Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

النمر المجنح ف4 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب

النمر المجنح ف4 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب

النمر المجنح ف4 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب

 

 

 

الفصل الرابع: النمر المجنَّح

 

         لم تعد الحياة كما كانت بالنسبة لأسرة ديمتري في الحي اليهودي، فبعد زيارة البابا ثاؤنا وأبونا ثيؤدوسيوس لهذه الأسرة لم يأخذ اليهود الأمر ببساطة، وإنها مجرد زيارة للمجاملة والتعزية ويشكرون للبابا حُسن صنيعه، ولكن يوماً فيوماً أشيعت الأخبار حول هذه الأسرة إنهم يحبـون المسيحيين، وأن المسيحيين يجاملونهم، وأنهم في طريقهم إلى المسيحية، فبدأت النظرات إليهم تختلف عما قبل، وإنقلبت نظرات الحب والتعاطف والمساندة إلى نظرات حقد وكراهية وتخوين، ولم تعد قلوب اليهود تجاه هذه الأسرة مثل أمس وأول من أمس، بل أنهم قاطعوا تجارة المرحوم منسى، فبعد أن كان المكان يزدحم بالمشترين صار فارغاً خاوياً من أي مشترٍ كبيراً أم صغيراً، وإضطر ” ديمتري ” أن يُخفّض الأسعار أكثر من أي متجر آخر، فبدأ قليلون يقبلون خلسة على المحل وهم لا يودون أن أحداً يراهم، وعلى كلٍ فقد أصيبت تجارتهم بكساد كبير، وعندما إستشار ” ديمتري ” أبونا ثيؤدوسيوس في الأمر، أشار عليه أبونا بأنه لو أمكن بيع المنزل والمحل التجاري بالحي اليهودي والهجرة إلى حي راكوتي فإن هذا سيحل المشكلة، وقد كان فوجدوا راحة وسلاماً ونجاحاً، ولم يكن هناك أي شئ آخر يكض مضجعهم غير إنقطاع أخبار صفانيا عنهم، وكلما أقبلت مجموعة من أورشليم يسرعون بسؤالهم دون جدوى0

         وفي صباح يوم مشمس من أيام شهر يناير (طوبة) سنة 290م ترك ” إسكندر ” ورفقاؤه حي راكوتي خلفهم وشقوا طريقهم للتنزُّه بحي فاروس عبر ” الشارع الكانوبي ” و” طريق الهيباستاديوم ” وقد بدأت الإسكندرية المدينة الإغريقية مدينة العلم والجمال والفن والثقافة، في أبهج صورة تليق بعروس البحر المتوسط بالرغم من كل النكبات التي حلت بها وبسكانها عبر مئات السنين، وفي الطريق دار الحديث بينهم:

إسكندر: بالأمس عشنا لمدة ثــلاث ساعـات مع الشماس المعلم ” بطرس ” حول الرجل المحبوب دانيال، وقد أدركت مدى غزارة علم هذا الشاب، ومدى عمل النعمة فيه، وتذكرت قول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس ” لا يستهن أحد بحداثتك “0 والحقيقة أنني منذ الأمس وأنا منهمك برؤيا دانيال (دا 7) ومقارنتها بحلم نبوخذ نصر (دا 2).. دانيال الذي أعطاه الله تفسير الأحلام للملوك، أعطاه هذه الرؤية التي فسرَّها له الملاك، وجاءت ” رؤيا دانيال ” تحمل نفس معنى ومغزى ” حلم نبوخذ نصر “، فإن قديم الأيام يعلن لعبيده ماذا سيكون في مستقبل الأيام التي نعيش فيها الآن بعــد مـرور نحو ألف عام من هذه الرؤيا وذاك الحلم.. رأى ” نبوخذ نصر ” تمثال لرجل عظيم بهي، وهذا التمثال يعبر عن نظرة نبوخذ نصر البشرية، فهو كرجل سياسة رأى الممالك في قوتها وسلطتها وغناها وعظمتها، ورأى السيد المسيح كحجر صغير قطع بدون يدين وحطم هذا التمثال العظيم وسحقه، وفي هذا إشارة إلـى نمــو المسيحية وأنها ستنتشر في العالم كله بعد إنتهاء الإمبراطورية الرومانية0 أما ” دانيال ” الرجل المحبوب فقد رأى تلك الممالك في شكل أربعة حيوانات مفترسة جائعة لأنها تفتقر لمعرفة الله، فما رآه دانيال يعبر عن الجانب الأخلاقي والروحي لتلك الممالك، وقد رأي السيد المسيح إبن الإنسان صاحب السلطة والملكوت الذي تتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، فسلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض.. أليس هذا يطمئنا أن أبواب الجحيم له تقوى عليها ؟!0

ديمتري: رأى ” نبوخذ نصر ” في حلمه تماثلاً عظيماً له رأس من ذهب إشارة إلى مملكته، مملكة بابل العظيمة، وصدره وذراعاه من فضة إشارة لمملكة فارس ومادي، وبطنه وفخذه من نحاس إشارة لمملكة اليونان، وساقاه من حديد، وقدماه من حديد مع خزف إشارة للإمبراطورية الرومانية وإختلاطها بشعوب العالم، ولكن الحديد ظل حديداً والخزف خزفاً، فانفرد الرومان برعويتهم الرومانية، وقد إحتسبوا بقية الشعوب خزفاً0

         ورأى ” دانيال ” النبي الرياح تهب على البحر، فيصعد منه أربعة حيوانات عظيمة0 الأول كالأسد وله جناحا نسر، وعندما وقف على الأرض صار كإنسان، والثاني في شبه الدب بين أسنانه ثلاثة أضلع، والثالث مثل النمر وله أربعة أجنحة طائر وله أربعة رؤوس وأُعطي سلطاناً، والرابع حيوان هائل وقوي وشديد جداً أسنانه من حديد، فأكل وسحق وداس الباقي برجليه، فهل هناك تشابه بين رؤيا دانيال هذه وحلم نبوخذ نصر ؟

إسكندر: أكد الله لدانيال نفس الرؤيا، فرأى الرياح الأربع تهجم على البحر الكبير، فحدود الممالك المتعاقبة تدور أحداثها في حوض هذا البحر المتوسط، والحيوان الأول الذي بشكل الأسد وله جناحا النسر يشير لمملكة بابل، فهو يقابل رأس التمثال الذهب في حلم نبوخذ نصر، والحيوان الثاني الشبيه بالدب وبين أسنانه ثلاثة أضلع فهو يشير إلى مملكة فارس ومادي وهو يقابل صدر التمثال وذراعاه المصنوعة من فضة في حلم نبوخذ نصر، وكلنا يعرف ماذا فعل الفرس بمصرنا الحبيبة وشعبنا المطحون، والحيوان الثالث الشبيه بالنمر المجنَّح سريع الحركة فهو يشير للإسكندر الأكبر، ويقابله البطن والفخذ والمصنوعان من نحاس في حلم نبوخذ نصر 0 لقد فتح الإسكندر العالم كله في نحو عشر سنوات، ونحن ندين له بالولاء لأنه عامل أجدادنا معاملة حسنة، وعندما مات إنقسمت مملكته إلى أربعة ممالك وهو ما رآه دانيال أن هذا النمر له أربعة رؤوس هي:

والحيوان الرابع الهائل القوي ذو الأسنان الحديدية، ويقابل الساقين والقدمين في تمثال نبوخذ نصر، فهذا هو مملكة الرومان التي قاسينا ومازلنا نقاسي منها الأمرين، وقد سيطرت على العالم كله وأذلته وإمتصت دمائه، فثلث الغلال التي تأكلها روما عاصمة الإمبراطورية تغتصب من مصر بلا مقابل، ولكن كما يبدو أننا نعيش في السنين الأخيرة لهذه الإمبراطورية0

أرشي: حقيقة أنني أُعجِبت كثيراً بشخصية الإسكندر المقدوني، وذهبت لمكتبة الإسكندرية أم المكتبات في العالم كله وقرأت كتب عديدة عنه وعن مملكة البطالمة التي حكمت مصرنا الحبيبة (323 – 31 ق0م)0

ميناس: وهل تخبرنا ياأرشي ولو بإختصار عن شخصية ذاك النمر المجنَّح الجبار سريع الحركة ؟

أرشي: وُلِد ” الإسكندر ” في ” بيلا ” إحدى مدن مقدونيا يوم 19 يوليـو 356 ق0م، وأبيـه هــو ” فيليب ” ملك مقدونيا، وأمه ” أوليمبيا ” وإسم ” إسكندر ” أي مساعد الناس، فتربى ونشأ في القصر الملكي، وفي الثالثة عشر من عمره تهذَّب على يد الفيلســوف اليونانــي ” أرسطو ” صاحب كتابي ” الأخلاق ” و” السياسة ” وفي السابعة عشر من عمره أشركه أبوه الملك فيليب في الحروب فتمرَّس بالفنون العسكرية، وأخذ عن أبيه الشجاعة والحزم، كما تأثر بتعاليم أرسطو في الفلسفة والسياسة، ونشأ رجلاً شديد التدين واسع الخيال معتقداً أنه إبن الإله ” زيوس ” وقد إتسمت حياته بالحكمة وإحترام الغير.. رأى الملك فيليب أن بلاده اليونان منقسمة إلى ولايات صغيرة تتطاحن فيما بينما، بينما الدولة الفارسية بجيوشها الجـرارة تُهدّدها، فعمل على توحيد هذه الولايات، وفي سنة 336 ق0م أُغتيل الملك فيليب، وترك إبنه الإسكندر خلفاً له ولــم يتعــدى عمـره العشرين عاماً، ووجد ” الإسكندر ” نفسه مُحاطاً بمخاطر وإضطرابات من كل جانب، ولكن حنكة الإسكندر السياسية والعسكرية مكنته من إقرار أركان مُلكه، بل وسريعاً ما زحف بجيشه من مشاة وفرسان لصد الزحف الفارسي، وعَبَرَ بوغاز هلسبنت (الدردنيل) وإشتبك مع بعض القوات الفارسية الجبارة فقهرها بالقرب من شواطئ مرمرة، وعند مدينة ” إبسوس ” على الحدود السويسرية إلتقى ” الإسكندر ” بملك الفرس ” دارا الثالث ” (داريوس) فهزمه، وتشتت جيش دارا، وفر ” دارا ” إلى بابل0 أما ” الإسكندر ” فلم يتتبعه مفضلاً الإستيلاء على شواطئ البحر المتوسط الشرقية أولاً، فحاصر مدينة ” صور ” طويلاً، وعندما نجح في الإستيلاء عليها أحرقها بالنار، ثم تقدم بالمشاة والفرسان نحو حدود مصر الشرقية0

إسكندر: عفـواً ياأرشي للمقاطعة، فلا ينبغي أن يعبر علينا سقوط ” مدينة صور ” كخبر عادي، فمنذ عدة أيام كنت أتأمل في نبؤات الكتاب المقدَّس عن ” صور ” هذه المدينة التي إزدهرت طيلة ألفي عام حتى أصبحت تنافس روما، وصارت سيدة البحار وملتقى الشعوب، وجذب ميناءها السفن من شتى الدول، وفيها أقيمت أسواق الذهب والفضة والأحجار الكريمة واللؤلؤ والعاج والأبنوس فصارت هي عروس آسيا بلا منازع.. هذه المدينة حدثت لها أحداث في منتهى العجب، وقصت النبؤات هذه الأحداث قبل حدوثها بسنين طويلة0

أولاً : ذكرت النبؤات أن ملك بابل سيحاصر المدينة، فتنتقل المدينة إلى مكان آخر، ويصير حصار ملك بابل لها بلا مقابل، فقال ” أشعياء النبي “: ” عند وصول الخبر إلى مصر خبر صور0 أعبروا إلى ترشيش0 ولولوا ياسكان الساحل أهذه لكم المفتخرة التي منذ الأيام القديمة قدمها0 تنقلها رجلاها بعيداً للتغرُّب ” (أش 23: 5 – 7) فقوله ” تنقلها رجلاها بعيداً للتغرُّب ” إشارة إلى إنتقال المدينة مـن مكانها إلى مكان آخر، وقال ” حزقيال النبي “: ” لأنه هكذا قال السيد الرب هاآنذا أجلب على صور نبوخذراصر ملك بابل من الشمال ملك الملوك بخيل وبمركبات وبفرسان وجماعة وشعب كثير.. ويجعل مجانق على أسوارك ويهدم أبراجك بأدوات حربة ” (حز 26: 7، 9) وفعلاً هذا ماحدث إذ حاصر ” نبوخذراصر ” مدينة صور لمدة 13 سنة (585 – 573 ق0م) فهجرها معظم أهلها إلى جزيرة قريبة، وقد حملوا معهم أموالهم وتحصنوا في الجزيرة، وتحقَّقت النبؤة ” ينقلها رجلاها بعيداً للتغرُّب ” وعندما نجح نبوخذراصر في إقتحام المدينة لم يجد كنوزاً ولا أموالاً، وهذا ما عبَّرت عنه النبؤة من قبل عندما قال الله لحزقيال ” ياإبن آدم أن نبوخذراصر ملك بابل إستخدم جيشه خدمة شديدة على صور.. ولم تكن له ولا لجيشه أجرة من صور لأجل خدمته التي خدم بها عليها ” (حز 29: 18)0

ثانياً: بعد بناء مدينة ” صور ” الجديدة على الجزيرة تنبأ ” زكريا النبي ” عن خرابها أيضاً، فقال ” قد بَنَتْ صور حصناً لنفسها وكوّمت الفضة كالتراب والذهب كطين الأسواق0 هوذا السيد يمتلكها ويضرب فـي البحر قوتها وهي تؤكل بالنار ” (زك 9: 3، 4) وهذا ما تحدثت عنه ياأخ أرشي، ففي سنة 332 ق0م إذ أراد ” الإسكندر الأكبر ” الإستيلاء عليها ألقى بأنقاض المدينة القديمة في البحر فصنع طريقاً بطول 800 م وعرض 60 متراً، وطلب من المدن التي أخضعها من قبل إرسال بعض السفن، فأرسلوا أهل صيدا وأرفاد ورودس وسولي ومالوس وليكية ومقدونيا وقبرص أكثر من مائتي سفينة له، فإستطاع أن يقتحم صور الجديدة وتحققت نبؤة ” زكريا النبي ” السابق ذكرها، كما تحققت نبؤة ” حزقيال النبي “: ” هآنذا عليك ياصور فأُصعِد عليك أمما كثيرة كما يعلى البحر أمواجه ” (حز 26: 3) وأيضاً ” وينهبون ثروتك ويغنمون تجارتك ويهدُّون أسوارك ويهدمون بيوتك البهيجة ويضعو حجارتـك وخشبكِ وترابكِ في وسط المياه ” (حز 26: 12) وبسبب ما تكبده ” الإسكندر الأكبر ” في فتح المدينة نكل بأهلها فقتل منهم 8000 شخص، وصلب 2000، وأسر ثلاثين ألفاً باعهم كعبيد، وخرَّب المدينة وأحرقها بالنار0

ديمتري: لقد حكى لي أبي عن الإسكندر الأكبر أنه عندما حاصر مدينة ” صور ” رفض اليهود إمداده بالمؤونة اللازمة لجيشه فإغتاظ منهم، وبعد أن إقتحم مدينة صور وفعل بها ما فعل توجه بغضبه إلى أورشليم ليفعل بها كما فعل بصور وأهلها، ولكن ” رئيس الكهنة ” لبس ملابسه الكهنوتية وخرج لإستقباله في موكب من الكهنة والشعب، وأراه نبؤة دانيال عنه الذي شبهه بالنمر المجنَّح الذي له أربعة أجنحة وقد أُعطي سلطاناً (دا 7) كما شبهه بتيس جاء من الغرب على وجه كل الأرض ولم يمس الأرض، إشارة لسرعته، كما حـدد أن هذا التيس هو ملك اليونان (دا 8: 5 – 12) ففرح وسرَّ وتلاشى غضبه، وسأل رئيس الكهنة عن أي طلب يطلبه، وقال البعض أن الإسكندر بمجرد أن أبصر رئيس الكهنة سجد له، فإحتج عليه أتباعه، فقال لهم أنه عندما بدأ فتوحاته شاهد هذا المنظر في حلم فتشجع وأكمل طريقه0

إسكندر: هذا الكلام حق ياأخ ديمتري، وقد ذكره المؤرخ اليهودي ” يوسيفوس “.. تفضل أكمل ياأخ أرشي0

 

 

الإسكندر الأكبر
أرشي: بعد هذا إتجه ” الإسكندر الأكبر ” إلى مصر عبر حدودها الشرقية، بينما كان أسطوله يسير على مقربة من الشاطئ، وكان وضع مصر سيئاً جداً إذ كانت تئن تحن نير الإحتلال الفارسي القاسـي، وبمجــرد أن وصل ” الإسكندر الأكبر ” إلى ” بيلوز ” (الفرما) في خريف 332 ق0م فرح المصريون به جداً، ونظروا إليه على أنه المخلص والمُنقذ الذي سينقذهم من الظلم الفارسي الفادح، وسار ” الإسكندر ” إلى ” منف ” عاصمة مصر التي زادت أهميتها بعد إنهيار مدينة ” طيبة ” (الأقصر) ذات المائة بوابة، وما أن دخل العاصمة في ديسمبر 332 ق0م حتى رفع الوالي الفارسي الراية البيضاء، وكان عمر الإسكندر عندئذ خمسة وعشرين عاماً، ودخل مصر بدون قتال، وأبدى إحترامه الشديد للديانات المصرية، ففرح به الكهنة وتوَّجوه فرعوناً بمعبد ” فتاح ” بمنف، وأقام الإسكندر حفلات موسيقية ورياضية ضخمة، وإستقدم أشهر المغنيين والراقصات والموسيقيين إحتفالاً بتتويجه فرعوناً على أرض مصر0

ثم أبحر الإسكندر شمالاً لم يهدم معبداً ولم يقتل كاهناً، بل قدم قرباناً للعجل المقدَّس أبيس، وتكبد مشقة السفر إلى واحة سيوه حيث معبد الإله ” أمـون ” ليتلقى إستشاراته قبل أن يكمل غزو العالم، وكانت رحلة الإسكندر الأكبر وقادة جيشه ومؤرخه كليستنيز مغامرة، ويقال أنهم تعرضوا للعطش فأمطرت السماء، كما ضلت القافلة الطريق فأرشدتهم بعض الطيور للواحة، فرأوا أن الإله آمون هو الذي فعل معهم هذا ” كان وصول الإسكندر إلى معبد الوحي على صخرة أجورمي مفاجأة للكهنة ولأهل سيوة، فهو لم يرسل رسلاً تنبئ بمقدمه حسب العادة، ورغم كل شئ فقد خرج الكهنة لإستقباله في فناء المعبد، ومرَّ موكب الكهنة من حول الإسكندر ورفاقه، يحملون تمثال آمون من الجواهر النفيسة داخل المركب المقدَّس.. بينما الراقصات ترقصن والملاتلات ترتلن، وهي بلباسهن الأبيض0 ولقد ظل الترحيب طويلاً، حتى أعلن كبير الكهنة أن الإله آمون إزداد إنشراحاً بمقدم الإسكندر إبن آمون0 وبعد هذا الترحيب سأل رفاق الإسكندر وحي آمون مجموعة من الأسئلة، فأجاب كبير الكهنة عليها، ثم وافق كبير الكهنة أن يدخل الإسكندر قدس الأقداس في معبد الوحي(21)0

وهناك قدم ” الإسكندر الأكبر ” القرابين لهذا الإله، معتبراً أنه هو الإله ” زيوس ” اليوناني، وكم كانت فرحة الكهنة المصريين به، وتوَّجوه على أنه إبن آمون، ولأنهم يرمزون للإله آمون بالكبش المقدَّس، لذلك صوَّروا الإسكندر وعلى رأسه قرنين، ودعي بذي القرنين0 وهنا كانت نهاية الحكم الفرعوني في مصر وبداية العصر الإغريقي الذي إستمر حتى بداية العصر الروماني على يد أكتافيوس0

         وإذ لم يستحسن ” الإسكندر ” أن تكون ” منف ” عاصمة مصر فكر في إنشاء مدينة جديدة تقع على البحر المتوسط تحمل إسمه وتكون عاصمة مصر التي تطل على العالم الغربي، وفي طريق عودته من واحة سيوة إختار مع مهندسه ” دينوقراطيس ” المكان المناسب لبناء المدينة الجديدة بين مدينة ” راكوتي ” غرباً ومدينة ” كانوب ” شرقاً، وكلف المهندس دينوقراطيس بوضع الخرائط للمدينة ولهذا جاءت المدينة على درجة عالية من التنسيق0 وعاد ” الإسكندر ” إلى ” منف ” وأقام حفلاً عظيماً، وعيَّن والياً لمصر العليا وآخر للدلتا، وإحتفظ بالموظفين المصريين في وظائفهم، وترك حامية صغيرة في مصر عيَّن لها ثلاثة من القادة حتى لا ينفرد أحد بالسلطة، وترك مصر في ربيع 331 ق0م متجهاً للشرق بعد أن أمضى بمصر نحو ستة أشهر، أحبه خلالها الشعب المصري الطيب القلب مع أنه أجنبي عنهم، ولكن يكفيه فخراً أنه أزاح عن كاهلهـم الظلم الفارسي الفادح، وأحسن معاملتهم، وإحترم معابدهم وآلهتهم، فهتفوا له على أنه حاكمهم وفرعونهم المقدَّس0

         وإتجه ” الإسكندر ” صوب فارس، وكان ملك فارس ” دارا الثالث ” في إنتظاره بجيش جرار ومركبات حربية وفيلة، بينما لم يكن مع الإسكندر سوى سبعة آلاف فارس وأربعين ألفاً من المشاة، وفي أول أكتوبر سنة 331 ق0م شبت المعركة الحاسمة بين الملك المقدوني الجسور الأبيض اللون المجعد الشعر، وبين ” داريوس ” ملك الملوك.. لقد إنطلق ذاك النمر المجنَّح الذي أُعطي سلطاناً من السماء ليسحق داريوس وكل جيوشه، ومن يعترض ؟!.. أليس الله ضابط الكل هو العامل في التاريخ، يقيم ممالك وينهيها، فهذه نهاية مملكة مادي وفارس وبدايــة مملكـة اليونان، ودخل ” الإسكندر ” بلاد فارس ظافراً منتصراً، وما فعله في مصر فعله في فارس أيضاً، فقدم إحترامه لمعابدهم وآلهتهم، بل وتزوج منهم بفتاة تدعى ” روكسانا ” وشجع قادته للإقتران بالفارسيات، فكل ما يشغل ذهن القائد هو المزج بين الحضارات وليس الصراع بينها، معتقداً أن حملاته العسكرية هي رسائل إلهيَّة كُلّف بها، وكان للإسكندر الأكبر أفكاره الثورية وطموحاته في توحيد العالم وفي سنة 329 ق0م أكمل ” الإسكندر الأكبر ” فتوحاته حتى وصل إلى الهند سنة 327 ق0م، وفي أوائل سنة 325 ق0م عندما عاد إلى فارس أقام إحتفالاً ضخماً بالسلام في مدينة ” سوزا ” في جنوب غرب فارس، وإرتدى الزي الفارسي، وتزوج بفارسيــة أخرى تُدعى ” بارسيني ” وأيضاً في هذا الإحتفال تزوج ثمانون رجلاً من قادته بفارسيات، وفي الوليمة الضخمة التي أقامها ملك اليونان هذا وضع وعاءاً فضياً كبيراً دعاه باسم ” كأس المحبة والسلام بين الأمم ” وسكب كبار الحاضرين من مختلف الأجناس النبيذ في هذا الوعاء على سبيل القربان، وخُتِم الإحتفال بصلاة أقامها ” الإسكندر ” من أجل السلام، معلناً عن أمنيته أن تسود المساواة بيـن جميع الشعوب، وإتخذ ” بابل ” عاصمة لملكه بهدف توحيد الشرق بالغرب.. كم كان هذا الرجل عظيماً بسمو مبادئه، وأيضاً بفتوحاته بعد أن إفتتح العالم كله في عشر سنوات، وكان لابد أن تتم النبؤة عن موته في ريعان شبابه ” ويقوم ملك جبَّار ويتسلَّط تسلطاً عظيماً ويفعل حسب إرادته0 وكقيامه تنكسر مملكته وتنقسم إلى رياح السماء الأربع ” (دا 11: 3، 4) ففي 13 يونيو 323 ق0م مات ” الإسكندر الأكبر ” وهو في الثالثة والثلاثين من عمره0 مات ذاك الجبار الذي أُعطي سلطاناً من السماء وتسلَّط تسلطاً عظيمــاً وفعــل حسـب إرادته وأقام عدة مدن على إسمه بأسم ” الإسكندرية ” في مصر والعــراق وفارس والهند، وقد أوصى ” بطليموس بن لاجوس ” بأن يشرف على إعداد موكب نقل جثمانه ودفنه بجوار معبد أبيه زيوس آمون في سيوه0

         وعقب وفاة الإسكندر إجتمع قادة الجيوش في مؤتمر ببابل وتم تقسيم الإمبراطورية إلى أربعة ممالك، وتمت النبؤة أنه نمر ذو أربعة رؤوس (دا 7: 6) أو تيس إنكسر قرنه العظيم وطلعت أربعة قرون ” فتعظم تيس المعز جيداً ولما إعتَّز إنكسر القرن العظيم وطلع عوضاً عنه أربعة قرون معتبرة نحو رياح السماء الأربع ” (دا 8: 8) وهذه الممالك الأربعة هي مملكة البطالمة التي كانت في مصرنا الحبيبـة، والمملكة السلوفية، ومملكة تراكيا، ومملكة مقدونيا التي ملك عليها ” كاسندر ” وللأسف قام كاسندر بسجن زوجة الإسكندر ” روكسانا ” وإبنها من الإسكندر ” اللو ” وفي سنة 311 ق0م قتلهما حتى لا يكون للإسكندر وريث ينازعه الحكم، وبذلك إنقرضت ذريــة الإسكندر كما أخبرت النبؤة تماماً ” وكقيامه تنكسر مملكته وتنقسم إلى رياح السماء الأرقع ولا لعقبه ولا حسب سلطانه الذي تسلَّط به لأن مملكته تنقرض وتكون لآخرين غير أولئك ” (دا 11: 4)0

إسكندر: الأمر العجيب أنه بسبب تطابق نبؤات دانيال على الإسكندر الأكبر قال ” بروفورس ” (أحد نُقَّاد الكتاب المقدَّس) أن هــذه النبــؤات كُتبت بعــد تمام الأحداث، فردَّ عليه القديس ” أيرونيموس ” بحكمة قائلاً: ” هذا الكلام في حد ذاته شهادة للحق نفسه، لأنه من دقة وإعجاز النبؤة أنه بدى له ما قاله، فهذه شهادة للنبي لا عليه0 أما تواريخ الأنبياء ومتى وُجدوا ومتى تنيحوا فهي معروفة جداً لأصغر تلميذ.. وبذلك يمكن معرفة ما إذا كانت هذه الأقوال سابقة أم لاحقة على تحقيقها (22)0

         حقيقة أن القصة مشوّقة جداً، فهل لك ياأرشي أن تُلقي الضوء ولو قليلاً على مملكة البطالمة في مصرنا الحبيبة، وكم ملك تسمى باسم بطليموس ؟ وإن كانت كليوباترا تمثل آخر حكم مملكة البطالمة، فإن أبيها على ما أذكر بطليموس الثاني عشر دُعي بالزمار.. لماذا ؟

أرشي: أولاً أود أن أشير إلى الرحلة التي قطعها جثمان النمر المجنَّــح مــن بابـل إلى منف إلى الإسكندرية، فبعد أن مات ” الإسكندر ” ودُفن في ” بابل “، وتم تجنيد مجموعة من الفنانين المقدونيين والفرس والشرقيين لتصنيع التابوت الذي سيودع فيه جثمان النمر المجنَّح، وأيضاً صنع العربة التي ستحمل التابوت في موكب ضخم إلى مصر، وإستغرق هذا العمل سنتين ” وقد صنع التابوت الذي حفظت فيه الجثة بعد تحنيطها من خشب الصندل والأرز وكسيت بألواح من الذهب المطروقة، وملئت بالطيب ليحفظ الجثمان ويملأ المكان رائحة عطرة، وكان غطاء التابوت من الذهب الموشى بالفسيفساء , ووصفه ديودورس المؤرخ الصقلي أن طول التابوت كان إثنا عشر ذراعاً وعرضه ثمانية أذرع تحمله ستة أعمدة أيونية، وفي كل ركن من أركانها لوحة من لوحات النصر، وكان التابوت في مجموعه وتفاصيله تحفة رائعة، كما تعلو التابوت قبة العرش التي تغطي الفراغ كله0 ويحيط برواق التابوت مقصورة من مشربيات من شبكات من الذهب يبلغ سمك أضلاعها وخيوطها إصبعاً، وزخرفت على أشكال أوراق شجر الأكاشيا والزيتون وزهور اللوتس المصري المقدَّس، ويحمل السقف مجموعة من الأعمدة ذات التيجان الأيونية الطابع الذي يتميز بالجمع بين الفن المقدوني والفارسي0

         ويسير النعش على عجل تجره 64 دابة تسير في ثمانية صفوف بكل صف ثماني دواب مثبتة في أربعة عروش0 لقد بدأ الموكب العظيم سيره من بابل في أواخر عام 322 ق0م في طريقه إلى مصر ماراً بدمشق، وقد تقدمه بطليموس الأول بجيشه حتى حدود سوريا بدعوى تقديم الإحترام للفقيد العظيم، ولكن هدفه الرئيسي كان حمايته (23)0

أحضر ” بطليموس الأول ” جثمانه إلى ” منف ” في جنازة ضخمة قطعت مئات الأميال من بابل إلى مصر فتمسك به أهل منف وأصروا على دفنه في مدينتهم التي سبق الإسكندر الأكبر وتُوّج فيها ملكاً على عرش مصر، فدفنوه في مقبرة الملوك بمعبد بتاح، وقام الفنان النحات ” ليسيبوس ” بنحت عدة تماثل للإسكندر الأكبر، فجاءت هذه التماثيل معبرة عن شخصية القائد الفذ، ونظراته لأعلى تعبر عن تطلع الإسكندر للآفاق البعيدة، وفي سنة 305 ق0م أعلن ” بطليموس الأول ” إقامة العبادة للإسكندر، فكان أول إمبراطور أجنبي يؤلّهه المصريون وأول حاكم يُصوّر بدون لحية، وأول حاكم يظهر بقرني كبش تعبيراً عن أنه إبن الإله آمون0

ثم جاء ” بطليموس الثاني ” فلادلفوس ونقل جثمان الإسكندر في إحتفال كبيــر مــن ” منف ” بعد نحو 42 سنة إلى ” الإسكندرية ” تلك المدينة التي وُلدت في عقل الإسكندر قبل أن توجد على الطبيعة، ولم يشاء القدر أن يدخلها حيَّاً فدخلها وهو مسجي في تابوته محولاً على الأعناق، وشُيد له ضريحاً فخماً في ساحة دُعيت باسم ” سوما ” أي الجسد أو الجثمان عبر تقاطع الشارعين الرئيسيين بالمدينة وهما شارع كانوب (شارع أبو قير) وشارع سوما (شارع النبي دانيال)0

وظل التابوت الذهبـي الخاص بالإسكندر الأكبر حتى جاء ” بطليموس التاسع ” (107 – 90 ق0م) فطمع فـي ذهب التابوت، ونقل الجثمان إلى ” معبد البانثيون ” (محل مسجد العطارين) وطالما زار أباطرة الرومان مصر ووقفوا في خشوع أمام قبر الإسكندر المقدوني، فقد وقف أمامه ” يوليوس قيصر ” طويلاً متأملاً، ووضع إكليلاً من الذهب على رأس الجثمان، والإمبراطور ” كراكلا ” (211م) بمجرد أن وصل إلى الإسكندرية بأسطوله توجه إلى قبر الإسكندر مع قادة جيشه، ووقف يصلي أمام القبر، ثم خلع رداءه الأرجواني وحُليه وزيَّن بهما الجثمان، وأخذ درع الإسكندر من قبره تذكاراً وعاد به إلى روما0

         وبعد موت ” الإسكندر الأكبر ” وإنقسام مملكته إلى أربعة ممالك، حكم مصرنا الحبيبة ملوك البطالمة، وجميعهم باسم بطليمــوس باستثناء كليوباترا، وأولهم ” بطليموس الأول ” سوتر (323 – 285 ق0م) ومعنى بطوليميوس أي القدير في الحرب، ولُقَب بسوتر أي المخلص أن المنقذ، وقد تربى مع الإسكندر الأكبر في قصر الملك فيليب المكدوني والد الإسكندر، وكان واحداً من قادة الإسكندر السبعة الذين يحيطون به في الحروب، بل وأكثرهم قرباً ووفاءاً للإسكندر، وظل وفياً للنهاية، وعندما تولى الحكم أراد تخليد ذكرى الإسكندر الأكبر، فقام بسك عملة ذهبية على أحد وجهيها الإسكندر راكباً عجلة حربية تجرها أربعة أفيال وفي يده الصاعقة رمـز زيــوس، وعلــى الوجـه الآخر صورته هو (بطليموس) وعلى رأسه عصابة، كما قام بسك عملة فضية يظهر على أحد وجهيها رأس بطليموس الأول، وعلى الوجه الآخر زيوس في شكل صقر ناشر جناحية0

ويعتبر بداية الحكم الإغريقي لمصر إنتهاء وخاتمة للدولة المصرية القديمة (الفرعونية) التي إرتقت أحياناً لمستوى الإمبراطورية عندما كانت تسيطر على بلاد الشام وغيرها0 إنتهت دولة الفراعنة التي إستغرقت الفترة من 3200 – 332 ق0م خلال ثلاثين أسرة حكمت مصر، وشملت كل أسرة عدد من الملوك، ومثلت الأسرتين 1، 2 (3200 – 2780 ق0م) العصر العتيق، والأسر 3 – 6 (2780 – 2280 ق0م) الدولة القديمة، والأسر 7 – 10 (2281 – 2134 ق0م) عصر الإضمحلال الأول، والأسرتين 11، 12 (2134 – 1778 ق0م) الدولة الوسطى، والأسر 13 – 17 (1778 – 1570 ق0م) عصر الإضمحلال الثاني، والأسر 18 – 20 (1570 – 1080 ق0م) الدولة الحديثة، والأسر 21 – 30 (1085 – 332 ق0م) العصر المتأخر، مع ملاحظة أن مصرنا الحبيبة قد تعرَّضت لفترات إحتــلال قاسيـة من الهكسوس خلال الفتــرة (1674 – 1570 ق0م)، ومن الفرس (525 – 332 ق0م)0

         وصار ” بطليموس الأولأول ملوك البطالمة الرجل الشجاع الحازم ملكـاً على مصر وفرعوناً وإلهاً في نظر المصريين، وكان رجلاً دمث الأخلاق، طيب القلب، يحب الأداب والفنون، وقد أنشأ مدينة إغريقية في صعيد مصر وهي ” بطلمية ” (الآن المنشأة بمحافظة سوهاج) فتمتع سكانها بمزايا المدن الإغريقية في مصر، وإحترم ” بطليموس ” معابد المصريين وآلهتهم وحاول المزج أو المناظرة بين آلهة المصريين وآلهة الإغريق، فظهرت عبـادة ” سيرابيس ” Sarapis الذي عبده الجميع، مصريون ويونانيون، فاعتبره المصريون هو الإله المصــــري ” أوزيريس “، بينمــا إعتبره الإغريق أنه الإله ” زيوس “، وتزاوج الإغريق مع المصريين، وتعلم المصريون اللغة اليونانية وأجادوها لأنها صارت اللغة العالمية، وشعر المصريون بالسلام والرخاء والإستقرار وتحسن وسائل الري وزيادة رقعة الأراضي الزراعية، وتطوُّر الصناعة والتجارة الخارجية0

أما الفلاح المصري فكان يشعر أنه دائماً يكد ويكدح من أجل إيفاء إلتزاماته تجاه الملوك والكهنة وأصحاب الأرض، ولا يتبقى له غير قوته وقوت مواشيه من كثرة الضرائب، وحتى الإسكندرية وهي مدينة إغريقية لا يُسمح له بالإقامة فيها ولذلك دعوها ” المدينة المتأخمة لمصر ” كما لو أنها ليست مصرية، كما إقتصرت الوظائف الهامة على الإغريق، وإعتاد الإغريق على لبس الأحذية ذات السيقان العالية، والقبعات المصنوعة من اللباد، وعاملوا المصريين على أنهم أقل شأناً، ولم يهتموا بتعلُّم اللغة المصرية 0

         وفي بدايات الحكم الإغريقي كانت مصر دولة قوية، فمثلاً في سنة 273 ق0م أرسل ” بطليموس الثاني ” (فلادلفوس) سفارة إلى روما، وردت روما بسفارة مماثلة في نفس العام، وسادت العلاقات الودية بين مصر وروما حتى القرن الثالث ق0م، ثم تعرضت دولة البطالمة للضعف والإنهيار ولاسيما بعد معركة رفح سنة 217 ق0م التي نشبت بين أنطيوخس الرابع الملك السلوقي وبين بطليموس الرابع، والذي إستعان فيها بالمصريين، وبعد إنتصار بطليموس الرابع شعر المصريون بقوميتهم، وأدركوا المظالم التي يتعرضون لها من الإغريق، فبدأت ثوراتهم ضد الإغريق تزداد وتشتد، وإتخذوا ” طيبة ” مركزاً لثورتهم، كما سادت الصراعات في الوسط الملكي، ولاسيما بسبب تولي عرش مصر ملوك ضعفاء مستهترين، فخلال الفترة من 205 – 145 ق0م من بطليموس الخامس للسادس فقدت مصر الكثير من ممتلكاتها، بل قام أنطيوخس الرابع بغزو مصر مرتين سنة 170 ق0م، 167 ق0م، وخلال الفترة من 145 – 50 ق0م من بطليموس الثامن إلى بطليموس الثاني عشر بدأ التغلغل الروماني في مصر من جهة تعيين الملوك والتدخل في السياسة الداخلية والخارجية، فقد إستدان ” بطليموس الثاني عشر ” من ” غايوس رابريوس بوستم ” بـ 6000 طالن (عملة ضخمة) دفعها للحكومة الثلاثية فـي روما للإعتراف بمصر كصديق وحليف لروما، وهذه القيمـة تساوي كل دخل مصر من التجارة طوال العام، وإضطر بطليموس إلى رفع الضرائب مما أدى إلى إستياء الشعب0

         وكان ” بطليموس الثاني عشر ” (81 – 51 ق0م) قد تزوج من ” كليوباترا الخامسة ” وأنجب منها ستة أبناء هم كليوباترا السادسة، وبرنيكي الرابعة، وكليوباترا السابعة، وأرسينوي الرابعة، وبطليموس الثالث عشر، وبطليموس الرابع عشر، فصار كل منهم حاكماً لمصر فترة معينة، ومعظمهم كانت نهايتهم تعسة، وكان والدهم يعشق العزف على الفلاوت، ولذلك دُعي بـ ” الزمار ” وغرق في الشراب، ووصل لحالة من الضعف حتى أن روما عندما إستولت على جزيرة قبرص لم يحرك ساكناً كما أنه قد أثقل كاهل الشعب بالضرائب، فهاج الشعب السكندري عليه، والسكندريون سريعـي التقلب كموج البحر، سريعي الإنفعال والتهيج، ففر ” بطليموس الثاني عشر ” من الإسكندرية ملتجئاً إلى روما، بينما إنتهزت الفرصة إبنته الجميلة ” برنيس ” (برنيكي) وإستولت على العرش وأرسلت برنيكي وأختها كليوباترا السادسة مائة شخص إلى روما للإدلاء بشهادتهم ضد أبيهما الذي إتهمتاه بالسفه ولكن قُتل بعضهم، ولم تُعرض القضية أمام القضاء الروماني، ولا أمام القيصر وقدم ” بطليموس ” الرشوة إلى رجال السناتـو، فقرر ” مجلس الشيوخ ” في روما مناصرته، وإضطر ” بطليموس ” للإستدانة بمبالغ كبيرة من أجل هذا العرض، كما طلب من ” جابينوس ” حاكم سوريا الروماني أن يساعده على إستعادة عرشه لقاء مبلغ كبير قدره عشرة آلاف طالن0

         وفــي ربيع سنة 55 ق0م جاء بطليموس الزمار بصحبة ” جابنيوس ” إلى حدود مصر الشرقية، ومنها إلى الإسكندرية، وما أن دخل بوابة الإسكندرية بعد غياب بلغ نحو ثلاث سنوات حتى وجد الشعــب السكنــدري قد خرج ليحتفي بقدومه، بينما فرت ” برنيكي ” من أعين أبيها ” وأدركت كليوباترا (السابعة) عندما أصبحت الجماهير على مرأى منها، أن تلك الجماهير كانت تحيي عرض الرومان لمظهر سلطانهم، أكثر مما كانوا يحيون أباها0 وكان الضباط الرومان يسيرون أمام ” جابنيوس ” ليظهروا سلطته الرسمية نيابة عن حكومة روما لتنصيب الملك بطليموس مرة أخرى على العرش.. وكـان الجنود الرومانيون ذوي وجوه جامدة، وشفاه رقيقة مطبوقة، ويسيرون بدقة آلية ونظام كامل مما بهرها وأودع الروع في قلبها.. لاح لناظريها أبوها والقائد الروماني، وكان (أبوها) يسير خلف ” جابينوس ” ذي النظرة النبيلة الصارمة، عملاق، عملاق باسم، صغير السن، له شعر أشقر، وعيناه زرقاوان واسعتان في وجه ملئ بالحيوية والدفء، وكان قوياً جداً، وكانت تستطيع أن تستشف ذلك من عضلاته التي لم تخفها النقبة الرومانية القصيرة، ومن ذراعيه اللتين لم تكن يغطيهما رداؤه الروماني الــذي رمى بطرفه فوق كتفه دون مبالاة(24)0

         وعاد ” جابينوس ” إلى سوريا بعد أن ترك حامية صغيرة لمساندة بطليموس الثاني عشر، الذي عاث فساداً في الإسكندرية، وأخذ ينكل بخصومه وأعدم الكثيرين منهم، وقبيل موته كانت صحته قد إعتلت كثيراً بسبب الإفــراط في الشراب، وكانت إبنته ” برنيكي ” قد ماتت، وصارت الحانة على الفلاوت أشد حزناً، وترك وصيته بأن يتولى عرش مصر إبنته كليوباترا السابعة ذات الثمانية عشر ربيعاً مع أخيها بطليموس الثالث عشر ذو العشرة أعــوام، وناشـد روما للإشراف على تنفيذ هذه الوصية، فكتب ” إنني أستودع بإحترام هذين الإثنين في حماية الشعب الروماني النبيل ” وأرسل صورة من الوصية إلى روما، في الوقت الذي فرضت فيه روما سيطرتها على الشرق والغرب، وأبقت مصر كدولة صديقة إلى أن يحين وقت إلتهاماها0 أما كليوباترا السابعة آخر ملوك البطالمة فقد تصدت لهذا الإجتياح بذكائها ودهائها وجمالها ودلالها.. كيف ؟ هذا ما سنراه في فرصة أخرى إن أرادت نعمة الرب وعشنا0

 

 

بطليموس الثاني عشر (الزمار)

(21)  د0 سيد كريم – مكتبة الإسكندرية ص 85، 86

(22)  الراهب بولا البراموسي – النبؤات والآثار ص 56، 57

(23)  د0 سيد كريم – مكتبة الإسكندرية ص 59، 60

(24)  ونفرد هولمز – ترجمة سعد أحمد حسين – كانت ملكة على مصر ص 136، 137

النمر المجنح ف4 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب

Exit mobile version