روايات إيمانية
الأربعة والعشرون ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض
الفصل الحادي والعشرون: ثوب الحداد
وإذ رأت الطبيعة بارئها شمس البر مُعلَّقاً على الصليب عريانـاً إرتعبت وأسرعت لتنسج ثوباً من الظلمة لتستر عري خالقها ، فإذا بالجو يكفهر ، والضباب يتكاثف ليغطي الصلبان الثلاث ، وإذ بضوء الشمس يبهت ، وصار القرص كنار مشتعلة تعلن دينونة الله للخطاة ، وسرعان ما إختفت الشمس عن الأنظار ، وإتشحت السماء بالسواد ، وإرتدت الطبيعة ثوب الحداد ، وكفت الطيور عن تغريداتها وآوت إلى أعشاشها ، ولف الصمت الرهيب المكان ، فخرس الشامتون المستهزؤن ، ولم يعد يُسمع صوت غير آنين المصلوبين فـ ” كل عرْق ينبض بالنيران ، وكل عصب يصرخ بالألم ، وكل عضلة تزداد تقلصاً لتزيد من تمزق اليدين والقدمين ، والجسد بين صعود وهبوط ، والقلب بين رجيف وتوقف ، والأنفاس بيـن تدافـع وتراجـع ، ولكـن المـوت الرحيـم ، مازال بعيـــداً 00 بعيداً “ (31) 0
وتهامس الواقفون ، فقال يوشافاط : مابال الطبيعة تغضب هكذا ؟! 00 أهي غاضبة بسبب الضال المُضّل ؟!
سمعان الأبرص : إنه بالحقيقة رجل بار 00 ألم يعرف أفكاري دون أن أتكلم ؟!
روسمتين ( أحد أعضاء مجلس السنهدريم ) : حقاً إن السماء تشهد له!!
سوباط : لو لـم يكـن إبن الله فلماذا تحزن الطبيعة إلى هذه الدرجة ؟!
أنولمية : يا ويلتاه 00 أنهاية العالم هذه ؟!
حنان : لنحذر يا أخوة ونستيقظ لئلا يأتي أتباع الناصري وينزلوه من على الصليب 0
يـورام : وكيف يحدث هذا والجنود الرومان هنا قائمين على حراسته ؟
يوحنا : هكذا قال عاموس النبي : ” أليس من أجل هذا ترتعد الأرض 00 ويكون في ذلك اليوم يقول السيد الرب إني أُغيب الشمس في الظهر وأُقتم الأرض في يوم نور ” ( عا 8 : 9 )0
يوسف الرامي : ألم يقل أشعياء النبي : ” أُلبس السموات ظلاماً وأجعل المسح غطاءها ” ( أش 50 : 3 ) ؟!
نيقوديموس : حقاً قال يوئيل النبي : ” الشمس والقمر يظلمان والنجوم تحجز لمعانها ، والرب من صهيون يزمجر ومن أورشليم يعطي صوته فترتجف السماء والأرض ” ( يؤ 3 : 15 ، 16 )0
أناس : ألم يقل أرميا النبي : ” غربت الشمس إذ بعد نهار ” ( أر 15 : 9 ) ؟!
وهمس ديماس : لولا إن المصلوب معنا إلهاً متجسداً ، ما كانت الشمس أخفت شعاعها ، ولا الأرض ماجت مرتعدة 0 فياقادراً على كل شئ ، والمحتمل كل شئ ، إذكرني يارب متى جئت في ملكوتك0
عمَّت الظلمة الرهيبة هذا العالم في وضح النهار بصورة مفزعة ، فلم يعد الواقفون على الجلجثة يبصرون أمجاد الهيكل ولا جبل الزيتون ، وتفرَّق الكثيرون منهم مفضلين العودة إلى ديارهم ، حتى إذا حدث لهم مكروه – جراء جريمتهم الشنعاء – يكونون بجوار ذويهم 00
فـي ذات الوقت الذي عمَّت فيه الظلمة أورشليم عمَّت العالم ، ففي مدينة هليوبوليس بمصر كان عالم الفلك ديوناسيوس الأريوباغي ، وهو يعلم أنه من المستحيل أن يحدث كسوف في وسط الشهر القمري والقمر بدراً 00 ومن المستحيل أن يمكث الكسوف كل هذه المدة 00 ومن المستحيل أن يغطي كل هذه المساحة من العالم 00 وبعد تأمل عميق وضع ( عالم الفلك ) تقريـره ” إمـا إن إلـه الطبيعة يتألم ، أو إن العالم آخذ في الإنحلال ” 0
ووسط الظلمة الرهيبة جاز يسوع الآلام الكفارية ، متحملاً عقاب خطايا البشريَّة ، وهو البار القدوس 00 هوى عليه سيف العدالة الذي كان سيهوى على البشريَّة ، فصرخ قائلاً : إيلي إيلي لما شَبَقْتَني 00 أي إلهي إلهي لماذا تركتني 0
وقال هارين : إنه ينادي إيليا 00 لنرى هل يأتي إيليا لينقذه 0
حقيقة كل آلام الصليب المنظورة لا تقارن بالمرة بالآلام غير المنظورة التي يعانيها يسوع الآن ” كان المخلص في هذا السكوت الرهيب المستوحش يعاني آلاماً نفسية مبرحة ! آلاماً غير ما كان يعانيه من ألم الصلب وعاره ! آلاماً لا تماثلها فواجع الحرب الضروس ، ولا تحاكيها أهوال الطبيعة الثائرة ! آلاماً ذاب في تنورها فؤاده الكبير كما يذوب الشمع أمام النار ! 0 آلاماً سرية من يد الآب لا يدركها حنان أو ينطق بها لسان ! “ (32) 00 ” صعد الإبن على مذبح الجلجثة طوعاً 00 وهناك ذبح الآب إبنه الوحيد حياً !! 00 هل من يحكي للورى ماذا كان يجول في قلب الآب هناك ؟! 00 هل نستطيع أن ندرك مشاعره في تلك الساعات الحزينة ؟! 00 إن الملائكة لا تقدر أن تنظره فهي تغطي عيونها دائماً بأجنحتها ، فكيف للبشر أن يحدقوا فيه ، وخاصة في هذا الموقف المذهل الرهيب ؟! 00 وهل نستطيع أن ننظر إلى الشمس وهي في ملء قوتها ؟ 00 فالشمس نور ونار ، أما الصليب فقد فاق ضياءه ونيرانه كل الشموس00
إن البشرية مهما سُحقت وتألمت لن تدرك شيئاً من مشاعر الآب والإبن معلق على الصليب 00 وكأني بالآب كان يمسك بإحدى يديه سكين القضاء 00 وباليد الأخرى يحوطه بكل الحب والحنان 00 إن الرهبة تجتاحنا ونحن نحاول أن نستكشف قلب الآب الدامي 00 فوق مذبح الجلجثة تمثلت أعظم وأعقد مشاهد التاريخ كله 00 وتجسمت أسمى قمم الحب الدامي 00 إن ذلك الصليب الجبار العظيم بما تمثل فيه من قيم وقمم سوف يعلو دائماً شاهقاً فوق كل عقول البشر وقلوبهم ” (33)0
” وذلك الصليب البشري كان في حقيقته يرمز لصليب آخر ، إلهي ، سمرته عليه يد العدالة 0 كانت هناك أشواك من طراز آخر كلَّلت رأس يسوع ، وسياط خفية رهيبة مزَّقت جسده ، ومسامير أخرى غليظة مرعبة دقت في يديه ورجليه 0 كانت يد العدالة الإلهية خلف المسامير والأشواك والسياط ، هي التي سحقت يسوع سحقاً 0 إنها نفس اليد التي طردت آدم الأول خارج جنة عدن أما آدم الثاني فقد أخذته يد العدالة إلى خارج أورشليم ، رافعة إياه فوق الجلجثة0
كان يسوع يشعر بضربات ذلك السيف في الجلدات والأشواك والمسامير مما جعل آلامها رهيبة بلا حدود 0 أه نعم ، لقد كان يسوع يحمل حقاً صليباً آخر خفيفاً 0 آلامه ليست من هذا الدهر 00 في تلك الساعات الحالكة جُعلِل يسوع خطية 00 وسط الظلام وضع الرب عليـه إثم جميعنا 00 وإنصبت عليه أهوال الدينونة 00 { أما الرب فسرَّ بأن يسحقه بالحزن 0 أن جعل نفسه ذبيحة إثم } (أش 53 : 10 ) 00 كان يسوع بصرخته هذه لا يعبر فقط عن قسوة آلامه بل ليعلن للعالم أجمع أن صليبه لم يكن مجرد صليب بشري أو جهنمي ، إنما كان في حقيقته صليباً إلهياً آلامه تفوق كل أهوال الجحيم 0 هذه هي الحقيقة التي تميز صليب يسوع وبدونها ماكان إلاَّ مجرد صليب عادي لا يمكن أن يصنع الفداء ” (34) 0
ولم يدرك لوسيفر بكل حكمته براءة المصلوب التي أدركها ( بعد ألفي عام ) مصطفى أمين في سجنه ، لحظة أن وقف عصفور على فتحة زنزانته ، فكتب يقول ” لعل العصفور يطل في عينيَّ ليرى أعماقي ، ليرى مسيحاً بلا خطية ، مشنوقاً بلا جريمة ، معلَّقاً على مقصلة بغير ذنب “ (35) 0
وسُمع في الأفق صوت حمامة ( معنى يونان في العبرية حمامة ) تهدر : ” لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار 0 فأحاط بي نهر 0 جازت فوقي جميع تيَّاراتك ولججك 0 فقلت قد طُردت من أمام عينيك 00
قد إكتنفتني مياه إلى النفس أحاط بي غمر 0 إلتفَّ عشب البحر برأسي 0 نزلت في أسافل الجبال 0 مغاليق الأرض عليَّ إلى الأبد ” ( يون 2 : 3 – 6 )0
وتجاوبت قيثارة داود مع همسات الحمامة ، فراحت ترتل بلسان المصلوب : ” إلهي إلهي لماذا تركتني 00
بعيداً عن خلاصي عن كلام زفيري 0 إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب في الليل أدعو فلا هدوء لي 0 وأنت القدوس الجالس في تسبيحات إسرائيل 00
أما أنا فدودة لا إنسان 0 عارُُ عند البشر ومُحتَقر الشعب 0 كل الذين يرونني يستهزئون 0 يغفرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين : إتكل على الرب فلينجيه لينقذه لأنه سُرَّ به 00
أحاطت بي ثيران كثيرة 00 كالماء إنسكبت 0 إنفصلت كل عظامي 0 صار قلبي كالشمع 0 قد ذاب في وسط أمعائي 00 ” ( مز 22 : 1 – 14 )
وتنهد يوحنا قائلاً : حقاً قال أشعياء النبي ” أما الرب فسُرَّ بأن يسحقـه بالحـزن 0 أن جعل نفسه ذبيحة إثم ” ( أش 53 : 10 )0
وسُمع صوت يسوع على تل الجمجمة يقول : أنا عطشان 0
فتقدم أحد الجنود الرومان وغمس إسفنجة في إناء كان به خلاً ووضعها على عصا وقرَّبها إلى شفتيه الملتهبتان بنار العذاب0
وبأسلوب بليغ عبّر داود عن عطش يسوع : ” إنتظرت رقـة فلم تكن ومعزيـن فلم أجد 00 وفي عطشي يسقونني خلاً ” ( مز 69 : 20 ، 21 ) 00 لأنه “يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي وإلى تراب الموت تضعني ” ( مز 22 : 15 )0
لقد عطش يسوع نتيجة لما تعرض له من عذابات وجراحات ونزيف 00 عطش نتيجة العرق الغزير الذي تصبَّب من جسده المنهك 00 عطش نتيجة محاولاته العنيفة للحصول على نسمة حياة 00 عطش حتى جفَّ ريقه ويبس لسانه 00 قد يبست سوسنة الأودية ، وهوذا نرجس شارون قد ذبل 00
عندما عطش شمشون أعطـاه الرب ماءاً ليشرب من لحي ، وعندما عطش بنوا إسرائيل فجَّر الله لهم ماءاً من صخرة صمـاء 0 أما يسـوع عندما عطش على الصليب فلم يجد قطرة ماء 00 ” كان العطش أمراً طبيعياً لمن يُصلب حيث يفقد الجسم الكثير من الماء بسبب العرق والجراحات 0 لم يشكو مسيحنا كل آلام الجلد وإكليل الشوك والمسامير لكن الشكوى الوحيدة التي نطق بها هي أنه عطشان ” (36)0
ونحو الساعة الثالثة بعد الظهر أعلن يسوع إتمام رسالته قائلاً : قـد أُكمـل 00
قد أُكمل إثم اليهود والرومان 00 نفدت السهام كل السهام التي في جعبتهم ، وأي شئ آخر كان يمكن أن يفعلوه ولم يفعلوا ؟! 00 لا شئ 00
ألم يكبلوه بالأغلال كلص وقادوه في ست محاكمات ظالمة ؟!
ألم يكيلوا له الضربات واللطمات واللكمات وقد نفضوا البصاق في وجهه ؟!
ألم يهتفوا ضده وإستهزءوا به وسخروا منه ؟!
ألم يجلدوه بالسياط ويكلّلوه بالأشواك ؟!
ألم يعلقوه بين لصين وفي عطشه بخلوا عليه بقليل من الماء ؟!
حقاً لقد كملت كل نبؤات الأنبياء عنه00
قد أُكمل فداء البشرية 00 نال العدل الإلهي حقه تماماً من يسوع الذبيح ، فإشتمه أبوه الصالح وقت مساء الخطية والظلمة على الجلجثة 00 حقاً لقد أعطى يسوع محبته اللا نهائية للبشرية0
قد أُكمل الخلاص من الخطية 00 الخطية التي سادت العالم ، ولم تقدر مياه الطوفان أن تغرقها ، أو نيران سـدوم وعمورة أن تحرقها ، وحتى لما فتحت الأرض فاها لم تقدر أن تبتلعها ، بل عاشت الخطية ونمت وترعرعت ، حتى رَفعتْ الذي بلا خطية على خشبة الخطية والعار 0
وفـي الساعة الثالثة بعد الظهر صرخ يسوع بصوت عظيم 00
فقال نيقوديموس : عجباً 00 من أين لهذا المصلوب المُنهَك بهذا الصوت العظيم لو لم يكن هو رب القوة ؟! 00 أترى هذه صرخة النصرة علـى الموت الذي دوَّخ البشرية ردحاً من الزمن هذا مقداره ؟!!
صرخ يسوع بصوت عظيم : ياأبتاه في يديك أستودع روحي 00
قال يوسف الرامي : ياأبتاه 00 إنها أول كلمة تنطق بها يايسوع من على صليبك عندما أعلنت مغفرتك لجلاديك ، وآخر كلمة تنطق بها أيضاً 00
أليس من أجل قولك إنك إبن الله كان كل هذا ؟! أفما تزال تصر بأن الله هو أبيك ؟! 00
حقاً إنك إبن الله ، وما يجري الآن ، ولا نقدر أن نفهمه الآن ، لابد إننا سندركه فيما بعد0
وأمال يسوع رأسه وأسلم الروح 00
وقال يوحنا : عجباً 00 كل إنسان يسلم الروح ثم ينكس رأسه 0 أما أنت يايسوع فقد أملت رأسك أولاً ثم أسلمت الروح 00 إنك تعلن أنك صاحب سلطان 00 حقاً ما قلته لنا يايسوع ” لإني أضع نفسي لآخذها أيضاً 0 ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي 0 لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً ” 00 الآن وقعت حبـة الحنطـة على الأرض وماتت ، فلابد أن تأتي بثمر كثير 00
أمال يسوع برأسه 00 تعبيراً عن ثقل خطايانا التي حملها بإرادته ، والتي سبق وعبر عنها داود النبي ” آثامي قد طمت فوق رأسي 0 كحمل ثقيل أثقل مما أحتمل ” ( مز 38 : 4 ) 00 ” لأن شروراً لا تحصى قد إكتنفتني 0 حاقت بي آثامي ولا أستطيع أن أبصر ” ( مز 40 : 12 ) 0
وأسلم الروح 00 كيف ؟ 00 كيف تموت الحياة ؟!
هذا مستحيل 00 نعم مستحيل 00 إذاً يسوع لم يمت ؟!
لا 00 بل مات 00 كيف ؟
الروح البشرية إنفصلت عن الجسد البشري 0 أما لاهوتك يايسوع فلم يفارق أحدهما لحظة واحدة ولا طرفة عين 00
لذلك نعلن بملء الفم إن الله مات عنا 00
البرئ القدوس مات عني أنا المجرم الأثيم 00
ولماذا تتعجب ياصديقي ألم تسمع عن أم تضحي بنفسها لتنقذ طفلها من النار ؟!
أولم تسمع عن أب يضحي بنفسه لينقذ إبنه من وحش مفترس ؟!
أولم تسمع عن شاب في عنفوان شبابه يموت غرقاً لينقذ شخصاً آخر ؟!
أولم تسمع عن ضابط من قوات الإطفاء يموت مختنقاً أو محترقاً لكيما ينقذ الآخرين ؟!
أولم تسمع عن جندي يبذل نفسه من أجل حياة الآخرين؟!
(31) جيم شوب 00 ساعة بساعة اليوم الذي صُلب فيه المسيح – تعريب عزت ذكي ص 258
(32) الشماس يسى منصور – سباعيات الصليب ص 32
(33) دكتور فؤاد بولس – تحت أقدام الصليب ص 92 ، 93
(34) المرجع السابق ص 258 – 260
(35) سنة ثالثة سجن ص 165
(36) القمص تادرس يعقوب – تفسير إنجيل يوحنا جـ 2 ص 1214