من الهيجان للنيران ف12 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل الثاني عشر : من الهيجان للنيران
في 8 مايو سنة 311 م إحتفل الشعب المسيحي بالإسكندرية مع قداسة البابا بطرس في كنيسة بوليكاربا بعيد كاروز الديار المصرية ، فإزدحمت الكنيسة جداً ، وكأن الكنيسة تنعم بسلام تام بينما الإضطهاد على أشده 00 عجباً إن الإضطهاد لم يعد يُرهِب الإنسان المسيحي بل قد زاده شجاعة أضعافاً مضاعفة ، ولم يعد الموت مخيفاً يفرض سطوته وجبروته على أبناء النور ، إنما صار ضعيفاً ضعيفاً ، مطروحاً تحت أقدام الشهداء ، وقد فقد بريقه وبهت لونه0
وتحدث ” قداسة البابا بطرس ” وأفاض عن حياة وكرازة وإستشهاد مار مرقس ، وإمتزجت كلماته بمشاعره الفياضة ، فأخذ يناجي ” مارمرقس ” ويشركه في الأحداث ويلتمس منه مضاعفة الصلوات ليرفع الله الإضطهاد عن شعبه ويقرر له سلامه ، وأحسَّ الشعب أن البابا وهو يحكي عن إستشهاد سلفه الأول يحكي وكأنه شاهد عيان للحدث لحظة بلحظة ، فعاش الشعب مع مارمرقس الذي كرز ليس بكلماته فقط ، بل بدمه أيضاً ، وما أقوى كرازة الدم ؟! 00 لقد علمنا ” مارمرقس ” بحياته وسيرته قبل أن يعلمنا بكلماته وتعاليمه 00 عاش الشعب ساعات القبض على مارمرقس ، وسحله في شوارع الإسكندرية في اليوم الأول والثاني ، وظهور السيد المسيح له المجد لـه ، كمـا أحسُّوا بمدى الصلة الوثيقة التي ربطت ” البابا بطرس ” بشفيعه ” مارمرقس الرسول ” ، ومدى لهفته على لقاء حبيبه ، وكأنه يقول له : ” أما آن الأوان لأستريح في أحضانك ياأبي وشفيعي ومعلمي ؟! ” 00 وأخذ يوصيه من أجل أرواح أولاده الشهداء الذي إنطلقوا من الربوع المصرية ألوف ألوف وربوات ربوات ، ويوصيه من أجل أسر الشهداء ، ومن أجل المعترفين ، ومن أجل الذين في السجون يستعدون للإستشهاد ، وكانت لكلمات البابا بطرس وقعها القوي على أذان الشعب السكندري فعاشت الكنيسة مشاعر الإستشهاد ، وقد زهدت هذه النفوس أهواء العالم وإغراءاته وشهواته ومجده العاطل الباطل0
وفي المساء توفرت فرصة رائعة للأصدقاء في جلسة خاصة مع أبيهم الروحي البابا بطرس ، فهو المهتم بهم سواء في حضوره أو في غيابه ، ورسائل البابا لتلميذيه لم تنقطع طوال فترة غيابه عن كرسيه00 إطمئن البابا إلى أحوالهم وهو يعلم جيداً المشكلة الإيمانية التي يعاني منها ” ديمتري ” الذي لم يستطع أن يقبل الإيمان المسيحي للآن ، فهو ليس في بساطة أمه وأخواته اللواتي نلنَ سر العماد المقدَّس سريعاً ، وقرأ قداسة البابا فصل من رسالة معلمنـا بولس الرسول إلى أهل رومية ( رو 11 : 11 – 24 ) وأدرك ” أرشيلاوس ” و ” ألكسندروس ” أن البابا يريد أن يرفع من معنويات ” ديمتري ” الذي يشعر أحياناً بالدونية ، وتساءل قداسة البابا : ” ماذا يريد أن يقول لنا الرسول بولس ؟! “0
وصمت الجميع العارف وغير العارف ، ففي حضرة قداسة البابا لا يتكلم إلاَّ من يُطلب منه الكلام بالإسم ، وعندما يتكلم لا يستفيض في الكلام ، فقط يذكر ما قل ودل ، فهذه هي أداب التلمذة في المسيحية ، وهكذا جيل يسلم جيل 00 بدأ قداسة البابا يشرح قصد الرسول قائلاً :
ياأبنائي عندما بدأ الإيمان المسيحي في أورشليم ، إنتشر بين اليهود أولاً ، فكان معظـم المؤمنين في الكنيسة الأولى من اليهود ، وعندما إنتشر الإيمان بين الأمم ، فاق عدد الذين قبلوا الإيمان من الأمم إخوانهم من اليهود ، ولهذا كتب بولس الرسول للمؤمنين من أصل أممي مثلنا ، يدعوهم للتواضع وعدم التفاخر على اليهود ، لأن اليهود هم أصل شجرة الزيتون ، فهم الذين نالوا ” التبني والمجد والعهود والإشتراع والعبادة والمواعيد 0 ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين ” ( رو 9 : 4 ، 5 ) فالإنجيل يعلمنا أن لا نحتقر أحداً 00 ألم يكن رسل ربنا يسوع المسيح جميعهم من اليهود ؟! 0 فهم إذاً يمثلون شجرة الزيتون اللذيذة0 أما نحن الذين كنا قبلاً من الأمم فإننا نمثل شجرة برية بلا دسم ولا طعم ولا رائحة ، فماذا فعل رب الكرم ؟ 00
أخذ أغصان هـذه الشجرة البرية وطعَّمها في شجرة الزيتون ، فهل تفتخر هذه الأغصان البرية على أصل الشجرة ، أقصد هل يفتخم الأمم على اليهود ؟ 00 كلاَّ 00 “ فإن كان قد قُطع بعض الأغصان وأنت زيتونة برّيَّة طُعمت فيها فصرت شريكاً في أصل الزيتونة ودسمها0 فلا تفتخر على الأغصان0 وإن إفتخرت فأنت لست تحمل الأصل بل الأصل إياك يحمل0 فستقول قطعت الأغصان لأُطعَّم أنا0 حسن0 من أجل عدم الإيمان قُطعتْ وأنت بالإيمان ثبتَّ0 لا تستكبر بل خف لأنه إن كان الله لم يشفق على الأغصان الطبيعية فلعله لا يشفق عليك أيضاً ” ( رو 11 : 17 – 21 )0
لقد ضـرب ” قداسة البابا بطرس ” عصفورين بحجر واحد ، فإزداد تلميذيه إتضاعاً ومحبة لديمتري ، وديمتري ضربه قبله إذ وقف أمام الحقيقة ، إنه أصلاً غصناً في شجرة الزيتون الحيَّة اللذيذة ، ولكنه تعرَّض للقطع بسبب عدم الإيمان ، وما هو مصير غصن مقطوع سوى أن يجف ويُحرق بالنار ؟! 00 ولاحظ قداسة البابا مدى تأثر ديمتري العميق ، ولكن هذا واجبه في إنذار إبنه ، وأكمل البابا حديثه عن الرجاء الذي لنا في الله ، فهو رجاء من لا رجاء له ، معين من لا عون له ، عزاء صغيري القلوب ، ميناء الذين في العاصف ، فقال :
إنظروا ياأولادي أن الخلاص ليس عملية منفردة يقوم بها الإنسان بمفرده ، إنما الله شريك أساسي في عملية الخلاص 00 هو المسئول الأول عن خلاصنا ، هو الذي سعى نحو خلاصنا ونحن في الوحل “ إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت إبنه فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته ” ( رو 5 : 10 ) وإن لم تشمل المعونة الإلهيَّة الإنسان فلن يخلص ” ليس أحد يقدر أن يقول يسوع ربُُّ إلاَّ بالروح القدس ” ( 1كو 12 : 3 )0
وهنا إستراحت روح ديمتري وهدأت نفسه ، وأخذ يلتمس من الله عبر صلوات سهمية قوية ، أن يعبر به هذه العثرة { يهوه يصير عبداً !! 00 يهوه يُشتم ويُضرب ويُهان ويُعرى ويُصلب ويموت !! } 00 وأخذ يلتمس من يهوه أن يعبر به من العقلانية المحضة إلى العقلانية التي تقبل عمل الإيمان0
ألكسندروس : ياأبي إن صورة المرأة السريانية زوجة سقراط وإبنيها فاليريوس وفاريانوس لا تفارق ذهني0
البابا بطرس : كم هم سعداء هؤلاء الشهداء في سماء المجد مع أمنا العذراء مريم وأرواح الشهداء والقديسين0
ميناس : سمعت عن زوجة سقراط وولديها 00 كنت أود أن أعرف شيئاً عن هؤلاء الشهداء الأطهار0
وأمام إنشغالات البابا التي لا تنقطع ، قال لتلميذه :
ياليتك ياإرشيلاوس تحكي قصة هؤلاء الشهداء لميناس وديمتري ، فأنت كنت معايناً الأحداث منذ البداية 00
وبارك البابا الأصدقاء وإنصرف إلى مسئولياته الجسيمة في هذه الأيام العصيبة0
وفي ركن من القلاية البطريركية أكمل الأصدقاء جلستهم الرائعة ، وكان على التلميذ أن يؤدي الواجب المكلَّف به من قِبل معلمه ، فجلس يحكي لميناس وديمتري ما كان من قصة المرأة السريانية ، بينما إنشغل ألكسندروس في بعض شئون الخدمة ( ولك ياصديقي أن تتأمل في هذه الخدمة الفردية التي كانت تشغل ذهن قداسة البابا )0
أرشيلاوس : في الصباح الباكر يوم أحد التناصير منذ نحو شهر أو أكثر جاءت إمرأة شابة سريانية معها طفلين جميلين ، وأخبرتني أنها جاءت من أنطاكية وتود لقاء البابا ، وعندما سألتها عن سبب اللقاء ، قالت : أريد من قداسة البابا أن يعمد طفليَّ ، فسألها عما إذا كان لها طلبات أخرى ، فأجابت بالنفي ، فطلبت منها الإنتظار ، فإن قداسة البابا سيعمد اليوم عدداً كبيراً من الأطفال في هذا الصباح المبارك ، وأخبرتها بأنها يمكن تقديم طفليها مع بقية الأطفال لتعميدهما0
وجاء ” قداسة البابا بطرس ” مبكراً إلى هذه الكاتدرائية ، كاتدرائية العذراء مريم ذات الألف عمود ، وإستقبله الآباء الكهنة مع الشمامسة بالألحان ، فسجد قداسته بمهابة أمام الهيكل ثم إتجه نحو جرن لمعمودية في الجهة الشمالية الغربية من الكنيسة ، وبدأ يصلي على مياه المعمودية يستدعي روح الله القدوس ليقدّسها ويمنحها قوة الولادة الجديدة ، ولفت نظره إبني المرأة السريانية فهما في نحو الرابعة والخامسة من عمرهما ، وهمستُ في أذن قداسة البابا أخبره بأن أمهما جاءت من أنطاكية لعمادهما ، وصلى قداسة البابا صلاة التحليل للأمهات بما فيهن المرأة السريانية :
” ياسيدنا نطلب ونتضرع إلى صلاحك عن إمائك هؤلاء اللاتي حفظن ناموسك ، وأكملن وصاياك ، وإشتهين أن يدخلن إلى موضع قدسك ، ويسجدن أمام هيكل قدسك ، مشتاقات إلى التناول من أسرارك المحيية 0 نسأل ونطلب إليك أيها الصالح محب البشر 0 بارك عبداتك وحاللهن وطهرهن 00 “
وخلعت الأمهات ملابس أطفالهن ، وبدأ البابا يدهن كل منهم بزيت العظة :
” أدهنك يافاليريوس باسم الآب والإبن والروح القدس الإله الواحد0 زيت عظه لفاليروس في كنيسة الله الواحدة المقدَّسة الجامعة الرسولية آمين “0
ثم بدأ قداسة البابا يدهن قلبه ويديه وهو يصلي :
” هذا الزيت يبطل كل مقاومة المضاد آمين “0
والصلوات تتصاعد من الإكليروس والشعب 00 صلوات نقية حارة وقوية ، ولاسيما من مئات الأشخاص من أسر الشهداء الأبطال الذين لم يقدر الموت على أن يفصل أحد منهم عن الكنيسة 00 الكنيسة أم الشهداء أم ولود 00 إنها سماء ، وما أجملها من سماء !! 00 عشرات من الأطفال المسيحيين ، وعشرات من الرجال الموعوظين والسيدات الموعوظات الذين تركوا عبادة الأوثان ، وقبلوا الإيمان المسيحي ، اليوم ينالون الصبغة المقدَّسة ، وينضمون لشعب الله المقدَّس ، وهوذا لحظات وتسجل أسماؤهم في سجل الملكوت ، ونظرتُ للمرأة السريانية فإذ وجهها يفيض بالتهليل والحبور وقلبها يرقص فرحاً وتنصت بمخافة للصلوات المقدَّسة أثناء الدهن بزيت العظه :
” أنت دعوت عبيدك بإسمك القدوس المبارك0 أكتب أسماؤهم في كتابك وأحسبهم مع شعبك وخائفيك 00 أنت الذي دعوت عبيدك هؤلاء الداخلين من الظلمة إلى النور ، ومن الموت إلى الحياة ، ومن الضلالة إلى معرفة الحق ، ومن عبادة الأوثان إلى معرفتك ياالله الحقيقي 00 “
ووقفت الأمهات يحملن أطفالهن على أياديهن اليسرى يتجهن للغرب ، ويتبعهن الرجال الموعوظين والسيدات الموعوظات يرفعن أيضاً أياديهن اليسرى ، وكلهم يجحدون الشيطان ويرددون وراء قداسة البابا :
” أجحدك أيها الشيطان 00 وكل أعمالك النجسة 00 وكل جنودك الشريرة 00 وكل شياطينك الرديئة 00 وكل قوتك 00 وكل عبادتك المرذولة 00 وكل حيلك الرديئة والمضلة 00 وكل جيشك 00 وكل سلطانك 00 وكل بقية نفاقك 00 أجحدك 00 أجحدك 00 أجحدك “
ونفخ ” قداسة البابا ” في وجه كل واحد منهم ثلاث مرات وهو يقول :
” أخرج أيها الروح النجس “
ثم إتجهت الأمهات حاملات أطفالهن للشرق يرفعن أيديهن اليمنى ، ويعترفون الإعتراف الحسن ، ويرددون وراء قداسة البابا بطرس :
” أعترف لك أيها المسيح إلهي 00 وبكل نواميسك المخلصة 00 وكل خدمتك المحيية 00 وكل أعمالك المعطية الحياة 00 أؤمن بإله واحد الله الآب ضابط الكل 00 وإبنه الوحيد يسوع المسيح ربنا 00 والروح القدس المحيي 00 وقيامة الجسد 00 والكنيسة الواحدة الوحيدة المقدَّسة الجامعة الرسولية آمين “
وأخذ البابا يسأل كل أم : ” هل أمنتِ على هذا الطفل ؟ “
ويسأل كل موعوظ ، وكل موعوظة : ” هل آمنت ” 00
وتأتي الإجابة ” آمنتُ “0
وأمسك قداسة البابا بزيت الغاليلاون وأخذ يرسم قلب وذراعي كل طفل قائلاً :
” أدهنك يافاريانوس بدهن الفرح ، مضاداً لكل أفعال المضاد لتُغرَس في شجرة الزيتون اللذيذة ، كنيسة الله المقدَّسة “0
وبدأ قداسة البابا يتابع الصلوات وقرأ الشمامسة الرسائل البولس والكاثوليكون والإبركسيس ورتلوا المزمور والإنجيل ، وبدأ قداس المعمودية ، ونفخ البابا في ماء الحميم ثلاث مرات قائلاً :
” قدس هذا الماء وهذا الزيت ليكونا لحميم الميلاد الجديد0 آمين 00 حياة أبدية 0 آمين 00 لباس غير فاسد0 آمين 00 لأن إبنك الوحيد ربنا يسوع المسيح الذي نزل إلى الأردن وطهره شهد قائلاً : إن لم يولد أحد من الماء والروح لا يستطيع أن يدخل ملكوت الله0 وأيضاً أمر تلاميذه القديسين ورسله الأطهار قائلاً : أذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم 00 إلخ “0
وجاء في الصلوات أحداث عبور بني إسرائيل إلى البحر الأحمر ، وتفجير الماء من صخرة صماء ، وذبيحة إيليا ، وشفاء نعمان السرياني بنزوله في نهر الأردن0 وإنتهى قداس المعمودية بالتسبيح بالمزمور150 00
لقد أطال ” أرشيلاوس ” في الحديث علـى طقس المعمودية عـن قصد ، وهو تشويق ” ديمتري ” لليوم الذي سيُعمد فيه ، وليكن متفهماً كل خطوة ستتم في الطقس ، ثم أكمل ” أرشيلاوس ” حديثه قائلاً :
وبدأ ” قداسة البابا بطرس ” في تعميد الأطفال ، فأمسك بفاليريوس وإذ بأمر عجيب يحدث ، لم يحدث من قبل ، ولا أظن أنه سيحدث فيما بعد 00 لقد إنثنيتا رجلي فاليريوس ، ولم تنفذ قدماه الصغيرتان في الماء ، لأن الماء صار مثل الثلج ، ووقفنا جميعاً مشدوهين ، وقداسة البابا بفطنة ترك فاليريوس وأخذ طفل آخر وغطسه في الماء ، فإذ بالماء ينحل ويعود إلى طبيعته الأولى ، ثم أمسك بفاريانوس ليغطسه ، وإذ بالماء يصير مصمداً كالثلج ، فتركه وأمسك بطفلة أخرى فعمدها 00 فأدرك أن هناك سر تخفيه هذه المرأة السريانية ، فطلب منها أن تنتظره بعد القداس0
وبعد إنتهاء صلوات القداس الإلهي ، وتناول المعمدين الجدد مع بقية الشعب من الأسرار المقدَّسة ، ولم تجرؤ هذه المرأة السريانية على الإقتراب من الأسرار المقدَّسة لا هي ولا إبنيها فاليريوس وفاريانوس ، وزفَّ الشمامسة المعمدين وإرتسمت البسمة على كنيسـة متألمة جريحة0 ثم إستدعى البابا هذه السيدة وسألها : ” ما هي حكايتك ياإبنتي ؟ أشعر أن هناك سراً وراء قصتك “0
أما هي فسجدت أمامه بمهابة وقالت : سامحني ياسيدي وحاللني 00 أنا إمرأة مسيحية ، وزوجي سقراط يعمل في البلاط الملكي 00
بالرغم من أنه كان صديقاً للشهيد العظيم أبادير وإيرائي أخته ، إلاَّ أنه ضعف وأنكر الإيمان 00 أردت أن أعمد طفليَّ في أنطاكية فلم أتمكن بسبب الإضطهاد الشديد الذي يسود مدينتنا 00 طلبت من زوجي أن نأتي إلى الإسكندرية فأخبرني أن للملك عيون في كل مكان 00 وفي أحد الأيام أخذت طفليَّ وإتجهت إلى شاطئ البحر ، لا أعرف ماذا أفعل ، ولا أين وجهتي ، فقط كنت أصلي وأطلب من إلهي أن يرشدني ، وإذ ترامى إلى أذاني أن هناك مركباً ستقلع حالاً إلى الإسكندرية ، وعلى الفور إستأذنت ربانها ودفعت أجرتي وإستقليت المركب مع طفليَّ دون أن أخبر أحداً 0
وعندما دخلت السفينة للإعماق وقطعت مسافات طويلة ، وإذ بنوء قوي وهيجان عظيم يحدث ، وإذ المركب تتأرجح وكأنها لعبة صغيرة 00
إحتضنت إبنيَّ وصرت في هلع عظيم وصرخت :
” ياإلهي العارف بأعماق قلبي 00 أنت تعلم أني لا أهاب ولا أرهب الموت ، لكنني أرتعب من أجل إبني ” فاليريوس ” و ” فاريانوس ” لأنهما لم ينالا العماد بعد00 هوذا اليمُّ يبتلعنا ولجج البحر تغطينا 00 ياإلهي أنت تعلم أنني من أجلهما تركت زوجي وبيتي وبلدي 00 فهلا يهلكان ؟! 00 أرجوك أرشدني ماذا أفعل “0
وإذ بي آخذ طفليَّ وأغطسهما في الماء ثلاث مرات باسم الثالوث القدوس ، وإذ بي أجرح ثديي وأرشم بدمي ولديَّ 00 وإذ بثورة الأمواج تهدأ ، ويكف البحر عن هيجانه ، وعاد للجو صفائه وجماله ، وسارت السفينة في سلام0 وفي اليوم الثالث من إبحارنا لمحنا ألسنة اللهب تتصاعد من الفنار كشمعة مضيئة في حجرة مظلمة تدعونا إلى النور ، ورويداً رويداً بدأ يتكشف لنا الفنار العظيم ، ورويداً رويداً مع أول ضوء الفجر ظهرت أبنية الإسكندرية وكأنها علب صغيرة تكبر وتتضح معالمها كلما إقتربنا منها ، ورويداً رويداً دخلتْ السفينة إلى الميناء ، فتركتها سريعاً وجئتُ إلى هذه الكنيسة0
فقال ” قداسة البابا بطرس ” : ليتشدد قلبك ياإبنتي 00 لا تخافي فإن الرب معك 00 في الوقت الذي جرحتِ ثديكِ ورشمتي إبنيك بدمك ، فإن الله الكلمة المتجسد صلَّب بيده الإلهيَّة على ولديك وهو الذي عمدهما 00 حقاً ياإبنتي أن المعمودية واحدة ، وقد أحتسبت السماء معموديتك لإبنيكِ في وقت الخطر صحيحة ، فهكذا علمنا الإنجيل وعلمتنا الكنيسة ” رب واحد0 إيمان واحد 0 معمودية واحدة ” ( أف 4 : 5 )0
فـي جرن المعمودية زي الحجر صارت المية
الصبغة واحدة بإيمان مثال صليب الديـــان
وأمسك ” قداسة البابا بطرس ” بقارورة زيت الميرون المقدَّس ليتمم سر التثبيت لفاليريوس وفاريانوس ، وإذ بيد البابا تستضئ بنور سماوي ، فإن حمامة نورانية ، أو قل أن النور إتخذ شكل حمامة ظهرت أعلى قارورة الميرون 00 حقاً إن سر الميرون هو سر حلول الروح القدس داخل الإنسان المولود ولادة جديدة من الماء والروح ، وقال ” قداسة البابا ” للمرأة السريانية :
” إن ” فاليريوس ” و ” فاريانوس ” سيكون لهما شأناً عظيماً ومستقبلاً باهراً “
فقالت المرأة المباركة : ” بصلواتك ياسيدنا “0
وأردف ” أرشيلاوس ” قائلاً : ” وفعلاً تحققت نبؤة ” قداسة البابا بطرس ” إذ صار لإبني سقراط وأمهما شأناً عظيماً ومستقبلاً باهراً في ملكوت السموات 00 كيف ؟ 00 هذا ما سنراه بعد قليل0
وبعد أن رشم ” قداسة البابا بطرس ” الأخين ، كل منهما 36 رشمة ، ثمانية رشومات للرأس ، وفتحتي الأنف ، والفم ، والعينين ، والأذنين ، وهو يصلي : ” باسم الآب والإبن والروح القدس مسحة نعمة الروح القدس آمين ” ، ثم أربعة رشومات للقلب والسرة والظهر وهو يصلي : ” مسحة عربون لملكوت السموات آمين ” ، ثم ستة رشومات لكل يد ، وهو يصلي : ” دهن شركة الحياة الأبدية غير المائتة آمين 00 مسحة مقدَّسة للمسيح إلهنا ، وخاتم لا ينحل آمين ” ، وأخيراً ستة رشومات لكل رجل ، وهو يصلي : ” كمال نعمة الروح القدس ، وزرع الإيمان والحق آمين 00 أدهنك يافاليريوس بدهن مقدَّس باسم الآب والإبن والروح القدس آمين “0
ثم وضع ” قداسة البابا ” يده على رأسيهما ، وهو يصلي : ” تكونان مباركان ببركات السمائيين ، وبركات الملائكة ، يباركما الرب يسوع ” ونفخ في وجهيهما : ” إقبلا الروح القدس ، وكونا إناءً طاهراً من قبل يسوع المسيح ربنا ” 0 ثم ألبس قداسة البابا كل منهما زناراً ( شريط أحمر ) مثال الصليب ، ووضع على رأس كل منهما إكليلاً ، فلا يوجد إكليل بدون صليب ، ولا صليب بدون إكليل0
وأكمل ” قداسة البابا بطرس ” الصلوات :
” بالمجد والكرامة كللهما 00 الآب يبارك ، والإبن يكلل 00 والروح القدس يقدس 00 إقبلا يافاليريوس وفاريانوس الروح القدس ، يامن نلت الصبغة المقدَّسة 00 إقبلا يافاليريوس وفاريانوس روح الله الذي يملأك من المسرة 00 إقبلا يافاليريوس وفاريانوس الروح المعزي والبركة السمائية من قبل مسحة الميرون المقدس أيها الطفل المبارك 00 لقد صرتما يافاليريوس وفاريانوس مسكناً للروح القدس ” وعقب كل مقطع كان الشمامسة يرتلون : ” أكسيوس 00 أكسيوس 00 أكسيوس “0
ثم أوصى ” قداسة البابا ” المرأة السريانية :
” فالآن 00 إعلمي أنك تسلمتي ولديكِ من المعمودية المقدَّسة الطاهرة الروحانية 00 إجتهدي في تعليمهما الكتب المقدَّسة وملازمة الكنيسة باكر وعشية ، وصومي يومي الأربعاء والجمعة والأربعين المقدَّسة وكل الأصوام ، ولا تمكنيهما من المضي إلى الأماكن غيـر المرضيـة كي يحرسهما الرب من التجارب الشيطانية 0 إزرعي فيهما الخصال الجميلة 00 إزرعي فيهما البر والتسبيح 00 إزرعي فيهما الطهارة 00 إزرعي فيهما الطاعة والمحبة والقداسة 00 إزرعي فيهما الرحمة والصدقة والعدل 00 إزرعي فيهما التقوى والصبر والصلاح 00 إزرعي فيهما الصدق وكل عمـل صالح يرضي الله به0 لكي بهذا تحيا نفوسكم ويحيا إبنيكِ “0
ثم أكمل ” أرشيلاوس ” حديثه : وبعد ذلك وضع قداسة البابا ميمراً عن مراحم الله التي تتنازل لمستوى الإنسان ، وبدأ الميمر بقوله : ” أن الله هو الذي يُنزل رأفته على الناس 00 “0
وأمضت هذه المرأة السريانية وطفليها عدة أيام في ضيافة قداسة البابا ، فتذوَّقوا الأبوة والمحبة الغامرة في شخص قداسة البابا بطرس ، فقد أعطاهم من رعايته وعنايته ووقته ما أشبع قلوبهم العطشى ، وسمعت المرأة السريانية الكثير والكثير من قصص الشهداء الأبطال المعاصرين ، فإشتاقت لإكليل الشهادة ، وأخذت تتصوَّر نفسها مع طفليها لو أن الله قبلهم وحسبهم من مصاف الشهداء 00 فكم ستكون سعادتهم !! 00 وخلال هذه الفترة صارت صداقة قوية بيـن أخـي ” ألكسنـدروس ” وبيـن ” فاليريوس ” و ” فاريانوس ” ، فالحقيقة أن عقليهما أكبر بكثير من عمريهما 00
وبعد عودة هذه المرأة وطفليها إلى أنطاكية حدث أمر مرعب أدمى قلوبنا 00 لقد ظل أخي ” ألكسندروس ” أياماً تفيض دموعه بلا توقف 00 فقد سمعنا أن سقراط الرجل قاسي القلب ، زوج المرأة السريانية عندما عاد ذات يوم إلى بيته فوجد زوجته وإبنيه قد عادوا من السفر ، أطلق ضحكته الساخرة ، وصاح في زوجته : أين كنتِ ياسيدة نساء أنطاكية ؟ 00 ولم ينتظر إجابة لأنه يعلم أين كانت ؟ ولماذا ؟ 00 صفعها بكل قوته ، فاختل توازنها من هذه الصفعة الشيطانية ، ولكنها إستطاعت أن تدير خدها الآخر ، فصرخ وكأن به مس من الشيطان : أتريدين أن تحرقيني بتنفيذ وصية إلهك ؟!
وترك سقراط بيته سريعاً وهرول نحو قصر الملك ، وشكى للملك من زوجته ، وسريعاً ما أحضرها الجند لتمتثل أمام الملك0
الملك : أيتها المرأة المستحقة الموت 00 لماذا تركتِ زوجك وسعيتِ إلى الإسكندرية ، وزنيتِ مع المسيحيين ؟
الزوجة : إن المسحيين إناس أطهار قديسون لا يزنون ولا يعبدون أوثاناً ، بل أنهم لا ينظرون مجرد نظرة شريرة0
الملك : ولماذا لا تزعنين لزوجك ؟! 00 ألم يوصيكِ إلهكِ بالخضوع له وطاعته ؟
الزوجة : إنني أطيع زوجي فيما لا يخالف شريعة إلهي ، لأنه ” ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس “0
الملك : إننـي أتعجب 00 كيف تعبدون رجلاً ضعيفاً صُلب عرياناً ؟
الزوجة : إنه ليس مجرد رجل ، إنما هو الله الخالق العظيم الذي تجسَّد وتأنس من أجل خلاصنا من الموت الأبدي الذي تسلط علينا 00 وإن كان صُلب عرياناً فلكيما يكسونا ، وإن كان صُلب ومات وقُبر ، فإنه إنتصر على الموت وقام من بين الأموات0
ودار الجدل بين الملك وهذه المرأة الفاضلة المباركة التي أظهرت شجاعة فائقة ، فشعر بضعف حجته ، فأصدر أمره القاسي : ” لتُحرق هي وإبنيها “0
وتنفست الأم القديسة الصعداء وكأنها وصلت إلى مبتغاها الذي تصبو إليه ، وإستضاء وجهها بنور سماوي رائع0
وفي ساحة الإستشهاد كان إستعلان شجاعة الشجعان ، إذ شد الجنود زراعي الأم خلف ظهرها ، وربطوا إبنيها على بطنها ووضعوا عليهما الحطب والأخشاب0
فاليريوس : أماه 00 أماه 00 أنظري 00 هوذا السماء مفتوحة 00 ما أكثر الجنود القادمين إلينا من العلاء 00
الأم : إنهم جيوش الملائكة والقديسين 00 إنها المعونة السماوية التي حدثنا عنها من قبل الأخ ” ألكسندروس “0
فاريانوس : ومن هذه الملكة المنيرة التي في وسطهم ياإماه ؟
الأم : السلام لكِ ياعذراء 0 السلام لك ياأم النور0 إطلبي من إبنك ليغفر لنا خطايانا ويقبلنا إليه في ملكوته0
وسريعاً ما أشعل أحد الجنود النيران فارتفعت ألسنة اللهب عالية ، فالوقود ليس مجرد حطب وأخشاب ، إنما أجساد بشرية0
وسريعاً ما أسلم الأبطال أرواحهم ، وسُمع في الآفاق صوت شجي لموسيقى سمائية 00 إنها تسابيح الملائكة التي حملت أرواح الشهداء الأبطال نحو دهور النور 00 بركة هؤلاء الشهداء تكون معنا0
وهنا جاء ” ألكسندروس ” وإذ أدرك أنهم كانوا يتحدثون عن ” فاليريوس ” و ” فاريانوس ” وأمهما فاضت عيناه بالدموع من جديد0
وتنهد ” ديمتري ” قائلاً : كثيرون ينالون أكاليل الشهادة ، وأنا أشتهي المعمودية ولا أجدها !!
أرشيلاوس : المعمودية قريبة منك جداً ياديمتري 00 ثق أنه في الوقت المناسب ستصطبغ بالصبغة المقدَّسة0
ميناس : هل سمعتم عن إصرار قداسة البابا على عدم الإستجابة لمطالب الشعب ؟
ألكسندروس : نعم 00 دائماً ترى بابانا الحبيب جالساً على درجات كرسي مارمرقس ، وعندما صاح الشعب : ” أجلس على العرش الذي رُسِمت عليه يارئيس الأساقفة ” 00 أومأ للشعب فعاد للهدوء ، وبعد إنتهاء الخدمة عاتب ” قداسة البابا بطرس ” الآباء الكهنة :
” أما تخجلون أنكم تشتركون مع الشعب في صرخاتهم توبخونني ؟!
ومع هذا ، فإنني أعلم أن مشاعركم لم تصدر من عاطفة الزهو المفسد ، إنما من ينابيع الحب الخالص ، لذلك أكشف لكم سر هذا الأمر 00
إنني كلما فكرت في الإقتراب من الكرسي أرى قوة الله حالة على هذا العرش ببهاء عظيم ، فتنتابني مشاعر الفرح والخوف ، وأدرك أنني غير مستحق على الإطلاق للجلوس على هذا الكرسي ، ولولا تخوفي من عثرة الشعب فإنني بلاشك ما كنت أجسر على الجلوس على سلم الكرسي نفسه “