آبائياتأبحاث

الله الباحث ف1 – الفردوس بين يديك – الأب أنتوني م. كونيارس

الله الباحث ف1 - الفردوس بين يديك - الأب أنتوني م. كونيارس

الله الباحث ف1 – الفردوس بين يديك – الأب أنتوني م. كونيارس

 

الله الباحث ف1 - الفردوس بين يديك - الأب أنتوني م. كونيارس
الله الباحث ف1 – الفردوس بين يديك – الأب أنتوني م. كونيارس

الفردوس بين يديك

هأنذا واقف على الباب وأقرع

 

الفصل الأول – الله الباحث

 

بعصا الراعي التي تشبه الصليب،

يجول عبر أرجاء العالم… باحثًا عنكَ وعنِّي

 

 

الله الباحث

  • يحكي فرانز كافكا Franz Kafka في روايته “القلعة” The castle  عن رجل مدعو للعمل كمُخطِّط أراضٍ في مدينة بعيدة. عند وصوله يسأل أهل المدينة عن كيفية الوصول لقلعة رئيس المدينة الواقعة على قمة أعلى التلال فلا يدلّه أحد, يحاول ماسح الأراضي يائسًا طوال أحداث الرواية ـ المرة تلو الأخرى ـ أن يجد طريقه نحو القلعة لرؤية رئيس المدينة وتسلُّم تعليماته, وفي النهاية يموت ماسح الأراضي دون أن يكون قد وصل القلعة، ودون أن يكون قد تعلَّم أيضًا كيف كان المفروض أن يتصرَّف.
  • وفقًا لبعض المفسِّرين يحاول كافكا في روايته أن يوضح حقيقة واحدة : “الإنسان لا يمكنه الصعود إلى الله.” لو عرف الإنسانُ اللهَ، ومن ثمَّ عرف علَّة وجوده، فلابد أن يأتيه الله. يمكننا أن نبذل حياتنا كاملة لمعرفة الله، ولكن لا يمكننا أن نصل إلى “القلعة” بواسطة حكمتنا وقوَّتنا الذاتية. في الواقع لا يمكننا حتى أن نعرف ماذا يُفتَرَض أن نقوم به ما لم يأخذ الله بزمام المبادرة للمجيء إلينا وإخبارنا بذلك.

البحث الإلهي:

  • وهذا هو تمامًا ما فعله الله, فبحثه عن الإنسان جعله يتَّخذ أخيرًا صورة التجسُّد: «والكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيٍد من الآب مملوءًا نعمة وحقًّا» (يو 14:1). الله صار إنسانًا في المسيح. نزل إلينا كي يخبرنا من هو ومن نحن. جاء لكي يحرِّرنا من عبوديتنا للخطية والموت. جاء لكي يجعلنا بالنِّعمة شركاء الطبيعة الإلهيَّة (2بط1: 4)، أبناء وبنات الله.
  • لو سأل واحد عن جوهر المسيحية بالإجمال، لكانت الإجابة جملة واحدة: “المسيحية معناها الله يحبُّني، الله يريدني، الله يبحث عنِّي، الله يفتِّش عنِّي حتى يجدني.”

تفرُّد المسيحية:

كل الديانات الأخرى تُصوِّر الإنسان الباحث عن الله، أمَّا المسيحية فتنادي بإله ينـزل من “القلعة” باحثًا عن الإنسان. ليس هذا بحث الإنسان عن الله، لكنه بحث الله عن الإنسان.

  • يكتب د. جورج مانتزارديس George Mantzarides اللاهوتي الأرثوذكسي اللامع فيقول: “الإنسان لا يمكنه أن يجد الله بحركته الشخصيَّة تجاهه، بل بالحركة التي يقوم بها الله تجاه الإنسان.”

تقليب الكون بحثًا عن نفس ضالة واحدة:

  • قال يسوع ثلاثة أمثال لشرح محبَّته الباحثة: المثل الأول: هو مثل الخروف الضال الذي يفقد فيه الراعي الصالح خروفًا واحدًا من القطيع، فينطلق في الليل المظلم بحثًا عنه، ولا يعود حتى يجده. المثل الثاني: هو مثل الدرهم المفقود، وفيه تقلب المرأة بيتها رأسًا على عقب بحثًا عنه حتى تجده. والمثل الثالث هو مثل الابن الضال، أو بالأحرى مثل محبة الأب المُنتظِرَة. وفي الأمثال الثلاثة هذه يصوَّر الله كما لو كان يقلب أرجاء الكون بحثًا عن نفس ضالَّة واحدة. (لو 3:15ـ32)

هرب أوغسطينوس من الله:

في كتابه “الاعترافات” Confessions, ترك أغسطينوس لنا سجلاً بمرحلة هروبه من وجه الله، وأوضح لنا كيف أن الله قد بدأ يطلبه وهو طفل من خلال صلوات ومحبَّة أمِّه، وكيف تجوَّل من مدرسة إلى مدرسة، بلا راحة أو سعادة في مرحلة بحث مستمرة، دون أن يجدَ الحق أبدًا, وكيف أصبح عبدًا لخطية وراء خطية. وبينما كان الله يبحث عنه دائمًا، كان هو يهرب من وجه الله دائمًا, إلى أن جاء ذاك اليوم بينما كان في حديقة بالقرب من “ميلان” Milan, وهو وسط صراعات الذهن والقلب العنيفة، وجد أغسطينوس المسيحَ، أو بالأحرى وجد المسيحُ أغسطينوس.

عندما استعاد أغسطينوس ذكرياته، أدرك كيف أن الله كان يبحث عنه، دون أن يغضَّ عنه الطرف أبدًا, وكتب قائلاً:

’’يا للشر الذي كنتُ منغمسًا فيه! أنتَ (يا رب) كنتَ دائمًا تبحث عني، وأنا أهرب منكَ بعيدًا بعيدًا. يا لها من طرقٍ ملتوية! ويلٌ للحماقة المندفعة التي ترجو أن تتركك حتى تجد ما هو أفضل. أنتَ وحدك هو الراحة‘‘. 

V الـمُطارِد السماوي:

يخبرنا الشـاعر الإنجـليزي “فرانسيس ثومبسون Francis Thompson” في قصيدته البديعة “المُطارِد السماوي” عن تاريخ نفسه، وهي نفس هربت من محبة الله التي تجدُّ بحثًا عنها, تمامًا مثل نفس أغسطينوس التي هربت من محبَّة الله الباحثة والمُختبئة في أعماق ذهنه, وحاوَلَتْ أن تطرد الله بعيدًا عن مسارها في غابات المتعة, وحاولت أن تنساه في مباهج العلم, ولكنه لم يستطع ـ لا في العلم ولا في المُتعة ـ أن يهرب من ملاحقة الله, المُطارِد السماوي فيقول في قصيدته:

     ’’هربتُ منه طوال الأيام والليالي,

     هربتُ منه طوال السنين,

     في متاهات عقلي،

     واختبأتُ منه وسط الدموع…‘‘.

      مَنْ لا يأوي المسيح لن يأويه شيء, ومَنْ لا يُرضي المسيح لن يرضيه شيء. وأخيرًا أصبح المطارد الذي كان يهابه أكثر اقترابًا حتى وجده في النهاية, وأصبح “فرانسيس ثومبسون” المنبوذ ومدمن المخدرات، هو “فرانسيس ثومبسون” الشاعر المسيحي الذي وجده المسيح وخلَّصه، وأسره المطارد السماوي. الله لا يخفي نفسه عنَّا في قصر السماء, ولكن بعصا الرَّاعي التي تُشبه الصَّليب, يجول أرجاء العالم باحثًا عنِّي وعنك.

يلاحقنا حتى الرمق الأخير:

      كتب القديس يوحنا ذهبي الفم عن يسوع وهو يلاحقنا كشاب يحب عروسه حبًّا مفرطًا. يلاحقنا حتى الرمق الأخير. يخلع عنه رداءه السماوي ويصبح إنسانًا، وليس إنسانًا فقط، بل عبدًا، وليس عبدًا فقط، بل عبدًا حتى الموت، وليس الموت فقط، بل موت الصليب. من أجلنا يصبح خطيَّة ولعنة، كما يكتب القديس بولس. إنها علاقة حب تصل ذروتها على الصليب بهذه الكلمات: “قد أُكمِل.” يلاحقنا حتى حفرة الهاوية، محطمًا أبوابها، وجاعلاً مفاصلها تتطاير في جميع الاتجاهات، حتى يحرِّرنا.

      وهكذا لا نعيش في عالم كافكا، حيث يحاول الناس الوصول لرئيس القلعة كي يعرفوا علَّة وجودهم, بل نعيش في عالمٍ يُلاحَق فيه كلٌّ منَّا بحب الراعي الصالح، المطارِد السماوي، الباحث كي يمنحنا ما لا يستطيع أي شيء أو أي إنسان آخر في هذا الكون أن يمنحنا إياه أبدًا: محبة الله وفرحه، وحياته، وسلامه!

  • الله نزل من القلعة والآن يقف خارج باب نفسك ملتمسًا الدخول: «هأنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب, أدخل إليه, وأتعشى معه وهو معي.» (رؤ 20:3)

Øصلاة×

يسوع الحبيب،

كيف أشكرك

لأنك تركت  السماء وأتيت بحثًا عني, وسلكت نفس طريقي.

وأنَّك تحبُّني وتود أن تهديني إلى السماء،

شرف لا أستحقه, أن اعرف أنك لست في القلعة الموجودة على قمة التل،

بل أنت واقفٌ خارج باب نفسي،

منتظرًا إياي كي أفتح لك وأدعوك للدخول،

حتى تغمرني بالسرور.

هأنذا أفتح الباب لحضورك,

فتعالَ، أيها الرب يسوع، تعالَ.

اجعل ملكوتك فيَّ ملكوتًا حقيقيًّا.

تعشَّ معي وأنا معك. آمين.

دَع الله يجدك:

  • السؤال ليس “كيف أجد الله؟” بل “كيف أدع نفسي ليجدها الله ؟” السؤال ليس: “كيف أعرف الله؟” بل “كيف أدع نفسي لتكون معروفة من الله؟” وأخيرًا ليس السؤال: “كيف أحب الله؟” بل “كيف أدع نفسي لتكون محبوبة من الله؟” الله يبحث عنِّي محاولاً أن يجدني, وهو مُشتاق أن يأخذني إلى الوطن السماوي. في الأمثال الثلاثة التي رواها الرب يسوع ردًّا على سبب أكله مع الخطاة أكَّد على مبادرة الله. الله هو الراعي الذي يواصل بحثه عن خرافه. الله يمثِّل المرأة التي توقد السراج وتكنس البيت، وتفتش في كل مكانٍ حتى تجد درهمها المفقود. الله هو الأب المترقب المنتظر أولاده، والذي يركض كي يلاقيهم ويحتضنهم، ويتحاور معهم، ويلتمس منهم العودة للبيت. ربما يبدو هذا غريبًا، لكن الله يريد أن يجدني بقدر ما أريد أنا أن أجد الله, إن لم يكن بقدرٍ أكبر.
  • إن ملامح رحلتي الروحيَّة سوف تتغير بطريقة جذريَّة عندما لا أعود أفكر أن الله هو المختبئ، معتبرًا الأمر صعبًا بل مستحيلاً أن أجده، بل لابد أن أفكر أن الله هو الشخص الوحيد الذي يبحث عني بينما أنا هو الذي يختبئ. ألا يكون من الجيِّد أن أزيد فرح الله بالسماح له أن يجدني، ويحبني، ويحملني عائدًا إلى البيت، ويحتفل بعودتي مع الملائكة؟

[إن فحوى الديانة ليست هي فيما يفعله الإنسان مع وحدته, لكن ما يفعله الإنسان مع حضور الله].

Abraham Heschel

 أبراهام هيسكيل

 

الله الباحث ف1 – الفردوس بين يديك – الأب أنتوني م. كونيارس