وملك على عرشه ف20 – الأربعة والعشرون ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض
وملك على عرشه ف20 - الأربعة والعشرون ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض
وملك على عرشه ف20 – الأربعة والعشرون ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض
اقرأ وافهم
روايات إيمانية
الأربعة والعشرون ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض
الفصل العشرون: وملك على عرشه
ولم يكتفِ رؤساء الكهنة ومشايعيهم بهذا الإنتقام المهول من يسوع ، وإذ كانوا قد إعتبروه فوزاً عظيماً ونصراً مبيناً ، فلم يفكروا في العودة إلى ديارهم ليستريحوا من عناء ليل طويل ، ولم يعودوا إلى مقادسهم لأداء مهامهم الدينية في الهيكل ، ولاسيما إن الإستعدادات للفصح تجري على قدم وساق 0 إنما أصروا على التواجد قرب المصلوب لتكتحل عيونهم بآلامه النارية 00 وقف قضاة إسرائيل في بلاهة لا يدركون ولا يفقهون 00 وقفوا ينظرون للمصلوب بعيون حاسدة ، وقلوب حاقدة ، تتأجج بنار الغيرة الشيطانية 00 وقفوا موقف المتفرجين الشامتين بذاك الذبيح الذي تلتهمه نيـران الألم 00 لم يشفقوا عليه ، ولم يراجعوا أنفسهم ، ولم يندموا على جريمتهم 00 وقفوا في تحدي وفي تشفي يشفون غليلهم من ذاك الذي طالما صبَّ عليهم الويلات ، وكشف عورتهم أمام شعبهم ، فأخذوا يتلذَّذون بمنظر عريه على الصليب وهم يظهرون روح الشماتة والسخرية ، ولم يكفوا عن الثرثرة0
حنان : يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك إن كنت إبن الله 00
رحبعام : خلص آخرين أما نفسه فل يقدر أن يخلصها 00
قيافا : لماذا لم ينزل عن الصليب 0 فلينزل الآن عن الصليب لنبصره ونؤمن به 00
سابس : فليخلص نفسه إن كان هو المسيح مختار الله 00
هارين : إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب لنرى ونؤمن به 00
دبارباس : قد إتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده ، لأنه قال إنه إبن الله 00
ووقف سطانئيل يصرخ : ” أنت أيها المسيح يامبتدع المكر 00
ياسارق التعبد لك ، وهو ليس من حقك 00
ياسارق الحب إستمع لي 00
من اليوم الذي أتيت فيه من رحم عذراء ، كسرت كل عربون وكذبت في كل وعد ” (26)0
وصاحت بقيـة الشياطيـن : ” نريد أن نغرس مساميرك إلى الأعماق 00
ونضغط على الأشواك التي في جبينك 00
ونجلب الآلام النابعة من الدم لينسكب من جديد من جروحك التي جفت 00
هذا كلـه يمكننـا أن نفعلـه ، وسنفعله لننتهك جسدك أيها الناصري 00
رئيس الرذائل العظمة ملك الجبناء 00 ” (27)
وعزف داود على قيثارته الباكية ” كل الذين يرونني يستهزئون بي 0 يفغرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين 0 إتكل على الرب فلينجه 0 لينقذه لأنه سرَّ به ” ( مز 22 : 7 ، 8 ) 00 ” أنا صرتُ عاراً عندهم 0 ينظرون إليَّ وينفضون رؤوسهم ” ( مز 109 : 25 ) ووقف سليمان الملك منذهلاً وبحكمته يُصوّر الموقف ” ويتباهى بأن الله أبوه فلننظر هل أقواله حق ولنختبر كيف تكون عاقبته 0 فإنه إن كان الصديق إبن الله فهو ينصره وينقذه من أيدي مقاوميه 0 فلنمتحنه بالشتـم والعذاب حتى نعلم حلمه ونختبر صبره 0 ولنقض عليه بأقبح ميتة “ ( الحكمة 2 : 16 – 20 ) وتأمل أشعياء المصلوب ” من أجل إنه سكب للموت نفسه وأُحصى مع أثمة ” ( أش 53 : 12 )0
أناس : هذا الشعب الغبي الذي هتف له الأحد الماضي يقف الآن شامتاً به0
وحتى المجتازين إلى أورشليم أو الخارجين منها للقرى المحيطة ، والذين لا يعنيهم الأمر في قليل أو في كثير ، سمعوا أقوال الآخرين الشامتين وصدقوها ، وشاركوهم الإستهزاء والسخرية : إن كان الله أبوه 00 فلماذا يتركه إلى هذا المصير التعس ؟!
عجباً لهؤلاء المارة الذين لم تكن ثمة خصومة بينهم وبين يسوع ، بل لعل الكثيرين منهم كانوا من المعجبين به قبلاً ، وربما تلامس بعضهم مع معجزاته ، ولكن إذ رأوه مغلوباً على أمره تخلوا عنه ، بل إنقلبوا ضده ، وأقاموا أنفسهم خصوماً له 00 هذه هي دناءة النفس التي تشمت بكل إنسان مقهور ، وربما إعتقد بعضهم أنه لو لم يكن المصلوب شريراً لما تخلت عنه السماء 00 أما أبناء وطنه من الجليليين فقد تعاطفوا معه0
” كان الشيطان يهمس في إذنيه قائلاً : هذه هي النتيجة 00 هذه هي ثمرة جهادك ، وصدى حبك لعالم من الجاحدين 00 أين هم الذين شفيتهم وأطعمتهم 00 بل أين تلاميذك الذي أحببتهم وأغدقت عليهم من عطفك 00 لا تتعب نفسك مع البشر ، لقد فاقوا الشياطين في شرهم 00 وها أنت تسمع بأذنيك الشتائم 00 إنظر لن تجد هناك من يذرف دمعة واحدة من أجلك 00 بل أنظر إلى قسمات وجوههم وهم ينادون بصلبك 00 أنظر إلى أياديهم المهددة المتوعدة 00 وإلى عيونهم التي يتطاير منها الشر والشرر ” (28)0
وكان اللصان اللذان صُلبا معه يعيرانه : إن كنت أنتَ المسيح فخلص نفسك وإيانا ، وبالرغم من إن الذين يجوزون في آلام مشتركـة يشعرون عادة بأُلفة معاً ، لأن الآلام تؤلف بين قلوبهم ، لكن هذان الرجلان في آلامهما راحا يعيران من لا ذنب له0
هوذا يحيط بيسوع الشامتون المستهزئون من رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين والمجتازين وحتى اللصين ، وكم كان هذا سبب حزن أليم للأم الثكلى ؟! 00 منذ لحظات إخترقت طرقات المسامير قلبها ، والآن تخترق هذه التعييرات أذنيها ، وهي لا تملك شيئاً ، سوى قلباً جريحاً على إبن ذبيح ، وسيف حاد يجوز في نفسها ، وتود لو تُحلّق وتحتضن إبنها تمسح قطرات عرقه ، وتجفف دمه المسفوك ، وتنفخ في فمه قبلة الحياة 00 وكم كان الأمر مرير عليها وهي تتفرس بمشاعر الأمومة هذا الوجه الدامي والجسد المنهك ، الذي يلهث لكيما يحصل على نسمة حياة 0 وفي لحظة من الزمن الثقيل فتح يسوع فاه ، فصمت الجميع وأرهفوا السمع للمُعلّم ، ماذا يريد أن يقول بعدما حدث معه ؟! وإذ بهم يقفون في ذهول 00 ما هذا ؟! إنه يصلي ، ويصلي من أجلهم : ياأبتاه إغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون0
قال أحدهـم : كيـف يصلي من أجل صالبيه ؟ لم نسمع مثل هذا قط 00 كل دم يُسفك ظلماً يصرخ بنداء الثأر ، أما دم يسوع فإنه ينادي بالفصح والمغفرة !!
وقال ثان : تُرى من له المقدرة على المغفرة حتى هذه الدرجة ؟
سمعناه يقول ” أحبوا أعدائكم باركوا لأعنيكم صلوا لأجل الذي يسيئون إليكم ويضطهدونكم “ والآن نراه يفعل تماماً ما قد قاله وعلَّم به0
وقال ثالث : عجباً 00 عُلّق على الصليب لأنه دعى نفسه إبن الله ، ومازال مصراً على هذا ، فيدعوا الله ” ياأبتاه “0
وقال رابع : إن كـان الله أبـوه فلماذا يتركه إلى هذا المصير التعس ؟!
وقال خامس : كلَّله الرومان بالأشوك ، وقطَّعوا جلده بالسياط ، ونحن صرخنا : إصلبه 00 إصلبه ، ويصلي من أجلهم ومن أجلنا0
وأجابه سادس : كل النيران التي إنصبت فوق رأسه عجزت عن أن تفقده حبه ، أو تُخرجه عن وداعته ورقته 00 مازال يسوع كما هو الحب الوديع النسمة الرقيقة 00
وقال سابع : مُعلَّق بالمسامير مسخن بالجراح 00 عاملناه بهذه القسوة وإجتمعنا حوله كوحوش ضارية 00 ويغفر لنا ؟!
يوسف الرامي : ” وهـو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين “ ( أش 53 : 12 ) 0
يوحنا الحبيب : حقاً إن إبليس أراد أن يطعن يسوع بسهام الكراهية والحقد والغل ضد جلاديه ، وهوذا الحب الفياض والصفح التام وإلتماس الأعذار تنطلق كسهام عاتية من قلب المصلوب إلى قلب إبليس الكراهية 00
وتعلمت البشرية من صفح المصلوب عن صالبيه ، ونسجت على ذات المنوال 00
{ ولنا أن نذكر هنا ثلاث قصص قصيرة عن المغفرة :
كانت ميري يتيمة الأب منذ طفولتها ، وكرَّزت الأم الشابه حياتها مـن أجل إبنتها ، وأخذت تعمل وتجتهد لتوفر لها حياة كريمة ، وأنهت ميري حياتها الجامعية ، وإذ خُدعت من الحيَّة القديمة إنجرفت في تيار الخطية وتركت بيتها ، وتعبت أمها كثيراً في البحث عنها ، وإحتاجت أن تكد وتتعب أكثر ليكما تغطي مصاريف التجوال ، وأخيراً لجأت إلى حيلة إذ طلبت من أحد المُصوّرين أن يلتقط لها صورة وهي تركع في حالة توسل ودموع تفتح أحضانها وتناشد إبنتها بالعودة إليها ، وذهبت لكيما تُعلّق نسخ من هذه الصور في عدَّة بلاد ، وقاد الله ميري إلى أحد الملاهي وهي محطمة النفس والجسد ، فوجدت البعض يزدحم على صورة معلَّقة على الجدار ، وإذ نظرت إليها إستيقظ ضميرها وإشتاقت إلى قبلات الأم غير الغاشة والصدر الحنون ، فأسرعت بالعودة إلى أمها ترتمي في أحضانها ، وتلقفتها محبة الأم الغافرة ، وظلت تعتني بها إلى أن عادت إلى حياتها الأولى وعادت هي للحياة0
قصة أخرى حدثت عقب الحرب العالمية الثانية إذ عُهد لأحد الخـدام الإهتمام الروحي بالزعماء الألمان الذين أشعلوا الحرب ، وكان الغضب الشعبي ضدهم جارفاً ، وكان هذا الخادم قد فقد إبنيه في هذه الحرب ، ولم يعرف كيف يلتقي بهؤلاء القتلة ؟ وبأي مشاعر يلقاهم ؟! 00 ولكنه إذ وضع أمام عينيه صورة المصلوب الذي يصلي من أجل صالبيه إنسكبت محبة المصلوب في قلبه ، فتعامل مع هؤلاء بالمحبة المسيحية الغافرة ، حتى إنه كان يزور أحدهم خمس مرات في اليوم الواحد ، وتاب بعضهم قبل الحكم عليهم وورثوا الملكوت 0
والقصة الأخيرة حدثت أيام إضطهاد الأرمن إذ كانت فتاة تسير برفقة أخيها وأبيها ، وتعرض لهم أحد الجنود الأشرار ، فقتل الأب والأخ وبصعوبة بالغة هربت الفتاة ، وعملت كممرضة في إحدى المستشفيات ، وذات يوم وصل ذاك الجندي القاتل إلى المستشفى ، وهو مصاب بإصابات بالغة ، وكانت هي المكلفة برعايته ، فلو أهملت في رعايته لكان نصيبه الموت حتماً ، ولكنها وضعت أمام عينيها صورة المصلوب الغافر ، فإستطاعت أن تتغلب على مشاعر الإنتقام التي ثارت داخلها ، بل وأن تبذل قصاري جهدها في رعايته حتى تعافى تماماً } 0
وإلتقطت أذنا ديماس ما قاله يسوع ، وهو مالم يكن يتوقعه على الإطلاق ، فإهتزت نفسه داخله : من هذا الذي يغفر لجلاديه ؟!
لابد أن إنه إبن الله فعلاً كما قال وهم لا يصدقونه ، فصمت وكفَّ عن التقريع والتعيّير ، وعندما تمادى أماخوس في تعيّيره ، قال له ديماس : أَوَلاَ تخاف الله إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه 0 أما نحن فبعدل قد جوزينا لأننا ننال إستحقاق ما فعلنا ، وأما هو فلم يفعل شيئاً ليس في محله 00 وهل الذي يغفر لصالبيه يخطئ ؟!
آه 00 لقد عاش ديماس مع أماخوس زمناً هذا مقداره 0 أما الآن وقد أوشكا على الإفتراق إذ إختار ديماس طريق الخراف وإختار أماخوس طريق الجداء 00 إعترف ديماس بخطيته : أما نحن فبعدل جُوزينا 00 لقد سطونا على الناس وسلبناهم ، وسفكنا دماءاً بريئة ، وإنبرى يدافع عن الحق : أما هذا فلم يفعل شيئاً في محله 00 فلـو كان مثلنا لعرفناه في حياتنا ، ولو كان سفاحاً لسمعنا عنه 00
إن يسوع المصلوب ياديماس إنسان برئ ، لابد إنك سمعت عن لطفه ورقته ومحبته وحنانه ، فإنه لم يخدم في زاوية إنما ملأ القرى والمدن كرازة وبشارة ، والآن يالسعادتك وقد إلتقيت معه 00 إنني أراك وأسمعك وأنت تضرع إليه : إذكرني يارب متى جئت في ملكوتك 0
وكأني بذاك اللص يقول ليسوع : أنت ترى يارب ، أنني مُقيَّد بالمسامير لا أملك من حريتي سوى عقلي وقلبي ولساني ، وها أنت تراني أعزف على أوتاري الثلاثية سيمفونية الإعتراف بك ملكاً ورباً 00 إنني أعلم أنك ستملك على محبيك وعلى أعدائك أيضاً ، فهلا تذكرني متى جئت في ملكوتك ؟! 00 وهلا تحسبني مع محبيك ؟!!
وإلتفت الملك المصلوب إلى ديماس اللص قائلاً : الحق أقول لك 00 إنك اليوم تكون معي 00 في الفردوس0
صار ديماس باكورة المفديّين ، فطابت نفس المخلص به 00 إنه الدرهم المفقود الذي عثر عليه 00 الخروف الضال الذي وجده ضالاًَ شارداً على جبال الخطايا والأثام 00 الإبن الضال الذي كان ميتاً فعاش 00
ولم يعد ديماس يتكلم بعد ، إنما كانت عيناه ترنو تارة نحو المصلوب وتارة نحو السماء وكأنه يريد أن يؤكد أن يسوع المصلوب هو هو ملك السماء ، ووجد راحة قلبية أخذت تغالب آلام الصلب !! 00 يالفرحتك ياديماس 00 هل رقص قلبك طرباً ؟! 00 هل طابت نفسك أيها المصلوب ؟! 00 لقد فزت بالوعد الإلهي ، وسمعت سيدك يقول لك اليوم ” سأنتظرك 00 هناك سألقاك 00 في الفردوس موضع الراحة والتنعم “0
والفردوس كلمة فارسية معناها جنة ملوكية 0 إنه موضع راحة الأبرار ، حيث لا تنهد ولا بكاء ، حيث تعزف الملائكة موسيقى الفرح فينسى الإنسان كل آلامه ، حتى لو كانت بشدَّة وجدَّة آلام ديماس على صليبه ، وبدأ ديماس يتذوق في آلامه عربون الفردوس ، بينما يتجرَّع أماخوس الذي أغرته الكثرة ومظاهر القوة كأس الموت ، ويفزع من دنو أجله 00
عجباً 00 أتهلك ياأماخوس وبينك وبين المخلص أشبار ؟! 00
وبينمـا راحت الشياطين ترقص طرباً حول الصلبان الثلاثة ، فإذ بأحدهم يظهر مكفهراً مكتئباً ، وعندما سأله زملاؤه عن سبب إكتئابه قال : لقد كنت ملازماً لديماس أيام هذه عددها 0 أما الآن فلم يعد لي موضعاً البتة في قلبه 0
وإذ بيوحنا الحبيب يتابع الأحداث عن كثب ، ويرى ديماس يخلص وأماخوس يهلك ، فيتذكَّر كلام المُعلّم الذي قاله من أيام قلائل ” متى جاء إبن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده 0 ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميّز بعضهم عن بعض كما يميّز الراعي الخراف من الجداء ، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار ” ولوقته تخيَّل يوحنا أن يسوع الديان جالساً على عرشه ، حوله الملائكة القديسين ، وإجتمعت الأرض كلها أمامه ، فمال الأبرار ومعهم ديماس إلى يمين الملك ، بينما الأشرار وعلى رأسهم رؤساء الكهنة ومشايعيهم وجـدوا قوة تدفعهم نحو اليسار 00 فإرتعب يوحنا وقال : حقاً إن ما يحدث الآن لهو لقطة من يوم الدينونة الرهيب0
وأخذ يوحنا يُطوّب ديماس : من رأى لصاً آمن بملك مثل هذا اللص ، الذي بأمانته سرق ملكوت السموات وفرودس النعيم ؟! 00 طوباك أنت أيها اللص الطوباوي ، ولسانك الحسن المنطق الذي به تأهلت بالحقيقة لملكوت السموات وفردوس النعيم 00
نيقوديموس : أيها اللص الطوباوي 00 ماذا رأيت ؟ 00 وماذا أبصرت حتى إعترفت بالمسيح المصلوب بالجسد ملك السماء وإله الكل ؟!
يوسف الرامي : ما رأيتَ المسيح 00 الإله متجلَّياً على طور طابور في مجد أبيه ، بل رأيته مُعلقاً على الأقرانيون ، فلوقتك صرخت قائلاً أذكرني يارب متى جئت في ملكوتك 00
أناس : لقد أُحصي مع أثمة ، أما هو فقد أحصى الأثمة في ملكوته 00 لقد إلتقينا اليوم بأربعة لصوص يهوذا ، وباراباس ، وديماس ، وأماخوس ، ولم يخلص منهم إلاَّ ديماس ، وربما يخلص بارباس 0
أما سارباس عضو السنهدريم فتساءل : من أين المُلك لهذا المصلوب ؟! 00 أين رعيته ؟! 00 أين ملكوته ؟! 00 أسيملك في مدينة الأموات ؟! 00
وكان لاماخوس ” فرصة ذهبية لم يشاركه فيها أحد سوى اللص الآخر المعلق بجواره 0 لقد كان أقرب الناس قاطبة ليسوع المصلوب ، وكانت له الفرصة ليسمع كل أحاديثه وأناته ويتأمل غور جراحه 00 كانت له الفرصة الذهبية ليرى كيف يُولَد الفجر في أحلك الظلمات وتتفجر الينابيع من قلب الصخور الصماء 00 نعم كانت أمامه الفرصة العظيمة أن ينعم بالخلاص مثل اللص الآخر 00 لكنه بالرغـم مـن كل ما حلَّ به ومن حوله لم يغتنم الفرصـة السانحة أمامه ” (29)0
وكلما فتح يسوع فاه ، كان قلب العذراء يخفق ، وعاطفة الأمومة تشتعل داخلها متوقعة أن يحدثها ولو بكلمة واحدة ، وصدق ظن الأم الحنون التي إنشغلت تماماً بآلام إبنها ، أما هو فلم تقوى كل هذه الآلام أن تشغله عن أمه ، ففتح المصلوب فمه المبارك وقال بصوت متهدج وهو ينظر إليها : ياأمرأة 00 هوذا إبنك وإلتقت عينا الأم اللتان تورمتا من البكاء بعيني الإبن اللتان تورمتا من اللطمات والكدمات والضربات ، فرأت الأم في عيني إبنها السماء والرجاء والنصرة والمجد ، ولكن الآلام التي تعتصرها تشدها بقسوة إلى أسفل 00 كم كانت تتمنى أن تضع نفسها عنه ، وكاد يُغشى عليهـا ولكن إبنها منحها القوة وسندها في طريق الآلام ، فقالت : أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص ، أما أحشائي فتلتهب عند نظري إلى صلبوتك الذي أنت صابر عليه من أجل الكل يا إبني وإلهي 00
وإلتفت الإله المصلوب إلى يوحنا الحبيب قائلاً : هوذا أمك 00
وهز يوحنا رأسه علامة الطاعة والرضي ، وهو يقول : كل هذه الآلام ياسيدي وعبرات الموت لم تنسيك واجبات الأمومة0
وهمست العذراء : هل هذه هي النهاية ؟! 00 كلاَّ 00 لا يمكن أن تكون نهاية إبني البار هكذا 00 لقد أخبرني أنه سيقوم بعد ثلاثة أيام 00 إذاً لابد أن يقوم حتى ولو مات فسيحيا 00 ولكن ماذا أفعل إزاء ضعف طبيعتي ومشاعر الأمومة المذبوحة بغير سكين ؟! 00 إنه سيف بتار ونار آكلة ياإبني 00
ولم يكن ليسوع أخوة بحسب الجسد ، فلو كان له أخوة لكانوا أحق من يوحنا برعاية أمهم ، ولكنها الأم البتول 00 كانت بتولاً قبل ولادة إبنها الوحيد يسوع ، وأثناء ولادته ، وبعد ولادته لم تنجب غيره ، فهي العذراء كل حين دائمة البتولية00
” وإن كان يوحنا قد تحمل المشقات في إتباع يسوع إلى الجلجثة لكنه لم يرجع خالي الوفاض 0 لقد توَّج يسوع محبته بأكبر شرف في التاريخ عندما ناداه من فوق الصليب قائلاً ” هوذا أمك ” 00 لقد حسبته أليصابات شرفاً عظيماً عندما أتت إليها أم ربها ، فكم وكم عندما أخذها ذلك التلميذ إلى خاصته 0 ولقد بارك الله بيت عوبيد عندمال حلَّ التابوت فيه ، أما البركة التي حلت على ذلك التلميذ فلا يمكن أن نعرف مداها 0 ولاشك أن رسائل يوحنا تكشف قدراً ضئيلاً من فيض المحبة التي ملأت قلبه ” (30)0
وجلس تحت الصليب الجلادون الأربعـة يلهون ويتسامرون ، ينتظرون موت المصلوب حتى يعودوا إلى القشلاق ، ولم تنجح كل الآلام التي يجوز فيها المصلوب ، والأنين والصراع من أجل نسمة حياة ، وحشرجة الموت 00 كل هذا لم ينجح في تحريك شعرة واحدة لهؤلاء الجلادين الذين كدت قلوبهم من حجر الصوان ، وكان بجوارهم كومة من الملابس ، وحيث أن الجو كان بارداً فإن يسوع إرتدى عدَّة ثياب منها قميص منسوج بـدون خياطة ، ومنها الملابس الداخلية ، ومنها الثوب الذي يُدثّر الجسد كله ، ومنها ما يوضع على الرأس والكتفين ، وبينما إعتاد الرومان على صلب المجرم عرياناً مجرداً من جميع ملابسه ، فإن أهل الشرق ولاسيما اليهود إعتادوا أن يستروا عورة المصلوب 00 إنها ملابس المصلوب ، وقد جرى العرف على إعتبارها أجرة رخيصة للجلادين الذي ينفذون حكم الإعدام 00
إلتفت أحدهم وقال ساخراً : هيا يا رجال القيصر نقتسم كنوز المصلوب 00
وتعالت ضحكاتهم ، وأخذ كل منهم نصيبه من هذه الملابس البسيطة التي لا تملأ عين واحد منهم0 غير إن نظراتهم إنجذبت نحو القميص المنسوج كله ، ويبدو إن إحدى السيدات الثريات قد أهدته له 00
وقال أحدهم : أنشقه إلى أربعة أجزاء؟
- وما قيمته بعد تمزيقه ؟!
- إذاً ليأخذه أحدنا 00
- نعم 00 لنلقي قرعة0
وألقوا القرعة ، وجاءت القرعة من نصيب الجلاد الأول الذي دق المسامير في يد المُعلّم ، فأخذه فرحاً بينما عيون الآخرين التي تمتلأ حسداً تحدجه شذراً 00
وتحت أقدام الصليب وقف داود النبي يعزف على قيثارته اللحن الحزين ” يقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون ” ( مز 22 : 18 )0
(26) عبارات من القداس الأسود بكنيسة الشيطان – راجع عبادة الشيطان في العصر الحديث للقمص تادرس يعقوب ص 128
(27) المرجع السابق ص 128
(28) دكتور فؤاد بولس – تحت أقدام الصليب ص 171
(29) المرجع السابق ص 109 ، 110
(30) المرجع السابق ص 132