الألف عمود ف5 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل الخامس: الألف عمود
ميناس: هل رأيتم عملاً مثل هذا ؟.. رأينا قصوراً فخمة تُبنى ومعابد عظيمة تُشيَّد، لكن مثل هذا العمل العظيم، وذاك الحب المتدفق في قلوب كل هؤلاء لم نره قط.. أنظروا وتأملوا، كل طوبة توضع بالحب وتُدشَّن بالصلاة، فطالما إشتاق المسيحيون أن يكون لهم مكاناً يعبدون فيه الله الواحد ولم يتحقق أملهم هذا منذ نشأة المسيحية في الإسكندرية0 للوثنيين معابدهم ولليهود مجامعهم أما المسيحيون فليس لهم سوى الكهوف والمقابر والأماكن المنعزلة يعبدون الله خفية لأن ديانتهم محرَّمة في الإمبراطورية الرومانية.. إنظروا لهذا المكان المتسع الذي إجتمع فيه المهندسون مع العمال مع الشعب رجالاً وشبابـاً وأطفالاً بقلب واحد يبنون بيتاً للرب، وغيرة نحميا تملأ قلوبهم ” هلمَّ فنبني سور أورشليم ولا نكون بعد عاراً ” (نح 2: 17) الرجال ينهمكون في العمل وكأنهم في حلبة مصارعة، فعمل أسبوع ينتهي في يوم واحد، وعمل يوم ينتهي في ساعة، وواحد منهم لا يتقاضى أجره، ويجتهد في العمل وكأنه أخذ الأجر مئة ضعف، وحتى السيدات والفتيـات إنشغلن بإعداد الطعام لكل هذا الجمع الذي يحتشد في المكان يعمل من الصباح الباكر للمساء 00
أرشي: هذه الغيرة هي غيرة إلهيَّة وضعها الروح القدس في القلوب المحبة للمسيح، وهذا العمل بلا شك عمل إلهي.. فهذه أول كاتدرائية تُبنى على أرض الإسكندرية، فنحن لا نملك مكاناً للصلاة سوى بيت أنيانوس، وطوال سنوات الإضطهاد التي تربو على مائتي عام ليس لنا سوى الأماكــن المنعزلة في نكروبوليس (منطقة المقابر) أو على ساحل البحر خارج أسوار المدينة غرباً، أو على أطراف بحيرة مريوط جنوباً0
إسكندر: بعد نياحة البابا مكسيموس (رقم 15) في 14 برمودة 282م تم إختيار الأنبا ببنوده الذي جلس على كرسي مار مرقس ستة أشهر فقط، وأنتم تعلمون أن الكنيسة قد جردته من رتبته لأنه خصى نفسه، فلم يعد من سلسلة الباباوات، وتــم سيامة البابا ثاؤنا (رقم 16) المملوء بالحكمة والفهم والفطنة والمشورة الصالحة، والمحبة والتقوى، وبفضله بعد الله يتم هذا العمل الجبار.. إنظروا ماذا فعل ؟:
أولاً : إنتهز قداسة البابا فترة الهدوء التي تمر بها الكنيسة، فالإضطهادات لازمت كنيستنا المجيدة منذ إستشهاد مار مرقس الذي سُحل في شوارعها، وقد روى شجرة الإيمان بدمائه الطاهرة، ولم يهدأ هذا الإضطهاد إلاَّ في عهد البابا ثاؤنا0
ثانياً: تحدث قداسة البابا مع ” ويصا ” ذاك التاجر الكبير الغني في الإيمان والأموال، فهو الذي يورد الملابس العسكرية للجيش، وطلب البابا منه أن يشتري هذه الأرض بإسمه، وقد أمده بالمال اللازم، وقام ” ويصا ” بشراء هذه الأرض المتسعة وعمل سور مرتفع حولها، وبوابة كبيرة وبوابة صغيرة، وترَك المكان فترة حتى إنصرفت عنه الأنظار، كما أن هذا من الأمور العادية أن يشتري تاجر ثري مثل ” ويصا ” قطة أرض متسعة بقصـد الإستثمار، ربما ليعيد بيعها، أو ليبني فيها قصراً محاطاً بحديقة0
ثالثاً : بدأ العمل وبمجرد أن شعر المسيحيون بهذا، بدأت تبرعاتهم تنهال علينا، ولم يكتفوا بهذا بل زجوا بأنفسهم في ساحة العمل، بينما عمل البابا البطريرك عملاً حكيماً إذ إصطحب معه أبونا التقي ثيؤدوسيوس، وكما دخلا الحي اليهودي من قبل، زارا كبار المنطقة غير المسيحيين في حي راكوتي، وقدم لهم ” قداسة البابا ” هدايا قيمة وتحفاً ثمينة وبذلك إستطاع أن يكسبهم، حتى عندما أراد عدو الخير أن يثير غير المؤمنين على المؤمنين كما أثارهم من قبل على مار مرقس لم ينجح، لأن هدايا البابا وعطاياه قد أطفأت هذه النيران قبل أن تشتعل0
رابعاً : تشفع البابا بأمنا القديسة العذراء مريم صاحبة هذه البيعة لتعينه على إتمام هذا العمل الضخم، فهو ليس مجرد كنيسة لكنه كاتدرائية تتسع لآلاف المصلين، وتقوم على ألف عمود ضخم، والأمــر المدهــش أن ” العـذراء مريم ” ظهرت لتاجر الرخام ” فيليجيوس ” صاحب السفن الضخمة، وطلبت منه لقاء البابا، وعندما إلتقى ” فيليجيوس ” بالبابا سأله عن إحتياجاته والبابا لم يشأ أن يطلب منه شيئاً غير صلواته، ولكن عندما أعلمه بظهور العذراء أم النور له صرح له البابا أنهم فشلوا في توفير الأعمدة اللازمة لإتمام البناء، فكل ما أمكـن جمعه من الإسكندرية وخارجها، وبعد جهود مضنية ثلاثمائة عمــود رخامي 0 فطلب ” فيليجيوس ” من البابا فرصة، وفعلاً نجح هذا الرجل الشهم في عقد صفقات في أماكن مختلفة، ونجح في إحضار سبعمائة عمود رخامي لهذه الكاتدرائية، وبعد إلحاح شديد من قداسة البابا لم يقبل إلاَّ نصف قيمتها فقط، وتحمَّل هو النصف الآخر ومصاريف الشحن0
ديمتري: إنني أتعجب من أن العمل بدأ في سرية كبيرة، إلاَّ أن الخبر تسرب للبعض بأن ” البابا ثاؤنا ” سيبني كاتدرائية ضخمة، حتى إشتعلت النفوس بالغيرة المقدَّسة، فكل إنسان يود لو يقدم نفسه بالكامل وليس جزءاً من أمواله أو ممتلكاته، وحتى المصريين المتغربين والمصريون الذين يعملون في القصر الإمبراطوري عندما علموا أرسلوا للبابا تبرعات سخية00
إنظروا إلى الفرحة في عيون الأطفال وكل منهم يحمل طوبة أو أكثر..
إنظـروا إلـى الصبية وكل منهم يحمل حجراً أو يجاهد لكيما يحمله..
سمعتُ بالأمس حديثاً بين بعض الأطفال، قال أحدهم: إننا نبني بيتاً عظيماً للرب مثل هيكله الذي كان في أورشليم، وقال آخر: لن يعيريني زميلي في المدرسة بعد ويقول نحن لنا معابد فخمة وأنتم ليس لكم، وقال ثالث: سيكون معبدنا هذا أعظم من ” معبد سيرابيس “0
ميناس: حقاً كلما أنظر لحجم هذا العمل وما يتكلفه من أموال طائلة أتعجب من أي أتت كل هذه الأموال ؟ !.. والأمر العجيب أن الشماس ” بطرس ” يقول: لم نحتاج يوماً لدراخمة واحدة، لأن هبات الله وعطاياه تسدد كل إحتياجات العمل، كما أنه عندما سُئل: من أين أتـت كل هذه الأموال ؟ قال: ” كفقراء ونحن نغني كثيرين “0
ديمتري: حقاً إنني معجب بشخصية ” بطرس ” الشماس المعلم، فدائماً تشعر أن النعمة على وجهه وفي كلماته 0 يعيش الحياة، كل الحياة في هدوء وسلام.. دائماً تجده فايق ورايق، يقابل أصعب الأمور بهدوء كبير0
ميناس: ياأخ ديمتري هذا الشماس الذي أنت معجب به هو ” إبن الموعد “0
ديمتري: كما تعني بقولك ” إبن الموعد ” ؟ هل أنه إنسان مبارك مثل أبينا إسحق إبن الموعد ؟
ميناس: لم يكن لأبونا ثيؤدوسيوس أولاداً، ولكنه لم يتذمر على الله بل كان مسلماً إياه كل الإرادة وكل المشيئة وكل الإشتياقات0 أما زوجته الفاضلة التقية ” صوفيا ” فكانت تداوم الصلاة والطلبة من أجل أن يرزقها الله نسلاً صالحاً، وعندما دخلت ذات مرة إلى الكنيسة في عيد الرسل الأطهار، رأت المؤمنين يحملون أطفالهم ويرشمونهم بزيت القنديل المنير أمام أيقونة الرسولين بطرس وبولس، تأثرت وسالت دموعها، وبدون أن تفتح فاها أخذت تصلي صلاة قلبية قوية مثلما صلت حنة أم صموئيل النبي، وفي تلك الليلة رأت في حلم الرسولين بطرس وبولس يرتديان ملابس المجد ويقولان لها: ” لا تحزني فقد سمع الرب صلاتك وهو يرزقك طفلاً يكون أباً لأمم كثيرة، ويكون إسمه كصموئيل، إذ هو إبن موعـد أيضاً، فمتى إستيقظتِ فاذهبي إلى البابا وأخبريه بالأمر، وهو يصلي لك “0
وفي الصباح نهضت الزوجة الفاضلة ” صوفيا ” فرحة متهللة، وكأن الطفل قد وُلد، وهوذا هو بين يديها تداعبه وتهننه، وأخبرت زوجها ” أبونا ثيؤدوسيوس ” بالحلم، ثم ذهبت للقلاية البطريركيـة وقابلت قداسة البابا وقصت له الحلم، فطمأنها وقال لها: ” ليكـن لك ما أنبأتكِ به السماء، ويتم الله طلبك ويجيب سؤلك، فإن الله صادق وأمين في مواعيده، وهو قادر على كل شئ، وأعماله عجيبة في قديسيه ” 0
وعندمـا وُلــد الطفــل، وعلم البابا بهذا إختار له إسم ” بطرس ” تيمناً ببطرس الرسول صاحب العيد، وفي السابعة من عمره سامه البابا ” أغنسطس ” أي قارئ، وفي الثانية عشرة سامه ” ذياكون ” أي شماس، وقد كرَّس نفسه للخدمة، فهو دائماً ينكب على دراسة الكتب المقدَّسة، ويحاضـر في المدرسة اللاهوتية، كما أن ” البابا ثاؤنا ” يعتمد عليه في أمور كثيرة0
دار هذا الحديث خلال إستراحة الغذاء القصيرة، وسريعاً ما شمَّر الأصدقاء عن ساعد الجد، وإنهمكوا في هـذا العمل الجبار، ويوماً فيوماً بدأ يكتمل البناء وتتضح معالمه، فكل عمود يُنصب وكل جزء من السقف يتم، وكل نافذة تنتهي، وكل جزء من الأرض يُرصف بالتربيعات الحجرية كانت تتغير الصورة، وخلال شهرين من العمل الشاق المضني الذي شارك فيه المئات من الفقراء والأغنيـاء، البسطـاء والمتعلميــن، الصغار والكبار، ظهرت ” كاتدرائية الألف عمود ” (محل جامع الألف عمود) كبناء ضخم جبار يسع آلاف المصلين0
وفي عشية أحد التناصير سنة 290 م حضر ” قداسة البابا ثاؤنا ” مع عدد من الآباء الأساقفة الذين لبوا الدعوة، وحَشْدُُ من الآباء الكهنة والشمامسة الذين جاءوا من كل مكان، وإرتفعت الصلوات طوال الليل لتدشين ذلك المكان، وفي الصباح الباكر قُدمت القرابين وبدأت صلوات القداس الإلهي، وفيه تم سيامة الشماس المعلم ” بطرس ” أبرسفيتيروس أي قساً بنفس الأسم مما أثلج قلوب الحاضرين، كما قام الآباء بتعميد عدد كبير من الموعوظين والموعوظات، ومن بينهم ” سوسنا ” والدة ” ديمتري ” وأخواته ” راحيل ” و” دينه ” و” ميراب “0 أما ” ديمتري ” فلم يستطع تخطي العقبة العقلانية التي إعترضته: ” كيف يتجسد يهوه ويُصلب ويُهان ؟! ” لذلك لم يستطع أن ينال الصبغة المقدَّسة ولا أن يتناول من الأسرار المقدَّسة، ولكن رجاءه في الله لم ينقطع وهو واثق أن الله سيساعده على إجتياز هذه العقبة، وبعد نهاية القداس زف الآباء الأساقفة والكهنة والشمامسة ” أبونا بطرس ” إبن ” أبونا ثيؤدوسيوس ” الكاهن إبن الكاهن، وطافوا الكنيسة المتسعة الأطراف، وفرحت الكنيسة وتهللت إذ لبست ثياب المجد والبهاء، أما فرحة الشعب فلا يمكن التعبير عنها، إذ جاء اليوم ليقدم عباداته في هذا المكان المقدَّس.. بمجرد أن يدخل إليه يقبل ترابه وأبوابه ويسجد أمام هيكله بخشوع ورهبة، وكأنه في حلم لذيذ يتمنى من كل قلبه أن يدوم للأبد، وتظل أبواب الكنيسة مفتوحة في وجهه على الدوام0
وإذ أراد الأصدقاء الأربعة تقديم هدية قيمة وغير تقليدية لأبونا بطرس بمناسة سيامته وبعد عدة إقتراحات إتفقوا على إقتراح ديمتري، وهو رسم خريطة للإسكندرية بشكل شوارعها الطولية والعرضية، وبكل أحياءها، بل وضواحيها، مع كتاب يوضح منازل المسيحيين في كل شارع، وسكان كل منزل بأعمارهم وأعمالهم وآباء إعترافهم.. إلخ وفعلاً بدأوا في ذلك العمل المميز0
ميناس: إنني فخور بمدينتي هذه، وأشعـر أننـي مدين لمؤسسها ” الإسكندر الأكبر ” وأيضاً لمهندسها ” دينوقراطيس ” الذي حدَّد على الخرائط حدود الإسكندرية وشوارعها المريحة، وقد إستخدم خطة الزاوية القائمة، فالشوارع الرئيسية الطولية من الشرق إلى الغرب تسعة شوارع أهمها ” الشارع الكانوبي “، والشوارع الرئيسية العرضية سبعة عشر شارعاً أهمها ” شارع سوما “، والمدينة عبارة عن شريط على الساحل تحدها الأسوار بطول يزيد عن خمسة كيلومترات وعرض يزيد عن الكيلومتريـن، وقد أحسن ” دينوقراطيس ” إختيار الميادين والأسواق، وأخذ في حساباته إمكانية التوسع والإمتداد فجاءت مدينتنا بهذه الروعة وذاك الجمال0 وإن كانت الشوارع تستقيم عندما يقبل الزمان، وتعوّج عندما يدبر الزمان، فإستقامة شوارع مدينتنا للآن يعلن أن المدينة مازالت في أوج مجدها رغم النكبات التي تعرَّضت لها، فترابها وبحرها رويا بالدماء، ولأن المدينة أنشئت على منطقة تكثر بها التلال، لذلك نجد الشارع رغم إستقامته يعلو ويهبط حسب وضع المكان، ومع هذا فإن كل مباني المدينة ومعابدها وقصورها قد وضعت في المكان الصحيح بنظام دقيق مع مسحة كبيرة من الجمال، فاستحقت عن جدارة أن تكون وتظل عاصمة مصر، والمدينة الثانية في العالم بعد روما0
والشارع الرئيسي الطولي ” الشارع الكانوبــي ” يمتد من ” الباب الكانوبي ” شرقاً إلى ” باب نيكروبوليس ” غرباً بطول يزيد عن خمسة كيلومترات وعرض الشارع أربعة عشر متراً، فيكفي لمرور العربات والمشاة، وعلى جانبيه تجد الأعمدة المرمرية والرخامية ترتفع عليها القباب، والقصور الفخمة بحدائقها، وعلى جانبيه أيضاً تضاء المصابيح ليلاً، والمصباح هو قدح من الحجر أو الفخار ملئ بالزيت، والفتيل شريط من خرق القماش، كما زرعت على جانبي الطريق الأشجار وبجوارها وُضعت أصص نباتات الزينة، وأيضاً على الجانبين تجد مجارٍ لصرف مياه الأمطار، كما أن أيدي الكادحين تقوم بغسل هذه الشوارع يومياً، وعلى ضفتي الطريق توجد الأرصفة التي تؤمّن سير المشاة، والشوارع الرئيسية رُصفت بحجر خرسان النوبة (البازلـت الأسود) الذي جُلب بالمراكب من أسوان، وتم هندمته ليأخذ شكل بلاطـات كل منها بطول 50 سم وعرض 30 سم، وأنت تسير في ” الشارع الكانوبــي ” تقع عيناك على مبنى ضخم وفخم جداً0 أنه ” معبد سيرابيس ” الذي يرجع تاريخه إلى نحو ستمائة سنة خلت منذ عهد بطليموس الأول والثاني، وفي الميادين ترى التماثيل الناطقة التي تم تشكيلها من الحجر الجيري والرخام والجرانيت والبازلت مما يشع البهجة والجلال على المدينة0
وشمال الشارع الكانوبي (من شارع أبوقير للشاطئ) تجد ثلاثة شوارع طولية موازية له، وعرض كل منها سبعة أمتار، وبحسب ترتيبها من الشمال للجنوب تلتقي أولاً بـ ” شارع اليهود ” الذي يمر بالحي اليهودي فقط، فهو أصغر الشوارع الطولية لأنه ينتهي عند الشارع العرضي رقم (4)، وثانياً ” الشارع الحدائقي ” ويبدأ من مقابر اليهود شرقاً ويمر بالحي اليهودي والحي الملكي بطول نحو 3 كم وينتهي عند الشارع العرضي رقم (9) وتجد الحدائق على جانبيه ولاسيما في الحي الملكي، ومن هنا أكتسب إسمه، وثالثاً ” شارع الهيبودروم ” ويبدأ من الحي اليهودي شرقاً ويمر بالحي الملكي وينتهي عند الشارع العرضي رقم (10) بجوار ” الإمبوريون ” (المركز التجاري) وبه كثير من المنشآت الهامة، والجزء الأوسط من هذا الشارع الذي يمر بالحي الملكي يعتبر من الشوارع الحدائقية، والجزء الأخير منه الذي يمر بحي الميدان يعد من الشوارع التجارية0
وجنوب الشارع الكانوبي تجد خمسة شوارع طولية موازية له، وعرض كل منها سبعة أمتار، الأول منها (ويعد الخامس من الشاطئ) يبدأ من سور المدينة الشرقي وينتهي عند سورها الغربي بطول نحو 5 كم، مخترقاً الأحياء الأربعة الأحراش والبانيوم والمتحف والمصري، والجزء الذي يمر بحي البانيوم يعتبر من الشوارع الحدائقية، وهكــذا بقيـة الشوارع، وإن كان المهندس ” دينوقراطيس ” حافظ على المسافة بين كل شارع طولي وآخر وهي 278 م لكن بسبب وضع بعض التلال جنوب المدينة، جاءت المسافة بين الشارع السادس والسابع 170 م، وبين السابع والثامن 84 م، ويبلغ طول الشارع الثامن نحو 5ر4 كم، والشارع التاسع الطولي والأخير بطول يزيد عن 3 كم، فيبدأ من الشارع العرضي رقم (4) وينتهي بسور المدينة الغربي0
أما الشارع العرضي الرئيسي في المدينة هو ” شارع السوما ” أو ” السوماي ” Somai وسُمي هكذا لأن به الهيكل البديع الذي وضع فيه جسد أو جثمان الإسكندر الأكبر (مسجد النبي دانيال الآن بالقرب من كوم الديماسة أي كوم الدكة)، ويمتد شارع السوما من البوابة الجنوبية ” باب الشمس ” تجاه بحيرة مريوط إلى البوابة الشمالية ” باب القمر ” شمالاً، وجاءت بقية الشوارع العرضية جميعها وعددها سبعة عشر شارعاً موازية للشارع العرضي الرئيسي، وجميعها بعرض سبعة أمتار، وأطوالها تتراوح بين كيلومتر ونصف وكيلويين من الأمتار0
خريطة شوارع الإسكندرية
أما أسوار المدينة المنيعة فقد بلغ طولها أكثر من 15 كم تعلوها أبراج المراقبة، فيبلغ إرتفاعها نحو ثلاثين متراً باستثناء السور تجاه البحر فإرتفاعه لا يزيد عن متر واحد بقصد الحماية من الأمواج المتلاطمة التي ترتفع في فصل الشتاء ولاسيما أوقات النوات البحرية، وللمدينة أربعة بوابات لا غير جاءت على شكل صليب، من الشرق ” الباب الكانوبي ” ومن الغرب ” باب نكروبوليس ” ومن الشمال ” باب القمر ” ومن الجنوب ” باب الشمس “0
أرشي: وكما جاءت الشوارع مستقيمة ومنسقة وجميلة هكذا جاءت الأحياء السكنية، فالشارع الكانوبي يقسّم المدينة إلى قسمين فشماله في المسافة منه إلى الشاطئ تجد ثلاثة أحياء وهي من الشرق للغرب ” الحي اليهودي ” (منطقة الشاطبي) ثم ” الحي الملكي ” الذي يحيط بالميناء الشرقي (من برج السلسلة للمنشية) ثم ” حي الميدان ” أو الميناء (من المنشية لرأس التين تقريباً) 0 أما جنوب الشارع الكانوبي فتجد أربعة أحياء من الشرق للغرب ” حي الأحراش ” أو ميدان السباق، ثم ” حي البانيوم ” ثم ” حي المتحف ” وأخيراً ” الحي المصري ” أو راكوتي:
- الحي اليهودي (سوتيريا): يقع شرق الحي الملكي، ويفصل بينهما شارع الوادي الوطني، وعُرِف بمربع اليهود (وسبق الحديث عنه)0
- الحي الملكي (البروخيوم): يقع بين الحي اليهودي شرقاً وحي الميدان غرباً، والميناء الشرقي شمالاً والشارع الجنوبي جنوباً، وهو الأكثر روعة وجمالاً (وسبق الحديث عنه)0
- حي الميدان (الميناء): ويقع غرب الحي الملكي، يفصل بينهما الشارع العرضي رقم (11) فيحده من الشرق الحـي الملكي، ويحده من الغرب سور الإسكندرية الغربي، ومن الشمال الميناء الغربي، ومن الجنوب الشارع الكانوبي، وهو الحي التجاري، فتجد فيه المخازن الكبيرة والمستودعات التي تُستخدم في تخزين السلع التجارية الخاصة بالتصدير والإستيراد، وبه الفنادق والإستراحات للتجار الأجانب الذين جاءوا للتجارة والإستيراد، فشوارع هذا الحي تموج بالأجناس المختلفة من يونانيين ورومان ومصريين ويهود وسريان وأحباش وهنود وعرب، وفيه تسمع شتى اللغات واللهجات، ويعتبر هذا الحي هو الترمومتر الذي يقيس الرواج الإقتصادي بالمدينة، وبالحي أيضاً الترسانة التي تصنع فيها السفن، والمرفأ الإصطناعي ” كيبوتوس ” Kibotos أو ” الهاويس “0
- حي الأحراش (ميدان السباق): ويقع جنوبي الحي اليهودي يفصله عنه الشارع الكانوبي، ويحده من الشرق سور المدينة الشرقي ومن الغرب حي البانيوم، يفصل بينهما الشارع العرضي رقم (4) (شارع الوادي) ومن الشمال الشارع الكانوبي، ومن الجنوب سور المدينة الجنوبي، وبهذا الحي تجد ميدان السباق، وأيضاً السواري وهي أماكن العبادات الوثنية0
- حي البانيوم (السوما): يحده من الشرق حي الأحراش، ومن الغرب حي المتحف، ومن الشمال الشارع الكانوبي، ومن الجنوب سور المدينة الجنوبي، ويضم الحي ” قصر السوما ” وهو الجبانة الملكية حيث يرقد جثمان الإسكندر الأكبر مؤسس المدينة، وبجواره جثامين ملوك البطالمة، ويضم الحي أيضاً ” البانيوم ” Panium (كوم الدكة) وهو تل أو برج صُنع بشكل مخروطي كشجرة البلوط، وبه سلالم حلزونية، ومن قمته ترى المدينة كلها، وتتمتع بنسمات البحر التي تقبل إليك بلا عائق، وكثيرون يأتون إلى هذا المكان للتمتع برؤية المدينة بالكامل، كما يلهو أطفالهم في الحدائق المتسَّعة المحيطة بالبانيوم، وقد دُعي هذا الحي بأسم هذا البرج (البانيوم) وفي شمال الحي تجد عدد كبير من القصور الفخمة التي تطل على الشارع الكانوبــي، أما جنــوب الحـي فتجد بعض الأحراش (المستنقعات)0
- حي المتحف: يحده من الشرق حي البانيوم، ومن الغرب الحي المصري، ومن الشمال الشارع الكانوبي، ومن الجنوب سور المدينة الجنوبي، ويعتبـر هذا الحي له أهميته، لأنه يضم أهــم معالــم المدينة، فبالحي تجد ” الموسيون ” معهد العلوم الضخم الذي هو أشبه بجامعة، أو أكاديمية، وعدد من القصور التي تزداد عدداً وفخامة كلما إتجهت شمالاً نحو الشارع الكانوبي، والحي يخلو من الأحراش (المستنقعات)0
- الحي المصري (راكوتي): يحـده من الشرق حي المتحف، ومن الغرب سور المدينة الغربي، ومن الشمال الشارع الكانوبي، ومن الجنوب ســور المدينة الجنوبي (يمثل الآن منطقة كرموز وكوم الشقافة وميناء البصل واللبان وكفر عشري) ومن أهم معالم هذا الحي ” معبد السرابيوم ” الذي بناه ” بطليموس الأول ” (305 – 283 ق0م) لتمتزج فيه العبادة الإغريقية مع المصرية، فعبادة ” سيرابيس ” قد إنتشرت فـي العالم القديم، وفي مصر فقــط يوجـد 42 معبداً لسيرابيس ورأى المصريون أن ” سيرابيس ” يمثل الإله ” أوزيريس ” مع العجل ” أبيس ” وقَبِل البطالمة عبادة هذا الإله، وقيل عن هذا المعبد ” ليس هناك في العالم ما هو أفخم منه إلاَّ ” الكبيتول ” الذي يعد الفخــر الأبـدي لمدينـة روما ” (25) وتمر بالحي ترعة ” شيديا ” من الجنوب ثم تتجه شمالاً نحو حي الميدان0
ميناس: وكما أنني معجب جداً بمدينتي، فأنا أستريح أيضاً لمبانيها التي رُوعي فيها الإتجاهات الصحيحة، فأشعة الشمس تنفذ إلى داخل الحجرات شتاءً، كما أن الشوارع العرضية المستقيمة تفسح المجال لنسيم البحر العليل أن يتخلل المدينة بسهولة، والمنازل ترتفع إلى طابقين أو ثلاثة، وربما إستخدمت بعض حجرات الدور الأرضي كحوانيت، وترى القباب والمظلات تعلو الأبواب، وألوان الجدران من الداخل مشرقة وزاهية مما يريح النفس، والمنازل وفيرة الضوء والحرارة، تطل بعض حجراتها على مناظر جميلة، وبالمنزل الواحد تجد حجرة الجلوس الشرقية الشتوية المشمسة، وحجرة الجلوس البحرية الصيفية، وحجرة النوم في الجزء الخلفي من المنزل حيث الهدوء، وهناك حجرة الخزين التي تصل إليها عن طريق ممر أو سلم بعيدة عن التلوث، وتحت المنازل تجد خزانات المياه المتسعة التي تنتشر تحت المدينة بأكملها، يقف فيها الرجل دون أن ينحني، ولا ننسى الإمبراطور أوغسطس سنة 10م الذي مدَّ مجرى مائي من ترعة شيديا إلى كل أجزاء المدينة0
ديمتري: إنني أستريح لمدينتي هذه أكثر من أي مدينة أخرى زرتها، وأرى أن إختيار ” الإسكنــدر الأكبر ” ومهندسه العبقري ” دينوقراطيس ” الرودسي (من جزيرة رودس) جاء موفقاً تمام التوفيق، وأنا أعلم أن إختيار هذا المكان لم يأتِ جزافاً، ولعله توفر في هذا المكان مزايا عديدة:
أولاً : تقع هذه المنطقة بين البحر وبين بحيرة مريوط ذات المياه العذبة، ففرع النيل الغربي من فروع النيل السبعة يصب في هذه البحيرة المتسعة التي تستوعب كل الميـاه التي تأتي إليها من الفيضان، فلا تجد بجوانبها أية مستنقعات تلوث الجو وتفسده، كما أن الطمي الذي ينساب مع مياه الفيضان يزيد من أرض مريوط خصوبة، فمن يقترب منا الآن لشط بحيرة مريوط له أن يتمتع بالزهور الرائعة الألوان والروائح الشذية التي تعبق المكان، ويرى الذهب الأصفر وهو يُدرس بالنوارج، فإن قمح هذه المنطقة من أجود الأصناف، وأشجار الفاكهة هناك تُذكرنا بالفردوس الأول0 أمـا عنب مريوط الذي وصل إلى أكثر من عشرة أصناف فله شهـرة كبيرة، ونبيذه فاق أنبذة اليونان وإيطاليـا، وبعد أن كتب ” أثينابـوس ” عـن كـروم مريوط ونبيذها تشجع الرجل اليوناني ” جناكليس ” في إنشاء تلك المزرعة الضخمة التي تحمل إسمه غرب الدلتا، وعلى شط بحيرة مريوط ينبت نبات البردي وعليه تقوم صناعة الورق وتُصدر إلى الخارج، وعلى جوانب البحيرة أيضاً تجد مصانع الطوب، وأماكن صناعة الأواني الفخارية0
ثانياً: تم شق ” ترعة شيديا ” من فرع النيل الكانوبي، فامتدت حتى جنوب المدينة ثم إتجهت شمالاً إلى ميناء ” كيبوتوس ” ومن هذه الترعة إرتوت المدينة0
ثالثاً : بُعد هذه المنطقة عن النهر أبعدها عن الطمي الذي يرسبه هذا النهر، ولاسيما أن التيار الرئيسي أمام شط المدينة يتجه من الغرب للشرق، فهو لن يسمح لطمي الفرع الكانوبي للإقتراب للمدينة0
رابعاً : هذا المنطقة كانـت تقع بين قرية ” رع كديت ” الفرعونية (راكوتي) غرباً، والتي عاش بها بعض الرعاة والمزارعين، وقد أقام بها ملوك الفراعنة حامية عسكرية لحماية الحدود الغربية، وبين مدينة ” كانوب ” القديمة شرقاً، وبهذا توفر العنصر البشري الذي سيعمر المدينة0
خامساً : تقوم جزيرة فاروس بدور الحماية الطبيعية للسفن الداخلة للمدينة، وقيل أن الإسكنــدر كـان مقتنعاً تماماً بما قاله في القديم ” هوميروس ” عن هذه الجزيرة:
وسط البحار العظيمة التي تسبح مصر فيها
قامت جزيرة فاروس زائعة الصيت
لقد قام ” دينوقراطيس ” بتحديد حدود المدينة يوم 25 طوبة سنة 331 ق0م، وكـلَّف ” الإسكنــدر الأكبر ” وزير مالية مصر ” كليومينيس ” لتمويل هذا المشروع الضخم، وإستمر العمل لمدة ثمانين عاماً، وكل ملك من ملوك البطالمة الأوُل يحاول أن يضيف جديداً للمدينة، حتى إكتملت بهذه الصورة الرائعة الجميلة0 فهنيئاً لنا بمدينتنا العظمى الإسكندرية0
خريطة أحياء الإسكندرية
إسكندر: ولا ننسى أيضاً ضواحي مدينتنا وأهمها:
- ضاحيـة اليوزيس: (مستشفى المواساة والحضرة والنزهة) تقع في الأطراف الجنوبية، ويرتفع مستواها عن مستوى المدينة بنحو 12 متراً مما جعل الذين يبحثون عن الإستجمــام والراحـة يلجـأون إليها، وعندما أنشأ ” بطليموس الثاني ” فلادلفوس بها معبداً صارت منطقة جذب سكاني0
- ضاحية تابوزيريس: وهي أقدم من الإسكندرية، وتجد بها الآثار الفرعونية، وبها ” معبد أوزيريس ” الذي يقع على ربوة عالية، وتقع الضاحية بعد كيلومتر ونصف شرقي المدينة، وتطل على بحيرة مريوط التي إنتشرت بها بعض الطيور بأعداد هائلة مثل أبي قردان الأبيض، وأبي منجل، والنحام (طائر بحري طويل الريش) والبجع والسمان وعصفور التين، فالبحيرة غنية ولذلك يمتهن سكان تابوزيريس مهنة الصيد، كما أنهم يقومون بزراعة أشجار التين والزيتون والكروم0
- ضاحية نكروبوليس: أي مدينة الأموات وتقع جنوب غرب الإسكندرية مقابل نهاية الشارع السابع، وهي منطقة مقابر، فقد إعتاد الإغريق على دفن موتاهم خارج أسوار المدينة، وتصنع توابيت الأغنياء من الجرانيت الوردي المنقوش عليه بعض الرسومات، مثل الإله آمون (وهو الإله زيوس كما تصوَّره الإغريق) وهم يضعون بالمدافن تماثيل للإله ” أنوبيس ” حارس الجبانات وهو يتخذ شكل الكلب الحارس، ولا ننسى أن معدل الوفيات في مدينتنا مرتفع ولاسيما بين الأطفال، ومتوسط العمر أربعين سنة فقط، وهذه الضاحية لم تقتصر على المقابر فقط، بل زُرعت بها الحدائق والبساتين بسبب موقعها المتميز، فالميناء النهري على بحيرة مريوط جنوبها، وميناء الإسكندرية البحري شمالها0
- ضاحية ماريا: تقع جنوب المدينة وتطل على بحيرة مريوط، وعلى بُعد 4 كم منها توجد داخل البحيرة جزيرة كبيرة، والمياه في بحيرة مريوط تعتمد إرتفاعاً وإنخفاضاً على فيضان النيل، وحول هذه الضاحية تنتشر الحدائق حيث أشجار الفواكه المختلفة من تين ورُمان وكمثرى وتفاح ومشمش، وكروم، وزيتون، وتعتمد مدينتنا على فواكه تلك الضاحية بالأكثر، وأيضاً على الخضروات الطازجة التي تُزرَع في تلك الضاحية، وبالضاحية تجد ميناءاً ضخماً يشرف على بحيرة مريوط، فتجد المستودعات ومساكن الموظفيـن، ومعاصر الزيت والنبيذ، وأماكن تصنيع الأواني الفخارية، والحمامات العامة، وبها عدد ليس بقليل من القصور، وأجملهم القصر الإمبراطوري الذي أُقيم على عوامات وسط البحيرة0
ديمتري: ولا نستطيع أن نتغافل ” مدينة كانوب ” (أبي قير) وهي بالطبع أقدم من مدينتنا الإسكندرية، فكثيراً ما ذهبتُ إليها، ورأيت فيها ” معبد أوزيريس ” فالمصريون يعتقدون أن ” إيزيس ” جمعت أشلاء زوجها ” أوزيريس ” – الذي قتله شقيقة ” ست ” طمعاً في المُلك – من عدة أماكن، وآخر قطعة عثرت عليها في كانوب، ولهذا أقاموا هذا المعبد الضخم في ذاك المكان، وقد دُعي فيما بعد بأسم ” سارابيس ” أو ” السيرابيوم ” من باب التقريب بين الديانتين الفرعونية والإغريقية، وأيضاً بها ” معبد الهيراكليون ” المخصص لهرقل ويقع بالقرب من ” قدس الأقداس ” المخصَّص للعائلة البطلمية، وقد رأيتُ أحد اللوحات الحجرية الضخمة التي تبلغ أبعادها نحو 3 × 6 م نُقش عليها بطليموس الثامن وزوجتاه كليوباترا الثانية والثالثة، كما رأيتُ تمثالاً ضخماً من الجرانيت الوردي بإرتفاع 60ر5 م لإله النيل (حابي) بشكل إنسان يحمل على يديه مائدة قرابين، وعلى رأسه تاج على شكل نبات البردي رمز النيل، والرأس مغطى بغطاء الرأس الفرعوني الذي يتدلى على الكتفين، وأيضاً رأيتٌ تمثالاً لإحدى ملكات البطالمة تتطابق مع الإلهة ” أيزيس ” وهي ترتدي رداءاً شفافاً، وشعرها مجدول في ضفائر، وتمثال لأحد الملوك البطالمة بطول 3ر5 م يعلو رأسه التاج المزدوج، ويرتدي الملابس الملكية ويعلو الجبهة الثعبان المقدَّس، وقد إعتاد ملوك البطالمة على صنع التماثيل الخاصة بهم بنفس شكل وحجم التماثيل الفرعونية0 وقد ألحقت بالمدينة ضياعاً لإنتاج النبيذ والزيت0
وبطول الساحل من الإسكندرية إلى كانوب تجد الفيلات الفاخرة التي تضم أماكن للسياحة وأرصفة لصيد الأسماك، وقد أكتست أراضي هذه الفيلات بالموازييك الرائع الألوان، وأمام كانوب في عرض البحر ذهبتُ إلى ” جزيرة كانوبوس ” (جزيرة نلسون) ورأيتُ فوقها بعض المباني الضخمة التي أُنشئت منذ عصر البطالمة، وبها عدد قليل من السكان يعيشون على مهنة الصيد، ومن هذه الجزيرة يمدون السفن التي تمر عليهم بالمياه العذبة، وفيما قبل كانت ” كانوب ” تعتبر منطقة تجارية، ولكن الآن الإسكندرية خطفت منها الأضواء، ومع هذا فهي مازالت تجذب الكثيرين إليها بسبب هواءها النقي وفنادقها الضخمة وتوفر وسائل الراحة والمتعة، فهي تمثل المكان المفضل للإستجمام للطبقة الأرستقراطية، وكل يوم 29 كيهك تشهد ” كانوب ” إحتفالات كبيرة بآلهتها، وتُقبِل الحشود من الإسكندرية بالمراكب والسفن عبر القناة المائية، فتزدحم المدينة، يأكلون الكعك الكانوبي والأسماك الطازجة والمحارات البحرية ويعزفون الموسيقى ويرقصون بلا تحفظ ويشربون النبيذ في كئوس من الفخار ذي الطلاء الأسود اللامع وعليها رسومات لبعض الراقصـات، فصارت ” مدينة كانوب ” سيئة السمعة تمتزج فيها الخلاعة بعبادات الآلهة الوثنية بالسحر، وقد دعى الرومان الذين كرهوا الملكة كليوباترا – التي إستحوذت على ملكهم ” يوليوس قيصر ” – بأنها ” الملكة الداعرة لكانوبوس الفاجرة ” وقال ” أوكتافيوس ” وهو يخطب في جنوده أن ماركوس أنطونيوس فقد صلاحيته كمواطن روماني وأصبح ” لاعب صاجات في كانوبوس ” وكتب ” سينيكا ” فيلسوف روما إلى صديقه ” لوتشيلوس ” يقول له ” أن الرجل العاقل في إختياره للعزلة أو المأوى يجب أن يتجنب كانوبوس “0
وبعد أن إنتهى الأصدقاء من وضع خريطة الإسكندرية بشوارعها الطولية والعرضية، وأحياءها، وضواحيها، بدأوا في العمل الشاق الأكبر، وقد إستعانوا بعدد كبير من الخدام لحصر جميع المسيحيين في مدينة الإسكندرية، وسجلوا ذلك في كتاب بعد أيام طويلة من الجهد الشاق المضني، وظهر خلال هذا الإحصاء عدد ليس بقليل من الأسر المسيحية التي تحتاج إلى رعاية روحية أو مادية، أو تعاني من مشاكل مختلفة.. إلخ وقد تم تدوين جميع هذه الملاحظات قرين كل أسرة0
وكم كانت فرحة ” أبونا بطرس ” بهذا العمل، فأخذه على الفور مع الأصدقاء الأربعة، وقدمه هدية إلى ” قداسة البابا ثاؤنا ” الذي تعجب من هذا الجهد الجبار، وتلك الطاقات التي أُحسن إستخدامها، وشكر الأصدقاء على محبتهم وغيرتهم، وقال ” ديمتري “: ياسيدنا هذا عمل بسيط بجوار عمل قداستك في الرعاية والخدمة وبناء كاتدرائية الألف عمود0 فرد ” قداسة البابا ” على الفور: ” العمل عمل ربنا ياإبني، ونحـن نفرح بعمله ونشكره عليه “0
(25) وصف أميانوس مرسيلينوس – سليم حسن – موسوعة مصر القديمة جـ 15 – أورده عادل فرج عبد المسيح – الإسكندرية منارة الشرق والغرب ص 34