المعلم العظيم ف6 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل السادس : المعلم العظيم
قبل أن يضع ” قداسة البابا ثاؤنا ” اليد على الشماس الشاب ” بطرس ” ليصبح قساً ، تأكد تماماً أن هذا الشماس قلبه ثابت في طريق البتولية ، لأنه في السيامة يأخذ روح الأبوة لكل الشعب ، فلا يحل له الزواج ، إذ كيف يتزوج بواحدة من بناته ، ولأجل هذا السبب فأن الكاهن الذي يسمح الله بإنتقال زوجته لا يستطيع أن يتزوج ثانية ، والشماس ” بطرس ” قد وضع في قلبه طريق البتولية منذ سنوات طويلة ، وكان يدرك هذا عندما قبل درجة الشموسية وهي درجة كهنوتية وهو في الثانية عشر من عمره0
وكـم كانـت فرحـة مسيحي الإسكندرية بسيامة الشماس ” بطرس ” قساً ، وترقية ” أبونا ثيؤودوسيوس ” قمصاً 00 كانت الفرحة غامرة بالكاهن بن الكاهن ، يوحنا المعمدان الجديد إبن زكريا الكاهن ، البركة إبن البركة ، ولم تشغل القسيسية ” أبونا بطرس ” عن تلمذته لقداسة البابا ثاؤنا ، بل ظل قريباً منه قرب التلميذ من معلمه يتعلم من صمته قبل كلامه ، ولم يبخل ” البابا ثاؤنا ” على أبونا بطرس بكلمة منفعة أو نصيحة ما ، ولمح البابا عمل نعمة الكهنوت في أبونا ” القس بطرس ” فكان يعتمد عليه في الأمور الجسيمة ، ووضع ” البابا ثاؤنا ” في قلبه أنه متى خلت أسقفية فإنه سيسيم عليها أبونا بطرس0
وسلك ” أبونا بطرس ” في حياة التدقيق في كل أمور حياته الروحية والرعوية ، يلاحظ نفسه والتعليم ، فكان يقوم بخدمة الوعظ في الكاتدرائية ، فتفيض عظاته روحانية وعلماً وتعليماً ، ولسانه الحسن المنطق بهر جمهور المصلين0 ووضع ” أبونا بطرس ” الإهتمام بخدمة الإفتقاد في مقدمة إهتماماته ، ولاسيما أن الإحصاء الدقيق الذي أجراه ديمتري وأصدقائه وخدام الكنيسة أفصح عن بعض الأسر التي تحتاج لرعاية خاصة ، من أسر المعترفين وأسر الفقراء مادياً أو روحياً ، بل إتضح أن هناك أسر قليلة مسيحية تعيش في الحي اليهودي وهي من أصل يهودي ونالت الصبغة المقدَّسة خفية ، وليس لها من يسأل عنها ، وبدأ ” أبونا بطرس ” يخصص وقتاً يومياً للإفتقاد المنظم ، وقبل أن يدخل بيتاً يرجع للعمل الديمتري الذي بحوزة البابا فيعرف أصحاب البيت وأسمائهم وأعمارهم وأحوالهم ، وبرع ” أبونا بطرس ” في خدمة الإفتقاد ، فظهرت وجوه جديدة لم تكن من قبل تعرف طريق العبادة المسيحية والإجتماعات الروحية ، كما أن الكاتدرائية الضخمة جذبت الآلاف من أبنائها في أحضانها ، فمن لم يأتِ للصلاة جاء ليرى هذا العمل المعجزي ، فيشعر بالفخر تجاه كنيسته ويعزم على عدم تركها قط بعد الآن0
وتمتع ” أبونا بطرس ” بموهبة توظيف المواهب ، فأخذ يكلف الخدام بخدمات أكثر ، وإستأذن من أبيه الروحي ” قداسة البابا ثاؤنا ” لتكريس الأخين ” إسكندر ” و ” أرشي ” للخدمة ، فسامهما البابا أبيذياكونيان وتكرسـا للخدمة تماماً ، فصار الشماس ” إسكندر ” الذراع الأيمن لأبونا بطرس يساعده في الإفتقاد والخدمات الروحية ، وحمل الشماس ” أرشي ” عبء العمل الإداري والمالي بروح التواضع والخدمة والتقوى متمثلاً بأسطفانوس رئيس الشمامسة وأول الشهداء0 وطلب ” أبونا بطرس ” من ” إسكندر ” وأصدقائه أن يكملوا العمل الذي بدأوه ، فقاموا بعمل سجلات منفردة للمعترفين الذين تعرضوا للعذابات أو السجن أو النفي ولم يصلوا إلى درجة الإستشهاد ، وأخرى للفقراء المحتاجين مادياً ، فسواء هؤلاء أو أولئك فقد أولاهم أبونا بطرس عناية وإهتماماً خاصاً ، كما إهتم الأخ ” أرشي ” بإنشاء سجلات للتبرعات وحسابات الكاتدرائية والأوقاف والمصروفات 00 إلخ وكل هذا سواء ما فعله إسكندر أو أرشـي كان موضع رضى ” الأب البطريرك ” وتلميذه ” أبونا بطرس “0
وصار ” أبونا بطرس ” معيناً للبابا في أمور شتى ، لم يتخل عنه يوماً ، وقبل أن يستدعيه البابا في أمر ما أو مشكلة يجده ماثلاً أمام يديه ، يدرك ما يريده البابا تماماً وينفذه بحسب مسرة قلب البابا ، فطاعته وحرصه الشديد على إنهاء الخدمات التي يُكلف بها على أحسن ما يكون ، كان موضع رضى ومسرة البابا0
وبالإضافة لأولويات ” أبونا بطرس ” بالإفتقاد بصورة منتظمة مستمرة ، ورعاية أسر المعترفين الفقراء ، فإنه وضع ضمن هذه الأولويات أيضاً الإهتمام بـ ” مدرسة الإسكندرية اللاهوتية “ ، فسهر على النهوض بها عن طريق محاضراته وعلمه الغزير ، وأيضاً عن طريق تكليـف مدرسين جدد أكفاء للتدريس بها ، فهذه المدرسة التي بدأت الدراسة فيها عن طريق السؤال والجواب أصبح لها منهجها على يد العلامة أوريجانوس ، ولم تكتفِ المدرسة بتدريس الأمور اللاهوتية فقط ، بل قامت بتدريس الفلسفة والمنطق والفلك والكيمياء والجغرافيا والتاريخ00 إلخ0 ولهذا عينه البابا مديراً لهذه المدرسة العريقة التي تمتد جذورها إلى مارمرقس ، وطالما دَرَسَ ودرَّس بها عمالقة ، وطالما جذبت الكثيرين من طلاب الفلسفة والبلاغة والعلوم على أيدي أثيناغوراس وبنتينوس وأكليمنضس السكندري والعلامة أوريجانوس 0
ولاحظ ” أبونا بطرس ” أن هناك الكثيرين من غير المؤمنين الذين يعبدون الأوثان في سذاجة ، فألف كتاباً أوضح فيه مدى الضلال في العقائد الوثنية ، فليس من المعقول أن يكون هناك أكثر من إله ، وإلاَّ تضاربت مشيئاتهم وقراراتهم ، وأظهر ” أبونا بطرس ” أن عبادة الأوثان هي عبادة شيطانية ، فخلف كل وثن شيطان ، ولذلك إرتبطت هذه العبادات بالسحر والعرافة ، والإنحلال الخلقي ، بـل وصل الأمر إلى تقديم ذبائح بشرية لهذه الآلهة الكاذبة ، فمثل هذه العبادات الفاسدة تفسد العقل وتشوش الفكر ، وأوضح ” أبونا بطرس ” عظمة الإنسان وكرامته في المسيحية ، فهو المخلوق الوحيد على صورة الله ومثاله ، وأن الحرية الحقيقية لن تجدها إلاَّ في المسيحية ، حيث الحرية المنضبطة وليست الحرية المنفلتة التي تجعل الإنسان أسيراً لشره وشيطانه00
وكان ” البابا ثاؤنا ” يثق في ” أبونا بطرس ” ذلك الإناء المختار للروح القدس فيفوضه في المهام الصعبة ، ففي أحد أيام الأحاد عقب إنتهاء القداس الإلهي ، بدأ الشعب ينصرف من الكاتدرائية ، وإذ بالبعض يفر هارباً والآخر يعود أدراجه إلى داخل الكنيسة منزعجاً ، فإن أحد الأشخاص بالخارج في إنتظارهم يزأر كالأسد ، ويرشقهم بالأحجار والزلط ، وتكاد أنك لا ترى يديه من سرعة الأداء وقوته ، فحدث هرج ومرج وكل من أصيب كان يصرخ ، وعندما وقف ” قداسة البابا ثاؤنا ” على الحدث لم يأمر شعبه بالتقهقر وإغلاق الأبواب ، إنما أوفد الجندي الشجاع ” أبونا بطرس ” ليوقف هذا الشر ، ووقف ” أبونا بطرس ” حائراً لحيظة ، فكيف ينتهر الروح النجس في وجود البابا ، ومن جانب آخر كيف يتأخر ولو للحظة في تنفيذ كلمة البابا ، وللوقت بنعمة الله الحالة فيه حلَّ هذه المعضلة ، فأسرع بإحضار إناء ماء وطلب من قداسة البابا أن يرشم بصليبه هذا الماء ، فرشم البابا الماء بالصليب ونفخ فيه ، وفي جرأة فريدة إقتحم ” أبونا بطرس ” المنطقة الخطرة ، والأمر المدهش أن الزلط كان ينهال على أبونا بطرس ، وبدلاً من أن زلطة تهشم رأسه أو أخرى تحطم عظمة من عظامه ، فإذ بهذا الزلط ينحرف يميناً ويساراً وأعلى وأسفل ، ولا واحدة أصابت ذاك البطل الشجاع ، وأمسى هذا الروح النجس في مواجهة الروح القدس الساكن في قديس الله ، وللوقت طسَّ ” أبونا بطرس ” الرجل بالماء في وجهه وهو يقول له بثقة تامة وإيمان كامل : ” باسم سيدي يسوع المسيح إبن الله الحي ، الذي أخرج لجيئون وأبرأ المرضى 0 أُخرج منه أيها الشيطان بصلوات القديس ثاؤنا البطريرك ، ولا تعد إليه ” وإذ بالروح النجس يزأر مثل الأسد الجريح ، ويفارق الرجل ، الذي عاد لوعيه وكأنه كان مُغيَّباً 00 بدأ يهز رأسه وكأنه أستيقظ من نوم عميق إثر صدمة قوية ، وإذ به أمام كاهن الله الذي يرتدي ملابس الخدمة البيضاء بوجهه البشوش ، فينحني أمامه يقبل يديه ويقدم إعتذاراته السريعة المتكررة : ” سامحني ياأبي 00 إغفر لي ياأبي ” وسالت الدموع من عينيه ، وإذ بأبونا بطرس يضمه لأحضانه ويهمس في أذنه : ” أرجع عن شرورك ياإبني لئلا يكون لك أشر ” وإصطحبه إلى الكاتدرائية ، فغسل الرجل وجهه وسلَّم على ” قداسة البابا ثاؤنا ” الذي رحب به بشدة وكأنه ضيف عزيز ، فيهمس في أذن البابا قائلاً : ” كنـت أقـدم طقـوس العبادة في بيتي لحتحور ( البقرة المقدَّسة ) وتلوتُ عدة عزائم لحضور رئيس الشياطين ، فحضر ، ولم أستطع أن أصرفه ، لأنه دخل مع ملائكته وسكن داخلي ، فكان يدفعني لإيذاء الآخرين ” ، فسلمه الباب لأبونا بطرس الذي أوضح له ضلال السحر وعبادة الأوثان ، فتاب ، وعمَّدهُ ، وصار ملازماً للكنيسة كخادم أمين يحرس بوابة الكاتدرائية بلا مقابل0
ومرَّت الأيام والسنون ، و” أبونا بطرس ” يلازم ” قداسة البابا ثاؤنا ” يتتلمذ على يديه ، ويتعلم منـه سعة الأفق وقداسة السيرة ، لا يتكلم في حضرة قداسة البابا إلاَّ إذا طُلِب منه ، ويجيب بقدر المطلوب ، وإن حمل خبراً إلى البابا مهما كان هذا الخبر مزعجاً يستطيع بحكمة عجيبة أن يقدمه بصورة بسيطة لطيفة ، لأنه يعلم أن قوى السماء تُعضد أبيه ، وفي ذات يوم جاء إلى فناء الكاتدرائية الأسقف ” سابليوس ” على رأس عدد ليس بقليل من أتباعه ، ولم يشأ أن يقترب من ” القلاية البطريركية ” بل أرسل للبابا يقوم : ” أخرج وناظرني في هذا اليوم ، فإن كنتَ على صواب أتبعك ، وإلاَّ فأعلِم الشعب أنك على خطأ “0
كان ” سابليوس ” قـد تربـى فـي روما ، وتتلمذ على يد ” نومئيتوس ” الهرطوقي ، وأخذ منه تعاليمه بأن الله أقنوم واحد ، وسيم ” سابليوس ” أسقفاً لبطولمايس Ptolemais وهو ميناء يتبع ” بانتابوليس ” ( الخمس مـدن الغربيـة ) الممتـدة من طرابلس ( الغرب ) إلى إقليم مريوط ، ولم يعترف بالآب والإبن والروح القدس ، فقال أن الله أعطى الناموس لإسرائيل في العهد القديم بصفته الآب ، وظهر في شكل إنسان فـي العهد الجديد بصفته الإبن ، وحلَّ على الرسل الأطهار بصفته الروح القدس ، فالأب والإبن والروح القدس مجرد مسميات أُطلقت على ثلاث أدوار قام بها الله الواحد ، أو بمعنى آخر ثلاث صوُّر عبر بها الله عن نفسه للبشرية ، أو ثلاثة أشكال Modes لإعلان الله الذاتي ، ودعيت عقيدته هذه بالسابلية Sebellianism أو Modalism ، ودُعي أصاحبها بـ ” مؤلمي الآب ” Patripassiono لأنهم إدَّعوا أن الآب هو الذي صُلب وتألم ، ولم يكف ” سابليوس ” عن نشر هرطقته رغم أن ” البابا ديونسيوس ” كان قد عقد مجمعاً سنة 261م وحكم عليه بالحرم 0 وقال ” قداسة البابا ثاؤنا ” : ” ياأبونا بطرس أخرج إلى هذا الرجل الهرطوقي وأسكته “0
وعلى الفور إنحنى ” أبونا بطرس ” أمام قداسة البابا طالباً صلواته ، وخرج في هدوء إلى الأسقف المتعجرف ، الذي ما أن رآه حتى إستصغره في عينيه قائلاً لأتباعه : ” أنظروا إلى صلف ثاؤنا الذي لم يخرج إلينا ، بل أرسل لنا بأقل من عنده من الصبيان الصغار “0
فقال ” أبونا بطرس ” : ” إن كنتُ أمامك صغيراً ولكنني عند أبني ثاؤنا كبيراً “0
ولم يلتفت ” أبونا بطرس ” إلى نظرات الحاقدين الشامتين المتحفزين ، ولا إلى نظرات الإستصغار والإحتقار التي باتت واضحة في أعين سابليوس وأتباعه ، إنما بدأ يشرح في ثقة عقيدة الثالوث القدوس قائلاً : عندما نبحث عن الله نجده واحداً لا غير ، لا شريك له ، ولا إله غيره ، هو الله الواحد ، بلاهوت واحد ، طبيعة إلهيَّة واحدة ، جوهر إلهي واحد ، كيان إلهي واحد ، ذات إلهية واحدة ، فوحدانية الله هو الدرس الأول الذي علمه الله للبشرية منذ عصر الآباء ، وهو الذي تؤيده عشرات الآيات من العهد القديم والعهد الجديد أيضاً0
ولكن عندما نتأمل في الله الواحد ، لا نجد وحدانيته وحدانية صامدة جامدة ، إنها وحدانية جامعة شاملة ، بها الوجود والعقل والحياة ، فهي وحدانية موجودة عاقلة حية ، وحدانية فيها الأبوة والبنوة والإنبثاق ، الآب والإبن والروح القدس ، وهذا هو الدرس الثاني الذي ميزنا به الله كمسيحيين عن اليهود ، وكلمة ” أقنوم ” كلمة سريانية تعني ” ما يتميز عن غيره بدون إنفصال ” فالآب يتمايز عن الإبن وعن الروح القدس ، وهكذا الإبن يتمايز عن الآب والروح القدس ، وأيضاً الروح القدس يتمايز عن الآب والإبن ، ولكن بدون إنفصال ، فالآب في الإبن والإبن في الآب ، والروح القدس روح الآب والإبن0
وقد أكد الإنجيل لنا مراراً وتكـراراً أن كــل أقنوم هو : ” كائن ، حي ، قدير ، غير منفصل ، يعبر عن نفسه ” ، فالآب كائن منذ الأزل ، حي ، قادر على كل شئ ، غير منفصل عن الإبن والروح القدس ، يعبر عن نفسه ، فيقول ” هذا هو إبني الحبيب الذي به سررت ” 0 وهكذا الإبن كائن ومخارجه من أيام الأزل ، حي ، قادر على كل شئ ، غير منفصل عن الآب وعن الروح القدس ، ولذلك كثيراً ما كان يؤكد هذه الحقيقة قائلاً ” أنا في الآب والآب فيَّ ” ويعبر عن نفسه ، فيخاطب الآب ” ياأبتاه إغفر لهم لأنه لا يعلمون ماذا يفعلون ” ومن الممكن أن الإبن يخاطب الآب قائلاً ” مجدني بالمجد الذي لي عندك قبل تأسيس العالم ” ويرد عليه الآب ” مجدتُ وأمجد أيضاً ” ، وهكذا الروح القدس هو روح الله الأزلي ، الحي ومعطي الحياة ، قادر على كل شئ ، غير منفصل عن الآب والإبن ، لأنه هو روح الآب وروح الإبن أيضاً ، ويعبر عن نفسه ، فيقول مثلاً ” أفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه “0
و” الإنسان ” الذي جبل على صورة الله ومثاله نجد فيه التثليث والتوحيد ، فالإنسان واحد ، والإنسان الواحد فيه الجسد وفيه العقل وفيه الروح ، والجسد غير الروح والروح غير الجسد ، بدليل أن الروح عندما تفارق الجسد لا يعد الإنسان إنساناً إنما يصير جثماناً ، و” الشمس ” التي هي إحدى خلائق الله ، وليست إلهاً كقول المصريين أنه الإله ” رع ” ، نرى في الشمس الواحدة قرص الشمس والضوء والحرارة ، وكل منهما غير الآخر ، والثلاثة هم شمس واحدة ، وهكذا ” النار ” 00 إلخ0
وأفاض ” أبونا بطرس ” في الحديث عن التثليث والتوحيد مستشهداً بآيات من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا ، وركز على أحداث عيد الثيئوفانيا ، حيث سُمِع صوت الآب من السماء ” هذا هو إبني الحبيب الذي به سررت ” والإبن قائم في الماء ، والروح القدس في الهواء حالاً على الإبن على شكل حمامة ، ووصية السيد المسيح لتلاميذه بعد القيامة وقبل الصعود عندما أوصاهم أن يكرزوا للخليقة كلها وأن يتلمذوهم ويعمدونهم ” باسم الآب والإبن والروح القدس ” فقوله ” باسم ” إشارة للوحدانية ، وقوله ” الآب والإبن والروح القدس ” تأكيد على التثليث ، ولو كان الآب هو الإبن هو الروح القدس ، والموضوع مجرد تسميات ما كان هناك داعٍ لذكر الثلاثة ، ولأكتفوا في العماد بالقول ” باسم الله الواحد ” 0
وإذ تكلَّم الروح القدس على فم أبينا بطرس ، جاءت الكلمات معبرة والأفكار مرتبة ، وأصيب الأسقف بربكة وقد جحظت عيناه ، فلم يفق من ضربة إلاَّ ويأخذ الأخرى ، بينما وقف أتباعه يتعجبون ويتهامسون : ” الموضوع واضح وضوح الشمس 00 فعلام هذا الغموض الذي عشنا فيه ؟!00
فقال ” أبونا بطرس ” لهم : ” إن كان عندكم ما تقولونه فقولوه ، وإلاَّ فاسكتوا ولا تجدفوا ” 00
لقد سكتوا فعلاً ، ولكن تعلقهم بسابليوس منعهم من الإنقلاب عليه ورفض هرطقته00 إنهم يعيشون حياة الرياء ، وتظاهرهم بأنهم الأتباع الأوفياء لسابليوس لم يمنع بعضهم من أن يتهامس : ” من هذا القس العجيب الذي جعل الأسد أرنباً “0
وإنصرف ” سابليوس ” وأتباعه ، متمسكاً بكبريائيه ، رافضاً التخلي عن هرطقته ، بينما كان ينمو ” أبونا بطرس ” في النعمة وحياة الإتضاع يوماً فيوماً ، وفي ذات يوم رأى ” السيد المسيح ” له المجد قائماً على المذبح ، ينهي ” البابا ثاؤنا ” عن مناولة الأسرار المقدَّسـة لإنسـان يصـر على شره ، ويقول له : ” يارئيس الأساقفة ، لا تناوله لأنه لا يستحق أن يأخذ جسدي المقدَّس ” فارتدت يد البابا ثاؤنا بالجسد المقدَّس ، وهو يهمس في أذن الرجل بحنان بالغ : ” ياإبني لا تستطيع أن تتناول من هذه الأسرار إن لـم تتطهر أولاً من خطاياك ” وعقب نهاية القداس أنذر ” البابا ثاؤنا ” شعبه قائلاً : ” ياأولادي في كل مرة يمنحكم الرب التوبة في محبته للبشر ، طهروا أنفسكم قبل أن تتقدموا ، خشية أن تأخذوا عقاباً عظيماً بدلاً من المغفرة ” (26)0
ديمتري : لا أستطيع أن أخفـي إعجابي الشديد بأبينا الحبيب بطرس ، فمحبته تغمرنا ، وعلمه ينير عقولنا 00 إنصتوا إلى محاضراته الجامعة الشاملة ، الكاملة الوافية ، التي تجمع ما هو عقيدي مع ما هو روحي ، وكتابي ، وتاريخي ، ومنطق ، ولكن للأسف الشديد فما زال عقلي يقف مقابلي ، إنني أقبل التثليث والتوحيد في الذات الإلهيَّة ، ولكن ” يهوه يصير عبداً !! 00 يهوه يُضرب ويُهان ويُعرى ويُصلب ويموت !! أين كرامته ؟! وأين ملائكته ؟!! ” 00 لا أستطيع أن أقبـل العماد إن لم يكن إيماني كاملاً ، حتى لا أُحسب مرائياً0
أرشي : سيأتي الوقت الذي تؤمن فيه ياديمتري ، ويكون إيمانك عظيماً0
ديمتري : متى يكون هذا والأيام تكر والسنون تفر ؟
أرشي : إلهنا المحب الذي لا ينسى أجر من يسقي أحد الصغار كأس ماء بارد من أجل إسمه 00 هل تظن أنه ينسى محبتك وتعبك وأعمالك وخدماتك وتضحياتك ومحبتك ؟!! 00 كن مطمئن تماماً من جهة هذا الأمر0
ديمتري : إنني لن أنقطع عن المدرسة اللاهوتية 00 كم نشكر الله عليها0
أرشي : عندما جاء مار مرقس إلينا منذ أكثر من مائتي عام وجد بها تيارات فلسفية مختلفة من يونانية ، وشرقية ، وفارسية ، ويهودية ، وأفلاطونيـة حديثــة تجمع بيـن الفلسفات اليونانية والرومانية ( Greco – Roman ) كما وجد ديانات عديدة ، ومكتبة عالمية ، و ” ميوزيوم ” عبارة عن أكاديمية عظيمة ، فكان من الصعب قبول الديانة المسيحية الجديدة ، ولاسيما أن لها إرتباط باليهودية ، بينما الإسكندريون يكرهون اليهود0 كما أن السكندريين شغوفين بالأمور الفلسفية والعقلانية ، حتى أن الذين قبلوا الإيمان المسيحي ظل معظمهم يرتاد المدرسة الفلسفية والعلمية الوثنية ، يستمع للمحاضرات التي يلقيها أساطين الفلسفة الوثنية ، ولذلك حرص كاروز الديار المصرية على أن ينشئ ” مدرسة لاهوتية ” وليس لتعليم الإيمان المسيحي فقط ، بل للرد على الهجمات التي يقودها الفلاسفة ورجال الدين ورجال السلطة الوثنيين ، وأيضاً لدراسة هذه الفلسفات وتلك الأديان ، وكشف ما فيها من زور وبهتان ينطلي على عقل البسطاء ، وعلى حد تعبير ” فارر ” Farar الذي قال ” ففي مدينة مثل هذه ( الإسكندرية ) بمتحفها ومكتباتها ومحاضراتها ومدارسها الفلسفية ومجامعها اليهودية الفخمة وملحديها العلنيين وأفكارها الشرقية الباطنية العميقة ، لا يحمل فيها الإنجيل قوة إن لم يكن قادراً على خلق معلمين قادرين على مجابهة فلاسفة وثنيين ويهود أفلاطونيين وشرقيين إختاروا خليطاً من الفلسفات ، يجابهونهم بذات أسسهم0 فإن مثل هؤلاء المفكرين يرفضون الإنصات لمن هم غير قادرين على فهم أفكارهم والإهتمام بما ينشغلون به وتفنيد حججهم الأساسية ، بهذا يلتقون بهم بروح مسيحي لطيف ” (27)0
لقد صارت ” مدرسة إسكندرية اللاهوتية ” منارة بمدينة الإسكندرية التي أضاءت سمائها وسط غياهب وظلمات الفلسفات والأديان الوثنية ، وصارت هذه المدرسة تمثل المركز الأول في العالم للدراسات اللاهوتية بلا منافس ، وصارت أقدم مدرسة في التاريخ المسيحي ، ومنها إنطلق التفسير الرمزي للكتاب المقدَّس ، ودعيت بـ ” الكاتشيس ” لأن التعليم فيهـا كان يتم بالسؤال والجواب ، وهي مدرسة بحثية يرشد فيها المعلمون الطلبة لمدارس الفلسفات المختلفة ، ويساعدونهم على إختيار ما هو نقي وطاهر وحق ، ورفض كل ما هو باطل ، وقد تميَّز طلبة المدرسة وأساتذتها بسمو الأخلاق وضبط النفس والتمسك بالفضيلة ، فقد جمعت المدرسة بين الدراسة النظرية والحياة العملية المسيحية ، وإمتازت الدراسة فيها بحياة التلمذة ، فالمدرسة هي المعلم ، وحيثما وُجِد المعلم وُجِدت المدرسة ، وبينمـا لمدرسـة الإسكندرية العلمية ( الموزيوم ) مبانيها الضخمة وقاعاتها الفسيحة ، وطالما حظت بدعم الدولة المالي والأدبي ولاسيما في عصر ملوك البطالمة ، فإن مدرسة إسكندرية اللاهوتية ليس لها مبنى ، فيجتمع طلبتها في بيت أو في ركن من أركان الكاتدرائية ، وكان أوريجانوس يؤجر القاعات لإلقاء المحاضرات التي يلقيها ويحضرها حشد كبير0
إن هذه المدرسة العظيمة أروت ظمأ الكثيرين للمعرفة الحقانية ، كما أن إهتمامها بالفلسفات اليونانية وإحترام ما جاء فيها من بصيص من الحق دلَّ على سعة أفق مديريها ، وبهذا ربحت نفوس كثيرة من الفلاسفة ، كما درس طلبتها بجوار العلوم اللاهوتية بعض العلوم الأخرى مثل الفلك والهندسة وغيرهما كعلوم تمجد إسم الله ، وأيضاً من مميزات مدرستنا اللاهوتية أنها ضمت الجنسين من رجال ونساء ، بل ضمت الأحرار والعبيد ، فصارت بشكلها هذا كرازة عملية للكل0
إسكندر : دعوني أخبركم بأمر لطيف ، وهو أن محاضرة ” أبونا بطرس ” في مساء هذا اليوم ستدور حول بعض مديري المدرسة اللاهونية ، ولاسيما أن بضعهم صاروا بطاركة لكنيستنا العريقة 00 هل تذكر ياأخ ديمتري عندما سألت عن الأسباب التي من أجلها يضطهدنا الأباطرة ، وعندما حضرت معنا المحاضرة الأولى لأبونا بطرس وجدته يتحدث عن ذات الموضوع 00 يبدو واضحاً أن روح الله القدوس ينظر إلى إشتياقاتك ياأخ ديمتري ويعطيك حسب سؤل قلبك0
وفي المساء كان الإصدقاء من أوائل الذين حضروا إلى كاتدرائية الأف عمود ، حيث هيأوا مكانا لمحاضرة أبونا بطرس مدير المدرسة اللاهوتية ، وتحدث أبونا بطرس والمكان يلفه الصمت :
دعوني ياأخوتي الأحباء أحدثكم في سطور قليلة عن خمسة أباء من أباء مدرستنا اللاهوتية ، بحسبما يسمح الوقت 00 هؤلاء الآباء العمالقة الذين نتتلمذ على أقوالهم يوماً فيوماً ونرتوي من ينابيع الروح القدس التي فاضت على ألسنتهم ، ونقتدي بسيرتهم الطاهرة :
أولاً : العلامة أثيناغوراس
هو من مشاهير المدرسة الوثنية ، إذ كان يرأس أحد كراسي الأكاديمية ( الموزيوم ) بالإسكندرية ، ويعتبر من أساطين الديانة المصرية الوثنية ، وقد درس المسيحية بهدف نقدها وإظهار عيوبها ، وإذ بالمسيحية تجتذبه بشباك الحب الإلهي ، فقبل الإيمان المسيحي سنة 176م وتقدم في العلوم المسيحية حتى صار عميداً لمدرستنا اللاهوتية ، دون أن يخلع عنه رداء الفلسفة ، إنما إستخدم الفلسفة ببراعة ليكشف عن التناقضات التي فيها 0
ويُعد ” أثيناغوراس ” من الآباء المدافعين الذين دافعوا عن المسيحية والمسيحيين ، فكتب رسالة إلى الإمبراطور ” مرقس أوريليوس ” نحو سنة 176م يفند فيها الإتهامات التي وُجهت لنا كمسيحيين وأهمها :
- إتهامنا بالإلحاد لأننا لا نؤلّه الإمبراطور ، ولا نسجد لتمثاله ، ولا نشارك الشعب إحتفالاتهم الطقسية ، فأوضح ” أثيناغوراس ” بأن المسيحي يؤمن بوحدانية الله ، ولا يؤمن بتعدد الآلهَّة ، وأن هذا يتفق مع بعض الفلاسفة اليونان ، والمسيحي يعبد الخالق ولا يعبد المخلوقات ، والإمبراطور له كرامته ولكن ليس إلهاً يُعبد0
- إتهامنا بأكل لحـوم البشــر وشـرب دماء الأطفال ، لفهم الوثنييــن الخاطـئ عن سر الإفخارستيـا ، فتساءل ” أثيناغوراس ” : لو أننا نفعل هكذا فلماذا لم نُضبط في قضية قتل واحدة ؟! بل أننا نفزع من مناظر الإعدام ، وكذلك من مصارعة الحيوانات الضارية ، تلك المناظر التي يتلذذ الوثنيين بمشاهدتها ، وإذا كنا نعتبر الإجهاض قتلاً ، فكيف نقتل الأطفال ونشرب دمائهم ؟! وإن كنا نحب الجميع حتى أعدائنا فكيف نقتل أحداً ؟!
- إتهام المسيحيين بالإنحلال الخلقي لأن إجتماعاتنا ومدرستنا اللاهوتية تجمع الجنسين معاً رجال ونساء ، فأوضح ” أثيناغوراس ” أننا نؤمن بأن الله يطلع على أفكار وحركات قلوبنا ونظراتنا ، فكيف نجرؤ على إرتكاب الشر وممارسة الإباحية ؟ 00 إننا نُقدّس الحياة الروحية ، ولا نعترف بزواج المحارم ، ونرفض الطلاق ، ونمجـد البتولية ، بينما يؤمن اليونانيون بأن كبير آلهتهم ” زيوس ” قد أنجب أولاداً من أمه ” ريا ” وإبنته ” كوريا ” وإتخذ أخته زوجة0
- إتهامنا بأننا نعادي الدولة ، بينما نحن نصلي من أجل سلام المملكة وسلام الملوك والأباطرة والرؤساء ، وأن ينعم الله على الإمبراطور بالسلام والعمر المديد0
وعندما شكَّك البعض في قيامة الأجساد في اليوم الأخير ، كتب ” أثيناغوراس ” كتاباً عن حقيقة قيامة الأموات ، مستخدماً الفلسفة في إثبات هذه الحقيقة ، ومن الأدلة التي ساقها على هذه الحقيقة :
- الله الذي خلق الأجساد من العدم يستطيع أن يقيمها بعد تحللها0
- خلق الله الإنسان كائناً حياً عاقلاً فليس من المعقول أن يكون الموت هو النهاية0
- يتكون الإنسان من الروح والجسد ، والموت يحطم هذه الوحدة ، والقيامة تعيدها من جديد0
- كما إشترك الجسد والروح في أعمال الخير أو الشر ، فمن العدل أن يكافئا معاً أو يعاقبا معاً0
- خلق الله الإنسان من أجـل السعادة الأبدية التي لا تتحقق هنا ، إنما تتحقق في الحياة الأخرى0
والكنيسة التي لم تعرف أن تجامل أحداً على حساب الحق ، لم تقبل قول ” أثيناغوراس ” عندما نسب سقوط الشيطان إلى علاقة شهوانية مع بنات الناس نتج عنها الجبابرة ، بالإضافة إلى أمور أخرى ، ولذلك دعته الكنيسة ” العلامة ” ولم تدعه بالقديس0
ثانياً : القديس بنتينوس
وُلِد في الإسكندرية ، وكان فيلسوفاً رواقيا مشهوراً ، والفلسفة الرواقية تركز على الفضيلة والأخلاق ، ثم تعلم في مدرسة الإسكندرية اللاهوتية ، وآمن على يد الفيلسوف ” أثيناغوراس ” ، وصار مديراً لمدرستنا اللاهوتية خلفاً لأثيناغوراس سنة 181م ، ولم يكن ” بنتينوس ” مجرد معلم إنما كان على درجة عالية من العلم والمعرفة من جانب ، ومن جانب آخر كان معيناً للكثيرين فيهتم بخلاص كل إنسان ، فأحبه السكندريون ودعوه ” بنتينوسنا ” أي بنتينوس ملكاً لنا 0 إستمع إليه بعض التجار الهنود في الإسكندرية فطلبوا من البابا أن يرسله إلى الهند ليكرز هناك ، وفعلاً ترك رئاسة المدرسة اللاهوتية في يد ” أكليمنضس ” وسافر إلى الهند ، فكرز لهم ، وهناك وجد إنجيل متى الذي كتبه القديس متى باللغة العبرية ، وكان قد حمله إلى هناك ” القديس برثولماوس ” الذي بشرهم بالمسيحية ، وفي عودة ” بنتينوس ” مرَّ على أثيوبيا ، وبلاد العرب واليمن وكرز هناك ، وعندما عاد إلى الإسكندرية عاد إلى رئاسة المدرسة اللاهوتية0
ويرجع الفضل للقديس ” بنتينوس ” في الأبجدية القبطية ، إذ إستخدم الحروف اليونانية بدلاً من الحروف الهيروغليفية ، وأضاف إليها سبعة حروف من اللهجة الديموطيقية القديمة ، وقام بترجمة الكتاب المقدَّس للغة القبطية وقـد عاونـه فـي هذا تلميذيه ” أكليمنضس ” و” أوريجانوس ” 00 ” وكان أول وأعظم أعمال اللغة القبطية أنها نقلت الإنجيل إلى المصريين في لغة مصرية وثوب مصري ، ليس بالأجنبي اليوناني أو اللاتيني ، ولعل هذا من الأسباب التي جعلت المسيحية تنتشر بين المصريين جميعاً كعقيدة شعبية ” (28)0 وقدم ” بنتينوس ” شرحاً لكل أسفار الكتاب المقدَّس شفاهة وكتابة ، حتى دُعي ” شارح كلمة الله “0
ثالثاً : القديس أكليمنضس السكندري
وُلِد ” تيطس فلافيوس أكليمنضس ” سنة 150م من أبوين وثنيين ، وتبحر في الفلسفة اليونانية والأدب ، وكان دائب البحث عن الله فسافر إلى إيطاليا وسوريا وفلسطين ، ثم جاء إلى الإسكندرية وإستمع لعظات ” بنتينوس ” فافتَّتن به ، وآمن وإعتمد وتتلمذ على يديه وصار مساعداً له ، وإمتدحه كأعظم وأكمل معلم فقال ” إلتقيت بالأخير مصادفة ، لكنه كان الآول من حيث الإستحقاق ، وجدته أخيراً في مصر مختبئاً0 إنه بحق النحلة الصقلية ، يقتطف من كل الزهور من مروج الأنبياء والرسل ، ويودع في نفوس سامعين ذخيرة معرفة غير فاسدة ” (29)0 وعندما سافر معلمه بنتينوس إلى الهند عهد له برئاسة المدرسة اللاهوتية سنة 190م0
ويُعد القديس ” أكليمنضس ” رائد الثقافة المسيحية ، وأب الفلسفة المسيحية السكندرية ، وقد حاول أن يصلح بين الفلسفة والدين ، فلم يرفض الحق الذي في الفلسفة إنما رفض الباطل الذي فيها ، فقد كان ضليعاً فـي دراسة الفلسفة والتاريخ اليوناني ، والشعر ، والأدب ، والمنطق ، والموسيقى ، بالإضافة إلى معارفه الكبيرة بأسفار الكتاب المقدَّس ، فكان موسوعة متحركة ، وعوضاً أن يهاجم الغنوسية بكـل مذاهبها ، نادى بغنوسية أرثوذكسية إنجيلية ، وقال ” لا إيمان بغير معرفة ولا معرفة بغير إيمان ” (30) 00 لقد أراد أن يكون كل إنسان مسيحي ” غنوسياً ” أي ” عارفاً “0
وجمع القديس أكليمنضس بين المعرفة والتقوى ، ومزج الدراسة بالكرازة ، فكان هو راعي النفوس المثقف التقي ، وفي سنة 202م عندما إضطهد ” سبتيموس سويرس ” المسيحيين ترك الإسكندرية ، وسافر إلى فلسطين مفضلاً أن يعيش متخفياً حتى نياحته بعد أن ترك بصمات واضحة في التاريخ الكنسي ، وقد كتب ثلاثة كتب تُعرف بثالوث أكليمنضس0
- نصح لليونانيين : فمشيئة الله أن يخلُص الإنسان من براثن الوثنية ، وهاجم أكليمنضس العبادات الوثنية وأساطيرها من خلال كتابات الفلاسفة اليونانيين أنفسهم ، وفي هذا الكتاب قارن بين أعمال المسيحيين الفاضلة وبين أعمال الوثنيين الفاضحة ، وأوضح أن المسيحية هي التي تحل الإنسان من رباطات الشياطين ، وتسمو به إلى السماء ، ودعى هذا الكتاب بـ ” تحريض الأمم ” لهجر الوثنية0
- المربي : أو المرشد ، ويتكون من ثلاثة أجزاء ، تعين الذين هجروا الوثنية على السير في الحياة الأخلاقية الفاضلة ، فشمل الكتاب وصايا عديدة خاصة بالسلوك الجيد والأخلاق الراقية ، ووضع حتى وصايا تخص الحياة العامة من طعام وشراب وملبس وزينة وغنى 00 إلخ0
- المتفرقات : أو المتنوعات أو المقتطفات ، ويشمل ثمانية كتب ، ويدعو فيه الذي خضعوا للوصايا الأخلاقية أن يسعوا للمعرفة الإلهيَّة من خلال الغنوسية المسيحية
رابعاً : العلامة أوريجانوس ( 185 – 254 م )
وُلِد ” أوريجانوس ” سنة 185م في الإسكندرية من أبوين مسيحيَّين تقيّين ، وقد أنجب والده سبعة أبناء أكبرهم أوريجانوس ، وكان والده ” ليونيدس ” من معلمي الفصاحة ، وقد إهتم بتريبة إبنه وتعليمه وتثقيفه ، وكان يطلب منه حفظ بعض الآيات يومياً ، فاستطاع الطفل الفذ أن يحفظ أجزاء كبيرة من الأسفار المقدَّسة ، وكان ليونيدس يشعر أن إبنه أوريجانوس مسكناً للروح القدس ، حتى أنه كان يتسلل إلى غرفة نومه ويقبل صدره في خشوع وهو نائم ، وفي سنة 202م عندما أثار الإمبراطور ” سويرس ” الإضطهاد علــى المسحييـن ، قُبض على” ليونيدس ” ، وحاول ” أوريجانوس ” أن يلحق بأبيه ، لولا أن أمه توسلت إليه بدموع أن لا يتركها ، كما أنها حجبت عنه ملابسه ، فكتب رسالة إلى أبيه يقول له ” حذار أن يغير العذاب رأيك0 في دعوانا لا تهتم بأولادك فإن الله يعتني بنا ” وفي سنى 203م نال ” ليونيدس ” إكليل الشهادة وصُودرت أملاكه فصارت الأسرة في فقر مدقع ، فلم تتخلى عنهم العناية الإلهيَّة ، وقد تولت إمرأة غنية فاضلة أمر ” أوريجانوس ” حتى أنها أخذته في بيتها وصارت تنفق على تعليمه ، فدرس العلوم والأدب لمدة خمسة سنوات في مدرسة الإسكندرية العلمية فبرع ونال إعجاب الجميع ، حتى أن ” البابا ديمتريوس الكرام ” محب العلم سلَّمه رئاسة المدرسة اللاهوتية خلفاً لأكليمنض الذي ترك مصر وسافر إلى فلسطين من فرط الإضطهاد ، حتى أن المدرسة اللاهوتية أغلقت أبوابها ، فجمع ” البابا ديمتريوس ” بعض الطلبة وكلف أوريجانوس بتعليمهم0
وكان ” أوريجانوس ” ناسكاً ينـام على الأرض دون فراش ، ويصرف نهاره في الأشغال الشاقة والتعليم ، ويقضي معظم ليله في الدرس والمطالعة حيث كان يؤجر المكتبات ليلاً ، فيظل يقرأ حتى الصباح ، وزاعت شهرة أوريجانوس ، وأقبل الكثيرون من الوثنيين وتتلمذوا على يديه وصاروا مسيحيين ، فصار الوثنيون يحقدون عليه ، حتى أن البابا ديمتريوس عيَّن له بعض الحراس الأقوياء ليحرسونه من أذاهم ، وفي ذات يوم إنفرد به الوثنيون ، فحملوه إلى معبد السيرابيوم ، وحلقوا له رأسه ، وألبسوه قلنسوة ، وحلة بيضاء مثل كهنتهم ، وأصعدوه إلى مكان مرتفع وأجبروه على توزيع أغصان النخيل على المحتشدين ، وهم يضجون ويصفقون له ، فنثر هذه الأغصان عليهم ، وهو يقول بصوت عظيـم ” هلموا خذوا هذه الأغصان ، لكن ليس باسم الأوثان ، بـل باسـم يسـوع المسيـح خالق الإنسان ” (31) وكان ” أوريجانوس ” يؤجر القاعات لإلقاء محاضراته التي يحرص على إستماعها أعداد ضخمة ، فكان الوثنيون يهجمون على القاعة ويحطمونها ، حتى كفَّ أهل الإسكندرية عن تأجير قاعاتهم لأوريجانوس0 وفي سنة 211م زار ” أوريجانوس ” روما فقوبل بحفاوة وإجلال كبير ، كما زار بلاد العرب ثلاث مرات بين سنة 211 م ، سنة 212 م ، ففي المرة الأولى سافر بناء على رغبة حاكم بلاد العرب الذي طلب من قداسة البابا ديمتريوس أن يرسل لهم أوريجانوس ليستفيدوا مـن تعليمـه ، وفـي المرة الثانية سافر ” أوريجانوس ” إلى بلاد العرب لحضور محاكمة ” بيرلوس ” أسقف بصره ، ونجح في إعادته للإيمان المستقيم ، وفي المرة الثالثة سافر إلى بلاد العرب لمقاومة بدعة تنادي بموت اللاهوت مع الناسوت على الصليب0
وبرع ” أوريجانوس ” في الكتابة والتأليف ، فلم يظهر له مثيل للآن في مدرستنا اللاهوتية كان يستطيع أن يملي سبعة مواضيع مختلفة على سبعة سكرتيريين كانـوا يتبادلـون الكتابة 0 ” وإستخدم عدداً كبيراً من النسَّاخ ، عدا البنات اللاتـي أجدن الكتابة ، وكان ” أمبروسيوس ” ينفق على جميع هؤلاء بسخاء ، مُظهراً غيرة على الكلمة الإلهيَّة لا يُعبَر عنها ، وهو بهذا دفعه لإعداد تفاسيره ” (32) وتزيد كتابات ” أوريجانوس ” عن ستة آلاف كتاباً أهمها كتاب المبادئ ، وضد كلسوس ، والحث علـى الإستشهاد ، وكتاب عن الصلاة ، وآخر عن القيامة ، بل أن الفلاسفة اليونانيين أعجبوا به وذكروه في كتبهم ، والبعض منهم أهداه مؤلفاته ، والآخر قدم له مؤلفاته ليعطي رأياً فيها ، وسيظل أهم عمل لأوريجانوس هو ” الهكسابلا ” Hexapla التي بدأها في الإسكندرية وأكملها في قيصرية ، وقد إستغرقت منه ثمانية وعشرين عاماً ، حيث دوَّن نصوص العهد القديم بالكامل في ستة أعمدة هي :
- النص باللغة العبرية بحروف عبرية0
- النص باللغة العبرية بحروف يونانية0
- الترجمة السبعينية من القرن الثالث ق0م0
- ترجمة أكويلا من القرن الثاني الميلادي0
- ترجمة سيماخوس0
- ترجمة ثيؤدوسيون من القرن الثاني الميلادي0
وفي سنة 215م عندما إشتد الإضطهاد في مصر ذهب أوريجانوس إلى فلسطين ، وبنى هناك كنيسة على إسم السيدة العذراء مريم ، وشرح الأسفار المقدَّسة حتى دعوه ” سيد مفسري الكتاب المقدَّس ” وفي سنة 219م أستدعته ” ماميا ” أم ” إسكندر ” ملك أنطاكية المحب للمسيحيين لتستمع تعاليمه وعظاته ، وفي سنة 228م أوفده البابا ديمتريوس إلى أخائية باليونان لكي يقاوم بعض الهرطقات ، وفي عودته مرَّ على فلسطين فأقنعه ” إسكندر ” أسقف أورشليم ، و ” نوسيستوس ” أسقف قيصرية بقبول الكهنوت ، لأنه ليس من المعقول أن معلم الكهنة والأساقفة لا يحمل درجة كهنوتية ، فرُسِم قساً وهو في الثالثة والأربعين من عمره0
وفي سنة 321م عقد ” البابا ديمتريوس ” مجمعاً وحكم عليه بالحرم لأنه خصى نفسه ، وأيضاً لآراءه الخاصة بالأرواح والملائكة والشياطين والنفس البشرية ونفس المسيح 00 إلخ التي ترفضها الكنيسة ، فذهـب ” أوريجانوس ” إلى فلسطين ولم يعد منها ، وفي أيام إضطهاد ” ديسيوس ” قُبِض عليه وتعرض لعذابات شديدة ” أما مقدار البلايا التي حلت بأوريجانوس أثناء الإضطهاد ، ومقدار شناعتها ، وماذا كانت نتيجتها الطبيعية ( فإن الشيطان الشر جرَّد كل قواته ، وحارب الرجل بكل حيلة وبأقصى جهده ، هاجماً عليه بعنف أشد من سواه ممن هجم عليهم وقتئذ ) ومقدار ما تحمله من أجل كلمة المسيح ، والقيود ، والتعذيبات الجسدية ، والتعذيبات بالطوق الحديدي ، وفي السجن ، وكيف مدَّت قدماه في المقطرة أياماً كثيرة ، وكيف تحمَّل بصبر التهديد بالنار ، وكل ما عذبه به الأعداء ، وكيف وضع حد لآلامه نظراً لأن قاضيه بذل أقصى جهده لإنقاذ حياته0 وما هي الكلمات التي تركها في هذه الأشياء مليئة بالتعزية لكل من يحتاج إلى العون0 كل هذه تبينها كثير من رسائله بدقة وأمانة ” (33)0
خامساً : القديس ديونسيوس
وُلِد ” ديونسيوس ” نحو سنة 190م من أبوين وثنيين من عبدَّة النجوم ، فنشأ على دين آبائه ، وتعلم وصار طبيباً ناجحاً ، وكان شغوفاً بالقرارة ، وفي ذات مرة إشترى بعض الأوراق من سيدة عجوز تجلس في السوق ، وإذ هي بعض من أقوال بولس الرسول ، فقرأها وأُعجب بها ، وعاد للسيدة وطلب منها المزيد ، فباعت له ثلاث رسائل أخرى ، وقالت له ” إن شئت أيها الفيلسوف أن تطلع على كثير من هذه الأقوال عليك بالذهاب إلى الكنيسة لتجد من يعطيها لك مجاناً ” (34) 0 فمضى إلـى الكنيسة وإلتقى بالشماس ” أغسطين ” الذي سلمه رسائل بولس الرسول كاملة ، فقرأها وقبل الإيمان المسيحي ، وتعمَّد بيـد ” البابا ديمتريوس الكرام ” ( رقم 12 ) ، وإلتحق بالمدرسة اللاهوتية ، وتتلمذ على يد أوريجانوس ، ثم سامه البابا ديمتريوس شماساً ، ثم تسلَّم رئاسة المدرسة خلفاً لياروكلاس الذي أُختير للبابوية ، وسامه ” البابا ياروكلاس ” قساً ، وكان ” ديونسيوس ” يقرأ كـل ما تصل إله يديه حتى كتب الهراطقة ، وقد ظهر له الرب قائلاً ” إقرأ كل ما يمكن أن تصل إليه يدك ، فإنك قادر أن تصحح كل شئ وتمتحنه ، فإن هذه العطية هي سبب إيمانك منذ البداية ” (35) 0 وفي سنة 247م بعد نياحة البابا ياروكلاس ( رقم 13 ) أُختير للباباوية ، فصار البابا رقم (14) في وقت كانت الإضطهادات المرة تجتاح الكنيسة0
وسجل ” البابا ديونسيوس ” الكثير من سير الشهداء رجالاً ونساءً ، كباراً وصغاراً ، عذارى ومتزوجات ، جنوداً وشرفاء ، من الذين جلدوا وحرقوا وضربوا بالسيف في إضطهاد ” ديسيوس ” ( داكيوس )0 كما أرسل برسائل تعذية وتقوية لشعبه ، وعندما أرسل الوالي رسلاً ليقبضوا عليه وعلم بهذا ظل في داره لمدة أربعة أيام ينتظر ، غير أن الرسل بحثوا عنه في الحقول والطرقات والأنهار ولم يتوقعوا أنه يظل في بيته في الوقت الذي يعرف فيه أن الوالي يسعى للقبض عليه ، وبعد أربعة أيام تلقى إشارة إلهيَّة فغادر البيت مع أتباعه ، ثم تمكن الجنود بعد ذلك من القبض عليه وطرحوه في سجن ، وإستطاع شماس يدعى ” تيموثاوس ” أن يفلت من أيدي الجند ، وأخبر إنساناً مسيحياً كان ذاهباً إلى وليمة عرس بخبر القبض على البابا ، وفي لحظات أسرع كل رجال العرس وإندفعوا نحو السجن لينقذوا باباهم من الذبح ، فهرب الجند تاركين الأبواب مفتوحة ، وعندمـا إندفعوا للداخل وجدوا البابا نائماً في سلام ، مثله مثل بطرس الرسول في سجنه تماماً ، فأيقظوه وطلبوا منه مغادرة السجن ، وعندما رفض حملوه رغماً عن إرادته وذهبوا به إلى داره0
وفـي سنة 257م تعرض للنفي إلى قرية صحراوية تدعى ” خفرو ” Caphro فبشر الوثنيين سكان القرية ، فأعادوا نفيه إلى الصحراء الليبية ، وهو لم يكف عن الكرازة للوثنيين ، وتعهد الكرم بالرسائل المتتابعة ، وعقب كل إضطهاد كان يجمع أولاده الذين إرتدوا عن الإيمان ويعظهم ويقبلهم دون أن يعيد معموديتهم ، وكان للبابا ديونسيوس إحترامه في العالم كله ، فعندما إختلف الشهيد كبريانوس أسقف قرطاجنة ، مع إسطفانوس الأول أسقف روما الذي كان يقبل المعمودية التي يجريها الهراطقة مادامت أنها تتم باسم الآب والإبن والروح القدس ، قبل الأثنان وساطته بينهما ، وفي سنة 261م عقد مجمعاً وحرم ” سابليوس ” الذي لم يكف عن نشر هرطقته ، وفي سنة 263م عندما حلت بالإسكندرية مجاعة كبيرة وأوبئة كان يواسي أولاده ، وكتب في رسالته الفصحية ” قد يبدو أن الوقت غير مناسب للعيـد 00 فنحن لا نرى إلاَّ الدموع ، الكل ينوح ، والعويل يُسمع كـل يـوم فـي المدينـة بسبب كثرة الموتى ” (36)0
وختم المعلم العظيم ” أبونا بطرس ” مدير المدرسة اللاهوتية عظته ، ولم يكن يدري أن الأيام ستعيد نفسها ، وما ختم به عظته سيتكرر بصورة أبشع في حياته0
(26) ملاك لوقا – البابا بطرس خاتم الشهداء ص 19
(27) القمص تادرس يعقوب – آباء مدرسة الإسكندرية ص 6
(28) د مصطفى العبادي – من الإسكندر الأكبر إلى الفتح العربي ص 268
(29) القمص تادرس يعقوب – آباء مدرسة الإسكندرية ص 48
(30) المرجع السابق ص 8
(31) القس منسى – يوحنا – تاريخ الكنيسة القبطية ص 32
(32) يوسابيوس القبصري – ترجمة القس مرقس داود – تاريخ الكنيسة ص 281
(33) المرجع السابق ص 294
(34) القمص تادرس يعقوب – آباء مدرسة الإسكندرية ص 274
(35) المرجع السابق ص 275
(36) المرجع السابق ص 277