رحيل البابا ف7 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل السابع : رحيل البابا
مرت الأيام ، ومسئوليات الخدمـة تزداد على ” أبونا بطرس ” لكنه لم يرتبك أبداً ، بل تجده دائماً يشعر بأن قوة الله تحيط به وتعينه ، وعلى حد تعبير بعض الخدام : ” أبونا بطرس دائماً فايق ورايق ” وبدأت تظهر علامات الشيخوخة على البابا ثاؤنا وإعتلت صحته ، فهذه هي الحياة !! 00 وبينمـا تكرَّس ” إسكندر ” و ” أرشي ” للخدمة ، فإن ” ميناس ” تابع دراسته في ” الميوزيوم ” الذي ضم شتى فروع المعرفة من طب ، وفلك ، ورياضيات ، وطبيعة ، وجغرافية ، وفلسفة ، وأدب ، وتاريخ ، والذي يسعد بزيارة ” الميوزيوم ” يجد المعامل التي جُهزت لإجراء التجارب العلمية ، وقاعات التشريح ، والمرصد الفلكي ، وقاعات المحاضرات والندوات ، وحديقة الحيوانات والطيور وحديقة النباتات ، فقد إستجلب ” بطليموس الثاني ” ( 285 – 247 ق0م ) مختلف الحيوانات والطيور والزواحف والنباتات النادرة من كل بقاع العالم بهدف الدراسة ، والحكومة تصرف على إحتياجات الميوزيوم ، ويعيش العلماء في ذات المكان عيشة مشتركة ، يتمتعون بالإعفاءات الضريبية ، والمعونات المادية ، والإقامة المجانية0 وهذه الأكاديمية العظيمة لا تمنح شهادات ، إنما هي مكان للبحث والتجارب والتأليف لشتى العلماء القادمون من شتى الأقطار ، واللغة المستخدمة بين كلا هذه الأجناس هي ” اللغة اليونانية ” ، فهي بمثابة اللغة الدولية ، حتى أن أباطرة الرومان عندما يصدرون قرارات أو مراسيم في هذه الأيام فإنهم يقومون بترجمتها من اللاتينية لليونانية ، واللغة اليونانية هي اللغة التي سُجِلت بها أسفار العهد الجديد ، والذي أنشأ ” الميوزيوم ” هو ” بطليموس الأول ” سوتر أول ملوك البطالمة وكان عاشقاً للعلوم والثقافة ، يفتح قصره لمشاهير العلماء والفلاسفة ، ويغدق عليهم العطايا والأموال ، والذي سارت على منواله ” كليوباترا ” ملكة مصر وآخر ملوك البطالمة ، وطالما إهتم ملوك البطالمة بالبحث العلمي ، وتشجيع العلماء والصرف عليهم ، وتوفير الإقامة الداخلية المجانية لكثير من الطلبة والمدرسين ، ولا يستنكف أعظم الأساتذة في الميوزيوم من الجلوس وسط مجموعة من الشباب أو حتى الأطفال يعلمهم ، فالكل يتعلَّم ويُعلّم ، وإن كان حماس الأباطرة الرومان الذين يمجدون القوة أقل من حماس الإغريق في الإهتمام بالميوزيوم ، لكنه مازال قائماً يؤدي رسالته ولو بصورة أضعف ، وطالما عقدت فيه الحوارات والندوات حتى أن الإمبراطور ” هدريان ” كان يحضر بعض هذه المباحثات العلمية والندوات الفلسفية ، لأنه كان مولعاً بالحضارة اليونانية ، وضمت عضوية الميوزيوم فلاسفة لا يقيمون في الإسكندرية ، فكانوا أشبه بالسفراء للميوزيوم ، كما أن هناك عضوية شرفية لبعض الشخصيات البارزة من كبار رجال الدولة والجيش وأبطال الرياضة0
وتخصص ” ميناس ” في التاريخ المصري ، فقد عشق تاريخ مصرنا الحبيبة منذ أن حكى له ” أرشي ” عن النمر المجنَّح ، علاوة على أن ” ميناس ” شاب شديد الوطنية ، يفتخر بأجداده بناة الأهرامات وفنار الإسكندرية ، والإثنان من عجائب الدنيا السبع ، فقد حملت مصر في أحضانها أعجوبتين من أعاجيب الدنيا السبع ، وأحب ميناس ” الإسكندر الأكبر ” الوافد الإغريقي لرجاحة عقله وتسامحه ، ودوره التاريخــي فـي تصالح الحضارات عوضاً عــن تصارعها معـاً ، كمـا يفتخـر ميناس بالمهندس العبقري ” دينوقراطيس ” الذي وُلِدت الإسكندرية في عقله وقلبه وعلى أوراقه قبل أن تُولَد على الطبيعـة ، وأيضـاً ينظر لملكــة مصر ” كليوباترا ” نظرة تقدير ، فهي الملكة الإغريقية الأخيرة من سلسلة ملوك الإغريق ، والتي أصطبغت بالصبغة المصرية ، وقد إعتقدت تمام الإعتقاد أنها التجسد الحي للآلهة إيزيس ، فعشقت مصر ، ودافعت عن حريتها وإستقلالها ضد الإجتياح الروماني ، مستخدمة ذكائها ودهائها وجمالها ودلالها وسحر صوتها ، ومازالت الحوارات تدور حولها :
” هل ملكة مصر 00 وطنية أم أنانية ؟ “
وفي ذات يـوم تجمع الأصدقاء ” إسكندر ” و ” أرشي ” و ” ميناس ” و ” ديمتري ” ، وخرجوا كعادتهم للتنزه عبر الشارع الكانوبي وطريق الهيباستاديوم0
ديمتري : هل تحكي لنا ياميناس ولو قليلاً عن ” مكتبة الإسكندرية ” العظيمة التي ليس لها مثيل في العالم كله ، وكثيراً ما تقضي أوقاتكم بين رفوفها ؟
ميناس : عقب موت ” الإسكندر الأكبر ” في ريعان شبابه ، وإنقسام مملكته إلى أربعة ممالك كما أخبرت النبؤة بهذا تماماً ، كانت مصر مـن نصيب ” بطليموس الأول ” سوتر ، الذي أحضر ” ديمتريوس الفاليري ” الذي وُلِد فـي ” فاليرون ” إحدى ضواحي أثينا ، ليكون مستشاراً له في وضع القوانين والمعاهدات ، وديمتريوس هو تلميذ ثيوفراسطوس خليفة أرسطو في رئاسة مدرسة أثينا ، وكان قد تولى حكومة أثينا لمدة عشر سنوات ( 317 – 307 ق0م ) وإلى ديمتريوس الفاليري يرجع الفضل الأول في إنشاء مكتبة الإسكندرية ، فهو الذي أشار على بطليموس أن ينشئ مكتبة ضخمة على غرار مكتبة أثينا ، وإذ كان بطليموس مثقفاً إستحسن رأيه ووافقه على الفور ، وجعل هذا المشروع العظيم تحت إشراف ديمتريوس ، الذي بدأ بتجميع الكتب وبدأ بإنشاء المبنى الضخم الذي إزدانت أعمدته بالنقوش ، وجاءت الرفوف تلف الجدران ، ووضعت الكتب على الأرفف ، وكل كتاب كما تعلمون هو درج ملفوف ومربوط ، فوضعت الكتب بعضها رأسي وبعضها أفقي ، وبعض الكتب الهامة حُفظت في أوان فخارية حفاظاً عليها من الرطوبة ومن الحريـق ، وإستطاع ديمتريوس جمع مائتي ألف كتاب ، وتم إختيار مديراً للمكتبة على درجة عالية من العلم والثقافة وهو ” زينودوتوس الأفسسي “0
وظل العمل يجري بجدية في عصر ” بطليموس الثاني ” فلادلفيوس ، فنقل مدرسة عين شمس ومكتبتها إلى الإسكندرية ، وهو الذي إستقدم من فلسطين سبعين شيخاً من اليهود ، فأقاموا في جزيرة فاروس التي نحن نتجه إليها الآن ، وبدأ بأعظم عمل في ذلك العصر ، وهو ترجمة التوراة من العبرية التي لا يفهمها إلاَّ بعض اليهود المتخصصين إلى اليونانية اللغة الدولية ، وأرسل سفراءه في عواصم العالم لشراء ما يستطيعون من كتب ، حتى بلغ في عهده عدد الكتب بالمكتبة إلى 400 ألف مجلد متداخل ، و 90 ألف مجلد منفـرد ، وعُيـن مديــراً للمكتبـة خلفاً لزينودوتوس ” كليماخوس التريني ” الأديب والشاعر ، فقـام بفهرسة جميع الكتب ، وإستغرق هذا العمل الجبار مائة وعشرين مجلداً ، وشملت المكتبة كتباً مختلفة يونانية ومصرية وعبرية وأثيوبية وفارسية وفينيقية ، وتناولت هذه الكتب جميع التخصصات والعلوم التي عُرف حينذاك ، وكان من تقاليد المكتبة أنه عندما يقوم بزيارتها أحد المؤلفين يهدي نسخة من مؤلفاته للمكتبة ، فهذا شرف له أن توضع كتبه في تلك المكتبة الأولى في العالم كله ، بل أن ” بطليموس الثالث ” أمـر بفحص الكتب التي بحوزة أي مسافر ، وضمها للمكتبة ، وأن يُسلَّم صاحبها نسخة منها ، وأخذ ” بطليموس الثالث ” من مكتبة أثينا أصول مؤلفـات ” إيسخولوس ” و ” سوفوكليس ” و ” يوريبديديس ” بضمان مالي 15 تالنتا ( 90 ألف دراخمة ) ثم تخلى عن هذا الضمان وإحتفظ بهـذه الأصول في مكتبة الإسكندرية ، وأرسل نسخاً منها لمكتبة أثينا ، وكان من الأعمال الهامة التي تقوم بها المكتبة هي نسخ الكتب التي تطلبها من الجماهير وبيعها لطالبيها ، فلم يقتصر عمل المكتبة على حفظ الكتب للإطلاع عليها فقط ، إنما هي أكاديمية عظيمة ظهرت فيها علوم تصنيف الكتب وتبويبها ، ونقد النصوص والمتون ، والضبط والترقيم ، وأُبتكرت العلامات الصوتية ، وعلامات الإستفهام والتعجب ، وفواصل الكلام ، وفيها نُقّحت مؤلفات ” هوميروس ” ، فكثر عدد الوافدين إلى المكتبة من شتى بقاع الأرض ، وكل من يأتي للإسكندرية ولا يـزر مكتبتها فإنه يفوته الكثير ، وقد إرتبط بالمكتبة عظماء العلماء مثل :
- أراتوستينيس Eratosthenes : كـان شاعراً وفيلسوفاً ومؤرخاً ، وهو الذي قال ( سنة 280 ق0م ) أن الأرض هي التي تدور حول الشمس ، وإستطاع أن يقيس محيط الكرة الأرضية (37)0
- إقليدس Euclides : الذي ألَّف موسوعة ضخمة تشمل مجموع علوم الرياضيات ( حساب – هندسة – فلك – موسيقى – بصريات – ميكانيكا ) كما ألَّف كتاب ” الأصول ” الذي ليس له مثيل في تاريخ الرياضيات ويبحث في العدد الصحيح وأنواعه ، وأيضاً في الأشكال المستوية مثل المثلثات والمربعات والأشكال الخماسية0
- هيرون Heron : الذي إخترع الآلة البخارية ، والآلة الأتوماتيكية0
- كتيسيبيوس : الذي وُلِد في منتصف القرن الثالث ق0م ، وهو عالِم الميكانيكا الأول ، فقام بأبحاثه عن الآلات التي تعمل بالهواء مثل ” مرونة الهواء ” وهو الذي إخترع المضخة الماصة الكابسة ، التي تجدها على سفن الأسطول البحري الروماني ، كما إخترع ” الأرغن المائي ” الذي كانت تلعب عليه زوجته0
- بطليموس : العالِم الفلكي الشهير والذي أُشتهر في القرن الثاني الميلادي ، وهو من مدينة الفرما ( بالقرب من بور سعيد ) ودرس الجغرافيا على أساس رياضي وفلكي ، وعمل خريطة للعالم بأبعـاد صحيحـة ، أوضح بهـا الأقاليم ، ووضع كتاب ” المجسطي ” الذي حوى القواعد الفلكية0
وأيضاً من علماء الفلسفة الذين إرتبطوا بمكتبة الإسكندرية :
- فيلون اليهودي : وهو أحد الأثرياء اليهود بالإسكندرية عاش في القرن الأول الميلادي ، وقدم الأسفار المقدَّسة من وجهة نظر فلسفية ، فقد درس الفلسفة الإغريقية وإنشغل بها وكتب مجلدات كبيرة يشرح ويفسر فيها التوراة لليونانيين ، ويوضح أن الفضائل التي يبحثون عنها توجد بعمق في التوراة0
- أفلوطين : من أبناء هذا القرن الثالث الميلادي ، وهو من أبناء مصر العليا ( أسيوط ) وقد تصدى لحل المشاكل الدينية عن طريق الفلسفة ، فهو يبدأ بالفلسفة وينتهي بالفكرة الإلهيَّة ، وتميَّز أفلوطين بالعفة والطهارة والنُسك ، وسافر إلى روما ونشر فلسفته التي جمعت بين الفكر اليوناني والفكر الشرقي ، ونادى بأن الإنسان العاقل هو من يسمو فوق العالم المادي المحسوس ويرتقي إلى العالم الروحي المجرَّد ، وبقدر ما يتحرَّر الإنسان من الأمور المادية المحسوسة وينطلق نحو التأمل العقلي بقدر ما يقترب من الهدف ، وتعود النفس إلى المبدأ الأول والإتحاد بالله0
وكذلك علمـاء الطب مثـل ” جالينوس ” و “هيبوقراطيس” ، والطب السكندري له شهرته على مستوى العالم ، فالطبيب الذي يتعلم في الإسكندرية له إحترامه في كل العالم0
وأكمل ” ميناس ” حديثه قائلاً : عندما كنت أطالع في أحد كتب الطب وجدت علاجاً لسقوط الشعر وهو ” وضع صبغة الأفيون Laudandum في النبيذ غير المُخمَّر ، (ثم ) أضف زيت الريحان الشامي بالتعاقب مع النبيذ ، حتى يصبح الخليط في قوام العسل ، ثم إمسح بها الرأس قبل الحمام وبعده ” (38)0
كما إرتبـط أشهـر الشعراء بالمكتبة مثل ” كاليماخس ” أمين المكتبة وشاعر القصر والذي أُشتهر شعره في الرثاء ، و ” ثيوكرينوس ” و ” أبولونيوس الرودسي ” وطالما قامت بينهم الحوارات والسجالات والمعارك الأدبية النقدية ، حتى أُطلق على الأدب اليوناني كله الأدب السكندري ، بعد أن إختطفت الإسكندرية الأضواء من أثينا ، وصار لها الدور الأول في بناء الحضارة الإنسانية0
وإن كان بالإسكندرية ثلاث مكتبات وهي المكتبة الكبرى ، ومكتبة معبد السيرابيوم التي حوت 400 ألف كتاب ومكتبة معبد القيصرون ، إلاَّ أن المكتبة الكبرة هي المكتبة الأم0
وصل الأصدقاء إلى جزيرة فاروس وإختاروا ذات المكان الهادئ على أطراف الجزيرة بالقرب من فنار الإسكندرية أحد عجائب الدنيا السبع ، وجلسوا كالعادة يتحاورن ويتحادثون والحديث يحلو ويطول ، وإن كانـت أحاديثهم السابقة يغلب عليها الطابع الديني ، فإن حديث اليوم دار حول تاريخ مصرنا ولاسيما مدينتنا الرائعة الإسكدنرية ، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن الله هو العامل في التاريخ0
ديمتري : عودة إلى حلم نبوخذ نصر ( دا 2 ) الذي رأى تمثالاً رأسه من ذهب إشارة للإمبراطورية البابلية وهو ما يقابل في رؤيا دانيال ( دا 7 ) الحيوان الأول الذي له شكل الأسد وجناحا النسر ، وصدر التمثال وذراعاه من فضة إشارة إلى مملكة فارس ويقابل في رؤيا دانيال الدب الذي بين أسنانه ثلاثة أضلع ، وفخذ التمثال وبطنه من نحاس إشارة للإمبراطورية اليونانية التي بدأها الإسكندر الأكبر وسريعاً ما إنقسمت إلى أربعة ممالك ، ويقابل في رؤيا دانيال النمر المجنَّح الذي له أربعة أجنحة وأربعة رؤوس ، وساقي التمثال وقدميه من حديد وخزف إشارة للإمبراطورية الرومانية ويقابل في رؤيا دانيال الحيوان الهائل القوي ذو الأسنان الحديدية 00 ثم تساءل ديمتري : أين مكان ملكة مصر هنا ؟
أرشي : حقبة ” كليوباترا ” هي الحقبة النهائية من مملكة اليونان ، فكليوباترا هي آخر الملوك النحاس 00 آخر ما تبقى من نحاس في هذا التمثال العجيب ، تمثال تعاقب الممالك 00 دعونا نصغي لمعلم التاريخ ” ميناس ” ليحدثنا عن ملكة مصر0
ميناس : تفضل ياأخ ” أرشي ” فأنت الذي حدثتنا من قبل عن النمر المجنَّح حديث ممتع ، ووعدتنا بإستكمال الحديث عن كليوباترا0
أرشي : أنا مجرد هاوي أما أنت فقد صرتَ محترفاً ، فأنت الدارس والباحث المدقق ، فدعنا نستفيد من وجودك معنا0
ميناس : طالما تغنى الشعراء بملكتنا العظيمة ، وطالما تحاور الفلاسفة عنها ، كثيرون رفعوا قدرها ونظروا إليها أنها الملكة شديدة الوطنية التي إستخدمت كل وسيلة من أجل حفاظها على إستقلال مصرنا الحبيبة ” وصفها أكبر أساتذة التاريخ الهلينسي بأنها أعظم خلفاء الإسكندر الأكبر00 فقد كانت إمرأة عبقرية فذة ، جديرة بأن تهابها روما كخضم 00 { إن روما لم تستسلم إطلاقاً للخوف من أية دولة أو أي شعب ، قد خشيت شخصيتين ، أحدهما هانيبال ، والأخرى إمرأة } ” (39) 00 وكثيرون حطوا من قدرها ووصفوها بأنها الملكة الشريرة الشهوانية الأنانية التي تسعى نحو عرش روما وتطمع أن تكون السيدة الأولى للعالم كله ، ففقدت في مغامراتها العاطفية عرش مصر0
أرشي : أدخل في الموضوع ياأخ ” ميناس ” وحدثنا عن تلك الملكة التي أنتم مُتيّم بها0
ميناس : دعوني أوجز القول في عناصر محددة وكلمات قليلة :
- نشأة كليوباترا : وُلِدت ” كليوباترا ” السابعة أشهر ملكات التاريخ السكندري في سنة 69 ق0م بالقصر الملكي المطل على الميناء الشرقي ، ونشأت وترعرعت فيه ، وتعلمت الحكمة والأدب والتاريخ والفلسفة ، وإتقنت عدد كبير من اللغات ، ومنها لغة مصر القديمة ، وأحبها كهنة مصر فصوَّروها في شكل الإلهة إيزيس على جدران معبد دندرة ومعابد النوبة ، وفعلاً إعتقدت كليوباترا تماماً أنها من النسل المقدَّس للإلهة إيزيس ، وطالما وقفت بخشوع في هيكلها المرتفع على الصخر بجوار القصر الملكي تسألها الحماية من الدسائس التي تسود القصر0
” وعندما كانت عينا كليوباترا تتطلع متنقلة على الدرج الذي يؤدي إلى القصر إلى الميناء الخاص أخذت تتساءل عما تخفيه مياهه الزرقاء الهادئة من أسرار ، إذا إختفى بهذه الوسيلة أمير بعد أمير بل وأميرات أيضاً من أسر البطالمة ، وبدت كما لو أن القدر المؤلم قد قضى بأن يُقتل أفراد هذه الأسرة بعضهم بعضاً جيل بعد جيل 0 إنها لعنة شديدة ” (40) 00 كانت ” كليوباترا ” تقطع الطريق من الحي الملكي إلى الفنار محمولة على محفتها ، حولها وصيفاتها وحرسها الخاص ، وهي تحسد الفتيات السكندريات اللاتي ينطلقن في شوارع الإسكندرية بلا قيود0
- صراع كليوباترا وشقيقها : في سنة 51 ق0م مات بطليموس الزمار وخلف على عرش مصر إبنته كليوباترا وهي في الثامنة عشر من عمرها ، مع شقيقها بطليموس الثالث عشر وهو في العاشرة من عمره ، فكان له ثلاثة أوصياء هم ” أخيلاوس ” قائد الجيش ، و ” بوتينوس ” معلم الأولاد ، و ” ثيؤدوتس ” الفيلسوف ، وعندما شعر هؤلاء الأوصياء أن كليوباترا تنوي الإنفراد بالعرض أطلقوا الشائعات حولها بأنها سوف تبيع مصر والمصريين لروما لأنها عميلة ، وأنها لا تكف عن إكتناز كنوز الذهب والفضة والجواهر من دماء المصريين ، ونجحت هذه الحملة ، حتى أن كليوباترا تركت الإسكندرية وهربت ، لكنها لم تستسلم فهي مقاتلة عنيدة ، وقد جمعت جيشاً من الأعراب عند حدود مصر الشرقية ، وتأهبت لغزو الإسكندريــة ، ووصلــت إلى حصن ” بلوزيوم ” ( الفرما ) سنة 48 ق0م كما تأهب جيش أخيها للقائها0
- يوليوس وبومبي : وإذ بيوليوس قيصر يتابع أخبار مصر أول بأول ، ولاسيما أن بطليموس الزمار قد عهد إلى روما الأشراف على تنفيذ وصيته نحو تنصيب إبنته وإبنه على عرش مصر ، فوصل بجيشه وأسطوله في أكتوبر سنة 48م إلى مصر ، وقد كان في حرب مع منافسه ” بومبي ” ، وبومبي هو القائد الروماني الذي أخضع أرض فلسطين للولاية الرومانية سنة 63 ق0م ، وقد ثار النزاع بينه وبين يوليوس على عرش روما ، وكانت المعركة الفاصلة في ” فارسالوس ” والتي إنتصر فيها يوليوس ، ولكن بومبي لم يستسلم ، بل إتجه على ظهر سفينة إلى مصر مع زوجته ” كورنليا ” وإبنه الصغير ” لاجتا ” وطلب العون والمدد من بطليموس الصغير الثالث عشر ، وهو يذكّره بالصداقة التي كانت بينه وبين أبيه الزمار ، فبومبي هو صاحب الفضل في إعادة أبيه إلى عرشه يوم طُرد من الإسكندريـة ، ولكـن للأســف الشديد فإن ” ثيؤدوتس ” أحد الأوصياء قد إتخذ قراراً في منتهى الخسة ، إذ قرر إغتيال ” بومبي ” للتقرب من ” يوليوس “0
وفي سبتمبـر سنة 48 ق0م توجـه زورق صغيـر ليُحضِر ” بومبي ” من سفينته إلى الشاطئ ، وإذ لم يحضر بطليموس إرتاب بومبي ، ولكن الضابط ” سبستميوس ” أخبره بأنه ينتظره علـى الشـط ، وعندمــا وصل الزورق إلى الشط نهض ” بومبي ” أخذاً بيد أحد الجنود ليساعده على النزول ، وفي لحظة غدر طعن ” سبستميوس ” بومبي من الخلف الطعنة الأولى ، وتوالى من معه عليه بالطعنات ، وسقط مومبي مضرجاً في دمائه دون أن ينطق بكلمة واحدة ، وسُمع في الأفق صوت صرخة مرة من ” كورنليا ” زوجة بومبي ، وأسرعت السفينة التي تقلها مع إبنها الصغير بالهرب في عرض البحر0
وبعد أربعة أيام وصلت سفينة يوليوس قيصر إلى ميناء الإسكندرية ، وأسرع ” ثيؤدوتس ” للقائه حاملاً معه رأس بومبي ، وإذ رأى الرأس أشاح برأسه بعيداً ، ولم يخفي إنزعاجه من هذه الخسة ، وعندما تسلَّم خاتم بومبي بكى على خصمه الشريف ، وإن كانت العدالة تستوجب الإنتقام من قتلة بومبي ، لكن قيصر لم يفعل هذا ، وإكتفى بطرد القتلة من أمامه ، وأقام جنازة عسكرية كبيرة تليق بعظمة هذا القائد الذي أُغتيل ، وأرسل سفينة مجلَّلة بالسواد ومعها رماد جثة بومبي إلى أرملته علامة على مدى إحترامه لهذا القائد العظيم وخزنه عليه0
- يوليوس وحرب الإسكندرية : أرسل ” يوليوس قيصر ” إلى كل من أنطونيوس الثالث عشر وشقيقته كليوباترا لكيما يتخلى كل منهما عن جيشه ويجلسا إلى مائدة المفاوضات ، فأقبل بطليموس بينما ظل جيشه كما هو ، بينما تخلت كليوباترا عن جيشها ، وإحتالت لكيما تجد طريقها إلى قيصر في الإسكندرية ، وبينما أعداؤها يحيطون بالحـي الملكـي ، وجدت وسيلة ما للوصول إلى قيصر ، وقيل أنهـا أخـذت زورقاً صغيراً وبحاراً رومانياً ماهراً ( قد يكون أبلودوروس الصقلي كاتم أسرارها ) وإستطاع البحار التسلل من البحر للميناء الشرقي ، وعندما إعترض الحرس الروماني الزورق أقنعهم البحار أنه جاء من صقلية خصيصاً يحمل بساط هدية للقيصر ، فسمحوا له بالدخول ، وترك الزورق وحمل البساط على كتفه وإتجه للقصر الملكي0
وحالـف الحظ هذا الرجل حتى وجد نفسه في مواجهة القيصر ، فأنزل البساط وفك الحبل ، وإذ بملكة مصر الساحرة كليوباترا فـي مواجهة قيصر ، فتاة في الثانية والعشرين من عمرها ، وهو في نحو الثانية والخمسين من عمره ، ففتن بجمالها ولباقتها وسعة أفقها وسحر صوتها ، وأدركت كليوباترا بذكائها أنها سلبت لب الرجل ، فابتسمت في وجهه وأخفت ما يجيش في صدرها من غيظ لأن ” قيصر ” لم يدخل للإسكندرية كصديق ، إنما دخلها كغازٍ منتصر 00 ” كان شعرها الكستنائي قد تهدَّل قليلاً بسبب لفها في السجادة ، ولكن محياها وعينيها الرماديتين الجميلتين وقوامها النحيل كانت كلها تسلب العقل ، أضف إلى ذلك أنه كان في إستطاعته أن يسمع صوتها الذي أتفق جميع مؤرخي عصرها ، مهما بلغ كرههم لها ، على القول أنه كان أكثر صفاتها إغراءً للرجال ، ولم يتمالك قيصر نفسه ، فضحك0
ما الذي رأته كليوباترا ؟ رأت رجلاً قد جاوز الخمسين من عمره ، ولكنه نحيف قوي وذو مظهر يدل على القوة0 وكان طويل القامة وبشرته صافية وعينان سريعتان سوداوان لا يفوتهما شئ 0 وكان يرتدي رداءً أبيض مزخرف الحافة بلون أرجواني ، وكان منسجماً عليه0 أما شخصيته ، فكانت تستطيع أن تحكم عليها من مظهره ومما كانت سمعته ( عنه ) ، كانت شخصيته صريحة وحازمة ، وكان رجلاً عملياً وليس خيالياً ، أضف إلى ذلك أنه كان رومانياً منتصب القامة شديداً في معاملته للناس ، كريما مع الذين يطيعونه والمخلصين له ، كريم الأخلاق نحو أعدائه في بعض الأحيان ولكنه لا يهتم بالعواقب كالأيام التي كان يعيش فيها وتعيش فيها كليوباترا0 ولكن أعظم ما راق لها فيه هو جرأته التي لا تقل عن جرأتها0 وما من شك في أنه كان أشجع من جنوده ، وكان مستعداً لأن يعيش حياة شاقة كما كانوا يعيشون وكانت شعبيته بينهم وحبهم له مثلاً سائراً في كل أنحاء العالم ” (39)0
وبعد هذا اللقاء أدرك ” قيصر ” أن إقامته في الإسكندرية ربما تمتد ، فنزل إلـى شوارع الإسكندرية تحف به قوات الحرس الخاص ، وشارات سلطته القنصلية ، ودعا ” قيصر ” كليوباترا وشقيقها للإجتماع في الجمنازيوم ، وقرأ وصية أبيهما بطليموس الزمار بأن تحكم مصر كليوباترا مـع شقيقها بطليموس الثالث عشر ، وأن ترعى رومـا تنفيـذ هــذه الوصيـة ، وبهذا أفصح ” يوليوس ” عن حقه في التدخل لحل القضية ، ولكن إذ أحس بطليموس أن أخته سلبت قلب قيصر ، شعر مع أعوانه بعدم الإرتياح ، ولاسيما أن يوليوس دخـل للإسكندرية في موكب قنصلي ، معلناً سطوة روما وسيادتها ، ورفض السكندريون هذه الغطرسة الرومانية ، فاندلعت القلاقل والإضطرابات وسادت أحياء الإسكندرية ، ومما ساعد على ذلك ضألة قوات ” قيصر ” التي لم تتعدة سوى 34 سفينة ، و 800 فارس و 3200 جندي0
وسريعاً ما إشتعلت الأمور ، فتحصَّن ” يوليوس ” في الحي الملكي وركز قواته البحرية في الميناء الشرقي والبرية في الحي الملكي وجزيرة فاروس ، وقطع الشعب المياه العذبة عن الحي الملكي وضخوا بدلاً منها مياه مالحة ، فتذمر الجنود الرومان مفضلين مواجهة جيش عرمرم من البرابرة عن أن يموتوا عطشاً ، ولكن قيصر أشار عليهم بحفر أبار ، ونجحت الفكرة ووصلوا للمياه العذبة ، وأرسل ” يوليوس ” يطلب إمدادات من الخارج ، ولم يفكر في الهرب بسفنه رغم أن ” أخيلاوس ” قائد الجيش وأحد الأوصياء الثلاثة دخل للإسكندرية بجيش قوامه ألفي فارس ، وعشرين ألف جندي في أوائل نوفمبر سنة 48 ق0م ، ومع أن يوليوس قيصر أرسل إليه رسولين يطلب السلام ، إلاَّ أن ” أخيلاوس ” إخترق العادات المتعارف عليها ، فقتل أحد الرسولين وأصاب الآخر ، وحاصر ” أخيلاوس ” الحي الملكي بحراً وبراً ، وقد تأهبت السفن المصرية للإشتباك مع السفن الرومانية ، وأطلق ” يوليوس قيصر ” بطليموس الثالث عشر من الحي الملكـي ، لا لينضم للقوات المصرية ، ولكن تحسباً منه إذا قُتل فلا يقال عنه أنه قُتِل بيد غوغاء الإسكندرية ، إنما قُتِل بيد جيش ضخم يقوده ملك0
وإستطاع ” يوليوس قيصر ” بحنكته العسكرية أن يستولي على فنار الإسكندرية ، ونجح في إضرام النيران في سفن الأسطول المصري بالميناء الشرقي ، وإمتدت ألسنة اللهب من سفينة إلى أخرى ، حتى أتت النيران على السفينة رقم 72 والأخيرة ، بل أن ألسنة اللهب إرتفعت وسرعة الرياح زادت من إشتعالها وإنتقالها فامتدت إلى دار الصناعة ، وما جاورها من مخازن الورق ، والمباني ، بل أشتعلت النيران في جزء ليس بقليل من مكتبة الإسكندرية وألتهمت عدد كبير من الكتب ، فجميعها من ورق البردي سريع الإشتعال0
أما ” كليوباترا ” التي تقبع في قصرها تحت بصر وسمع يوليوس ، وتطالع الأخبار بل تشاهدها بعينها فقد إشتعل فؤادها بألسنة اللهب التي أكلت الأسطول المصري ، وإمتدت للمخازن والمباني ، ولشد ما أحزنها إمتداد النيران إلى مكتبة الإسكندرية التي لا تضاهيها مكتبة ما في الوجود كله ، ولأنها مثقفة جداً فقد أحست بوطأة الكارثة ربما أكثـر مـن أي شخص آخـر ، وهذا ما دعى ” يوليوس قيصر ” فيما بعد أن يضمد هذا الجرح ، إذ أحضر لها مائتي ألف مجلد من مكتبة مدينة برغامة الشهيرة بأسيا الصغرى0
ورغم ما حدث فإن المصريين قد ثبَّتوا أقدامهم في ميناء الصمود الحميد ( الميناء الغربي ) وفي طريق الهيبتاستاديوم ، وشرعوا على الفور في بناء بعض السفن الجديدة ، وتجهيز معدات الحرب ، وظلـوا يهاجمون التحصينات الرومانية ، وبينما يستعجل ” يوليوس قيصر ” الساعات وصلت الإمدادات الضخمة من كريت ورودس وكليكية وسوريا وبلاد العرب ، فوصلت الفرقة (37) التي أوفدها ” حنايوس دومينيوس ” والي أسيا ، وسريعاً ما إشتعلت الحرب الفاصلة ، ورغم أن المصريين إستبسلوا في صد الهجمات الرومانية ، حتى أنهم في إحدى الجولات كـاد الزورق الذي يستقله ” قيصر ” أن يغرق في الطرف الشرقي بالميناء الشرقي ، مما إضطر ” قيصر ” للسباحة ، حتى وصل إلى سلم القصر وهو ينذف دماً لينجو بنفسه0
ودام القتال عدة أيام بين الجيش المصري بقيادة ” أخيلاوس ” ومساندة الشعب وبين الجيش الروماني ، وخلال هذه الجولات سقط ” بطليموس الثالث عشر ” في الماء ومات غرقاً ، وهو في السابعة عشر من عمره ، ولم تشعر ” كليوباترا ” بالحزن ولا بالآسى من أجل شقيقها الصغير لأنه كان ينافسها علـى عرش مصر ، وقبض ” قيصر ” أيضاً على ” أرسينوي الرابعة ” ولم تشفع لها شقيقتها كليوباترا السابعة ، بل تركتها لمصيرها البائس ، وهي أن تُعرض في روما في موكب نصرة يوليوس0 وقدَّر يوليوس مشاعر كليوباترا فلم يستبح المدينة لجنوده ، وعفى عن المصريين الذي قاتلوه ولم ينتقم منهم ، وثبَّت ” يوليوس ” ملك كليوباترا على مصر بالإشتراك مع شقيقها الأصغر ” بطليموس الرابع عشر ” ذو الخمسة عشر عاماً ، وعقد ” يوليوس ” زواجاً صورياً بين كليوباترا وشقيقها الملك الجديــد ، وخفَّض الديــون التـي إستدانها أبيهم ” بطليموس الثاني عشر ” ( الزمار ) وأعـاد لمصر جزيرة قبرص ، وفعل كل هذا من أجل عيون كليوباترا0
- كليوباترا ويوليوس : تزوج ” يوليوس ” بكليوباترا زواجاً غير شرعي ، لأن القانون الروماني لا يبيح تعدد الزوجات ، وعاش يوليوس أجمل أيام عمره ، وهو يتفقد معالم الإسكندرية ، فذهب إلى قبر الإسكندر ، والميوزيوم ، والمكتبة ، ودعته كليوباترا لحضور بعض الندوات الفلسفية ، وعرفته على كبار العلماء والأدباء الذين فتحت لهم قصرها ، وقام ” يوليوس ” برحلة نيلية مع كليوباترا على صفحات النيل الخالد وحتى الحدود الجنوبية لمصر ، فأبحر على السفينة الملكية التي تتكون من طابقين ، ولها صاري يبلغ إرتفاعه نحو ثلاثين متراً ، يحمل قلعاً من الكتان له حافة إرجوانية مطرزة ، وتحمل صفين من المُجدّفين الأقوياء الذين يضربون الماء بمجاديفهم الفضية ، فيدفعون السفينة للأمام ، والسفينة كأنها قصر صغير ، تجد قاعة الطعام مبطَّنة بوزرات من خشب الأرز والسرو ، ومزينة بالزخارف المصرية بألوانها الزاهية ، وغرف النوم المؤثثة بالأثاث الفاخر ، وهناك على سطح السفينة أماكن للإسترخاء بلا سقف يحلو فيها الراحة فـي الصبـاح ووقت الغروب ، وفي هذه الرحلة رتبت ” كليوباترا ” الزيارات للمعابد والآثار التي تفوق عن أية أثار أخرى روعة وجمالاً وجلالاً ، ووقف القيصر أمام الإهرامات مشدوهاً ، وكلما شدت هذه الآثار إعجاب قيصر كلما إزداد إفتخار كليوباترا بمصريتها ، فإنها مصرية حتى النخاع رغـم أنها من أصول أغريقية ، لكنها تشعر أن بناة الأهرام هم أجدادها ، فإن كليوباترا لم تنتست لمصر ، إنما إلتفت بمصر ، فعاشت مصر داخلها وخارجها0
وأبحرت سفينة يوليوس وكليوباترا في موكب يضم أربعمائة سفينة رومانية ، فإن يوليوس قيصر قصـد أن يكون مقبولاً مع قواته لدى الشعب المصري ، عندما يرونـه مـع ملكتهم المحبوبة ” كليوباترا ” وإحتفى الكهنة بزواجهما وأعتبروا ” يوليوس ” أنه الإله آمون ، ونقشوا على جدران المعبد بأرمنت هذا الزواج ، وصوُّروا آمون على شكل إنسان له ملامح يوليوس قيصر له قرنا كبش ملتويان0
وتـرك ” يوليوس قيصر ” الإسكندرية في يناير سنة 47 ق0م ، وكانت كليوباترا حاملاً منه ، وما أن شعرت بالجنين ينمو في أحشائها حتى تمنت أن يكون المولود ولداً ، لأن يوليوس ليس له إبناً يخلفه على عرش روما الذي إنفرد به بعد إغتيال ” بومبي ” منافسه ، وترك ” يوليوس ” خمسة عشر ألف جندياً رومانياً لحفظ الأمن بالإسكندرية وحماية زوجته كليوباترا ، وإتجه إلى آسيا الصغرى ، فحارب الملك ” نارناكيس ” في ربيع سنة 47 ق0م في معركة قصيرة إستغرقت ساعات قليلة ، حتى قال قولته الشهيرة ” أتيتُ ، رأيتُ ، إنتصرتُ ” (41) وأكمل ” يوليوس ” مسيرته إلى روما ، وعندما دخلها عرض ” أرسينوي الرابعة ” موثقة بالسلاسل في موكب نصرته ، ثم أرسلها كأسيرة في معبد أرطاميس بأفسس0
وفـي صيـف سنة 47 ق0م وضعت كليوباترا طفلها ودعته ” بطليموس الخامس عشر ” ورأت فيه الوريث الشرعي لعرش روما ، أما الشعب المصري فقد دعاه ” قيصرون ” أي قيصر الصغير نسبة إلى يوليوس قيصر ، وفي سبتمبر سنة 47 ق0م شقت سفينة كليوباترا عباب البحر المتوسط من الإسكندرية إلى روما ، تحمل على متنها ملكة مصر ، مع شقيقها الأصغر – وزوجها الصوري – الفتى ” بطليموس الرابع عشر ” وطفلها ” قيصرون ” وخرجت جماهير روما لتشاهد ملكة مصر ترفل في غناها ومجدها ” وكانت الملكة تبدو جميلة وهي محمولة في محفتها ، متوَّجة بعصبة من الذهب وتاج رأس الأفعى ” سيدة الحياة ” فوق جبينها ، وكان يجلس فوق ركبتيها طفل ذهبي البشرة ، كانت ملامحه هي ملامح قيصر دون شك ، ولم تكن هناك حاجة لأي برهان آخر لإثبات نسبه ” (42) وكانت كليوباترا تشعر بالفخر والإعتزاز ، إذ هي ملكة دولة مستقلة جاءت لزيارة عاصمـة الإمبراطورية الصديقة ، وإن كانت تخفي في نفسها حسرة ، فلا هي زوجة شرعية للإمبراطور ، ولا إبنها إبناً شرعياً له ، ومع ذلك فإن أملها لم ينقطع في أن يُعالج الموضوع بطريقة ما ، وتصل إلى عرش روما في يوم ما0
وإستضاف ” يوليوس قيصر ” كليوباترا ملكة مصر في فيلا فاخرة في ضيعته الخاصة على تل جانيكولا عبر نهر التيبر ، لأن زوجته ” كاليورينا ” تقيم في القصر الإمبراطوري ، وأمر مثَّالي روما بإقامة تمثال من الذهب للملكة كليوباترا في صورة الإلهة فينوس إلهة الجمال ووضعه في محراب فخم يليق بها ، كما أمر بسك قلادة نُقشت عليها صورة كليوباترا في هيئة الإلهة إيزيس – التي عرفها الرومان وأضافوها إلى معبوداتهم – وتحمل إبنها على ذراعيها ، وأوحى قيصر لأحد عظماء روما ليتقدم بمشروع قانون لمجلس الشيوخ ليُسمح للقيصر بالزواج من أجنبيات لإقامة نسل له ، ومنح ” يوليوس ” الملكة ” كليوباترا ” لقب ” صديقة الشعب الروماني ” 0 وكان يذهب إليها يومياً ، كما زار الملكة كبار رجال الثقافة والفن فأُعجبوا بعلمها وحصافتها وذكائها وغناها وكرمها0
أما الشعب الروماني فلم يسترح لهذه الملكة التي هزمت بطلهم بتعويذاتها السحرية ، فجاءت تسعى إلى عرش روما ، وهي خليلة قيصر وليست زوجة له ، وإتهموها بالتعالي والكبرياء والغطرسة ، تعيش في بذخ وترف خيالي ، فعبس ” بروتوس ” صديق قيصر ، والذي سيغتاله في يوم ما ، في وجهها ، ورغم أنها وعدت ” شيشرون ” بأنها ستهديه بعض الكتب الثمينة بمكتبة الإسكندريـة إلاَّ أنـه كرههـا ، وكتــب في رسالته إلى صديقه ” أثيكوس ” يقول : ” إنني أكره الملكة ، ويعلم أمونيوس الذي أكد وعودها إنني على حق في أن أفعل ذلك ، فوعودها إليَّ كانت متعلقة بكتب لغوية أدبية ولا تنقص من كرامتي الشخصية ، وكنت أجسر أن أتحدث عنها في إجتماع شعبي0 وأما صلف الملكة عندما كانت في حدائقها ( قصرها الريفي ) علـى الضفة الأخرى من التيبر ، فلا أستطيع أن أذكره دون أن أشعر بألم شديد ” (43)0
كما ألَّف ” هورتيوس ” أنشودته ضد كليوباترا قائلاً : ” ذلك الوحش المميت ، التي تقود بفجور غير عادي عصابة من الأغبياء لتدمير هذا الكابيتول والإمبراطورية الرومانيـة ” (44)0 والحقيقة أنه ” من الإحجاف وصفها بأنها كانت مجرد غانية لعوب0 لقد كانت كليوباترا ملكة واسعة الثقافة ، مليئة بالحيوية ، ومنظمة بارعة0 حبتها الطبيعة بالجاذبية والذكاء وعذوبة الصوت ، وأوتيت من مضاء العزم والشجاعة والطموح قدراً كبيراً ، ولا يستطيع مؤرخ منصف أن يأخذ عليها إستغلال كل هذه المواهب في تسخير قادة الرومان لتحقيق أطماعها وصيانة إستقلال بلادها ” (45)0
- إغتيال الإمبراطـور : وظن المحافظون أن ” يوليوس قيصر ” يسعى لإعادة الملكية ثانية إلى روما ، فأشاعوا عنه أنه ينوي نقل العاصمة إلى الإسكندرية ، بينما ملكة مصر ” كليوباترا ” قد تركت الإسكندرية منذ ما يقرب من عامين بلا ملكة ولا ملك ولا حاكم ، فإنها تؤهل نفسها للحياة في روما ، وفي 15 مارس سنة 44 ق0م إنفرد ثلاثة وعشرون شخصاً بيوليوس قيصر وهو على أعتاب مجلس الشيوخ ، وطعنوه طعنات نافذة ، ونظر فإذ به يلمح صديقه ” بروتس ” بينهم فقال : ” حتى أنت ياولدي 00 حتى أنت يابروتس !! ” وذاعت الأنباء في روما ” لقد قتلنا الظالم ” أما الشعب فقد صمت من هول المفاجأة ، وإمتزجت الحسرة بالألم ، وإرتسمت المأساة واضحة على وجه ملكة مصر ، فشدت الرحال وقفلت إلى بلادنا المصرية تنشد الأمن والأمان ، بعد أن تبخرت أحلامها في أن تصبح سيدة روما الأولى 0 عادت كليوباترا إلى الإسكندرية لتهتم بالبلاد التي تركتها نحو سنتين ، فنظمت الضرائب ، وحسنت من وسائل الري ، وإهتمت بتجميل الإسكندرية ، وعادت للنهوض بالميوزيوم والمكتبة فشجعت العلماء والأدباء والفنانين ، ونهضت بالصناعة وسمحت للمصريين بالتعيين في الوظائف الحكومية والتي كانت مقتصرة على الإغريق ، وفرح الناس بقدومها ، وعاد الهدوء والطمأنينة والرخاء إلى مصر ” كانت الملكة كليوباترا إمرأة ممتازة لصفاتها الشخصية وقوة أعمالها0 ولم ينجز أحد من الملوك من أسلافها مثل تلك الأعمال العظيمة التي أنجزتها 0 لقد عملت كل شئ بسخاء لمصلحة البلاد وقد قامت حتى وفاتها بأعمال عظيمة كثيرة عديدة وأنشأت مؤسسات هامة ” (46) وعقب إغتيال قيصر هبَّ ” أوكتافيوس ” حفيد شقيقة يوليوس ، وإبن يوليوس بالتبني ، الذي أوصى له يوليوس بعرش روما ، وهـبَّ معه ” ماركوس أنطونيوس ” للإنتقام من قتلة قيصر ” بروتوس ” و ” كاسيوس ” وإنفرد كل من الأربعة بجيشه ، وواجه ” أنطونيوس ” كاسيـوس وألحق الهزيمة به ، فانتحر ” كاسيوس ” قبــل أن يعلم أن مشايعه ” بروتوس ” قد ألحق الهزيمة بأوكتافيوس ، إنما ظن العكس0 وبعد ثلاثة أسابيــع إستطــاع ” أوكتافيـوس ” أن يرد الهزيمة على ” بروتوس ” الذي هرب وإنتحر أيضاً ، وبهذا إنتحر قتلة قيصر كاسيوس وبروتوس0 أمـا ” أوكتافيوس ” فقد صار إمبراطوراً للغرب ، و ” ماركوس أنطونيوس ” إمبراطوراً للشرق0
وأردف ” ميناس ” قائلاً : إن كانت هذه المغامرة العاطفية لملكة مصر ، إنتهت باغتيال الإمبراطور ، وإنتحار قتلته ، فإن المغامرة الثانية لكليوباترا ستنتهي نهاية مآساوية بصورة أبشع إذ يقتل آلاف الجنود وينتحر زوجها الجديد أنطونيوس وتنتحر هي أيضاً0
إسكندر : إن الموضوع مشوق جداً ، ولكن عفواً للمقاطعة فإنني أشعر أنني في حاجة شديدة للعودة إلى محل خدمتي ، فكأن هناك هاتفاً داخلي يدعوني للإسراع إلى الكاتدرائية ، وتعاطف الأصدقاء مع مشاعر إسكندر ، فأسرعوا الخطى نحو الكاتدرائية ، وما أن إقتربوا من الباب الخارجي حتـى شعروا بأن هناك أمراً غريباً يحدث ، وقد تجمع تقريباً كل آباء الإسكندرية مع الأراخنة ، فإذ بالحالة الصحية لـ ” قداسة البابا ثاؤنا ” قد تدهورت كثيراً ، فدلف ” إسكندر ” و ” أرشي ” إلى القلاية البطريركية 00 إلتفوا حول سرير البابا وكل منهم يعتصره الألم ، وتجرأ أحــد الآباء قائلاً : ” أتمضي هكذا ياأبانا وتتركنا يتامى ؟! “
فقال البابا مشيراً على ” أبونا بطرس ” : ” هذا أبوكم الذي يرعاكم من بعدي 00
” أخبركم أمراً عجيباً لا أستطيع إخفاءه ، فبينما كنت أصلي المزامير وأنا مستلقي على سريري ، ناجيت الرب وطلبت منه أن يرسل راعياً صالحاً لقطيعه ، يعمل حسب مشيئة الله ، وسط ضيق هذا العالم 00
وإذ برب المجد ، ملك الملوك ، يظهر لي ويطمئنني قائلاً : أيها البستاني للحديقة الروحية ، لا تخف على البستان ولا تقلق ، أُسلِمه إلى بطرس الكاهن يرويه ، وتعالَ أنت لتستريح مع آبائك “
وإلتفت البابا ثاؤنا لأبونا بطرس وقال :
” تشجع ، فإن الله معك ياإبني 0 إفلح البستان جيداً “
وبكى ” أبونا بطرس ” وسجد بين يدي أبيه الروحي ومعلمه وحبيبه قائلاً :
” إني غير مستحق وليس لي قوة لعمل عظيم كهذا “
فقال ” البابا ثاؤنا ” :
” لا تقاوم الرب ، فأنه يهبك قوة “
وتمتم البابا قائلاً: “هوذا ملك المجد وملائكته القديسون !! “
وأغمض ” البابا ثاؤنا ” عينيه ليفتحهما على دهور النور في اليوم الثاني من شهر ( طوبة ) سنة 301م ، وسريعا ما إنتشر الخبر ، حتى إرتجت مدينة الإسكندرية ، وجاء المؤمنون عشرات الألوف وحتى غير المؤمنين جاءوا ليشهدوا مدى محبة الشعب القبطي وإخلاصـه ووفـاءه لأبيه البطريرك 00 لقد أُغتيل ” يوليوس قيصر ” سيد العالم فلم تهتز روما مثلما إهتزت الإسكندرية بإنتقال الأب البطريرك00
عَبَرَ ” البابا ثاؤنا ” ذاك الرجل التقي من أرض الشقاء إلى أرض البقاء 00
عَبَرَ ذاك الرجل المثقف صاحب الفكر العالي من دار التعب إلى دار الراحة 00
عَبَرَ ذاك البستاني الأمين الذي أنشأ أول كاتدرائية العظمى وجمع أولاده في حضنه بوجهه البشوش وإبتسامته الحلوة وقداسة سيرته 00
عَبَرَ ذاك الرجل العظيم سريعاً بعد أن تولى الباباوية من 14 برمودة سنة 282م إلى شهر طوبة سنة 301م نحو تسعة عشر عاماً مرت بسرعة البرق ، والكنيسة تعيش في سلام ، وقد هدأت الإضطهادات طوال فتـرة رعويتـه ، بـل منـذ عهد الإمبراطور ” جاللينوس ” Gallinus ( 260 – 268م ) الذي أصدر مرسوم التسامح الديني سنة 261م 00 يالها من فترة سلام طويلة إستغرقت نحو أربعين عاماً (47) تزايد فيها عدد المسيحيين في الوظائف والمراكز المرموقة ، وبُنيت الكنائس في المدن الكبرى ، حتى صار في روما نحو أربعين كنيسة ، وفي مقدونيا كاتدرائية ضخمة وكذلك في الإسكندرية0 ولا أحد يعلم أن الإضطهاد الدقلديانوسي العارم الذي سيغرق العالم في دماء المسيحيين البررة يقف على الأبواب0
(37) قول أراتوستينيس بدوران الأرض حول الشمس صحيح وهذا ما أكده كوبرنيكوس في القرن الخامس عشر الميلادي ، كما أن الرقم الذي وصل إليه كمحيط للكرة الأرضي لا يفرق عن الرقم الصحيح إلاَّ بخمسين ميلاً فقط0
(38) نافتالي لويس – ترجمة د0 أمال الروبي – الحياة في مصر في العصر الروماني 30 ق0م – 284م0
(39) محاضرات جريجينوج – ترجمة كامل ميخائيل عبد السيد – من الإسكندر الأكبر حتى الفتح العربي
(40) ونفرد هولمز – ترجمة سعد أحمد حسين – كانت ملكة على مصر ص 128
(39) المرجع السابق ص 148 ، 149
(41) د0 الحسين أحمد عبد الله – مصر في عصر الرومان – أصداء الإستغلال وأنشودة البقاء ص 52
(42) ونفرد هولمز – ترجمة سعد أحمد حسين – كانت ملكة على مصر ص 165
(43) د0 حسين يوسف ، د0 حسن الإبياري – تاريخ وآثار مصر في عصر الرومان ص 39
(44) د0 الحسين أحمد عبد الله – مصر في عصر الرومان – أصداء الإستغلال وأنشودة البقاء ص 53
(45) قول بـ H-Volknann أورده د0 عبد اللطيف أحمد علي – مصر والإمبراطورية الرومانية ص 29
(46) قول ليوحنا النيقوسي – أوردته ونفرد هولمز – ترجمة سعد أحمد حسين – كانت ملكة على مصر ص 172
(47) راجع رأفت عبد الحميد – الدولة والكنيسة جـ 2 ص 47 ، ومعالي حسين محمد – الإمبراطور دقلديانوس ( رسالة ماجستير ) ص 71