تتويج البابا ف8 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
تتويج البابا ف8 - كتاب البحار المغامر - حلمي القمص يعقوب
تتويج البابا ف8 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل الثامن : تتويج البابا
شيعت الإسكندرية باباها العظيم ” الأنبا ثاؤنا ” ، الذي ظل حيَّاً في قلوب أولاده ، كما تعلَّقت كل عيون الشعب بتلميذه النجيب قدس ” أبونا بطرس ” ، فهو باباهم الذي سيجلس على عرش مارمرقس بتصريح رسمـي من رب المجد عريس الكنيسة ، وكان ” أبونا بطرس ” يناجي في صلواته ، ولاسيما في القداس الإلهي ، روح أبيه الروحي ومعلمه ومرشده الأنبا ثاؤنا ، وبلاشك أن المشاعر متبادلة ، فلابد أن البابا الذي سكن فردوس النعيم وصار قريباً من العرش الإلهي لا يكف عن الصلاة من أجل كل أولاده ، ولاسيما القس بطرس ، المزمع أن يعبر بالكنيسة أشد العصور ظلمةً وظلماً وإضطهاداً وتعسفاً ودماءً وأشلاءً 00 هذه هي الكنيسة المقدَّسة ، فهي كنيسة فوق الزمان 00 المجاهدون يصلون من أجل المنتصرين ، والمنتصرون الذين بلغوا سماء المجد يتشفعون من أجل الأحياء على الأرض ، وهؤلاء وأولئك يصلون من أجل الآتين بعدنا الذين لم يولدوا بعد0
ومع فجر اليوم الأول من أمشير سنة 302م بدأت صلوات التسبحة في كاتدرائية السيدة العذراء مريم بالمدينة العظمى المحبة لله الإسكندرية ، وبدأ الأساقفة الذين توافدوا منذ الأمس وأول أمس يتوافدون من سكناتهم ، وكذلك الآباء الكهنة من الإسكندرية وخارجها ، كما حضر أساقفة أورشليم وأنطاكية وقبرص ، والكل يشكر الله الذي أظهـر إهتمامـه بكنيسته وأعلـن إرادته في إختيار ” أبونا بطرس ” ، فأراح الجميع من مسئولية الإختيار والتفضيل 00 وبعد أن تختار السماء من يستطيع الإعتراض ؟!0 لم تكفِ كاتدرائية الألف عمود على إستيعاب الوافدين من الأكليروس والشعب ، فإزدحمت الشوارع المحيطة بها ، بل أن الإسكندرية قد إرتجت بهذا التجمع الضخم والحشد الهائل ، وتساءل الناس : ماذا يحدث اليوم ؟! 00 وقال أحد الحاسدين : ما بال المسيحيون يخرجون من جحورهم اليوم ؟!
وبدأت صلوات التكريس للبابا الجديد ” بطرس بطريرك الكرازة المرقسية وبينتابوليس ” ( الخمس مدن الغربية ) وإرتفعت الصلوات والإبتهالات من الآلاف من أجل البابا الجديد ، ليجعل الله عهده عهد بركة وسلام ، مثلما كان عهد سلفه البابا ثاؤنا ، ورغم طول الصلوات ومرور الساعات فإن أحداً لم يمل ولم يكل ، ولم ينصرف أحد 0
ومما زاد فرحـة الشعب أن أول عمل قام به ” البابا بطرس ” أنــه وضـع اليد على تلميذيه ، فسـام ” أرشي ” دياكـون باســم ” أرشيلاوس ” وسـام ” إسكنـدر ” دياكون باسم ” ألكسندروس ” ، والدياكونية ( الشماسة ) هي أولى درجات الكهنوت الثلاث ( الدياكونية والقسيسية والأسقفية )0
وإنتهت الصلوات بزفة البابا بطرس الأول ، فطاف الأساقفة والكهنة أرجاء الكنيسة يحملون المجامر ومعهم الشمامسة يحملون الصلبان ، وإستراحت روح أبينا الأنبا ثاؤنا عندما أبصر إبنه الذي رباه وتلمذه قد تسلم البستان ليرويه بعرقه ودمه ، وعمت الفرصة أرجاء الكــرازة المرقسيــة بالبابــا الجديد0
أما الشماسان المكرسان ” أرشيلاوس ” و ” الكسندروس ” فقد زادا من طاعتهما لأبيهما الروحي الذي إعتلى السدة المرقسية ، وصارا يبذلان كل جهد في خدمتهما ، وقداسة البابا بطرس من جانبه إختصهما برعايته ومحبته ولم يبخل عليهما بشئ من خبراته الروحية ، وهو لا يدري أنه يتلمذ البطريرك القادم وبعد القادم ، وهكذا تستمر حياة التلمذة في كنيستنا المقدَّسة من جيل إلى جيل وإلى دهر الدهور أمين0
ولمع في سماء الإسكندرية نجما جديداً ، وهو ” أريوس ” الذي وُلِـد سنـة 270م وعاش فـي ليبيا ، وكان قد تتلمذ على يد ” لوكيانوس ” الأنطاكي الذي تأثر بآراء ” بولس الساموساطي ” الذي وُلِد في ” سيمساط ” وهي مدينة صغيرة ما بين النهرين ، وكان بولس مهموماً بجمع المال والغنى ، وتمكن من الوصول إلى الكرسي الأنطاكي ، وعندما كان يسير هذا الأسقف كان يسبقه مائة خادم ويلحقه مائة آخرون ، وكان يصطحب معه إمرأتين جميلتين تصحبانه أينما توجه فيقضي معهما أكثر أوقاته ، وبدَّل ترانيم الكنيسة بمدائح لشخصه ، وكان يهين ويوبخ من لا يصفق له في عظاته ، وكلفته الملكة ” زنوبيا ” ملكة تدمر بتحصيل الخراج ، فتولى السلطة المدنية بجانب الدينية ، وأعدَّ لنفسه محكمة وعرشاً مرتفعاً ، وعند دخوله للمحكمة كان يضرب الأرض بقدمه ويضرب بيده على فخذه ، ونادى بأن السيد المسيح وُلِد إنساناً عادياً ممتلأ قوة إلهيَّة ، ثم حل فيه كلمة الله ، ولهذا دُعي بابن الله لأن الكلمة الإلهي إتحد به ، ولكن عند الصليب فارقه ، وصلب يسوع الإنسان ، وحاول البابا ديونيسيوس رقم (14) أن يثنيه عن رأيه ، وقد شرح له الإيمان المستقيم من خلال رسائل عديدة ، إلاَّ أنه كان متمسكاً برأيه ، وكلما عُقد له مجمع في أنطاكية كان يراوغ ولا يبوح بعقيدته ، فأرسل آباء أنطاكية يشكون للبابا مكسيموس ( رقم 15 ) فعقد مجمعاً سنة 268 م حضره عدد كبير من الأساقفة وحكموا بحرمه ، وتعيّن ” دمنوس ” عوضاً عنه ، ولم يرضخ ” بولس الساموساطي ” لحكم المجمع مستقوياً بقوة تدمر ، فرفع الأساقفة الأمر للإمبراطور الروماني ” أورليان ” فحكم بأن تعطى الأسقفية لمن إنتخبه المجمع0 كما إعتقد ” لوكيانوس ” أن السيد المسيح ليس هو إنساناً كاملاً ولا إلهاً كاملاً ، وتأثر أريوس بآراء هذا وذاك 00 وهكذا تنتقل البدعة كالوباء من شخص إلى آخر وتزيد وتتفرع ، ولكنها تقف عاجزة أمام الإنسان المتضع ، وليس لها سلطان إلاَّ على الإنسان المتكبر المتصلف المعتد برأيه0
وجاء ” أريوس ” إلى الإسكندرية ، وإلتحق بالمدرسة اللاهوتية ، وتبحر في العلوم اللاهوتية ، وتعاطف مع ” ميليتوس ” ( أسقف أسيوط المنشق ) ثم أعلـن ” أريوس ” خضوعه للبابا بطرس ، فقبله البابا بمحبة وسامه شماساً ، ثم قساً ، وعينه واعظاً لفصاحته ، و ” كان أريوس لاهوتياً متعلماً ناسكاً في طبعه ، متقد غيرة ، قوي العزيمة ، له قدرة فائقة على الوعظ ” (48)0
وكان ” البابا بطرس ” المتسربل بالإتضاع لا يستنكف أن يحضر عظات أريوس أو غيره ، فلاحظ قول أريوس ” إبن الله كائن بعد إن لم يكن ” 00 فظن أنه يتكلم عن ناسوت السيد المسيح ، ومن الطبيعي أن هذا القول ينطبق على الناسوت الذي لم يكن له وجود قبل أن يتكون في أحشاء العذراء البتول ، فالإبن أزلي بلاهوته ، أما الناسوت فقد مرَّ وقت لم يكن له وجود ، لأن الناسوت ليس أزلياً ، وإذ بأريوس يركز على الآيات التي تخص الناسوت ويتفادى الآيات التي تتحدث عن لاهوت السيد المسيح ، ومساواته للآب ، ولم يكن لبابا الإسكندرية حارس الإيمان الأمين أن يصمت ، إنما بمحبة وجه نظر أريوس ، ظناً منه أن هذا مجرد فكر عابر غير مقصود ، ولكنه إكتشف أن هذا الفكر غائر وعميق في قلب أريوس وعقله ، والدليل على هـذا أن ” أريوس ” لم يتخلى عن فكره ، ولم يتجاهله إكراماً لخاطر البابا ، بل ظن أنه هو الوحيد الذي يفهم الحقيقة دون الكل ، فظل يؤكد على فكره الخاطئ ، حتى أباح ( أريوس ) بأن السيد المسيح ليس مساوياً لله ، إنما هو إله تابع للرب ، وأن الآب الأزلي غير المحدود القادر على كل شئ هو الذي خلق الإبن ، وقد مرَّ وقت كان فيه الآب ولم يكن فيه الإبن ، وان عبادة الإبن نوع من الشرك والوثنية ، وإن كان الإبن كائن قبل خلق العالم إلاَّ أنه ليس أزلياً ، بل يعتمد على المعونة الإلهيَّة ، لأنه كان قابلاً للسقوط في الخطية ، وأن الإبن هو الذي خلق الروح القدس ، وبدأ أريوس يتحدث ببدع عجيبة غريبة ، وصار لساناً للشيطان0
وعقد ” قداسة البابا بطرس ” مجمعاً بالإسكندرية حضره عدد من الآباء الأساقفة ، وإستدعوا أريوس وأخذوا يناقشونه في آراءه ، ولكن كبرياءه منعه أن يتنازل عن بدعه ، وينصاع للحق ، فانتهى المجمع إلى حرمه ، فحُرِم من الأسرار المقدَّسة ، ومن خدمة الوعظ ، ودخول الكنيسة ، ومما زاد من قسوة أريوس أنه كان يتمتع بشعبية كبيرة نتيجة عظاته الرنانة وفصاحته ، فكثيرون شايعوه مما زاد من قساوة قلبـه ، وشعر أنه في حرب مع الباطل ، فراح يعد العدة لينشر عقيدته من خلال أشعار سهلة يترنم بها أتباعه ، وهي ” الثاليا ” التي سُمِع صداها في شوارع الإسكندرية0
أما ” البابا بطرس ” فأخـذ يحصن شعبه ضد بدع الأريوسية ، وأرسل رسائل لاهوتية إلى شتى أنحاء الكرازة المرقسية فاضحاً فكر أريوس الذي ينكر أزلية الإبن ، موضحاً أن الإبن اللوغوس هو عقل الله الناطق أو نطق الله العاقل ، فقول أريوس أنه مرَّ وقت كان فيه الآب بدون الإبن يساوي القول بأنه مرَّ وقت كان فيه الآب بدون عقل ، وشرح البابا عقيدة الثالوث القدوس وتساوي الأقانيم في الأزلية وفي كل الكمالات الإلهيَّة ، وأن الآب ليس أعظم من الإبن ولا الإبن من دون الآب ، وإن قال الإبن ” أبي أعظم مني ” فقال هذا في حالة كونه متجسداً مهاناً محتقراً من خاصته حتى إدَّعوا عليه أنه مجنون وببعل زبول يخرج الشياطين ، فكون الإبن أخفى لاهوته فهذا أظهره بمظهر أقل من الآب كثيراً ، ولكن بالقيامة أعلن مجد لاهوته ، وأن الإبن لم يتخلى عن لاهوته إنما أخفاه لكيما يرتضي عدو الخير أن يدخل المعركة معه ، فيهزمه بالصليب ويسحقه ويخلص آدم وكل بنيه من قبضته ، وهكذا ظل البابا الأمين حارس الإيمان يحفظ شعبه من الذئاب الأريوسية ، ومع هذا فإن شوكة أريوس ظلت قوية إذ وضع هدفاً نصب عينيه ، وهو أن يصل إلى كرسي مارمرقس0
وبينمـــا طـوت مشاغل الخدمة ” أرشيــلاوس : و ” ألسكندروس ” ، وطوى الدرس والبحث ” ميناس ” ، وطوت الحياة العسكرية ” ديمتري ” ، أصبح من النادر أن يلتقي الأصدقاء معاً ، وبعد نحو عام من حبرية البابا بطرس إنتهز الأصدقاء الفرصة وإلتقوا معاً ، وسريعاً ما دلفوا من الشارع الكانوبي إلى طريق الهيباستاديوم حتى وصلوا إلى مكانهم المفضل على أحد أطراف جزيرة فاروس ، وفي مسيرتهم وجلستهم إنساب الحديث سلساً وتواصلت الأفكار :
أرشيلاوس : ما هي أخبار دراستك وأبحاثك ياأبو التاريخ ؟
ميناس : إنتهيت من دراسة تاريخ الدولة الإغريقية ، كما حدثتكم من قبـل عـن ملكة مصر ” كليوباترا 00 هل كانت وطنية أم أنانية ؟ ” ولم نكمل الحديث 0
أرشيلاوس : نكتنـز الفرصــة اليـوم لتُكمل لنا ياأخ ميناس قضية ” كليوباترا 00 هل كانت وطنية أم أنانية ؟ “0
الكسندروس : دعنا ياأرشيلاوس نطمئن أولاً على أحوال الأخ ديمتري 00 ما هي أخبار بحارنا المغامر ؟
ديمتري : إن أهوال البحر لا تنقطع وخلال العام الماضي وبسبب ثقة القائد الزائدة بي ، شاركت في عدة مهام صعبة لقنص القناصة ، حتى عاد النشاط التجاري ونهضت الصناعات ، ومنذ ثلاثة أسابيع تعرضت لموقف صعب وكان من الممكن أن أعود إليكم بغير طرف من أطرافي ، أو أعود جثماناً ، أو لا أعود على الإطلاق0
الكسندروس : خير ياديمتري 00 حافظك حافظ إسرائيل لا ينعس ولا ينام0
ديمتري : بينما كنا نرسو بالسفينة قرب الشاطئ ، وفي وقت الغروب أراد ” فاليري ” الجندي البدين ، الذي جذبته مياه البحر بصفاءها ونقاءها وهدؤها ، أن يقفز فيها ، ولكنني حذرته لأن هذا المكان تكثر فيه أسماك القرش ، فقال لي أنه إعتاد أن يلعب معها وهي لا تؤذه ، فقلت له : الذي يلعب بالنار تلسعه ، وعلى حين غرة وجدته يقفز في الماء من على سطح السفينة بإرتفاع نحو أربعة أمتار ، ولسوء حظه أنه إصطدم بسمكة قرش ضخمة تفتح فاها فأصيب ساقه بجرح بالغ وبدأت دمائه تلون المياه الصافية ، فأدركت أنه هالك هالك ، فالدم يثير شهية أسماك القرش التي تشتم رائحته من على بُعد عدة كيلومترات ، وفي لحظة وجدت نفسي أقفز بجواره بملابس الجندية ، وأستليت الخنجرين اللذين بجانبيَّ ، فسلمت فاليري أحدهما ، وحاولنا أن ندافع عن أنفسنا ضد أسماك القرش التي تجمعت بأعداد ضخمة حولنا ، وقد ركزت هجومها تجاه ساق فاليري التي تنذف ، وإجتهدنا أن نتعلق بأطواق النجاة التي طوح بها لنا زملائنا ، وهي مربوطة بحبال إلى السفينة ، ونجحت في مساعدة الجندي المصاب ، الذي كان بخنجره يضرب في كل إتجاه ، حتى أمسك بطوق النجاة ، وفي لحظة كانت ساقه بالكامل في جوف سمكة قرش ضخمة ، فالقرش يحمل أكثر من صف من الأسنان القوية التي تأخذ شكل التروس القادرة على تحطيم عظام الإنسان ، وأمسكتُ بالطوق الآخر ، وسحبنا زملاءنا إلى سطح السفينة وأسماك القرش تتحسر إذ فلت منها هذا الصيد الثمين ، فأجرينا الإسعافات السريعة لفاليري من أجل إنقاذ حياته ، الذي إرتسمت عظم الكارثة على وجهه ، وليست الكارثة تتمثل في ساقه الذي بترته سمكة القرش بقدر ما أنه سيفقد عمله ، ولن يحصل على الرعوية الرومانية التي كان يحلم بها ولا على مكافأة نهاية الخدمة الضخمة0
ميناس : لقد حفظك الله ياديمتري حتى تنال الصبغة المقدَّسة0
ديمتري : ما يؤسفني ويؤرقني ويقض مضجعي أنني لم أعتمد إلى الآن ، فإن عقلي يقف حجرة عثرة أمامي 00 دائماً أمي تقول لي : ” إنني دائماً أطلب من المصلوب أن يضمك إلى أحضانه قبل أن يغمض الموت عينيَّ “0
أرشيلاوس : ثق أيها البحار المغامر أن محبتك التي جعلتك تضع نفسك تحت حكم الموت من أجل فاليري لن تضيع هباءً ، والله ليس بظالم حتى ينسى مثل هذا الحب وتلك التضحية 00 هل لك ياميناس أن تحكي لنا عن تاريخ مصرنا الحبيبة مع نهاية الحكم الإغريقي وبداية الحكم الروماني في عصر كليوباترا ؟
ميناس : نبدأ من حيث إنتهينا ، ونوجز القول ، لكن من يذكر ما إنتهينا إليه المرة السابقة ؟
فأجاب الأصدقاء في آن واحد : إغتيال يوليوس ، وعودة كليوباترا إلى مصر0
ميناس : برافو 00 شاطرين ومذاكرين 00 أُغتيل يوليوس قيصر في روما ، وإنسحبت كليوباترا من المشهد بعد أن تبخرت طموحاتها في عرش روما ، وكل مافازت به هو بغضة وكراهية الرومان لها ، وحيث أننا تحدثنا في المرة الماضية في ستة نقاط وهي :
1- نشأة كليوباتـــــرا0 4- يوليوس وحرب الإسكندرية0
2- صراع كليوباترا وشقيقها0 5- كليوباتـــرا ويوليـوس0
3- يوليــوس وبومبـــي 6- إغتيــال الإمبراطــور0
والآن دعونا نستعرض بقية تاريخ مصرنا الحبيبة في تلك الحقبة في أربع نقاط أخرى وهي :
7- كليوباترا وماركس أنطونيوس0 9- معركة أكتيوم البحرية0
8- أنطونيــوس وأكتافيــوس0 10- إنتحــار الحبيبين0
7- كليوباترا وماركس أنطونيوس : بعد قصاص أكتافيوس وأنطونيوس من قتلة يوليوس قيصر ، وإنتصارهما على جيش بروتوس وكاسيوس ، كان ” أنطونيوس ” في طرسوس وأرسل يستدعي كليوباترا لمسألتها عن تقاعسها فـي الإنتقام من قتلة زوجها ، وأيضاً طمعاً في الحصول على الدعـم المصري في حروبه ، وتلقت كليوباترا الرسالة ولم تذهب مع رسل أنطونيوس ، إنما ذهبت بطريقتها الخاصة ، إذ أبحرت بسفينتها الملكية ذات الأشرعة الكتانية بأطرافها الإرجوانية المطرَّزة ، تطل من على سطحها مظلة كليوباترا الذهبية ، والخدام يرفلون حولها يُروّحون عنها بمراوحهم الفاخرة ، ورقائق الذهب التي تغطي مؤخرة السفينة لا تكف عن البريق ، وبينما تنساب السفينة على صفحات المياه الزرقاء ، فإن رائحة وأريج العطور الشذية تفوح منها ، وصوت الموسيقى يصدح ويتجاوب مع أمواج البحـر الرقيقة ونسماته العليلة ، بينما أحاطت بالسفينة مجموعة من أسماك الدلفن التي إستهوتها تلك السفينة وهذه الموسيقى الرائعة ، فراحت تقفز في حركات بهلوانية ترحيباً بملكة مصر : ” كانت السفينة التي أقلتها أشبه شئ بالعرش اللامع 0
تلمع فوق الماء0
وكانت مؤخرتها من الذهب المطروق 0
وقلوعها إرجوانية اللون0
ومضمخة بالروائح العطرية إلى الحد الذي جعل الرياح سكري بالحب معهم0
وكانت المجاديف من الفضة0
وكانت تضرب صفحة الماء على نغمات النادي0
وجعلت الماء الذي ترتطم به يسير خلفها بسرعة أكثر كأنما هام بضرباتها0
أما هي نفسها فإنها تزيد وتعلو عن كل وصف0
كانت تضطجع في سرادقها ، المصنوع من قماش من خيوط الذهب من نسيج تزيد في صورتها على فينوس 00
وعلى الجانبين منها وقف غلمان رشيقون ، بخدودهم غمازات ، وكل منهم يشبه كيوبيد وهو يبتسم0
ومعهم مراوح ذات ألوان متعددة ، كأنما كان نسيمها الذي ترسله يزيد من حمرة الوجنات اللطيفة التي كانت ترطبها0
ثم تعود فتلقى ما عملته ، لتعمله من جديد ” (49)0
وعندما وصلت سفينة كليوباترا إلى طرسوس تقاطر أهل المدينة ليروا عظمة ومجد وغنى ملكة مصر ، ونما إلى علم أنطونيوس ذاك المجد وتلك الأبهة ، وعوضاً أن تمثُل ملكة مصر أما أنطونيوس لتؤدي حساباً ، دعته للصعود إلى السفينة ، فصعد ووقف وأُخذ بجمالها وجلالها ، كما أُخذ من قبله قائده يوليوس قيصر0 كانت ” كليوباترا ” ترتدي ثوباً سندسياً تضيف عليه جمالاً من جمالها ، وشذى عطرها يفوح بقوة أنست أنطونيوس لماذا إستدعاها ؟!0 بل نسى نفسه أمامها ، وبذلك لم تكن ملكة مصر في حاجة إلى رد التهمة عن نفسها ، أو تبرير موقفها ، فترحيب أنطونيوس بها كان وافراً غامراً ، ودعاها لتناول العشاء معه ، أما هي فقد وجهت ذات الدعوة في جدية مع دلال ، ولم يكن لأنطونيوس جرأة الرفض ، فللوقت لبى الدعوة ، وعلى هذه المائدة رأى أنطونيوس ما أدهشه وسحره ، فأواني وأدوات المائدة من ذهب ، صحائف من فضة وذهب تأخذ بالألباب ، ونيران المشاعل وأنوار المصابيح تتلألأ على صفحات مياه البحر الأبيض ، وقد أحضرت كليوباترا معها أعظم طهاة مصر وأفضل الجرسونات ، من شباب وشابات يفيضون حيوية وجمالاً ، فأكل أنطونيوس أشهى المأكولات ، وشرب أفخم النبيذ المريوطي ، وبعد الوليمة أهدت ملكة مصر لأنطونيوس بعض الصحف الذهبية والطنافس ، وإنبهر القائد الروماني من هذا الغنى ، وذاك المجد ، وتلك العظمة التي لم تصل إليها روما بعد0
وفي اليوم التالي كرَّرت ملكة مصر الدعوة والوليمة بصورة أكثر فخامة وفخفخة من الأولى ، وفي اليوم الثالث حلت كليوباترا ضيفة على أنطونيوس في طرسوس ، وشتان بين ولائم ملكة مصر الخيالية ، والموسيقى الفرعونية تصدح فتنتشي النفوس وتصفو الأرواح ، وبين وليمة أنطونيوس التي يعوزها الفن والرقة والغنى 00 هام أنطونيوس حباً بكليوباترا وطمع ليس في غناها وذهبها فقط ، بل طمع أن تكون هي بجملتها له ، وهذا ما خططت له كليوباترا ونجحت فيه إلى حد بعيد ، حتى صار كخاتم في إصبعها ، وكطفل صغير يحبو نحو صدر أمه ، لقد غرق القائد الروماني العنتيل في حـب الملكة التي ملكت كل مشاعره وأحاسيسه ، ووضعته في قلبها وأغلقت عليه ، وأنسته زوجته الرومانية تماماً0
وأمضت ” كليوباترا ” أياماً في طرسوس عادت بعدها إلى الإسكندرية ، وهي توقن أن أنطونيوس سيسعى في أثرها ، وهذا ما حدث إذ أقبل أنطونيوس في شتاء عام 41 ق0م إلى الإسكندرية ، ودخلها كمواطن روماني عادي ، وليس كقنصل يحمل سلطة وسيادة روما ، كما فعل قائده يوليوس قيصر منذ سبع سنوات فثار عليه الشعب السكندري وقاتله ، وعاش ” أنطونيوس ” في القصر الملكي مع كليوباترا أجمل أيام عمره ، وكوَّن الأثنان نادياً باسم ” نادي الزملاء الذين لا يحكمون ” ورتبت ” كليوباترا ” لأنطونيوس جولة لزيارة معالم الإسكندرية ، فصعد إلى الفنار ونظر وإذ كل شئ مكشوف أمامه ، وتجول في الميوزيوم ، ومكتبة الإسكندرية التي ليس لهـا مثيل في العالم كله ، وتعرَّف على أقسام الميوزيوم وعلمائـه ، وذهب إلى معبد السيرابيوم ، والجمنازيوم ، ودار القضاء ، والميناء الغربي والشرقي 00 إلخ ثم رتبت له جولة أخرى في الربوع المصرية فوقف أمام الإهرامات مشدوهاً ، وأمضى ساعات طويلة في زيارة المعابد الفرعونية ، وجال بخاطر ملكة مصر الرحلة النيلية الرائعة التي صاحبت فيها من قبل يوليوس قيصر على نفس السفينة ، فيكاد كل شئ لم يتغير باستثناء تغير الشخصية الرئيسية ، فذهب إمبراطور وأتى إمبراطور ، وهذه هي سُنة الحياة ” مات الملك عاش الملك ” ، وقالت في نفسها : إن كانت الدنيا قد ضنَّت عليَّ بالرجل الذي أحببته وتزوجته وأنجبت منه إبني ” قيصرون ” فأُغتيل بأيدي أثمة ، فهــل تترك لي الدنيا زوجي الجديد أنطونيوس ؟!
ومع كليوباترا نسى القائد الروماني واجباته في الدفاع عن أراضي الإمبراطورية ، بل نسى نفسه ، حتى أنه كان يتنكر مع كليوباترا في زي العامة ، ويطوفان شوارع الإسكندرية ويحتكان بالكتل البشرية التي تموج بها المدينة من جنسيات شتى ، ثم أسَّس الإثنان نادياً آخر باسم ” فيلوباتور ” على مستوى عالٍ من الرفاهية والبذخ ، حتى أن الآنية والكؤوس المستخدمة فيه كانت من فضة وذهب ، وصار النادي عنواناً للغنى الفاحش ، وكانت نتيجة زواج كليوباترا بأنطونيوس توأم ولد وبنت ، وهما ” بطليموس هيليوس ” أي الشمس ، و ” كليوباترا سيلين ” أي القمر0
وكان من السهل على أنطونيوس أن يستولي على مصر ، ويغتصب كنوز البطالمة ، ولكن حب كليوباترا لأنطونيوس أتاح لمصر أن تعيش فترة أخرى كدولة مستقلة ، وظلت المدينة العظمى هي الأولى في العالم من جهة العلم والحضارة والثقافة والفن والتجارة 00 إلخ وأقامت كليوباترا ” معبد قيصريوم ” تكريماً للقائد الرومانـي ماركوس أنطونيوس وإعترافاً بالجميل الذي أسداه لوطنها ، وفرح هو بهذا : ” فأي رجل يستطيع مقاومة إغراء المناداة به إلهاً ، يُعبد في معبد فخم ( قيصريوم ) بُني خصيصاً تكريماً له ؟! كان هذا بعد زواجه منها 00 ” (50) 00 وأستيقظت طموحات كليوباترا في عرش روما مرة ثانية 00 لقد نجحت كليوباترا في أن تجعل من أنطونيوس مواطناً إسكندرياً أكثر منه رومانياً ، وبهذا تكون كليوباترا قد أنقذت مصر مرتين ، الأولى عندما سلبت قلب يوليوس قيصر ، والثانية عندما سلبت عقل ماركوس أنطونيوس ، فهل ستنجح في إنقاذ مصر للمرة الثالثة من مخالب أكتافيوس ، أم ستكون نهايتها المآسوية مع زوجها أنطونيوس ، فيقودها إلى الإنتحار وتسقط مصر في قبضة روما تستنذفها وتمتص دمائها ؟!!
8– أنطونيوس وأكتافيوس : أكتافيوس هو إبن يوليوس قيصر بالتبني ، إشترك مع أنطونيوس في القصاص من قتلة يوليوس ، وإنتصروا على جيشي بروتس وكاسيوس ، ولكن بعد أن لفَّت كليوباترا عقل أنطونيوس صار موضع سخرية أكتافيوس ومجلس الشيوخ والشعب الروماني ، وأُشيع عنه أنه ينوي نقل عاصمة الإمبراطورية من روما إلى الإسكندرية ، وأنه فقد رعويته الرومانية ، ووقفت روما ضد الإسكندرية وأكتافيوس ضد أنطونيوس ، وتدهورت العلاقة بين الصديقين أكتافيوس وأنطونيوس0
وفي سنة 40 ق0م إضطر ” أنطونيوس ” إلى ترك الإسكندرية ليصد غزوات البارثنيين في آسيا الصغرى ، وتدخل بعض العقــلاء فــي الصلــح بين أنطونيوس وأوكتافيوس في ” برينديزيوم ” في نوفمبر سنة 40 ق0م ، وإذ فارقت ” فولفيا ” زوجة أنطونيوس الحياة إنتهى الصلح بزواج أنطونيوس بأوكتافيا شقيقة أوكتافيوس ، وكانت إمرأة رومانية فاضلة رقيقة الطباع ، كثيرة الإحتمال ، بذلت قصارى جهدها لإقرار السلام بين أخيها وزوجها ، وأنجبت لأنطونيوس ” أنطونيا ” وظل أنطونيوس بالقرب منها إلى سنة 37 ق0م نحو ثلاثة سنين ونصف مبتعداً عن كليوباترا ، ولكنه لم يحتمل أكثـر من هذا فأرسل أوكتافيا إلى إيطاليا ، وأرسل يستدعي كليوباترا0
وذهبت ” كليوباترا ” ثانية لأنطونيوس مصطحبة إبنها وإبنتها معها ، فأعلن أنطونيوس زواجه منها ، وإعترف بهيليوس وسيليني أبناء شرعيين له ، ثم أنجب منها إبناً آخر دعته كليوباترا ” بطليموس فلادلفوس الثاني ” وفي سنة 34 ق0م عاد أنطونيوس إلى الإسكندرية وإرتكب خطئين هما :
أولاً : أقام مهرجان إنتصاره على الأرمنيين في الإسكندرية بدلاً من روما ، فتقمص دور الإله ” ديونسيوس ” مزيناً شعره بأكليل من نبات اللبلاب ، مستقلاً مركبة خاصة ، وهو يمسك صولجاناً مقدَّساً : ” لقد حطمت كليوباترا العادة ( الرومانية ) القديمة المقدَّسة التي كانت تقضي بأن الإحتفالات بمواكب النصر الرومانية لا يمكن إقامتها إلاَّ في روما فقط0 وذلك بإقامتها موكب إنتصار رائع لأنطونيوس في الإسكندرية لتخلد ذكرى حملاته الآسيوية ، وقد ركب فيها أنطونيوس عربة ذهبية تجرها جياد بيضاء في لون اللبن يسير من خلفه الملوك أسرى مصفدين في الأغلال ” (51) وأُقتيد في الموكب ملك أرمينيا مقيداً بسلاسل ذهب إلى ” معبد سيرابيس ” حيث جلست ” كليوباترا ” على عرشها الفضي ، وقدم لها أنطونيوس الأسرى تحت أقدامها بما فيهم ملك أرمينيا ، وبعد الموكب أودع الأسرى في السجون ، وأقيمت وليمة ضخمة للإسكندريين حيث وزعت عليهم الأطعمة الفاخرة والأموال0
ثانياً : أقام ” أنطونيوس ” إحتفالاً رسمياً في ساحة الألعاب الرياضية بالإسكندرية ، وقسم حكم البلاد على كليوباترا وأولادها ، فوُضِعت في الإحتفال ستة عروش إثنان منهما من الفضة وسقفهما من الذهب ، وهما أعلى من العروش الأربعة الأخرى ، وخصصا لأنطونيوس وزوجته ، التي منحها لقب ” ملكة الملوك ” وثلاثة لأبنائه من كليوباترا وهم ” بطليموس هيليوس ” البالغ من العمر ست سنوات ، فوهبه والده مُلك أرمينيا ومادي وأراضي الشرق حتى الهند ، و ” كليوباترا سيليني ” وعمرها ست سنوات ، وقد وهبها والدها مُلك القيروان وجزيرة كريت ، و ” بطليموس فيلادلفوس الثاني ” وله من العمر سنتان ، ووهبه والده مُلك سوريا وفينيقيا ، والعرش السادس والأخير خُصص لقيصرون إبن كليوباترا من يوليوس قيصر ، وأشركه أنطونيوس معه في حكم مصر وقبرص ، وإعترف به إبناً شرعياً لقيصر قاصداً نزع الشرعية عن أوكتافيوس إبن قيصر بالتبني ، ودُعيت هذه الهبات بـ ” هبات الإسكندرية ” وكان على كليوباترا دفع رواتب جيش أنطونيوس ، بينما عاش أنطونيوس في رفاهية وبذخ شديد0
9- معركة أكتيوم البحرية : وقف ” السناتو ” ( مجلس الشيوخ ) مع الشعب الروماني خلف أكتافيوس الذي يدافع عن شرف روما ضد أنطونيوس الذي خان وطنه وباع قضيته ، وألقى بنفسه في أحضان إمرأة أجنبية ، أما أنطونيوس فقد دافع عن نفسه بقوله أن كليوباترا لم تعد إمرأة أجنبية بعد أن صارت زوجته الشرعية ، وقد طلَّق أوكتافيا بعد أن خطب أكتافيوس أمام ” السناتو ” مهاجماً أنطونيوس ، ووصف ” بلوتارخوس ” المؤرخ الإغريقي الأصل الروماني التبعية ” كليوباترا ” على أنها المرأة التي لعبت بقلب القائد أنطونيوس فصرفته عن واجباته العسكرية ، وعن زوجته الجميلة أوكتافيا ، ومع ذلك فإنه يعترف بإمكاناتها الجبارة فيصفها بأنها الساحرة ذات الصوت المنغَّم الصادر من آلة موسيقية متعددة الأوتار ، فتجد طريقها في أغوار نفوس الرجال ، وهي المتحدثة بعدة لغات منها المصرية والعربية واليونانية والفارسية والعبرية والحبشية والميدية ، وقلما كانت تحتاج إلى ترجمان بينها وبين قوم من الأمم ” وكان هذا يثير الدهشة لأن الكثيرين من أسلافها الملوك قلما ألموا باللغة المصرية ، وبعضهم نسى اللغة المقدونية ” (52)0
وأعلن ” أوكتافيوس ” الحرب على كليوباترا وهو متيقين أن أنطونيوس سيهب لنجدتها وبذلك يظهر أنه خائن لروما ، ولم يرد أكتافيوس أن يعلن الحرب على أنطونيوس حتى لا يقال أن الجنود الرومان يتقاتلون معاً ، أما ” أنطونيوس ” فقد أرسل إلى مجلس الشيوخ الروماني يعرض تقديم إستقالته بشرط أن يفعل أكتافيوس نفس الشئ ، الأمر الذي بالطبع رفضه أكتافيوس الذي يرفع علم روما ، بل أن أكتافيوس إتجه إلى معبد الربة ” فستا ” وأخرج وصية أنطونيوس مخالفاً بذلك الشرائع الرومانية وأفصح عما فيها من إعتراف أنطونيوس ببنوة قيصرون الشرعية ليوليوس قيصر ، وأنه يرغب أن يُدفن فـي الإسكندرية حتى لو مات في روما ، وإن كان القليلون شكَّكوا في هذه الوصية ، لكن الكثيرين إعتبروا أن أنطونيوس قد جرَّد نفسه من الرعوية الرومانية ، وإرتدى ” أكتافيوس ” الزي الكهنوتي وتبعه أعضاء مجلس السناتو إلى معبد إله الحرب ” مارس ” Mars ، فأطلق السهم الأول إيذاناً ببدء الحرب مع كليوباترا ، أما ” كليوباترا ” فقد حفزت أنطونيوس ليخوض غمار الحرب ضد أكتافيوس ، ومنحته مائتي سفينة ، وألفي طِالن ( عملة نقدية كبيرة ) ووضعت كـل إمكانات مصر تحت أمره ، وشددت من أزره ، بل أصرت على الخروج للحرب معه ، فلم يعد بينها وبين عرش روما من عقبة سوى أكتافيوس0
وفي سنة 32 ق0م وصل أنطونيوس وكليوباترا إلى جزيرة ” ساموس ” اليونانية ، وأقاما مهرجاناً عظيماً لـ ” ديونيسوس ” ثم أبحرا غرباً إلى أثينا ، وفي ربيع سنة 31 ق0م عبر ” أوكتافيوس ” البحر الأدرياني على رأس جيش من المشاة وأسطول قوامه 400 سفينة ، بينما كان جيش أنطونيوس أضخم وأكبر من جهة المشاة والفرسان والسفن ، فقد ضم 70 ألفاً من المشاة ، و 12 ألفاً من الفرسان ، و 500 سفينة ، وعسكرت قوات أنطونيوس وكليوباترا البحرية في خليج وشبه جزيرة ” أكتيوم ” Actium على الساحل الغربي لبلاد اليونان نزولاً على رغبة كليوباترا ، ولم يستمع أنطونيوس لنصيحة قواده الذين أشاروا عليه بالمواجهة البرية التي يبرع فيها ، ولم يستمع أيضاً لبعض قادته بأن يصرف كليوباترا إلى بلادها ، لأن الجنود الرومان مستعدون للحرب عن ملكهم أنطونيوس ، وليس عن ملكة أجنبية ، فلم يشأ أنطونيوس ذلك ، فتركه هؤلاء القادة وإنضموا لخصمه أكتافيوس0
وفي 2 ديسمبر 31 ق0م إحتدمت المعركة ، وإستطاعت قوات أكتافيوس من فرض حصار بحري على قوات أنطونيوس وقطعت الإتصال بينه وبين بلاد اليونان ، فبدأ جنود أنطونيوس يعانون من نقص المؤن وتفشي الأمراض وظهور حركات التمرد ، وفي خضام المعارك ظن أنطونيوس أن سفينة كليوباترا قد أُصيبت أو أُسرت ، فانسحب من ميدان المعركة بقصد إنقاذها ، تاركاً جنوده الأوفياء ، وبذلك ظهر كخائن أمام جنوده الذين ظلوا يحاربون حتى تأكدوا من هروب قائدهم فخارت غزائمهم0 أما ” كليوباترا ” فقد إستطاعت أن تكسر الحصار وأسرعت إلى الإسكندرية يتبعها ستون سفينة ، وكانت تهدف من العودة للإسكندرية إعادة تجميع قواتها وإعادة الكرة ثانية ، وعندما إقتربت من شواطئ الإسكندرية خشت لئلا ينقلب الشعب ضدها إذ دخلت في حرب لا مبرر لها ، فرفعت على مقدمة السفن رايات النصر متظاهرة بأنها إنتصرت في المعركة0 أما سفن أنطونيوس فقد تحطم بعضها وسقط الآخر في الأسر ، ويصف ” فرجيل ” أميـر شعراء اللاتين هذه المعركة فيقول :
” وإندفع الجميع في آن واحد فازبد البحر كله وتمزقت صفحته من شدة المجاذيف ومن المناطق مثلثة الأشواك0
وإلى اليم سعوا حتى لتخال الكيكلاديس ( جزر في البحر الأيجي ) قد أُقتلعت وأخذت تطفو فوق الماء أو تخال شواهق الجبال يناضح بعضها بعضاً0
وبهذه السفن الهائلة أخذ الملاحون يهاجمون المراكب ذات الأبراج0
وينثرون بأيديهم قطع الجوت المشتعلة وحديداً ينطلق طائراً بالقذائف0
وتخضبت حقوق بنتوتوس ( إله البحر ) بدماء مجزرة لم يسبق لها مثيل 0
وفي الوسط كانت الملكة تنادي جحافلها بجلجل وطنها ( آلة موسيقية كان يحملها أتباع إيزيس ) 0
ولم تلتفت بعـد وراءها لتـرى الحيَّتين خلفها ( اللتين لدغتا كليوباترا ) 00
وقد شُوهدت ( الملكة ) نفسها تدعو الرياح وتطلق لها
أشرعتها وتحل – حتى في هذه الآونة – حبالها المتراخية
وقد شحب وجهها وسط المجزرة خوفاً من الموت المرتقب0
هكذا جعلها إله النار منساقة بالأمواج والريح0
لكن قبالتها كان النيل – ذوي المجرى العظيم 0 حزيناً0
ينشر طيات ثيابه ، بل كل رداءه داعياً
المنهزمين إلى حضنه القاتم الزرقة ومياهه الآمنة ” (53)0
أما الشاعر ” هوراتيوس ” فيعبر عن إبتهاج روما بهزيمة كليوباترا الملكة الهوجاء التي كانت تدبر الخراب للإمبراطورية ، واصفاً فرارها من المعركة ، وإنتحارها حتى لا تُعرَض في موكب إنتصار أكتافيوس ، فيقول :
” الآن ينبغي أن نشرب أو ندق الأرض
بأقدام طليقة ( تعبير عن الرقص ) ونعد أرائك
الالهة ( إشارة إلى وضع تماثيل الآلهة أمام مائدة الطعام ) لأفخر المآدب
لقد أزف الوقت ، أيها الرفاق !
فمن قبل كان محرَّماً أن تُحضِر فاخر النبيذ
المعتق تحت الأرض بينما كانت
ملكة هوجاء تدبر الخراب
للكابيتول والدمار للإمبراطورية
مع شرذمة من رجال أنجاس
مدنَّسين بالرذيلة ( أغفل إسم أنطونيوس ) لقد أسكرتها خمر الحظ الحلوة
حتى لم تعد ( كليوباترا ) بقادرة أن تكبح نفسها
عن تمني أي شئ0 غير أن دمار أسطولها كله
بالنيران أطفأ ( أكتافيوس ) ثورة جنونها
ورد قيصر صوابها الذي أطاشته
خمر مريوط إلى واقع الفزع
وطاردها وهي تطلق ساقيها للريح مبتعدة
عن إيطاليا بمجاديفه مثلما يُطارد الباز
حماماً رخصاً أو يطارد الصياد السريع الخطأ
أرنباً يربأ فوق سهول نساليا
المغطاة بالثلوج لكي يقيد بالسلاسل
الوحش الخطير0 غير أنها قد وسعت إلى أن تموت
ميتة نبيلة لم تهلع من نصل السيف مثلما
تهلع النساء ولم تسعَ بأسطولها
السريع إلى شطآن خفية0
بل أنها إجترأت على أن ترمق قصرها النهاري
بعين ملؤها الهدوء0 وأنها لمقدامة أيضاً إذ أمسكت
بالأفاعي الشرسة لكي يُمتص
جسمها بالسم الزعاف
وقد زادها الإصرار على الموت جرأة
فاستنكفت أن تحمل – وهي متجردة من أبهة
الملك – على سفن القساة أن تُساق
في موكب النصر الفاخر0 فهي إمرأة ذات إباء ” (54)0
وتبع ” أنطونيوس ” كليوباترا إلى الإسكندرية ، وقد أُصيب بحالة إحباط وإكتئاب ، فعاش منعزلاً في بيت بناه لنفسه بالقرب من فنار الإسكندرية بمنأى عن كليوباترا ، ولكنه لم يقدر على مقاومة الحنين إليها ، فخرج من عزلته ، وبدأ جولة جديدة من الحفلات مع كليوباترا تحت شعار ” الصحبة التي لا يفرقها الموت ” فقد كان الإثنان يعلمان أن أكتافيوس قادم قادم ، وفي أقدامه الموت0
10- إنتحار الحبيبين : جاء ” أكتافيوس ” إلى مصر من عبر الحدود الشرقية قادماً من سوريا ، وعندما إقترب إلى ميناء عكا أرسلت إليه كليوباترا تعرض تنازلها عن العرش لأحد أبناءها ، وأرسل إليه أنطونيوس رسالة مع إبنه أنتيلوس يعرض عليه إستعداده لإعتزال الحياة العسكرية ، بل وقدم له بعض الأموال ، التي أزادتها كليوباترا ، فاحتفظ أكتافيوس بالمـال ورد الرسل خائبين ، إذ لم يقبل مساعي الصلح هذه 0 وتقدمت مفرزة من رجال أكتافيوس نحو الإسكندرية فخرج أنطونيوس على رأس فرقة من الفرسان محققاً آخر إنتصاراته ، وإذ بأكتافيوس يقترب من الإسكندرية ، وإذ بكليوباترا تدخل إلى مقبرتها الفخمة التي أعدتها لنفسها ومعها كل كنوزها ، والتي يصعب جداً إقتحامها ، وإذ برسالة خاطئة تصل إلى أنطونيوس في أول أغسطس سنة 30 ق0م بإنتحار كليوباترا ، وإذ كان هذا أمراً متوقعاً لم يتقصى أنطونيوس الحقيقة ، إنما طلب من أحد عبيده أن يطعنه ، ولكن العبد طعن نفسه طعنة نافذة فسقط على الأرض غارقاً في دمائه ، فقال أنطونيوس ” إيه يا من هو أشرف مرات أكثر مني !! 00 لقد علمتني ما يجب عليَّ عمله ” وطعن نفسه ، وإذ بالطعنة لم تكن نافذة ، وطلب أن يرى حبيبته ، فحملوه إليها وأدخلوه من إحدى نوافذ المقبرة ، فلفظ أنفاسه الأخيرة بين يديها 00 ” حملوه وهو يعاني سكرات الموت إلى كليوباترا 00 وصحا في قلبها كل حبها القديم له عندما وقعت عليه عيناها وهو يعاني الموت ، فأخذت تقبله وهي تنتحب ، وغطته بثيابها ، ومات أنطونيوس بين ذراعيها ” (55) وشرعت في تحنيط جثمانه0
ووصل ” أكتافيوس ” إلى الإسكندرية ودخلها ظافراً منتصراً بلا أدنى مقاومة ، بل خرجت المدينة بكاملها تعلن طاعتها وولائها له ، فألقى خطاباً باللغة اليونانية ، وأبدى إحترامه للإسكندر الأكبر مؤسس المدينة ، وأمَّن السكندريين على أرواحهم وعلى ممتلكاتهم ، وفعلاً برَّ بوعده ، فلم يسمح لأحد من جنوده بإستباحة المدينة وسلبها ، ومما أراح السكندريون أن الوافد الجديد قدم تقديره للإله ” سيرابيس ” ، وعندما عرضوا عليه جثمان الإسكندر الأكبر لمس موميائه وكان جزء من أنفه مكسور ، وعندما تحمس السكندريون ليروه رفات البطالمة رفض قائلاً : ” كنت أتمنى أن أرى ملوكاً وليس جثثاً ” ، وحقر أكتافيوس من نفوذهم لئلا يقوم أحد يشايعهم بعد موتهم ويستعيد الدجاجة التي تبيض كل يوم بيضة من ذهب0
ولازت ” كليوباترا ” بمقبرتها وتحصنت بها ” وكانت كليوباترا مثل كل فرعون من الفراعنة شيدت ضريحاً ، وكان بناءً مكوَّناً من طابقين فوق ربوة صخرية بالقرب من محراب مغارة إيزيس التي أحبته وكانت تأتي لتصلي فيه منذ أن كانت طفلة 0 وملأت المقبرة السفلى بالكنوز والذهب والأمتعة الثمينة ” (56) ولكن ” أكتافيوس ” إحتـال عليهـا عـن طريق أثنين من أتباعه ، وهما ” بروكوليوس ” و ” كورنيليوس جاللوس ” الذي صار والياً لمصر فيما بعد ، ونقل ” أكتافيوس ” كليوباترا مع كنوزها للقصر الملكي ، ووضعها تحت حراسة مشددة ، وعندما وقفت كليوباترا أمام أكتافيوس كان شعرها متهدلاً من الحزن ، وعينيها فقدت بريقهما ، وإعتلت وجهها صفرة الموت ، وفي لقائهما إلتقت مدينتان روما المنتصرة وإسكندرية المنهزمة ، فنظر إليها ” أكتافيوس ” نظرة كبرياء وتعالي ، لأنه لم يكره إمرأة مثلما كرهها ، فهي التي أضاعت من كان في منزلة أبيه وهو ” يوليوس قيصر ” ، وهي التي هيمنت على صديقه ورفيق كفاحه وزوج شقيقته ” ماركوس أنطونيوس ” ، ولذلك أملى عليها شروطه وأصر أن تذهب معه إلى روما ، وهي فهمت قصده ، فأنه يريد أن يعرضها في شوارع روما وأمام الشعب الروماني كأسيرة ، تلك المدينة التي شاهدت غناها ومجدها وعظمتها أيام يوليوس قيصر ، ورفضت ” كليوباترا ” بإباء وشمم أن تُعرَض أسيرة ذليلة مكبلة بالأغلال كما عرض من قبل يوليوس أختها ” أرسينوي ” ، فاتخذت قرارها بالإنتحار ، وقد إستشعر أكتافيوس هذا فهدَّدها بقتل أولادها إن أقدمت على الإنتحار0
وكانت ” كليوباترا ” قد جهزت نفسها تماماً لهذا المشهد المأساوي ، إذ قررت أن يكون إنتحارها عن طريق لدغة الكوبرا ، فتاج مصر السفلي إعتلته الكوبرا ، وتاجها هي كان يعلوه العقاب رمز مصر السفلى ، والكوبرا رمز مصر العليا ، فالكوبرا في المعتقد الفرعوني هي خادمة ” رع ” إله الشمس ، ولدغتها لا تهب الخلود فقط بل تمنح الألوهة أيضاً ، وبهذا ستصير من أبناء رع 0 كما أن كليوباترا قد أجرت بعض التجارب على المجرمين لتعرف مدى الألم الذي يعاني منه الإنسان عقب لدغة الكوبرا ، وأدركت أن لدغة الثعبان لا يتبعها ألم كبير وإنفعال شديد ، إنما تؤدي إلى إرتخاء العضلات وغياب الإنسان عن وعيه وموته السريع ، فارتضت بهذه الميتة التي تكتب لها الألوهة0
ووضعت ” كليوباترا ” خطتها بحنكة ، ففي 10 أغسطس سنة 30 ق0م وبعد إنتحار أنطونيوس بعشرة أيام ، حمل أحد غلمانها سلة تين إختبأت فيه كوبرا كامنة ، فحملت إحدى الوصيفات السلة ، دون أي إعتراض من جنود أكتافيوس المكلفين بالحراسة المشددة ، بل ربما مد أحدهم يده وإلتقط إحدى ثمار التين وأكلها ، وكتبت ” كليوباترا ” وصيتها أن تُدفن بجوار زوجها أنطونيوس ، وكان المصري القديم قبيل موته يعطي كل تركيزه للإعتراف الذي سيتلوه أمـام المحكمــة الإلهيَّة التــي تضم 42 قاضياً برئاسة ” أوزيريس ” إله العالم السفلي ، ففي هذا الإعتراف يقول الميت :
” لم أشرك بالله ، ولم أقتل ، ولم أأمر بقتل أحد ، ولم أزنِ 0 لم أشتهي زوجة جاري ، لم أدنس نفسي ، لم أكذب ، لم أسرق ، لم أشهد زور 0 لم أملأ قلبي حقداً0 لم أكن سبباً في دموع إنسان ، لم أتسبب في شقاء حيوان ، لم أُعذِب نباتاً بأن نسيت أن أسقه ماء 0 أطعمت الجائع ، رويت العطشان ، كسوت العريان ، كنت عيناً للأعمـى ، ويــداً للمشلول ، ورجلاً للكسيح ، ملأت قلبي بماعت ( الحق والعدل والإستقامة ) 00 ” 0
وردَّدت ” كليوباترا ” هذه الكلمات للمرة الأخيرة ، وهي تعلم جيداً أنها لا تنطبق عليها في كثير من بنودها ، ولكن ما يطمئن قلبها أنها تمثل روح ” إيزيس ” زوجة ” أوزيريس ” 00 فعلآم الخوف ؟! وعلآم الرعب ؟!! 00 لتنام وتسترح لأنها بمجرد أن تغمض عينيها عن هذه الحياة ستجد نفسها في أحضان أوزيريس في جنات وفراديس0
وعرَّت ” كليوباترا ” أعلى يدها اليسرى ، وقبلت لدغة الحيَّة المقدَّسة ، ويصف ” بلوتارخوس ” الذي عاش بين القرنين الأول والثاني الميلادي هذا المشهد فيقول :
” بعد أن ذرفت العبرات ، فإن كليوباترا تنهدت وقبَّلت الجرة التي تحوي رفات أنطونيوس ، وأمرت بأن يعدو لها الحمام0 وبعد أن إستحمت تمددت وتناولت غذاءاً رائعاً0 وعندما وصل رجل من الريف سأله الحراس ماذ أحضر معه ، ففتحه فظهر منه غصون التين وبان أن المحتوى كان عبارة عن سلة مليئة بالتين0 وقد إندهش الحراس من جماله وحجمه ، وإبتسم الرجل ودعاهم ليأخذوا بعضاً منه ، وبهذا قد تبددت شكوكهم وسمحوا له أن يقدم هذه الفاكهة للملكة 0 وبعد أن تناولت كليوباترا عشائها تناولت لوحاً كانت قد خطته قبلاً وقامت بإغلاقه وختمه ودفعت به إلى من يعطيه إلى ” أوكتافيوس قيصر ” وعقب ذلك صرفت كل من كان بحضرتها فيما خلا إمرأتين من خلصائها 00
عندما فضَّ ” أوكتافيوس قيصر ” اللوح المُرسَل إليه وبمجرد أن قرأ رسالة كليوباترا بأنها سوف تُدفن مع ” أنطونيوس ” فقد خمن فوراً ما هي مُقدِمة عليه0 وكان أول ما تبادر إلى فكره هو أن يذهب هو بنفسه كي ينقذ حياتها0 لكنه كبح جماح نفسه وأوفد الرسل ليسرعوا إلى الملكة ويستجلبوا خبر ما أقدمت عليه ، لكن المأساة كانت قد أخذت طريقها بنعومة لتسبق الجميع0 تحرك الرسل بسرعة ووجدوا أن الحرس كانوا لا يزالون غير مدركين لما حدث0 لكن حين فتحوا الأبواب وجدوا ” كليوباترا ” ترقد ميتة فوق أريكة ذهبية مرتدية كامل زيها الملكي0 أما المرأتين فقد كانت أولاهما وهي ” إيراس ” راقدة ميتة عند قدميها 0 بينما ” خارميان ” كانت تترنح وبالكاد قادرة على أن تقيم رأسها 0 وكانت تعيد ضبط التاج الذي كان قد مال عن رأس مليكتها0 عندئذ صاح واحد من الحراس بغضب ” خارميان ” : هل تم كل شئ على خير وجه ؟
فأجابت : نعم ، وبصورة تليق بملكة تنحدر من نسل العديد من الملوك العظماء0
وبمجرد أن أفضت بهذه الكلمات سقطت ميتة بجوار الأريكة ” (57)0
وبإنتحار كليوباترا إنتهى عصر وبدأ عصر جديد ، إنتهى العصر الإغريقي اليوناني وحكم البطالمة ، وبدأ العصر الروماني ، ولم ينفذ أكتافيوس تهديـده بقتـل كل أولاد كليوباترا ، وإكتفى بأخذ ” بطليموس هيليوس ” و ” بطليموس فيلادلفوس ” إلى روما وعرضهما في موكب النصر الـذي أقامه ، ثم أرسلهما مع أختهما ” كليوباترا سيليني ” إلى موريتانيا ( المغرب ) فتزوجت سيليني من ملك المغرب ، وقتل أكتافيوس ” قيصرون ” إبن كليوباترا من يوليوس قيصر حتى لا ينازعه الحكم، وضم أكتافيوس مصر إلى روما بجملة واحدة :
” لقد أضفتُ مصر لممتلكات الشعب الروماني ” (58)0
وإهتم ” أكتافيوس ” بالضيعة الرومانية الجديدة ، فمصر هي آخر الأقطار التي ضُمت للإمبراطورية الرومانية أقوى الإمبراطوريات وأوسعها إنتشاراً على مدار التاريخ ، والتي إستغرق تكوينها مائتي عام ، وعمل ” أكتافيوس “على تحسين وسائل الري ، كما مدَّ خط مواسير من ترعة ” شيديا ” ( المحمودية الآن ) لتصل المياه النقية إلى كل أحياء الإسكندرية ، وسك عملة تذكارية تحمل صورة التمساح ، وهو أشهر الحيوانات النيلية وأحد المعبودات المصرية ، وكتب أسفلها عبارة ” Aegypto Copta ” أي ” فتح مصر ” كنوع من الدعاية السياسية ، وصارت مصر مُلزَمة أن تصدر كميات ضخمة جداً من القمح لروما بلا مقابل0
وفي عصر ” أكتافيــوس ” ( أغسطس قيصر 30 ق0م – 14 م ) وُلِد مخلصنا الصالح ، وإختار أكتافيوس ولاة مصر من طبقة الفرسان ، وليس من أعضاء السناتو ، بل منع أعضاء السناتو والشخصيات البارزة من زيارة مصر إلاَّ بإذن شخصي منه ، وكانت مدة الوالي صغيرة ، والوالي الذي يثير مخاوف الإمبراطور لا يفقد منصبه فقط ، بل يفقد حياته أيضاً ، وكان اللقب الرسمي للوالي ” والي الإسكندرية ومصر ” 0
وصار والي مصر يتصرف كملك ، فمن الناحية العسكرية يفرض سيطرته على القوات الرومانية المرابضة بمصر ، ومن الناحية الدينية يسلك سلوك الفرعون ، فهو الذي يصدق على قرارات تعيين الكهنة المصريين ، ومن الناحية القضائية يرأس الجهاز القضائي ويصدر الأحكام ، ويعقد مجلسه القضائي ثلاث مرات في السنة في أماكن مختلفة ، ففي شهر يناير يعقد المجلس القضائي في ” بيلوزين ” ( شرق بور سعيد ) ، وفي شهر فبراير إلى أبريل في مصر الوسطى والعليا ، وفي شهري يونيو ويوليو في الإسكندرية ، ومن الناحية المالية يقوم بجولات تفتيشية والإشراف على الجهاز المالي والإداري ، ويقر الجداول الضريبية والمبلغ المستحق على كل مديرية ، ونظام الخدمات الإلزامية ، ويصدر تصاريح السفر إلى خارج البلاد0
أما تاريخ مصرنا الحبيبة في العصر الروماني فهو تاريخ الظلم والقهر والإستبداد ، هو قصة حزينة تفيض ألماً ودماً ، فمصر هي البقرة الحلوب التي يستنذف الرومان لبنها ، وهي الشاة التي تجز القوات الرومانية صوفها ، وهي سلة الغلال التي تطعم روما وشعبها لمدة أربعة شهور من كل عام ، وبينما الشعب المصري المستعبد يكدح ويشقى ويعرق فالشعب الروماني يحصد الثمار مجاناً0
ويصف ” فيلون ” مدى القهر الذي يتعرض له الإنسان المصري فيقول : ” في الفترة الأخيرة عُيَّن جابياً للضريبة في المنطقة التي نسكن فيها ، وعندما هرب بعض السكان لعدم قدرتهم على دفع الضرائب بسبب فقرهم وخوفهم من العقاب القاسي الذي سينزل بهم ، إتجه هذا الجابي إلى زوجات الهاربين وأطفالهم وآبائهم وأقاربهم فسامهم سوء العذاب ، ذلك أنه طرحهم أرضاً وأخذ يضربهم ويطأهم بقدميه0 ولم يترك وسيلة لإهانتهم إلاَّ وسلكها ليجبرهم على الإدلاء بمكان الهارب ، أو دفع الديون المستحقة عليه00 لم يكن يتركهم لحـال سبيلهم بل كان يعذبهم ويؤذي أجسادهم ، بل أنه لم يكن يتورع عن قتلهم بوسائل تفتق عنها ذهنه0 فكان يربطهم من رقابهم إلى زكائب مملوءة بالرمال ذات وزن ثقيل ويتركهم في العراء في ساحة السوق نهباً للرياح والشمس المحرقة وسخرية المارة وإحساسهم القاتل بالمرارة بسبب ما يعانونه 0 وإلى جانب الحمل الثقيل الذي كان يقيدهم به فأنه كان يجبرهم على خلع ملابسهم ، وكان هذا المنظر يترك أبلغ الأثر في نفوس الآخرين الذي كانوا يحدثون أنفسهم بما سوف يحل بهم ، فتغمرهم مشاعر أشد قسوة مما رأوه ، ويحدوهم ذلك إلى التفكير في القضاء على أنفسهم بسيوفهم أو بالسم أو بالشنق0 وهم في هذا كانوا يعتبرون أنفسهم أوفر حظاً لأنهم سيموتون دون أن يعذبوا (59)0
حقاً أن أيام أجدادنا منذ أكثر من مائتي سنة ليست أفضل من أيامنا ، ولا أيامنا أفضل من أيامهم0 فمنذ إنتحار ملكتنا ونحن نعاني الأمرين ، ولا ندري إلى متى سنظل نعاني !!
(48) القمص تادرس يعقوب – البابا بطرس الأول خاتم الشهداء ص 23
(49) تصوير شكسبير للرحلة – ونفرد هولمز – ترجمة سعد أحمد حسين – كانت ملكة على مصر ص 173 ، 174
(50) ونفرد هولمز – ترجمة سعد أحمد حسن – كانت ملكة على مصر ص 176
(51) المرجع السابق ص 176
(52) نيقولا يوسف – أعلام من الإسكندرية جـ 1 ص 43
(53) دكتور عبد اللطيف أحمد علي – مصر والإمبراطورية الرومانية في ضوء الأوراق البردية س 31 ، 32
(54) المرجع السابق س 36 – 40
(55) ونفرد هولمز – ترجمة سعد أحمد حسين – وكانت ملكة على مصر ص 181
(56) المرجع السابق ص 180
(57) د0 حسين يوسف ، د0 حسن الإبياري – تاريخ وآثار مصر في عصر الرومان ص 48
(58) المرجع السابق ص 54
(59) د0 أبو اليسر فرج – الدولة والفرد في مصر – ظاهرة هروب الفلاحين في عصر الرومان ص 150 ، 151