Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

الخطية عبودية – الأب أنتوني م. كونيارس

الخطية عبودية – الأب أنتوني م. كونيارس

الخطية عبودية – الأب أنتوني م. كونيارس

 

 

هل كان الله ”يُجَرِّب“ آدم وحواء؟

السيِّدة ذائعة الصِّيت نونا هاريسون Sr. Nanna Harrison العالِِمة في علم الآبائيَّات، قدَّمت في عظة عن البشارة وصفًا رائعًا للإرادة الحرَّة التي هي عطيَّة مِن الله, فقالت إنَّ قديمًا كان هناك أناس يتساءلون: “بما أنَّ الله لم يكن يريد أنْ يأكل آدم وحواء مِن شجرة معرفة الخَيْر والشَّر، إذن لماذا زرع الله تلك الشَّجرة في وسط الجنَّة في المقام الأوَّل؟” (تك2: 15-17).

هل زرعها مِن أجل الإيقاع بهما؟ لا. وتشرح السيِّدة نونا قائلة إنَّ القدِّيس غريغوريوس اللاَّهوتي وآباء آخرين في الكنيسة أوضحوا أنَّ السَّبب كان هو إعطاء آدم وحوَّاء فرصة لممارسة حريَّتهما في الاختيار.

شرح آباء الكنيسة أنَّ آدم وحواء كانا مثل الأطفال, وكانت خطَّة الله لهما أنْ ينمُوَا على مدى فترة مِن الوقت ليصلا إلى مرحلة النُّضوج.

بعبارة أخرى، كانت خطَّة الله أنْ يثقِّفهما ويعلِّمهما ويساعدهما على النُّمُو إلى القامة الكاملة لصورة ومِثال خالقهما. وكان أوَّل امتحان لهما هو ألاَّ يأكلا مِن الشَّجرة المحرَّمة. وبالمناسبة، نحن بحاجة إلى أنْ نتذكَّر أنَّه كان يوجد في الجنة الآلاف مِن الأشجار الأخرى التي كان في إمكان آدم وحواء أنْ يستمتعا بها بحريَّة, وكانت هذه الشَّجرة الوحيدة التي طلب الله منهما أنْ يمتنعا عنها. وكان الهدف هو امتحان إرادتهما الحرَّة ومساعدتهما على النُّمُو ببطء في طاعة الله. بداية مِن هذا الفعل الأوَّل للطَّاعة، كانا في إمكانهما أنْ يشتركا أكثر وأكثر على نحو كامل في إرادة الله, ويصبحا شركاء الطَّبيعة الإلهيَّة. واليوم لا يزال الله يمتحن إرادتنا الحرَّة. لقد وضعنا في جنَّة عدن أخرى- على هذا الكوكب الجميل، الأرض التي خلقها لنا. الوصايا التي أعطاها لنا ليست مجرَّد امتحانات, بل أيضًا تحدِّيات نُظهر بها حبَّنا له, وننمو بها لنصل إلى كل ما خلقنا الله لنكون عليه.

القدِّيس يوحنا كرونستادت St. John of Kronstadt مجَّد الله لمنحه لنا عطيَّة الإرادة الحرَّة, فكَتَب يقول:

”لماذا سمح الله بسقوط الإنسان، مخلوقه الحبيب وتاج جميع المخلوقات الأرضيَّة؟ لابدَّ مِن الرَّد على هذا السُّؤال بأنَّه: لو الإنسان لا يُسمَح له بالسقوط، فهو يكون بالتالي غير مخلوق على صورة الله ومثاله؛ ولا يمكن أنْ تكون لديه إرادة حرَّة التي هي صفة ملازمة لصورة الله، بل لكان عليه أنْ يخضع لقانون الضَّرورة مثل الخليقة التي لا روح لها – أي مثل الشَّمس، السَّماء، النُّجوم، الكرة الأرضيَّة، وكل العناصر الأخرى – أو أنْ يكون مثل الحيوانات غير العاقلة؛ لكن حينئذ لَمَا كان هناك أي ملك على كل مخلوقات الأرض، ولَمَا كان هناك أي مُرَنِّم عاقل يُسَبِّح الله لخلاصه وحكمته وعنايته وقدرته غَيْر المحدودة المُبدِعة. وحينئذ لوجد الإنسان نفسه عاجزًا عن إيجاد طريقة يُعَبِّر بها عن إخلاصه وحبِّه الشَّديد لخالقه، حبِّه المضحِّي الباذل للذَّات. حينئذ لَمَا كان هناك أي أعمال بطوليَّة في الحروب, ولا استحقاقات ولا أكاليل نصر غير مضمحِلَّة، ولَمَا كان هناك أي نعيم أبدي الذي هو جزاء الإيمان والإخلاص لله، ولَمَا كان هناك أي راحة أبديَّة بعد ما نلقاه في رحلتنا الأرضيَّة مِن مشقَّة وكفاح“.

«احمل سريرك وامشِ»

عندما شفى يسوع المفلوج (مر2: 1-12)، قال له: «قُم واحمل سريرك وامشِ». تعليقًا على هذه الآية، كتب أحد آباء الكنيسة الأوَّلين، بيتر كريسولوجس Peter Chrysologus: “احمل سريرك. احمل تلك الحصيرة بعينها التي حملتك فيما مضى”.

عندما يحرِّرنا يسوع، فهو يمكِّننا مِن أنْ “نحمل”، أنْ نتحكَّم في الإدمان (السَّرير) الذي كان يتحكَّم فينا فيما مضى.

يقول يوحنا الدَّرَجي:

”تحكَّم في شهيَّتك قَبْل أنْ تتحكَّم هي فيك“.

الرَّب يسوع يحرِّرنا حتى نسيطر على الإدمان الذي سيطر علينا حينًا. إنَّه يحرِّرنا لنتغلَّب على إدمان المخدِّرات أو الوساوس أو الهواجس التي استعبدتنا فيما مضى. إنَّه يحرِّرنا لنتغلَّب على الشَّهوة والطَّمع اللذَيْن استحوذا علينا حينًا.

«قُم احمل سريرك وامشِ»: لا تعرُج بعد الآن. لا تزحف. لا تتعثَّر. قم. امشِ. احمل تلك الحصيرة بعينها التي حَمَلتك فيما مضى, أنتَ الآن حُر في المسيح.

«فاثبتوا إذًا في الحريَّة التي قد حرَّرنا المسيح بها, ولا ترتبكوا أيضًا بنير عبوديَّة» (غل 5: 1).

يحكي أدلر Adler عالِم النَّفس الشَّهير عن رَجُلَيْن فَقَد كلُّ واحد منهما ذراعه. بعد مرور عام، شعر واحد منهما بالإحباط الشَّديد لدرجة أنَّه قرَّر أنَّ الحياة لا تستحق العيش في وجود إعاقة مثل إعاقته. أمَّا الآخر فتغلَّب على إعاقته بانتصار حتى أنَّه ظلَّ يقول إنَّه حقًّا لا يعرف لماذا أعطتنا الطَّبيعة ذراعَيْن عندما يكون في إمكاننا أنْ نُدَبِّر شؤوننا بصورة جيِّدة جدًّا بذراع واحدة. لقد كان رد فعله لما حدث له هو الذي أوجد الاختلاف.

وصايا الله تحمي الحريَّة

وصايا الله التي تبدو وكأنَّها حواجز مقيِّدة في نظر الخطاة، هي التي تحفظ الحريَّة التي وهبها الله لنا. يُعَلِّمنا القدِّيس مرقس النَّاسك أنَّ وصايا الله: ”تحمي شروط الحريَّة الممنوحة لنا“, وبالتَّالي، فإنَّ حفظ الوصايا هو الطَّريق للحريَّة الحقيقيَّة, فوصايا الله تُحَرِّر ولا تُقَيِّد أو تستعبد.

صادفني مؤخَّرًا كتابٌ عنوانه: “وصايا الله العشرGod’s Ten Commandments”. يذكر المؤلِّف فيه أنَّ الوصايا العشْر غالبًا ما تصوَّر على أنَّها تحذيرات لا تُحْمَد عقباها, عبارات قاسية جافَّة مِن إله كلِّي القدرة ذي سيادة ومُنتقِم.

إلاَّ أنَّ العكس هو الصَّحيح. الله ليس بمنتقِم. إنَّه أب حنون كما نراه في مَثَل الابن الضَّال. العَشَر وصايا هي عشرة إعلانات عن محبَّته لنا, فالله يحبُّنا ويرينا الطَّريق إلى الحريَّة مِن خلال الوصايا. مرَّة أخرى، الوصايا تحرِّر ولا تُقَيِّد ولا تخنق.

الحياة تحتاج إلى قائمَي المرمى

الحياة بدون حدود وبدون قواعد تشبه لعب التِّنس بدون شبكة أو لعب كرة القدم بدون مرمى.

وجود الشَّبكة في ملعب التِّنس ووجود قائمَي المرمى في ملعب كرة القدم تمنحنا حريَّة اللِّعب بأفضل إمكانيَّاتنا. الحريَّة أيضًا لها حدود, وتلك الحدود يتم رَسمها مِن خلال ما نسمِّيه المسؤوليَّة. الحياة أيضًا لها قواعدها، لها قائمَا المرمى الموضوعَان مِن قِبَل الله (الوصايا). فالوصايا موجودة لمساعدتنا في انطلاقنا لنصبح أشخاصًا أحرارًا كما قصد الله عندما خلقنا.

الإرادة الحرَّة والحريَّة الفرديَّة

آباء الكنيسة الأوَّلون يُميِّزون بين نوعَيْن مِن الحريَّة يُعَبَّر عنهما في اليونانيَّة بكلمتَيْن مختلفَتَيْن. النَّوْع الأوَّل مِن الحريَّة يسمُّونه autexousism أي رباطة الجأش أو ضبط النَّفس، أو أنْ تكون مسؤولاً عن نفسك. هذا هو السُّلطان الذي منحه الله لنا عندما خلقنا على صورته. إنَّه القدرة على تحديد الخيارات الخاصَّة بنا وأنْ نكون المتحكِّمين في مصيرنا: autexousion.

النَّوْع الثَّاني مِن الحريَّة الذي منحه الله لنا يصفه الآباء اليونانيُّون الأوائل بكلمة eleutheria. تلك هي الكلمة التي يستخدمها كاتبو العهد الجديد لوصف التحرُّر والعتق مِن الخطيَّة (رو6: 18-23)؛ التحرُّر مِن النَّاموس (غل2: 4)؛ التحرُّر مِن الموت (رو6: 21).

الخطيَّة هي التي تجعلنا نفقد الحريَّة eleutheria عن طريق استمالتنا لأنْ نُسيطِر على حياتنا بعيدًا عن الله. وبمجرَّد أنْ تسود علينا الخطيَّة، فإنَّها تُقسِّي قلبنا تجاه الله وتعمينا عن وجوده في حياتنا, وتظل كلمة الله توجِّه الحديث لنا باستمرار لكنَّنا نبقى صُمًّا. كما يظل الرُّوح القُدُس يبحث عنَّا محاولاً أنْ يعيدنا إلى الله وإلى الحريَّة eleutheria الحقيقية. لهذا السبب كتب بولس الرَّسول: «فاثبتوا إذًا في الحريَّة eleutheria التي قد حرَّرنا المسيح بها ولا ترتبكوا أيضًا بنير عبوديَّة» (غل5: 1).

الله يدعونا للحريَّة

وبسبب ما ذكرناه سابقًا فإنَّ الله لا يُصدر أوامرَ يجبرنا بها بل بالأحرى يحاول إظهار حبه لنا ويحاول جذبنا نحوه عن طريق تعاملاته معنا ودعوته لنا: «إنْ أراد أحد أنْ يأتي ورائي… ».

«إنْ أردتَ أنْ تكون كاملاً… », «تعالوا لأنَّ كل شيء قد أُعِد… » تلك هي الدَّعوات التي يوجِّهها الله لنا لنختبر نوعَي الحرية autexousion (ضبط النَّفس) وeleutheria (التحرُّر مِن الخطيَّة والمَوْت) على حدٍّ سواء.

يقول الرَّسول بولس:

«ألستم تَعلمون أنَّ الذي تُقَدِّمون ذواتكم له عبيدًا للطَّاعة، أنتم عبيد للذي تطيعونه: إمَّا للخطيَّة للمَوْت أو للطَّاعة للبِر؟» (رو6: 15).

طاعة الله تؤدِّي إلى كلٍّ مِن التحكُّم في الذَّات (ضبط النَّفس) autexousion والتحرُّر مِن الخطيَّة والمَوْت eleutheria.

مع كل الحديث عن الاختيار الحُر، فإنَّ نفس هؤلاء النَّاس المؤيِّدين لحريَّة الاختيار لا يكفُّون عن القول بأنَّه: ليس لدينا أي خيارات ولا لدينا أي حريَّة على الإطلاق. الجنس، يشعرون أنَّه لا مفرَّ منه لا خِيار! الإجهاض ضرورة لا خِيار! إلاَّ أنَّ الحركة تُطلق على نفسها “مناصري الإجهاض”, أو “مناصري الاختيار الحُر”. وعلى الرَّغم من ذلك، فإنَّ تلك الأمور ليست شديدة الغرابة, فالإحساس بأنَّه ليس هناك خيار لا يرتبط فقط بالجنس أو بالإجهاض, بل هو مرتبط بالخطيَّة بشكل عام. نحن نصير عبيدًا للذي نطيعه، كما كتب بولس الرَّسول, والعبوديَّة للخطيَّة تؤدي إلى فقدان الحريَّة والموت.

“مناصرة الاختيار الحُر” هو تعبير مهذَّب للتمرُّد على الله. فنحن نختار إرادتنا عوضًا عن إرادة الله, نحن نختار الموت عوضًا عن الحياة. لا نعترف بأيِّ سُلطة أعلى مِن سُلطة ذواتنا. تحكي إحدى “مناصري الاختيار الحُر” غير المتزوِّجات أنَّها عندما اختارت ألاَّ تجهض الجنين بل تحتفظ به وتربِّيه، أُصيبت صديقاتها المؤيِّدات للاختيار الحُر بخيبة أمل شديدة بسبب اختيارها هذا. تقول المرأة:

“جاء حَملي كصدمة مروِّعة للذين يؤمنون بحقِّ المرأة في الاختيار. كثيرًا ما تنسى الحركة النسائيَّة المناصرة للاختيار أنَّها تدافع عن حريَّة الاختيار”.

إلاَّ أنَّ الاختيار ليس مطلَقًا, فقد أكَّد الأب جون ميندورف Fr. John Meyendorff أنَّ الإجهاض ليس مسألة تتعلَّق باختيار المرأة الحُر, بل هو مسألة مسؤوليَّة، مسألة قتل. يقول الأب:

”لم تقل الكنيسة أبدًا إنَّ القتل أمرٌ صالحٌ, فالقتل هو دائمًا قتل. لذلك فالأمر المُهم بالنِّسبة للإجهاض هو أنَّه ليس مسألة تتعلَّق باختيار المرأة الحُر. إنَّه مسألة قتل. فالمرأة عليها أوَّلاً أنْ تعرف أنَّ الإجهاض هو قتل ثم بعدئذ تقوم بالاختيار؛ لكن يجب عليها أنْ تدرك أنَّ اختيارها للإجهاض هو شرٌّ عظيم. إذا كان هناك ضرورة واضحة للإجهاض مِن أجل إنقاذ حياة الأم, حينئذ يجب اتِّخاذ القرار لصالح الشَّر الأهْوَن. وحتى في مِثل تلك الحالات, فالمسألة ليست على الإطلاق مسألة حقوق الإنسان, ليس مِن حقِّ أي كائن بَشَري أنْ يقتل. ما يزعجني بشِدَّة إزاء النِّقاش الدَّائر حاليًّا حول قضيَّة الإجهاض هو أنَّ الحجج تستند فقط على مسألة حقوق الإنسان. فبينما تُدرك الأرثوذكسيَّة أهميَّة الحريَّة الإنسانيَّة، فهي أيضًا تُدرك المسؤوليَّة التي تسير جنبًا إلى جنب مع تلك الحريَّة. وعندما تحاول الحركة المناصرة للإجهاض أنْ تبرِّر نفسها مِن خلال الزَّعم بأنَّ الإجهاض حقٌّ مِن حقوق الإنسان أو مِن حقوق المرأة، فهي بذلك تتجاهل المسؤوليَّة الإنسانيَّة وتصبح غَيْر إنسانيَّة بالمرَّة.

 

الخطيَّة كعبوديَّة

الخطيَّة هي عبوديَّة, ممَّا يعني أنَّها في نهاية المطاف تمحو حريَّة الاختيار. قال الرَّب يسوع: «الحق الحق أقولُ لكم: إنَّ كلَّ مَن يعمل الخطيَّة هو عبدٌّ للخطيَّة», لكنَّه يكمل قائلاً: «إنْ حرَّركم الابن, فبالحقيقة تكونون أحرارًا» (يو8: 34، 36). كثير من الناس الذين يتحدَّثون بصَوْت عالٍ عن الحريَّة هم أنفسهم ليسوا أحرارًا على الإطلاق, فهم يمارسون الجنس خارج إطار الزَّواج لأنَّهم لا يستطيعون السَّيطرة على غرائزهم وشهواتهم. هذه هي العبوديَّة وليست الحريَّة؛ إلاَّ أنهم يتحدَّثون عنها كما لو كانت هي الحريَّة. إنَّهم عبيد وهم لا يدركون ذلك. إلى هذا الحد الخطية تصيب النَّاس بالعَمَى. يُغَنِّي بوب ديلان  Bob Dylan قائلاً: “لابدَّ أنْ تخدم شخصًا ما؛ قد يكون الشَّيطان أو قد يكون الله, لكن لابدَّ أنْ تطيع شخصًا ما”.

لا توجد سُلطة أعلى مِن سُلطة الذَّات

مِن تعاليم العَلمانيَّة أنَّه لا توجد سُلطة أعلى من الذَّات. هذا يُذكِّرني أنَّ في رواية جورج أورويل George Orwell المسمَّاة “1984” تقول إحدى الشخصيَّات أنَّ الحريَّة هي أنْ تعترف بالواقع، أنْ تقول إنَّ اثنَيْن زائد اثنَيْن يساوي أربعة.

أمَّا بالنِّسبة لتأييد المحكمة العليا لالتماس السيِّدة رو Roe [التي كانت تطالِب بأنْ يكون الإجهاض قانونيًّا] عام 1992م فقد كان منطق المحكمة ـ إذا كان يمكن أنْ يُسمَّى منطقًا! هو أنَّ الحريَّة الحقيقيَّة تعني حريَّة القَوْل إنَّ اثنَيْن زائد اثنَيْن يساوي خمسة. لقد كان رأي الأغلبيَّة هو أنَّ: “أهمَّ ما في الحريَّة هو حق الإنسان أنْ يُحَدِّد مفهومه الخاص عن الوجود، عن المعاني، عن الكَوْن وعن لغز الحياة البَشَريَّة”. إذا لم يكن هناك سُلطة أعلى مِن سُلطة الذَّات التي: “لها الحق في تحديد مفهوم الإنسان الخاص عن الوجود، عن المعاني، عن الكَوْن”، إذن اثنَان زائد اثنَيْن يمكن أنْ تساوي ليس فقط خمسة بل مائة وخمسة. إيماننا المسيحي الأرثوذكسي يُعَلِّمنا أنَّ الحقَّ لا يُحدِّده الإنسان بل الله، ذلك الحق الذي يُحَرِّرنا (يو 8: 32).

العبيد الذين يَعِدون الآخرين بالحريَّة

ما قاله بطرس الرَّسول عن المعلِّمين الكذبة ينطبق على الأبطال المعاصرين الذين ينادون بحريَّة ممارسة الجنس, وحريَّة ممارسة كل شيء: «واعدين إيَّاهم بالحريَّة وهم أنفسهم عبيد الفساد» (2بط 2: 19). أولئك الذين هم عبيد للخطيَّة يحاولون إقناع الآخرين بأنَّ العبوديَّة هي الحريَّة. يتحدَّث بولس الرَّسول عن هذا الحال في رسالته إلى أهل رومية 6: 16-23:

«ألستم تَعْلَمون… أنتم عبيد للذي تطيعونه: إمَّا للخطيَّة للمَوْت أو للطَّاعة للبِر؟.. لأنَّه كما قدَّمتم أعضاءكم عبيدًا للنَّجاسة والإثم للإثم، هكذا الآن قدِّموا أعضاءكم عبيدًا للبرِّ للقداسة… فأيُّ ثمر كان لكم حينئذ مِن الأمور التي تستحون بها الآن؟ لأنَّ نهاية تلك الأمور هي المَوْت. وأمَّا الآن إذ أُعتقتم مِن الخطيَّة، وصرتم عبيدًا لله، فلكم ثمركم للقداسة، والنَّهاية حياة أبديَّة؛ لأنَّ أجرة الخطيَّة هي مَوْت، وأمَّا هِبة الله فهي حياة أبديَّة بالمسيح يسوع ربِّنا».

لابدَّ أنْ تطيع شخصًا ما, إمَّا الخطيَّة أو الله. إذا أطعتَ الخطيَّة ستكون عبدًا. إذا أطعتَ الله ستكون حرًّا. نحن الذين كنَّا يومًا عبيدًا للخطيَّة، قد تحرَّرنا لنصير عبيدًا أحرارًا لله, لنحصد قداسة وحياة أبديَّة.

الله خلقني لأكون شخصًا حرًّا، فريدًا، لا يتكرَّر، شخصًا يحيا في شركة مع الله ومع أشخاص آخرين أحرار، فَرِيدِين، لا يتكرَّرون. وأنا أصير وأظل هذا الشخص الحُر، الفريد، الذي لا يتكرَّر, فقط عندما “أسكن باستمرار في الله”, كما كتب القدِّيس سلوانس.

المطران المتنيِّح أنتوني بلوم Metropolitan Anthony Bloom قال:

”كلمة حريَّة في الروسيَّة تشير إلى أنَّنا مدعوُّون لنكون أنفسنا؛ أي لا نُقَلِّد أحدًا, ولا نكون صورة مشابهة لأحد, بل نكون أنفسنا على صورة ذاك الذي هو الحريَّة المطلقة والحُب المطلَق؛ حقًّا على صورة الله ذاته“.

نحن مِلْكٌ لله باستحقاق الخَلق والفداء، نحن مدعوُّون لنكون أيضًا مِلكًا له باستحقاق الاختيار الحُر.

الله يُنقذ شعبه مِن العبوديَّة

الله لم يخلق شعبه ليكونوا عبيدًا. مثال عظيم على ذلك هو خروج العهد القديم. كما تتذكَّرون القصَّة, فبنو إسرائيل كانوا مجبَرين أنْ يصيروا عبيدًا في أرض غريبة، مصر، خاضعين لسخرة لا ترحم. ثمَّ يقوم فرعون بمحاولة طائشة للتحكُّم في عدد السُّكان اليهود، فيعطي أوَّلاً تعليمات للقابلات العبرانيَّات بأنْ يقتلنَ جميع الذُّكور العبرانيِّين عند الولادة (التَّعليمات التي عصَوْها سرًّا), ثمَّ بعد ذلك يأمر بإغراق كل الفتيان العبرانيِّين في نهر النِّيل.

فصرخ الشعب إلى الله طالبين الخلاص:

«تنهَّد بنو إسرائيل مِن العبودية وصرخوا، فصعد صراخهم إلى الله مِن أجل العبوديَّة, فسمع الله أنينهم، فتذكَّر الله ميثاقه مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب. ونظر الله بني إسرائيل وعَلِم الله» (خر2: 23-25).

يسمع الله صراخهم طالبين الحريَّة, فيكلِّف الله موسى بمهمَّة بالغة الأهميَّة، مهمَّة إنقاذهم مِن العبوديَّة المصريَّة.

«إنِّي قد رأيتُ مذلَّة شعبي الذي في مصر, وسمعتُ صراخهم مِن أجل مسخِّريهم. إنِّي علمتُ أوجاعهم. فنـزلتُ لأنقذهم مِن أيدي المصريِّين وأُصعدهم مِن تلك الأرض, إلى أرض جيِّدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبنًا وعسلاً» (خر3: 7-8).

الله يتدخَّل في التَّاريخ ليكسر قيود العبوديَّة, ويقود شعبه إلى أرض يقدرون أنْ يعيشوا فيها في حريَّة، وعدالة، وسلام.

الله خلق شعبه لأجل الحريَّة وليس لأجل العبوديَّة. وعندما يعطي الله الوصايا العَشْر لشعبه، فإنَّ هذا الفِعل لا يأتي مِن فراغ, فهذه الوصايا هي مِن قِبَل الإله الذي له معهم تاريخ طويل مِن العناية والرِّعاية, لهذا السَّبب كانت الوصايا مسبوقة بكلمات الله: «أنا الرَّب إلهك الذي أخرجك مِن أرض مصر مِن بيت العبوديَّة» (خر20: 2).

وبعِبَارة أخرى، الإله الذي خلَّص شعبه مِن العبوديَّة المُرَّة في مصر، الإله الذي برهن أنَّه يريد أنْ يكون شعبه حرًّا، وبالفعل خلَّصهم مِن العبوديَّة، هذا الإله بعينه يعطيهم الآن إرشادات إلهيَّة ليحيوا بها؛ الوصايا العَشر التي صُمِّمَت لإطلاق سراحهم مِن عبوديَّة الخطيَّة والفوضى الأخلاقيَّة المرتبطة بها.

«فاثتبوا إذًا في الحريَّة التي قد حرَّرنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضًا بنير عبوديَّة» (غل5: 1).

مرَّة أخرى، نحن مِلْكٌ لله باستحقاق الخَلْق والفداء، مدعوُّون لنكون أيضًا مِلكًا له باستحقاق الاختيار الحُر.

   ¶صــلاة¶

”يارب, نشكرك لأنَّك فاتح باب التُّوبة والرُّجوع إليك,

لا تردُّ أحدًا مهما كان خاطئًا مادام يطلب الخلاص وحريَّة روحيَّة مِن عبوديَّة الخطيَّة.

فلا يقدر أحد أنْ يتحجَّج بضعفه ولا بعدم قدرته.

أنتَ الرَّب المُحرِّر, عندك وحدك تجد النَّفس حريَّتها مِن نير ألخطيَّة الثَّقيل.

وأنتَ هو الطَّبيب الإلهي القادر أنْ تشفي مِن مرض الخطيَّة القاتل وآثارها المُدَمِّرَة للنُّفوس والمُؤديَّة إلى الموت الأبدي.

عندك نجد الخلاص والحياة. آمين“.

 

الخطية عبودية – الأب أنتوني م. كونيارس

Exit mobile version