البابا في الحي اليهودي ف3 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل الثالث: البابا في الحي اليهودي
وبعد مرور شهرين على تلك المهمة التي أُعيدت فيها سفينة الأسدين، وقد أدلى مالكها بشهادة حسنة لدى القصر الإمبراطوري في حق القائد ” ديجينيس ” وجنوده ولاسيما ” ديمتري ” أنعم القصر على كليهما بمكافأة ماليـة مع الترقية، فتم ترقية ديمتري إلى ” ضابط ” تحت التدريب، ثم كلَّف القائد ” ديجينيس ” ديمتري بإستلام طلبية ملابس بحرية من التاجر السكندري المشهور ” ويصا “، وترك له حرية إختيار الفريق الذي يعاونه في هذه المهمة، وبلا تردد إختار ” ديمتري ” فريق المثاقيب الذي سبق إختياره في إنقاذ سفينة الأسدين من قبضة القراصنة، فجميعهم أبناء غطسة واحدة، وبينما من المعتاد أن يُقدِم المورد لمن يتسلم البضاعة ويفحصها رشوة أو على الأقـل هدايا تتناسب وحجم الطلبية، فإن التاجر ” ويصا ” لم يفعل هكذا، وتعجب ” ديمتري ” وفريقه من هذا التصرف رغم أنه يرفض مبدأ الرشوة، وعندما إستفسر أحد أعضاء الفريق عن هذا، علم أن ” ويصا ” إنسان مسيحي ولذلك فهو يرفض الرشوة تماماً، كما أن الأصناف التي يسلمها على درجة عالية من الجودة، وخالية من أية عيوب، وبدأ ” ديمتري ” وفريقه يفحصون الأصناف بدقة، ومع نهاية اليوم تم إستلام جزء من الطلبية التي يستغرق إستلامها نحو عشرة أيام، وصار ” ويصا ” موضع ثقتهم0
ديمتري: إنني أحييك على أمانتك من جهة العدد والجودة، كما أحييك أنك لم تدفع رشوة0
ويصاً: من جهة الأمانة هذا واجب عليَّ وليس تفضل مني، ومن جهة الرشوة فإن كتابنا المقدَّس يعلمنا ” لا تأخذ رشوة0 لأن الرشوة تُعمي المُبصرين وتعوج كلام الأبرار ” (خر 23: 8) و” ملعون من يأخذ رشوة ” (تث 27: 25) كما يعطي البركة لمن يرفض الرشوة ” مبغض الرشوة تطول أيامه ” (أم 28: 16)0
ديمتري: هذا ليس كتابكم المقدَّس بل توراتنا المقدَّسة التي أعطانا إياها يهوه بفم نبينا موسى النبي0
أدرك ” ويصا ” أن ” ديمتري ” يهودي، فأخذ يوضح له:
أولاً : أن الله واحد، هو إله التوراة وإله الإنجيل0
ثانياً : أن المسيحيين يعترفون بأسفار العهد القديم ويقرأونها ويجلونها ويعترفون أنها كلمات الله وأنفاسه التي أوحى بها لأنبيائه القديسين0
ثالثاً : ضمت الكنيسة التوراة للأناجيل وبقية أسفار العهد الجديد في كتاب واحد، لأن الروح القدس الذي أوحى بهذه وتلك هو واحد، فقد تكلم أناس الله القديسون قديماً وحديثاً مسوقين من الروح القدس0
رابعاً: العهد القديم هو بمثابة أساسات البناء والمسيحية هي البناء، أو هو بمثابة جزور الشجرة، والشجرة هي المسيحية، وأن العهد الجديد مستور في العهد القديم، والعهد القديم مشروح في العهد الجديد 00
أخذ ” ديمتري ” ينصت ويتعجب، ففكرته عن المسيحيين غير هذه تمامـاً، وطالما حذره والده منهم، وفي بساطة أخذ يسأل ويصا عن معتقداته في المسيحيين: لماذا تذبحون الأطفال وتشربون دمائهم ؟
ويصا: هل رأيت هذا بعينيك ؟
ديمتري: لا، ولكنني أثق فيمن أخبرني بهذا0
ويصا: إن كان الإنجيل يوصينا بأنن لا نغضب على أحد باطلاً، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً، وأوصانا بمحبة الجميع حتى الأعداء والمسيئين لنا، وقد أحب السيد المسيح له المجد الأطفال وقال دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات، فكيف يتفق هذا مع إتهامنا بذبح الأطفال ؟!
ديمتري: ولماذا تجتمعون في السراديب والكهوف والأماكن المنعزلة لترتكبوا الفجور بينما الوصية تقول ” لا تزن ” ؟
ويصا: هل أنت رأيت هذا بعينك ؟
ديمتري: لا، ولكنني أثق فيمن أخبرني بهذا0
ويصا: الذي أخبرك بهذا هو الذي أخبرك بأننا نذبح الأطفال ونشرب دمائهم، لكن يجب أن تُحكّم العقل.. أدرس الإنجيل الذي أوصانا بأن كل من نظر لإمرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه، فإن كان الإنجيل يحذرنا من النظرة الشريرة فكيف نصنع هذا الشر العظيم0 أما سبب إجتماعاتنا في الكهوف والسراديب والمقابر والأماكن المنعزلة فلأن الإمبراطورية تُحرّم عبادتنا0
ديمتري: ولماذ تتوجس الإمبراطورية الرومانية منكم ؟ ولماذا تتعقبكم ؟ ولماذا تأمر بتعذيبكم ونفيكم وقتلكم ؟ ولماذا 00
وإذ بإسكندر أحـد الخـدام الأمنـاء يمـر بحـي الميدان (الميناء) ويلمح عم ” ويصا ” التاجر الأمين فيسرع ويسلم عليه بإحترام زائد، ويطلب منه عم ” ويصا ” الحضور إلى متجره ليتسلم ملابس العيد، فعيد الميلاد على الأبواب، وقد إعتاد ” ويصا ” توريد كم ليس بقليل من الملابس الشتوية في عيد الميلاد، والملابس الصيفية في عيد القيامة للكنيسة، بلا مقابل، فإن هذه الملابس توزع مجاناً للفقراء والمحتاجين، وتعرَّف ” إسكندر ” على ” ديمتري ” وجرى الحديث بين الثلاثة حلواً عذباً مستقيماً، حتى شعر ” ديمتري ” أنه وسط أخوته، وأنه قريب جداً من ” إسكندر ” وكأنه يعرفه من أمد بعيد، فإن رسالـة الحـب القلبية التي أرسلها ” إسكندر ” وجدت صدى كبير في قلب ” ديمتري ” فكل منهما يتميز بالبساطة والوضوح والشفافية0
وقال ” ويصا ” ضاحكاً: هل تصدق ياإسكندر أن الأخ ” ديمتري ” يظن أننا نذبح الأطفال ونرتشف دمائهم، وأننا نجتمع في الأماكن المنعزلة رجالاً ونساءاً لنمارس الفجور.. ضحـك ” إسكندر ” وقـال: إذاً ليأت ” ديمتري ” معنا اليوم، لحضور إجتماع الشماس ” بطرس ” ليرى بعينيه ويسمع بأذنيه ماذا يحدث وماذا يدور في الإجتماع0
وضحك ” ديمتري ” وقال: الحقيقة مع أن عم ” ويصا ” صحح مفاهيمي، لكنني قبلت الدعوة لحضور إجتماعكم، فإن هذا ما يسعدني ويثلج قلبي0
وفي مساء ذات اليوم كان ” ديمتري ” جالساً وسط عدد من الرجال والنساء والأطفال مع ” أبونا ثيؤدوسيوس ” في بيت أنيانوس بحي راكوتي 00الجميع ينصتون إلى شاب وديع، ذو وجه مشرق، تبدو على محياه النعمة والسلام، وهو يتحدث في هدوء عن الشهادة للمسيح، وركز حديثه على الشهادة بالدم مستعرضاً نماذج من حياة الشهداء الأبطال، وشكر الله كثيراً الذي أنعم على شعبـه فـي هـذه الأيـام بهدوء نسبي.. لقد أرسل الإمبراطور ” فالريان ” (253 – 260 م) لمجلس الشيوخ أمراً يُقضي بإعدام الإكليروس، وتجريد أعضاء مجلس الشيوخ المسيحيين والرجال البارزين والفرسان من ألقابهم وممتلكاتهم، وإن أصروا على مسيحيتهم تبتر رؤوسهـم، وقـد جدَّد ” أوريليان ” (270 – 275 م) أمر ” فالريان ” أما في هذه الأيام فأنه منذ عام 275م إلى 284م إعتلى عرش روما ستة أباطرة وإنشغلوا بالصراع على العرش، فتميزت هذه الفترة بالهدوء النسبي0 كما أن ” دقلديانوس ” الذي إعتلى العرش سنة 284م وبدأ حملة إصلاحية كبرى في كل المجالات للآن لم يصدر منه أمر ما يسئ للمسيحيين0 ثم تطرق الشماش المعلم ” بطرس ” إلى موضوع هام، وهو: لماذا إضطهد الأباطرة الرومان المسيحيين، فنظر ” ديمتري ” إلى ” ويصا ” لأن هذا محور السؤال الذي طرحه ” ديمتري ” وإذ أخذهم الحديث لم يجب ” ويصا ” عليه، وذكر الشماس ” بطرس ” خمسة أسباب لهذا الإضطهاد الشرس الموجه للمسيحيين:
أولاً : تغلغلت العقيدة الوثنية في نفوس الوثنيين من بسطاء وحكماء، حتى أنهم يقدمون أطفالهم ذبائح بشرية على مذابح الآلهة الوثنية لإسترضائها من أجل الأمطار والزروع والثمار والحصاد والأمن والأمان والنصرة على الأعداء، ويصحب الجيش الروماني الكهنة في الحروب يستخيرون الآلهة، وفي قاعة مجلس الشيوخ الروماني هناك مذبحاً يقدمون عليه التقدمات والسكائب معتقدين أن الآلهة تحضر معهم إجتماعاتهم، وقبل أن يجلس ” القضاة ” على منصاتهم يلتمسون الحكمة من آلهتهم التي لا تسمع ولا تنظر، فالعبادة الوثنية تغلغلت في كل مرافق الدولة الرومانية كخيوط النسيج المغزولة معاً، وعظَّم الوثنيون آلهتهم العديدة، وأقاموا تماثيلهم في المعابد وخارجها، وهؤلاء يعلمون أننا لا نعترف بهذه الآلهة المزيفة، فخلف كل وثن شيطان، ولأننا نؤمن بالإله الواحد الحق خالق السماء وكل ما فيها والأرض وما عليها، ولا نؤمن بأبلون وجوبتير وزيوس وسيرابيس وإيزيس والعجل أبيس والبقرة حتحور والكلب أنوبيس والكبش أمون لذلك يتهموننا بالإلحاد، وسيظل الصراع قائماً بين الشر والخير والظلمة والنور0
ثانياً: يطالبنا الرمان بتأليه الأباطرة.. فكيف نؤلّه البشر؟!.. نحن لا نشرك بالله الواحد أحداً.. أنظروا إلى تصرفات هؤلاء الأباطرة.. ” نيرون ” الذي أحرق روما وأتهم المسيحيين بهذا فجعل من أجسادهم مشاعل تنير ظلمة روما.. إنه لم يصل إلى درجة الإنسان السوي فكيف نؤلّهه ؟!.. الإمبراطور ” كاليجولا ” في القرن الأول الميلادي، وكان هذا الإمبراطور ضخم الجسم، غائر العينين، كثيف الشعر، مصاباً بالصرع والشذوذ الجنسي، ألزم أعضاء مجلس الشيوخ بتقبيل قدميـه، إعتدى على شقيقاته جنسياً، وخطف الزوجات الجميلات من أزواجهن، وكان يستحم بالعطور ولا يكف عن النهم، أقام لجواده مزوداً من العاج داخل حظيرة من رخام، ألقى بخصومه للوحوش، ونشر بعضهم بمناشير الحديد، وألزم جدته ” أنطونيا ” أن تقتل نفسها، أمر بإعدام فيلسوف روما ” سنيكا ” وعندما علم أنه مصاب بمرض خطير لم يعدمه وتركه يتعذب في مرضه (14).. هل هذا إله يُعبد ؟!!
عندما حوكم الشهيد ” أكاتيوس ” Acatius سأله ” الحاكم “: هل تحب أمراءنا كإنسان يعيش بموجب القانون الروماني ؟
أكاتيوس: من ذا الذي يحب الإمبراطور بصورة أفضل من المسيحيين ؟! 0 إننا نصلى عنه دائماً أن يتمتع بحياة مديدة، وحكم عادل، وسلام في عهده، وأن توفق جيوشه، وأن يوفق في العالم0
الحاكم: هذا حسن، ولكن أليس من الأفضل أن تظهر طاعتك للإمبراطور وتضحي له معنا إكراماً له ؟
أكاتيوس: إني أصلي لإلهي لأجل الإمبراطور، أما تقديم القرابين إكراماً له فيجب ألا أقدمها أو أُطالب بها، إذ كيف تعطى الكرامات الإلهية للإنسان (15)0
ثالثاً: يُسخّر الأباطرة الدين لأغراضهـم، ويساعدهم في هذا الكهنة، وكل منهم يؤيد الآخر، لأن هدفهم واحد وهو إخضاع الشعوب لرغباتهم، بينما نؤمن نحن بفصل الدين عن الدولة، وقال العلامة ” ترتليانوس ” تعليقاً على قول السيد المسيح أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله: ” إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله0 وبعبارة أخرى أن صورة قيصر هي فوق العملة المالية لذلك من حقه أن يطالب بالمال، وصورة الله هي في الإيمان، والله له على ذويه حق مساوٍ 0 أعطوا أذاً مالكم لقيصر وأنفسكم لله0 لأنه لو كان كل شئ لقيصر فماذا سيتبقى لله ؟! ” (16)0
رابعاً: لقد حرمونا من حقوقنا في الوظائف، وحرمونا من الذهاب للحمامات العامة، وحرمونا من أمور كثيرة أهمها حقنا في العبادة، وعندما إلتجأنا إلى السراديب والكهوف والمقابر والأماكن المعزولة والبيوت لنعبد إلهنا، إتهمونا بأننا جماعات سرية غامضة نمارس نشاطاً سرياً ضد الدولة، وإننا نمارس السحر مما يثير غضب آلهتهم فترسل الأوبئة والعواصف والفيضانات0 كما شوهوا صورتنا لأننا لا نشاركهم إحتفالاتهم الدينية، ونرفض الحلف بآلهتهم، ولا يقبلوننا لأننا نخالفهم الرأي فحياة الطهارة التي نعيشها تدين حياة الدنس التي يعيشونها.. ننظر للإتضاع على أنه فضيلة بينما يعتبرونه مذلة ورذيلة.. كل منهم يبحث عن الأخذ وشعاره ” هل من مزيد ؟ ” بينما نؤمن نحن بأن العطاء مغبوط عن الأخذ.. صنَّاع التماثيل والذي يتاجرون فيها يصبون نقمتهم علينا لأننا ننهي عن عبادتها.. فشتان بين نظرتنا ونظرتهم، وفلسفتنا وفلسفتهم، حتى عندما يحاكموننا لا يحكمون علينا بالعدل، بل يتأثر قضائهم بالصوت المرتفع، ففي محاكمة ” بوليكاربوس ” أسقف أزمير، عندما ضجت القاعة وصرخ الغوغاء مطالبين بحرقه حياً قبل أن تنتهي المحاكمة، لبى القاضي طلبهم0
خامساً: أنهم يرفضون المساواة بين البشر، فبينما ننظر نحن للعبد على أنه إنسان ينظرون هم له على أنه شئ، ولا حق له في أي شـئ0 وفــي سنـة 73 ق0م ثــار العبيد في إيطاليا بقيادة ” سبارتاكوس ” وكان عددهم أكثر من 120 ألفاً، فذبح الرومان منهم من ذبحوا، وصلبوا من صلبوا حتى إصطفت الصلبان على جانبي الطريق الأبياني على إمتداد أميال طويلة من روما إلى أقصى الجنوب، وتُركت أجسادهم العارية أياماً طويلة تنهشها الطيور الجارحة، لكيما يكونوا عبرة للعبيد رفقاءهم0 وفي سنة 167 م أسرت روما من أهل أبيروس 150 ألفاً باعتهم عبيداً، وكذلك في سنة 177 م أسرت من أهل سردينيا 140 ألفاً باعتهم عبيداً، بينما في المسيحية لا فرق بين عبـد وحر، فرب واحد للكل، وجميعنا نصلي معاً ” ياأبانا الذي في السموات ” وقد أوصانا الإنجيل بالرأفة على العبيد قائلاً ” وأنتم أيها السادة أفعلوا هذه الأمور تاركين التهديدات عالمين أن سيدكم أنتم أيضاً في السموات وليس عنده محاباة ” (أف 6: 9)0
إنتهى الإجتماع بالصلاة والإنسكاب أمــام الله، ثم أعطى ” أبونا ثيؤدوسيوس ” البركة للحاضرين، وأحس ” ديمتري ” أن هؤلاء القوم هم قريبون جداً من يهوه، ويشعرون أن يهوه هو أب لهم يخاطبونه بدالة كبيرة، كما لاحظ ” ديمتري ” العلاقة الحميمة التي تربط هذا المجتمع الأخوي، فجميعهـم يسألون عمن تغيَّب عنهم، وتجد فريقاً منهم يتوجه لزيارة مريض، وفريق يذهب ليقدم واجب العزاء، وفريق يهتم بالمحتاجين للمساعدة.. أنه مجتمع عامل نشط، لا مكان للتراخي والكسل فيه.. مجتمع حي، لا رائحة للمـوت فيــه.. مجتمع مريح للنفس المنهكة، وإختبر ” ديمتري ” مشاعر عروس النشيد ” في ظله إشتهيــت الجلـوس ” (نش 2: 3) ووجد ” ديمتري ” ترحيباً حاراً صادقاً من الشماس الرائــع ” بطـرس “، ومن أبيه ” القس ثيؤدوسيوس “، وتعرَّف ” ديمتري ” على ” أرشي ” و” ميناس ” أصدقاء إسكندر، وأحس براحة كبيـرة في هذا الجو الأسري الكنسي، وغبط هذه الجماعة الطاهرة النقية السمائية، وشعر بالندم أنه ظن فيها السوء كما حذره أبوه من قبل، ومع هذا فقد إلتمس العذر لأبيه الذي يريد أن يحتفظ بإبنه في أحضان ديانته اليهودية، فلا يتركه مثلما فعل بعض الشباب اليهودي الذين سبتهم المسيحية بتعاليمها السامية0
ويوماً فيوماً يتسلم ” ديمتري ” مع فريقه أجزاء من طلبية الملابس البحرية مـن التاجر الأمين ” ويصا ” وقد وثق فيه ثقة تامة، فقوله مُصدَّق تماماً، ولم يعد ” ديمتري ” يدقق في الفحص والعدد إلاَّ من قبيـل المراجعــة النهائيــة، ويوماً فيوماً يندمج ” ديمتري ” في هذا الجو المسيحي حتى صار كواحد من هذا المجتمع الإنساني.. سأل عن الكثير والكثير من الأمور التعليمية والإيمانية، وأُعجب بمبادئ المسيحية وتعاليم الإنجيل التي تدعو للتسامح والمغفرة والعطاء ومحبة الأعداء ومباركتهم والصلاة من أجلهم، وأدرك أن الشريعة المسيحية هي كمال الشريعة الموسوية.. غير أن ” ديمتري ” الذي يُعمِل عقله في كل شئ لم يقدر أن يقبل تنازل ” يهوه ” ليصير إنساناً، وليس هذا فقط بل يُعرَى ويُضرَب ويُلطَم ويُهان ويُجلَد ويُعلَق على صليب العار بينما تقول الشريعة اليهودية ” ملعون كل من عُلق على خشبـة ” فكيف يصير ” يهوه ” مصدر كل البركات لعنة ؟!.. أي عقل يقبل هذا ؟!!
وفشلت محاولات الأصدقاء والشماس القدير ” بطرس ” في إقناع ” ديمتري ” بقضية التجسد والفداء.. حقاً قال بولس الرسول ” نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانييــن جهالة ” (1 كو 1: 23).. لقد قَبِل ” ديمتري ” المسيحية وأعجب بها في جميع جوانبها إلاَّ هذا الجانب، وكثيراً ما كان ينتابه الأسى عندما يعلم أنه بهذا لا يعد مسيحياً، لأنه لم ينل الصبغة المقدَّسة وغير مسموح له بالتناول من الأسرار المقدَّسة0 ولأن ” ديمتري ” كان صادقاً مع نفسه لا يعرف الكذب ولا الإلتواء لذلك ظل يحتمل هذا الوضع الصعب، وكثيراً ما كان يقول: يارب لا أنا يهودي ولا أنا مسيحي، فمن أكون أنا ؟! 00
لمــاذا يارب لــم تسلك طريقاً آخر غير طريق التجسد والصليب ؟!..
لماذا لم تسلك طريقاً يقبله الإنسان العقلاني ؟!
وكم تبلغ سعادة ” ديمتري ” عندما يستمع لمحاضرات الشماس المعلم ” بطرس ” في المدرسة اللاهوتية وهو يتحدث ويفيض عن رجال العهد القديم، فهؤلاء أباؤه الذين يفخر بهم، هم أولاد إبراهيم وهو إبن إبراهيم، وبني جلدته، هم الذين حافظوا على أقوال الله، وهذا يتفق مع قول الإنجيل ” إذاً ما هو فضل اليهودي.. كثير على كل وجه 0 أمَّا أولاً فلأنهم أُستؤمنوا على أقوال الله ” (رو 3: 1، 2).. نظرة ” ديمتري ” للمعلم الشماس ” بطرس ” هـي نظــرة إعجاب وتقدير، ونظرته لأبيه ” القس ثيؤدوسيوس ” هي نظرة حب كبير، وعندما أتيحت الفرصة لديمتري للقاء ” البابا ثاؤنا ” كم أُعجب بذلك الشيخ الوقور السماوي الــذي يفيض وجهــه بالبشـر والسلام.. الكل قبلوا ” ديمتري ” كما هو، ولم يرفضوه بسبب نقص إيمانه، بل قبلوه وقبلوا تبرعاته السخية في مشروع بناء أول كاتدرائية في حي راكوتي 0
وعندما إنقطع ” ديمتري ” عن الإجتماعات لمدة أسبوع، ظل ” إسكندر ” يستقصي الأمر عن طريق التاجر الأمين ” ويصا ” وإستطاع أن يصل إلى عنوانه في الحي اليهودي، وذهب ليطمئن عليــه، فعــرف أن أبوه ” منسى ” قـد فارق الحياة، وصار ” ديمتري ” مُثقَّل بهموم الأسرة، وهموم التجارة الكبيرة والمعاملات المالية التي تركها له أبوه بدون سابق إنذار، إذ توفي فجأة دون أن يمرض أو يلازم الفراش، وبدون أية مقدمات، فقط إنتابته موجة عارمة من الإكتئاب كالتي إنتابت ” ديمتري ” يوم إستشهد توأمه ” صفانيا “، وصار يتمتم بكلمات رأها الجميع بلا معنى ولا مبنــى ولا مغزى، إذ كان يقول ويكرر بصوت آسيف ” أبوه قتله ياولداه ” حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ، لذلك كانت الصدمة قوية على كل أفراد الأسرة الذين خيَّم عليهم حزن مطبق بلا رجاء0
وعاد ” إسكندر ” ليخبر ” أبونا ثيؤدوسيوس ” الذي تأثر جداً وأعرب عن رغبته للذهاب لديمتري لتعزيته، ولكن كيف يدخل الحي اليهودي الذي يتميز بعداء شرس ضد المسيحيين، ولاسيما الكهنة، وفي بساطته إستشار ” البابا ثاؤنا “، وكم كانت دهشته عندما أخبره قداسة البابا بأنه سيأتي معه، وعندما علم ” إسكندر ” أدرك أن هناك سر لا يدركه، فالبابا قلما يذهب لزيارة أحد أولاده إلاَّ إذا كان أحد يعاني مرض الموت أو آخر يعاني من مشكلة عجز الآباء عن حلها..
ما باله يريد أن يقطع كل هذه المسافة من غرب إسكندرية لشرقها نحو خمسة كيلومترات ذهاباً وإياباً ليزور بيت إنسان يهودي في الحي اليهودي ؟!! وهمس ” أبونا ثيؤدوسيوس ” قائلاً لنفسه: لم يُسمع قط أن بابا الإسكندرية دخل الحي اليهودي المعروف بشراسة العــداء للمسيحييــن.. ” مارمرقس ” عندمــا إلتقى ” أنيانوس ” إلتقاه في حي راكوتي، ولم يفكر ” إسكندر ” ولا ” أبونا ثيؤدوسيوس ” في سؤال البابا عن الدافع لهذه المغامرة غير المحمودة العواقب.. سار البابا مع الكاهن والخادم في ” الشارع الكانوبي ” يمرون على الحي، تلو الحي حتى وصلوا إلى أعتاب الحي اليهودي0
وما أن بلغت خطى البابا ومن معه الحي اليهودي إلاَّ وسيدة يهودية مسنة تخرج من أحد الأزقة وتفاجئ بهم، فتصرخ في وجوههم وتصيح ” ياعباد المصلوب.. ياعباد المصلوب ” وإذ بصبية يتجمعون على صوت العجوز، وكل منهم يمسك في يده كعكة على شكل نجمة ثمانية الأطراف، قد خبزته أمهاتهم تقدمة لعشتار (عشتاروت) إلهة السموات، والتي إعتبرها اليونانيون أنها ” فينوس ” أو ” أفروديت ” إلهة الحب، فإن اليهود الذين نزلوا إلى مصر لم تكن عبادتهم نقية بل إمتزجت بعبادة الأمم، وهذا ما عبر عنه ” أرميا النبي ” قائلاً ” الأبناء يلتقطون حطباً والآباء يوقدون النار والنساء يعجنَّ العجين ليصنعنَ كعكاً لملكة السموات ” (أر 7: 18) وعندما نهاهم أرميا النبي وهــو معهم في مصر، في عهد ” فرعون خفرع ” (588 – 569 ق0م)، عن هذه العبادة المرذولة، قالت النساء ” من حين كففنا عن التبخير لملكة السموات وسكب سكائب لها إحتجنا إلى كلٍ وفنينا بالسيف والجوع0 وإذ كنا نبخر لملكة السموات ونسكب لها سكائب فهل بدون رجالنا كنا نصنـع لهـا كعكاً لنعبدها ونسكب لها السكائب ” (أر 44: 18، 19).. تجمع الصبية وأحاطوا بالضيوف الغير مرغوب فيهم يهتفون ” ياعباد المصلوب.. ياعبــاد المصلوب ” وبينما يحاول ” إسكندر ” أن يزجر هؤلاء الصبية، وإذا بالبابا يبتسم للأولاد ويقول لإسكندر ” أتركهم ياإبني 00هؤلاء مبسوطين.. أتركهم في إنبساطهم ” وإذ برجلان عابران بالطريـق وعوضاً عن زجر الأولاد، فإذ بهما في آن واحد يبصقان على الأرض وهما يتمتمان ” أتباع الإله الملعون “.. وهكذا قطع ” البابا ثاؤنا ” الطريق في الحي اليهودي من زفة إلى زفة، ومن إهانة إلى أخرى، وكأن موكب الصلب يتكرَّر من جيلٍ إلى جيلٍ، وإذ إقتربوا من بيت ديمتري و” ديمتري ” في بيته يستمع لهذه الأصوات المزعجة، فيسرع خارجاً مستطلعاً الأمر فإذ ببعض الصبية يصيحون ” صلبنا إلهكم وقتلناه ” ويفاجئ بالبابا ثاؤنا، وأية علامات من الغضب أو الضيق والضجر لا تبدو عليه، فينفعل على الأولاد جداً، فيسرعون بالهرب، وينحني أمام البابا مقبلاً يديه وكذلك أبونا ثيؤدوسيوس، وهو لا يعلم ماذا يفعل غير تقديم إعتذارات متلاحقة سريعة بصورة أو بأخرى ” أغفر لنا ياسيدنا.. سامحنا ياسيدنا.. هذا هو التعصب المقيت الذي يعيشه شعبنا.. ” 0
وتبارك البيت وإمتلأ سلاماً بخطى أقدام قداسة البابا، وإذ بالأم ” سوسنا ” عوضاً عن أن تفاجئ بحضور إثنين من كبار المسيحيين إلى بيتها، وعوضاً عن أن تتفوَّه بألفاظ نابية علناً أو سراً، فإذ بها تُرحِب بهما وكأنها كانـت تنتظر هذه الزيارة في شغف، وزادت الترحيب أكثر بالبابا ثاؤنا وكأنها تدرك أنه هو الأكبر رتبة بين جميع المسيحيين، وجـاءت الأخوات ” راحيل “، و” دينه “، و” ميراب ” يرتدين ملابس الحداد مثل أمهم، وإذا رأين حفاوة الأم بالضيوف أظهرن رضاءهن وسرورهن بهذه الزيارة غير المتوقعة، بينما وقف ” ديمتري ” مشدوهاً.. ماذا يحدث، لم أُعرّف أمي بمن هؤلاء فكيف تستقبلهم بهذه الحفاوة البالغة وكأنها تعرفهم منذ أمد بعيد ؟!!.. جلـس البابا وجلسوا حوله، أبناء وسط أب كبير القلب، يشعرون بالأمان والرعاية والحماية تحت جناحيه، فنظرات البابا وكلماته الحلوة خلقت فيهم هذا الإحساس0
سوسنا: بالأمس رأيتُ رجلاً بهي الطلعة على رأسه أشواك ومُعلّق على الصليب ونظر لي نظرة أعجز عن وصفها لما فيها من حنان بالغ.. تطلعت في عينيه فرأيت السموات بأمجادها، وسمعت همساته: ” سوسنا ياإبنتي.. لماذا تبتعدين بعيداً ؟! “..
سألته: من أنت ياسيدي ؟
قال: أنا يسوع المسيح إبن الله الحي، ورأيتك يا 000 (وأسعفها ديمتري: ياسيدنا) ورأيتك ياسيدنا راكع في خشوع أمام المصلوب تصلي.. حدث هذا ياسيدنا وأنا لا أدري أكنتُ نائمة أم مستيقظة ؟ ولا أدري ما رأيته حلماً أم رؤيا ؟
البابا: ” إطمئني ياإبنتي فإن الله يدعوك وسيتمم مشيئته، لأنني أنا أيضاً بالأمس عندما كنت أصلي سمعت صوتاً يقول لي: قم وأذهب مع أبونا ثيؤدوسيوس “0
فأطعت وإذ رأيت ” أبونا ثيؤدوسيوس ” جاء ليأخذ رأيّ في المجئ إليكم قلت له: ” أنا أيضاً سأذهب معكم لأن ديمتري غالي علينا “
ولا أعلم ماذا سيصادفني ولا ماذا ينتظرني.. وسرح ” ديمتري ” بخاطره بعيداً، وكأنه يناجي المصلوب: ” كيف يكون هذا ؟ يهوه إلهنا العظيم أيصلب ؟!! “0
تلقى ” أبونا ثيؤدوسيـوس ” الأمر ببساطة، وزالت دهشة ” إسكندر ” إذ إنكشف أمامه سر رغبة البابا في قطع المسافة من غرب المدينة إلى شرقها، لأن للـرب خراف في هذا البيت اليهـودي، وبــدأ البابـا يحكي للأم وبناتهـا ما سبق أن سمعه ” ديمتري ” من قبل.. قصة الحب الإلهي العجيب التي تجلت في التجسد والموت على عود الصليب0
وفوجئ ” ديمتري ” بأمه تقول: ” أنا أؤمن ياسيدنا.. أؤمن أن يسوع المسيح هو إبن الله الحي الذي جاء من أجل خلاص العالم.. هل يمكن أن تغطسني أنا وبناتي ياسيدنا.. سمعت من أمي لكي يصير الإنسان مسيحياً لابد أن الكاهن يغطسه في الماء “0
تُرى هل صلوات الشهيد ” صفانيا ” في قبر مخلصنا الصالح أتت ثمارها !!
البابا: ” نعم ياإبنتي ستنالين مع بناتك سر العماد المقدَّس لتحصلوا على الولادة الجديدة من الماء والروح القدَّس، ولكن يجب أن تقضين فترة مع الموعوظات لتتعلموا مبادئ الإيمان “0
وسُرَّت الأم بهذا، وهي تشكر من كل قلبها إله السماء الذي أرسل إليهم ” البابا ثاؤنا “، فهو أب بكل معاني الأبوة وسمو معانيها.. جلسوا معه ساعات، إرتووا من الحب الإلهي النابع من قلبه الصافي، وكلماته المملَّحة بنعمة الروح القدس.. إنه حب حقيقي، والحب الحقيقي لا يمكن أن يُزيَّف.. وجه البابا البشوش طرد روح الحزن المفرط الـذي خيَّم على البيت طوال الأيام الماضية، ومسح كل دمعة من عيونهم، وغرس في قلوبهم روح الرضى والشكر، بل روح الفرح0
وقال ” ديمتري ” في نفسه: ” هذه الأم العظيمة تقبل الإيمان بين عشية وضحاها، وأنا من شهور أحاول ولا أنجح.. عاشرت هؤلاء القديسين وأكلت وشربت معهم وسمعت تعاليمهم في الإجتماعات وفي المدرسة اللاهوتية، ووقفت أصلي معهم، ومع كل هذا فما زال عقلي لا يقبل { يهوه ويصلب }.. إيه ياعقلي.. إلى متى تظل حجر عثرة أمام إيماني ؟!.. وحتى بعد رؤيا أمي فإن عقلي لا يخضع.. وماذا بعد ياربي ؟!! “0
وترك ” قداسة البابا ثاؤنا ” هذا البيت المبارك بعد أن صلــى وبارك المكان، ورشــه بالماء المُصلى عليه، وإنطلق ” ديمتري ” معهم بعضلاته المفتولة ورأسه التي يرفعها في شمم وكبرياء كضابط في الجيش الروماني، فاختلفت رحلة الإياب عن رحلة الذهاب تماماً، وخرجوا من الحي اليهودي بسلام، وأصرَّ ” ديمتري ” أن يصحبهم إلى ” حي راكوتي “، ثم عاد إلى بيته وقد أزاح عن كاهله ثقلاً كبيراً، وبعد أن كان مهموماً بالأسرة وتجارة أبيه وأعماله المالية، بدأ يشعر بأن هناك من يقف بجواره يسنده، وشعر بالسلام تجاه مستقبله ومستقبل أمه وكل أخواته0
عــاد ” قداسة البابا ثاؤنا ” إلى القلاية البابوية وطلب من ” أبونا ثيؤدوسيوس ” أن يرسل إليه إبنه ” بطرس ” وأن يحضر معه الأوراق وأدوات الكتابــة، وسريعاً ما جلس الشماس المعلم ” بطرس ” أمام المنضدة وأدواته كاملة أمامه، كتلميذ ماهر أمام معلمه، وقد تميَّز بالخط الرائع الصافي سهل القراءة، كما أنه يتمتع بموهبة التنسيق والتجميل في الكتابة، فتأتي كتاباته تحفة فنية رائعة رسمتها يد فنان قدير بين خط صغير وكبير ومتوسط، وبدأ البابا يمليه الرسالة الأولى إلى ” لوسيان ” ناظر بيت الملك أو بمعنى آخر مدير الدائرة الخاصة بالإمبراطور، ففي هذه الأيام أصبح هناك تواجد حقيقي للموظفين المسيحيين في القصـر الإمبراطوري، والإمبراطور العظيم ” دقلديانوس ” يقبل هذا بسرور:
” إن الراحة التي تتمتع بها الكنيسة الآن تعزى إلى سبب واحد فقط هو سلوك المسيحيين الحسن وأعمالهم الممدوحة التي تضئ كالشمس في رابعة النهـار فينعكس ضوءها أمام.. (غير المؤمنين) فتبهر أنظارهم، وبذلك يتمجد أبانا الذي في السموات 0 أما غرضنا الذي نرمي إليه والغاية القصوى التي نسعى خلفها هي أن نكون مسيحيين فعلاً لا بالأسم فقط، وأن نعمل أعمال المسيحيين الحقيقيين لأنه إذا كنا نطلب مجد أنفسنا الذاتي فنكون كمن يطلب شيئاً تافهاً زائلاً لا فائدة منه0 فإذاً يجب على كل مسيحي أن يهتم بمجد الله الآب وبمجد الله الإبن الذي سُمّر لأجلنا على خشبة الصليب وفدانا بدمه فداءاً أبدياً لا يقوم بذهب أو بفضة0
فلذلك أيها العزيز ” لوسيان ” لا أريد أن يُعرف عنك التباهي والفخر لأنك أهديت كثيرين في خدمة البلاط الملوكي إلى معرفة الحق، وأدخلتهم إلى حظيرة المسيح، بل بالأحرى بك أن تشكر الله الذي إختارك آلة نافعة للبنيان وجعلك واسطة خير لنفع الآخرين وأعطاك نعمة في عيني مولاك لحد تمكنت فيه من نشر كلمة الخلاص وإذاعة معرفة فادي المسيحيين وذلك لمجد إسمه وخلاص الكثيرين ” (17)0
كما أوصى ” قداسة البابا ثاؤنا ” إبنه ” لوسيان ” من جهة حسن إختيار أمين الخزانة، وأن يكون ماهراً في علم الحساب، عارفاً بمسك الدفاتر فلا يعتمد على ذاكرته، وأن تكون حساباته مرتَّبة ومبوَّبة حتى يسهل الإطلاع عليها وفحصها في وقت قصير، وتسجيل تاريخ الصرف، وبيان المصروف، والمكان الذي صرفت فيه0
وأيضاًَ أعطى ” قداسة البابا ثاؤنا ” توجيهاته لما يكون عليه أمين الكتبخانة قائلاً: ” يجب على أمين الكتبخانة أن يكون عارفاً بما عنده من الكتب والمجلدات وأن يفتقدها ويفحصها كل آونة وأخرى ويستخدم أمهر النسَّاخ وأبرعهم لنسخ ما يحتاج إليه من الكتب الغير موجودة عنده0 كذلك يلزمه أن لا يرتأي ويظن أنه ليس له حاجة إلى الدرس والمطالعة أو الإلمام بمحتويات الكتب خصوصاً التي يميل إليها الإمبراطور ويبحث عنها ويطلبها 0 ويتحتم عليه أيضاً معرفة أسماء الخطباء والشعراء والمؤرخين الذي نبغوا في العصور الحالية والوقوف على مؤلفاتهم ومصنفاتهم وأقوالهم المأثورة0 وحيث أن الأمين كثيراً ما تضطره شئون وظيفته للمحادثة مع الإمبراطور وإرشاده إلى الكتب المهمة التي عنده، فينبغي له أن يذكر أمامه في أثناء حديثه أهمية الترجمة السبعينية للكتاب المقدَّس ونفعها وما فيها من الفائدة العظمى، وأن يُفهّمه أن هذا الكتاب كانت له منزلة كبرى عند ” بطليموس فيلادلفوس ” الشهير الذي كان يقدره حق قدره ” (18)0
وأعطى ” قداسة البابا ” إرشاداته عن الكتب التي يجب قراءتها على مسامع الإمبراطــور بصوت جهوري، كما أوصى ” أمين الكتبخانة ” بالإعتناء بالكتب القديمة المنسوخة وأن يجلدها تجليداً حسناً، وأن يعمل كل ما من شأنه حفظها من أيدي العبث، وأوصى أن الذي يقرأ كتاباً للإمبراطور يشير إلى أقوال وأعمال السيد المسيح، مما يقود للحديث عن الديانة المسيحية0
وكتب ” قداسة البابا ثاؤنا ” لأمين الثياب والملابس يوصيه بالإهتمام ” بمقدار الملابس المسلَّمة لعهدته ونوعها وماهيتها والأماكن الموضوعة فيها وتاريخ وصولها للمخزن وإسم المتعهد الذي ورَّدها وهل هي حسب الشروط أم لا، وضرورة إفتقادها مراراً، ومعرفة موضع كل سلعة في الدولاب المخزونة فيه0 وعلى الأمين أن يفعل كل هذا بتواضع وطول أناة لكي يتمجد إسم المسيح حتى في مثل هذه الأعمال القليلة الأهمية ” (19)0
وختم ” البابا ثاؤنا ” رسائله برسالة عامة إلى أبنائه بالقصر الإمبراطوري قائلاً: ” إن الله ينهاكم أن تبيعوا للآخرين شيئاً من متعلقات القصر خلسة، أو أن تأخذوا رشوة لكي تقولوا للإمبراطور كلاماً ضد الحق0 إبتعدوا عن الطمع والجشع اللذين يتمسك بهما الوثنيون لا المسيحيون، وأعلموا أن الربح القبيح والغش هما صفتان لا تلائمان من قبل المسيح، وعوّلوا على الإقتداء به، ذاك كان فقيراً معدماً0 لا تتكلموا بشر فيما بينكم ولا تخرج كلمة قبيحة من أفواهكم، بل لتكن كل أعمالكم معروفة باللطف والتأدب مع العدل والحق، بذلك يتمجد إسم ربنا وإلهنا يسوع المسيح فيكم وفي أعمالكم0 تمَّموا واجباتكم التي أُسندت إليكم بخوف من الله وبمحبة للإمبراطور وبغاية الدقة والإجتهاد وأعتبروا أن الأوامر التي تصدر لكم من مولاكم الذي لم يسئ إلى أحد من رجال الله كأنها صادرة من الله نفسه لأنه مُقام منه، ولا يتقلد السيف باطلاً 0 وأخيراً ياأبنائي الأعزاء إلبسوا الصبر كرداء وتمنطقوا بالفضيلة وإمتلؤا بالرجاء والإيمان والمحبة ” (20)0
وشدَّد الأب البطريرك على المسيحيين الذين يعملون في الدوائر الإمبراطورية الإهتمام بالنظافة وحسن الهندام، وأن تبدو على ملامحهم علامات الفرح والإبتهاج والهيبة والوقار0
(14) راجع زكي شنودة – الشهداء ص 47، 48
(15) راجع نيافة المتنيح الأنبا يؤانس – الإستشهاد في المسيحية ص 48
(16) المرجع السابق ص 48
(17) أ0 لويزا بوتشر – تاريخ الأمة القبطية – طبعة 1897م ص 157
(18) المرجع السابق ص 159، 160
(19) المرجع السابق ص 159
(20) المرجع السابق ص 159