البحار المغامر ف2 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
البحار المغامر ف2 - كتاب البحار المغامر - حلمي القمص يعقوب
البحار المغامر ف2 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل الثاني: البحار المغامر
بالرغم من الصدمة القاسية التي تعرض لها ” ديمتري ” عندما أوشك توأمه ” صفنيا ” على الغرق إلاَّ أنه لم يصب بعقدة نفسية تجاه البحر.. كان يذهب ويلقي بنفسه في أحضانه ويغوص في أعماقه، يعاتبه ويلومه على النفوس التي يقتنصها، ولكنه قط لم يخاصمه ولم يقاطعه، فمحبته الغامرة للبحر كانت أقوى من كل شئ، حتى من توسلات ومخاوف ودموع أمه التي كانت ترجوه أن يكف عن الذهاب إليه0 بل ظل ” ديمتري ” طوال هذا الصيف لعام 288م يخرج للبحر يوماً فيوماً.. يرابض على الشط مثل نمر ينتظر الفريسة لا ليفترسها إنما لينقذها، فقد فرض ” ديمتري ” على نفسه أن يكون غطاساً لهذه المنطقة الخطرة بلا أجر ولا مقابل، وصنع عوامة من الخشب الخفيف الـوزن (في حجم البطيخة الكبيرة) ولها شكل كمثري، تنتهي بحلقة في عنقها رُبطت بحبل متين، وإذا لمح ” ديمتري ” إنساناً أطبق عليه الموج وبدأ السحب يشده للداخل، ينقض في سرعة النمر نحو هذا الإنسان، وعوضاً أن ينقض هذا الإنسان على من جاء لينقذه فيشل حركته ويرهقه، فإن ” ديمتري ” يقترب منه ولا يلمسه، لأن الغريق بتعلق بقشاية، لذلك يقبض بشدة على عوامة ديمتري التي دفعها نحوه ويحتضنها بقوة ففي بقائها حياته وفي ضياعهــا موتــه المحقق، ويُطمئن ” ديمتري ” ذلك الإنسان المقهور، ويسحبه بهـدوء إلى داخل البحر، حتى تخف حدة السحب، ويسبح به في إتجاه آخر إلى الشاطئ، وكم أنقذ ” ديمتري ” شباباً ورجالاً وأطفالاً وأحياناً بعض الشابات اللاتي يندفعن للبحر بملابسهن، وفي كل مرة كان يصارع الموج بعزيمة صادقة لينتزع ذاك الذي أوشك على الغرق من فم الأمواج الهادرة المتلاطمة السريعة، فهو يرى في كل واحد منهم صورة توأمه حبيبه ” صفانيا “، وفي كل مرة ينقذ إنساناً لا يضبط نفسه بل تدمع عيناه دمعة الفرحة بنجاة إنسان من الموت، والسعادة التي يشعر بها ” ديمتري ” بعد عمل الخير أفضل من أي أجر كان يمكن أن يتقاضاه.. ألم يقل الإنجيل ” شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشرَّ اليهودي أولاً ثم اليوناني0 ومجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح اليهودي أولاً ثم اليوناني ” (رو 2: 9، 10) كما إعتاد ” ديمتري ” أن يمضي بقية يومه في المحل التجاري الكبير يساعد أبيه، وكذلك طوال أيام الخريف والشتاء 0
ويوم سلَّم ” منسى ” إبنه ” صفانيا ” لهؤلاء التجار الأمناء الذي يثق فيهم ثقته في نفسه، وقد تعامل معهم على مدار سنوات طويلة، ودائماً كانوا يبرون بوعودهم، يتميـزون بالصدق والقناعة، فلم يسعوا قط للربح القبيح، حتى أنه كان يسألهم دائماً: مادامت الفرصة مهيأة للربح الأكثر، فلماذا تربحون أقل ؟ فكانت دائماً إجابتهم: ” إن كان لنا القوت والكسوة فلنكتفِ بهما “0 هذا في الوقت الذي كان يعبد فيه ” منسى ” المال والتجارة، حتى أنه كان يُقرِض أمواله بنسبة 5 % شهرياً، أي بنسبة 60 % سنوياً، فكم وكم عندما يُقرِض أمواله بالإضافة إلى الفوائد العائدة من الربا، بالإضافة إلى تجارته، لذلك كان رأس ماله يتضاعف من عام إلى عام بدون مبالغة، وكان ضميره مستريحاً وهو يستغل وصية العهد القديم عندما كانت البشرية في طفولتها فسمحت لليهودي بإقراض الغريب بالربا وأقراض اليهودي بدون ربا، وبالرغم أن الشريعة لم تحدد نسبة الربا، ولم ترمي لذلك الربا الفاحش، فإن ” منسى ” كان يفعل هذا بقلب مستريح، ولو أقرض يهودياً يخفض نسبة الربا الشهرية من 5% إلى 5ر4% وهو يظن بهذا أنه يطبق الوصية.. أما هؤلاء التجار الأمناء فلم يفعلوا ذلك قط0 إنهم مسيحيون، وهذا ما لم يلتفت إليه ” منسى ” يوم سلَّمهم إبنه0
ويوم أن بدأ ” صفانيا ” رحلته إلى أورشليم كان قلقاً بشأن المال الذي يحمله، فلو فُقد منه فربما أبوه يقتله، فلفه في حزام حول وسطه، لا يفارقه قط في حركاته وسكناته، وما أن مرَّ اليوم الأول حتى تأكد ” صفانيا ” أن الأمور مع هؤلاء التجار مختلفة تماماً عما كان يظنه، فليس بينهم لص ولا حتى طامع فيما لغيره، فشعر بالأمان والسلام النفسي، فكل منهم يسعى في تقديم أي شئ له، حتى لو كانت إبتسامة وتشجيعاً 0 عندما يحطون الرجال وقبل أن يفعلوا أي شئ يصلون بخشوع ووقار شديد.. في جلساتهم يرنمون ترانيم الحمد ومزامير داود، ويقرأون من الرقوق كلمات المسيح وأعماله.. لقد رأى فيهم صورة مغايرة تماماً عما كانت في ذهنه، وقد تعلمها من أبيه أن المسيحيين كفرة مبتدعين يستحقون القتل، فيسوعهم قد حُمل به سفاحاً، وأنه عُلّق على الصليب كأعتى المجرمين، وإدعى المسيحيون أنه مات لكيما يفديهم، مع أن الله من المستحيل أن يقبل ذبائح بشرية، ثم أشاعوا كذباً أنه قام من بين الأموات وهو لم يقم كشهادة الجنود الذين حرسوا قبره.. وإن كان في الناموس كل الكفاية فما الحاجة ليسوع ؟!.. وهل بعد أن كلَّم الله موسى على الجبل وأعطاه الوصايا الإلهيَّة نحتاج لشئ آخر ؟!!
ووجد ” صفانيا ” نفسه أمام حقائق كان يظنها من قبل أنها أباطيل، وإذ شعر أن التاجر الحكيم ” يوحنا ” وهو أصغرهم سناً، فهو في العشرين من عمره، قريباً منه، وقد إستراح له كثيراً، بدأ يبوح له بأفكاره.. لم يغضب ” يوحنا ” ولم يعبس وجهه في وجه ” صفانيا “، إنما أخذ يحاوره بالمكتوب في الأسفار المقدَّسة، وبالعقل والمنطق، وأخذ يفتح ذهنه نحو ما سجلته أسفار العهد القديم.. إستعرض أمامه المزمور (22) وما حواه من نبؤات واضحة وضوح الشمس عن يسوع المصلوب، فداود النبي الذي عاش ومات معزَّزاً مكرَّماً يقول:
” ثقبوا يديَّ ورجليَّ ” (مز 22: 16) 00
” كل الذين يرونني يستهزئون بي يغفرُون الشفاه وينغضُون الرأس قائلين0 إتكل على الرب فلينجه لينقذه لأنه سُرَّ به ” (مز 22: 7، 8)
” يقتسمون ثيابـي بينهـم وعلى لباسي يقترعون ” (مز 22: 18)0
وإنتقل ” يوحنا ” إلى أشعياء (53):
” لا صورة ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه ” (أش 53: 2) 00
” لكن أحزاننا وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً0 وهو مجرح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحُبرُه شفينا0 كلنا كغنم ضللنا مِلنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا0 ظُلِم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه ” (أش 53: 4 – 7)0
وبدأ ” يوحنا ” يضع أمام ” صفانيا ” عشرات النبؤات: عن نسل المرأة يسحق رأس الحيَّة (تك 3: 15) وزمن صلب المسيح (دا 9: 24 – 27) وتآمـر الرؤساء والملوك عليه (مز 2: 1 – 14) وبغضة اليهود له (مز 69: 4، 8) ورفض حجر الزاوية (مز 117: 22، 23) ودم العهد الجديد (أر 31: 31 – 34) وخيانة يهوذا له (مز 41: 6 – 9، 55: 12 – 14) وبيعه بثلاثين مـن فضـة (زك 11: 12، 13) ونهاية يهوذا الخائن (مز 69: 25) وشهود الزور (مز 35: 11، 12) وأنه مثل حمل بلا عيب يُساق للذبـح (أر 11: 9) وصمته أثناء المحاكمة (مز 38: 13، 14) وتكليله بأكليل الشوك (نش 3: 11) والجلدات (( مز 129: 3) واللطم والبصق (أش 50: 6) وصلبه بين لصين (أش 53: 12) والعطش وشرب الخل (مز 22: 17، 69: 21) وكلماته على الصليب (مز 22: 1، 31: 4، 5) وطعنه بالحربة (زك 14: 6، 8) وعدم كسر عظم من عظامه (مز 34: 20) وتكفينه ودفنه (أش 53: 9) وقيامته (مز 3: 5، 24: 7 – 10، هو 6: 2)0
وقطع ” يوحنا ” مع ” صفانيا ” رحلة لذيذة عبر رموز الصليب في العهد القديم: ذبح هابيل، وذبح إسحق، وبركة يعقوب لإبني يوسف، وإلقاء يوسف في البئر، وخروف الفصح، وذبائح العهد القديم بأنواعها، وعصى موسى التي شقت البحر الأحمر، والشجرة التي غيَّرت طبيعة ماء مارة، وصخرة حوريب، وموسى على التلة رافعاً يديه أثناء حرب عماليق، وعصفوري تطهير الأبرص، والحيَّة النحاسية، والغصن الذي جعل الحديد يطفو، ويونان في بطن الحوت.. إلخ0
وكانت إستجابة ” صفانيا ” إستجابة الخصي الحبشي الذي بشَّره فيلبس، وما أن وصل إلى أورشليم إلاَّ وقصد كنيسة القيامة معلناً إيمانه، وهناك نال الصبغة المقدَّسة، ومارس حياته العملية فتاجر وربح القليل كما يفعل المسيحيون، وليس كما تعلَّم من أبيه منذ صغره، وزار الأماكن المقدَّسة، وصار عضواً عاملاً في الكنيسة متمتعاً بحياته الجديـدة في المسيح، وكلما دخل قبر مخلصنا الصالح كان ينسكب فـي الصلوات من أجل والديه وتوأمه ” ديمتري ” وأخواته ” راحيل ” و” دينه ” و” ميراب “0
ومرَّت عدة شهور وفـي شهـر فبرايـر سنة 289م عاد ” صفانيا ” للإسكندرية في زيارة سريعة، لأنه إشتاق جداً لذويه، وقبل أن يتوجه إلى منزله مرَّ على والده في متجره، الذي فرح وتهلل بلقائه، وأخذ يسأله عن كل صغيرة وكبيرة في تجارته وأرباحه، غير أنه لاحظ أن ” صفانيا ” قد حقق أرباحاً قليلة، ولم يعد يهتم بالمال والتجارة مثلما كان قبل سفره إلى أورشليم، كما أن لهجته وكلماته قد تغيرت، فهي كلمات مسيحية، لعل التجار أغروه على ترك دينه ودين آبائه.. وجه ” منسى ” سؤالاً صريحاً واضحاً لإبنه: ياصفانيا هل صرتَ مسيحياً ؟
وعلى الفور أجاب صفانيا: نعم ياأبي الحبيب0
ووقعت الإجابة وقع الصاعقة على رأس منسى، فلعن في داخله اليوم الذي ترك فيه إبنه للتجار المسيحيين الذيـن خانوا الأمانة، ولكنه نجح في إخفاء نيران غضبه، وأظهر إستحساناً، كذباً وخداعاً ومكراً، وإسترسل ” صفانيا ” البسيط في الحديث، وأباح لأبيه حبيبه بكل شئ، أما أباه فلم يكن يصغى إليه، إنما كان يصغى للأفكار الشيطانية التي كانت تنازعه، ترفعه وتطرحه، وإذ نيران الغيرة المرة على دينه ودين آبائه أخذت منه كل مأخذ، وإذ أدرك أن من المستحيل أن يعود إبنه إلى يهوديته، قدم له القهوة0
ومرَّت دقائق ليست بطويلة وبدأت أعراض التسمم الشديد تعتمل في جسد صفانيا، فأظهر والده إنزعاجاً كذباً وخداعـاً ومكراً، وقاده إلى المخزن الداخلي بحجة إسعافه، وخرج وأغلق عليه الباب من الخارج، وإنتظر ” صفانيا ” عودة أبيه بالدواء وهو يعاني آلاماً لا تُطاق، فلم يعد، وبدأت أنات ” صفانيا ” ترتفع ولا منقذ، والأب القاسي الشرير يرابض أمام الباب منتظراً موت إبنه، وبدأ الصوت يخفت والأنات تختفي، وإذ بنور قوي يبرق داخل المخزن الداخلي ويتسرب من أطراف الباب مما أزعج منسى، وبدافع تلقائي فتح الباب ليجد إبنه مسجي على الأرض، وكل شئ قد إنتهى، لم يبكي ولم ينتحب ولم يقرع صدره ولم يذرف دمعة واحدة، فقد تفوق قسوة الإنسان الشرير قسوة الوحوش المفترسة التي لا يمكن أن تفترس أبنائهــا مهمـا إستبد بها الجوع، وراح ” منسى ” يتعامل مع زبائنه، وكأن شيئاً قط لم يحدث 0
وعندما أمسى الليل أغلق ” منسى ” متجره وحمل على كتفه جوالاً، وهو منظر قد إعتاد عليه أهل الحي، فإن منسى يفضل أن يحمل ما يحمل على أكتافه من أن يؤجر حماراً يدفع فيه درخمة واحدة 0 وإتخذ ” منسى ” طريقه إلى شاطئ البحر حيث لا عين إنسان ترقبه، أما عين يهوه فهو مطمئن من جهتها، لأنه يشعر أنها تطوَّبه على عمله البطولي هذا.. ثم عاد ” منسى ” إلى بيته ووضعت أمامه المائدة فأكل حتى شبع، ولم يبكته ضميره، ولم يبكته منظر إبنه ” ديمتري ” الذي كان يعاني منذ ساعات، وبالضبط منذ أن شرب ” صفانيا ” فنجان القهوة، يعاني من قلق فائق ودخل في كآبة شديدة، مما سبب إنزعاجاً شديداً لأمه ” سوسنا ” وأخواته0 أما والده فليس على باله.. وماذا تفعل بأب فقد روح الأبوة ؟!!
وبينما نام ” منسى ” ووجد النعاس طريقه لأجفانه، لم يغمض جفن لديمتري، الذي جافى النوم عينه، ودخل في ضيق شديد لا يعرف له سبباً، وما أن إنبلج ضـوء الصبـاح حتى خرج ” ديمتري ” إلى الشط ليجد بعض الهواء، فأنه يشعر أنه يختنق.. ذهب إلى ذات المكان الذي إعتاد الذهاب إليه.. ذات المكان الذي تعرَّض فيه توأمه من قبل للغرق فأنقذه وإنتشله من فم البحر.. ذات المكان الذي طالما أنقذ فيه نفوساً تعرضت للموت المحقق غرقاً.. جلس البحار المغامـر وتحركـت أحشـاءه نحـو توأمه ” صفانيا ” 0 ثم أخذ يجهش بالبكاء، وهو لا يعرف لهذا سبباً.. جلس البحار المغامر على شط البحر ولا توجد عين إنسان تراه، وإذ كان البحر ساكن صامت، والمياه صافية، لاحظ تجمعات من الأسماك تلهو في بؤرة معينة، وإذ بصوت داخله يناديه لينزل إلى الماء، رغم أن برودة الشتاء مازالت تبسط جناحيها على الثغر السكندري0
ونزل ” ديمتري ” إلى الماء، وإتجه للمكان الذي تلهو فيه الأسماك ولاحظ أن هناك بعض أسماك القرش تسبح في المكان ففكر أن يعود أدراجه، ولكنه لمح تحت الماء شيئاً تنهشه الأسماك فغاص وإذ هو جوال فأخذ يسحبه والأسماك لا تكف عن نهشه، وعندما وصل إلى رمال الشاطئ فوجئ بإنسان داخل الجوال وقد تشوَّهت معالم وجهه وأطرافه، فحزن وتنهد وسالت دموعه، وبعيد عن المياه حفر على الشط وواراه الثرى 0 وأسرع إلى السلطات يبلغها بالأمر لكتشف سر الجريمة وإذ بالمسئول يظهر لا مبالاة محتجاً بأمريـن، أولهما: أنه لم ترد له أية بلاغات عن إختفاء أحد، وثانيهما: قد يكون إنساناً فارق الحياة على ظهر سفينة عابرة وقانون البحر يقول أنه يُلقى في البحر، فالقوة في اليم والأمواج حملته قرب الشاطئ، ولم يقتنع ” ديمتري ” بهذا ولا بذاك، ولكن على كلٍ عندما دفن هذا الشاب شعر براحة نفسية عميقة وعاد إلى طبيعته الأولى0
وعاد ” ديمتري ” إلى بيته، ولم يكن والده قد نزل إلى متجره، ففي هذا اليوم أستيقظ متأخراً، وحكى ” ديمتري ” الحدث أمام أسرته، فتأثرت أمه جداً، أما والده فقد أظهر إهتماماً شديداً جداً على غير عادته، وبدأ يسأل ديمتري عن تفصيلات الحدث، ثم أرسل ديمتري ليفتح المتجر، وتوجه هو إلى المكان الذي أعلمه به ديمتري فأخرج الجوال وما فيه، ربطه بحجر، وسبح به إلى المياه العميقة وتركه ليغوص في القاع حتى لا يظهر مرة ثانية0
وفي صيف عام 289م تقدم ” ديمتري ” للإختبار الذي نجح فيه بتفوق، فصار جندياً مميزاً (قابل للترقية) في الأسطول البحري الروماني، بالرغم من أن ذلك لم يأتِ على هوى أبيه الذي كان يطمع في بقاء إبنه بجواره يشاركه في تجارته وإدارة أمواله، ولاسيما أن الراتب الشهري الذي سيتقاضاه وهو ستون دراخمة يستطيع أن يحصل على أكثر منه من خلال العمل بالتجارة وسوق المال، بالإضافة إلى كراهية ” منسى ” للرومان الذين دمروا أورشليم وأحرقوا هيكلها، ولكن أمام إلحاح ديمتري الشديد ورغبته الجامحة وافقه والده وهو يتحسر لأن هذا الإبن سيظل في خدمته العسكرية التي تطول إلى ستة وعشرين عاماً، وعندما يتزوج وينجب لا تعترف الدولة بهذا لأنها تُحرم الزواج أثناء فترة الخدمة، وعليه أن ينتظر حتى نهاية خدمته فتعترف الدولة بزواجه وأبنائه، ويحصل على الرعوية (الجنسية) الرومانية، كما يحصل على مكافأة مالية ضخمة، وهي مبلغ ليس بقليل، فالجندي الروماني يحصل على مكافأة نهاية الخدمة 12000 دراخمة، والجندي المصري أو اليهودي يحصل على أقل، ويمكنه أن يستثمر هذا المبلغ في شراء الأراضي الزراعية وتربية المواشي في أرياف مصر، وإن كان المصريون لا يرحبون بهم، لأنهم وهم في خدمتهم كانوا يلزمون الفلاحين بتقديم الطعام والإيواء لهم بدون مقابل، والقانون يعطيهم هذا الحق، ولكن بعد تسريحهم كانوا يعيشون كجيران مسالمين لهؤلاء الفلاحية المطحونين0
وإجتاز ” ديمتري ” التدريبات بلياقة عالية، وأخذ مكانه بين نسور البحر، وكثيراً ما كان يُسمح له بالمبيت في منزله، فيستيقظ مبكراً ويقطع طريقه مـن جنوب الحي اليهودي حيث منزله، ويسير في ” شارع كانوب ” الشارع الرئيسي المتسع في المدينة، ويمر على ” البروخيوم ” (الحي الملكي)، ذاك الحي الذي ضم في أحشائه أهم قصور مصر وأروعها، من قصور ملوك البطالمة إلى قصور الولاة الرومان إلى قصور عظماء الإسكندرية وأثريائها إلى قصور كبار الساسة ورجال الدين، و” ديمتري ” في مروره بهذا الحي يمني نفسه أن يكون لـه في يوم ما قصر مثل هذه القصور، ثم يلوم نفسه على هذا التفكير الأناني متذكراً الفقراء المحرومين الذي يعيشون خارج الأسوار، وربما أطفالهم يمضون لياليهم بدون عشاء، فيشكر يهوه على ما هو فيه من نعم وبركات0
كل ” قصر ” هو آية من الروعة والجلال، يرتفع الدور الأرضي عن الشارع عدة درجات، والأبواب صُنعت من الأخشاب المستوردة تزينها النقوش، والأرضية أُفترشت بتربيعات الرخام، والجدران أكتست بالرخام المزخرف ذو الألوان البديعة، وفي أركان القصر تجد التماثيل الناطقة تنظر إلى ناظريها، والسرج الفضية والنحاسية تتخذ أشكال الطيور والحيات، وصور الفسيفساء تغطي مساحات ليست بقليلة من صالات الإستقبال، والحيوانات والطيور والنباتات المُطرَّزة على الستائر تكاد تكون حقيقية0 أما أرضيات وجدران الحمامات فقد أكتسب بالرخام الأبيض، ويرقد في الحمام حوض رخامي ذو أرجل قصيرة منقوشة ليحوي في جوفه جسد أو جسدين من تلك الأجساد المترفة المنعَّمة التي تستمتع بحمام الماء الدافئ، ثم تخرج لتتطيب بالأطياب والزيوت العطرية وترتدي ملابس الأرجوان (الحرير الطبيعي) ويحيط بالقصور البساتين اليانعة والحدائق الغناء، وفي كل مرة يقطع ” ديمتري ” الحي الملكي يستمتع بتغاريد الطيور، ويشتم أريج الرياحين والزهور، فقد إعتاد سكان هذه القصور إقتناء الطيور الجميلة والنباتات النادرة0
أما ” القصر الملكي ” فإن ” حجمه يماثل حجم المعبد في عصور الإزدهار، وإن الأسقف.. محددة بالذهب، والجدران مغطاة بالرخام وحجر البروفير الثمين0 أما الألباستر.. ينتشر في كل صالات القصر 00خشب الأبنوس.. يغطي كل الأبواب الضخمة في القصر، والذي حل محل الخشب العادي0 أما زخرفة هذه الأبواب فهي رائعة.. العاج يغطي صالة المدخل، وغُطيت الأبواب بطبقة صدفة ظهر السلحفاة الهندية0 أما المجوهرات والأكواب فهي تملأ الموائد.. وكانت الأرائك متسعة جداً، ومغطاة بأغطية ذات ألوان رائعة ” (10) وأمام القصر ترى تمثالاً رائعاً من الجرانيت بطول 8 م للملكة ” أرسينوي ” زوجة بطليموس الثاني فلادلفوس في صورة الإلهة إيزيس 0
ودائماً تجد أمام المعابد والقصور بعض المساحات والطرق العامة التي إرتفعت فيها المسلات الفرعونية، كما ضم الحي الملكي المعابد الباهرة، ودار القضاء، والجمنازيوم الذي يقع على ناصية الشارع الكانوبي مع شارع الوادي، وحول هذا الحي الملكي إلتفت بقية الأحياء وكأنها جميعاً في خدمته، بل حقيقة هي هكذا، فالحي اليهودي (سوتيريا) شرقه وحي الميدان (الميناء) غربه، وجنوبه تقع الأحيـاء الأربعـة الباقيـة مـن الشرق حي الأحراش (ميدان السباق) ثم البانيوم (السوما) ثم المتحف وأخيراً الحي المصري (راكوتي) في غرب المدينة.. وإن كنت تجد العربات التي تجرها الحمير، وثمن الواحد منها يتراوح من 300 – 500 دراخمة، وكذلك العربات التي تجرها الجمال، وثمن الواحد منها يتراوح من 200 – 800 دراخمة في الأحياء المختلفة، فأنك لن ترى مثل هذه العربات داخل الحي الملكي، لكنك تجد الخيول التي يمتطيها الفرسان في عجب وخيلاء0
ويسير ” ديمتري ” عبر الشارع الكانوبي حتى يصل إلى طريق ” الهيبتاستاديوم ” أي السبعة ستاد (الإستاد 186 متراً) فهذا الطريق الرائع الذي يصل طوله إلى نحو 1300 متراً قد أنشأه المهندس ” دينوقراطيس ” الذي خطط مدينة الإسكندرية بأمر الإسكندر الأكبر، فربط هذا الطريق جزيرة فاروس بالشط، وكلما عبر ” ديمتري ” هذا الطريق يتذكر الطريق الذي شقه الله في البحر الأحمر لأجداده، حتى عبروا ونجوا من بطش فرعون، والماء كان سوراً عن يمينهم وعن يسارهم، وطالما يقصد الشعراء طريق الهيبتاستاديوم يستوحون أشعارهم، وطالما يقصده الفلاسفة يتحاورون في قضاياهم، ونشأ عن هذا الطريق ميناءان، الشرقي والغربي0
و” الميناء الشرقي ” هو الأكثر تحكماً في حركة السفن، فمدخله يقع بين ” رأس لوخياس ” (منطقة السلسلة) وجزيرة فاروس، وهذا المدخل يُغلَق بسلاسل ضخمة فلا تستطيع سفينة أن تدخل إليه أو تغادره إلاَّ بتصريح رسمي، بل أن السفن الداخلة إليه لابد أن تكون حريصة جداً على السلوك في الممر المخصص لها، والذي يصل طوله إلى نحو 600 م حتى تصل إلى حد الأمان، لأن القاع القريب الذي يقع على بعد سبعة أمتار تحت سطح الماء يزدحم بالصخور الضخمة، فهـذا الميناء يعتبر منيعاً على السفن التي تجهله، حتى أن المؤرخ اليهودي ” يوسيفوس ” Josephus قال أن ” دخول ميناء الإسكندرية صعب جداً على السفن، وحتى في أثناء هدوء البحر لأن فتحته ضيقة جداً، وبسبب الصخور المختفية تحت سطح البحر، التـي ترغـم السفن على الإنحراف عن طريقها ” (11) وقال ” سترابون ” Strabo 20 ق0م ” أن الداخل إلى الإسكندرية عن طريق البحر يدخل من الميناء الكبير (الشرقي)، فعلى اليمين توجد جزيرة وبرج فاروس ومعبد إيزيس فاريا، وإلى اليسار توجد سلسلة الصخور ورأس لوخياس، والقصر المقام فوقها.. إلى أسفل يوجد الميناء الصناعي المغلق والخاص باستعمال الملوك (الميناء الملكي) والجزيرة الصغيرة ” إنتيرودس ” Antirhodos وعليها قصر وميناء صغير، [ هذه الجزيرة قد غاصت نحو سنة 250م في الميناء الشرقي عقب زلزال قوي ضرب الإسكندرية ] وفوق ذلك يوجد المسرح، ثم البوسيديون Poseidium وهو جزء من مجمع، وفيه معبد ” بوسيدون ” (إله البحر) وقد بنى ” أنطونيوس ” منزلاً ملكياً يسمى ” تيمونيوم ” Timanium بعد ذلك يأتـي القيصريون السيزارير Caesaruim (معبد قيصرون) ثم الأمبوريون، الميناء التجاري، ثم أبوستاسيس (المخازن) وتتبعها أرصفة السفن أو (الترسانة) التي تمتد حتى الهبتاستاديوم ” (12)0
أما ” الميناء الغربي ” (يونوستوس) أي ” العود الحميد ” فهو مفتوح على البحر وأقل تحكماً وأماناً من الميناء الشرقي، ولذلك فهو أقل إستخداماً، وبجواره الميناء الصناعي ” كيبوتوس ” أي الصندوق، ويشمل أحواض السفن، وفي هذا الميناء تصب ترعة المياه العذبة، وهي صالحة للملاحة وتمتد حتى بحيرة مريوط0
وسواء في الميناء الشرقي أو الغربي فأنك تجد السفن الصغيرة وزوارق الصيد، وسفن الركاب الضخمة التي تتسع الواحدة منها لأكثر من ثلثمائة شخص، وأيضاً السفن التجارية الضخمة، التي تصل حمولة البعض منها إلى ثمانية عشر ألف أردب (نحو 500 طن) يعلو هذه السفن البحارة المهرة من إسكندريين ويونان ورومان وقبرصيين وسريان.. إلخ، والسفن التي تنقل الغلال تجد عليها ” مراقب الشحن ” للحفاظ على شحنة السفينة من النقص أو من التغيير ولذلك فهو يحمل عينة مختومة تُقارن بشحنة السفينة، وعندما تمخر السفن عباب البحر ترتفع أشرعتها المختلفة الأشكال والألوان، فبعضها مثلث والآخر مستطيل والآخر مربع، كما تمتد من السفينة المجاديف التي تمسك بها قبضات قوية، لتزيد من سرعة السفن، وبالسفينة تجد أماكن للمبيت ومراتب، وصهاريج لتخزين مياه الشرب، وأجراس لقرعها وقت الخطر، وعليها بعض زوارق النجاة0
ومع نهاية طريق ” الهيبتاستاديوم ” تستطيع أن تشاهد كيف تُولد السفن التجارية والحربية منذ أن يوضع القائم الرئيسي الذي هو بمثابة العمود الفقري، وتظل تبنى فتنمو يوماً فيوماً حتى تكتمل تماماً، وتُجَّهز ويُدفَع بها إلى مياه البحر لتقضي فيه حياتها بالكامل، وأيضاً في نهاية الطريق تجد الترسانة البحرية التي تخدم قطع الأسطول البحري المرابض أمام الإسكندرية0
وأينما كنت في الإسكندرية داخلها أو خارجها، قريباً منها أو بعيداً عنها بعشرات الكيلومترات فأنك لابد أن تشهد شعلة النار تشتعل في سمائها فوق جزيرة فاروس تلك الجزيرة البسيطة التي تردد عليها الصيادون والملاحون قديماً، وجاء ذكرها في أشعار هوميروس في الأوديسة سنة 850 ق0م0 أما الآن فقد صارت أشهر جزيرة على وجه البسيطة كلها بسبب منارتها التي هي بالحقيقة أعجوبة من أعاجيب الدنيا السبع، وطالما وقف أمامها الآلاف عبر مئات السنين مشدوهين بذاك العمل الجبار.. إنه ” فنار الإسكندرية ” الذي أنشأه المهندس العبقري ” سوستراتوس ” بأمر من بطليموس الأول سوتر سنة 280 ق0م وإنتهى العمل منه في عهد إبنه بطليموس الثاني فلادلفوس، وهذا المهندس هو الذي أنشأ مقياس النيل في منف، فارتفع الفنار يشق عنان السماء بنحو مائة وثلاثين متراً0
وهذا الطريق الصاعد من الجزيرة لمنطقة الفنار بطول نحو 70 متراً الذي يفضي بك إلى منطقة الفنار، يؤكد لك أن ذاك الفنار أُقيم على أعلى منطقة صخرية شرق الجزيرة، وقد شُيد الفنار بحجارة ضخمة من الحجر الجيري بعضها يصل وزنه إلى نحو 70 طناً، وأعمدة من الجرانيت المُزين بالمرمر، وفتحات أبواب الفنار ضخمة تصل إلى إرتفاع عشرة أمتار، والفنار يتكون من ثلاثة طوابق إن صح تسميتها طوابق، فالطابق الأول مربع الشكل بإرتفاع نحو 60 متراً يحوي في أحشائه ثلثمائة حجرة تستخدم لحفظ الآلات وسكنى العمال، ويعلو كل ركن من الأركان تمثال والطابق الثاني ثماني الشكل بإرتفاع نحو 30 متراً، والطابق الثالث مستدير الشكل بإرتفاع نحو 15 متراً، ويعلو الطوابق الثلاث التي تعدى إرتفاعها المائة متراً ” المصباح ” وهو عبارة عن شعلة عظيمة من النار يُعكَس ضوءها على سطح مصقول من المعدن، فترشد السفن التي تمخر عباب البحر على مدى 45 كيلومتراً، وتعلو المصباح القبة المستديرة القائمة على ثمانية أعمدة، وفوق القبة يقف تمثال إله البحر ” بوسيدون ” الذي يبلغ إرتفاعه سبعة أمتار، أما السفن التي على بُعد عدة كيلومترات فتراه صغيراً، وربما لا تراه، إنما تلمح الشعلة الضخمة وكأنها شعلة في يد إنسان يحبك ويدعوك إلى بيته0
و ” تتوسط حوائط الفنار أبراج للحراسة وأسوار لحمايته من أمواج البحر.. الفنار يعتبر في نفس الوقت كمعهد ومرصد خاص مُلحق بجامعة الإسكندرية ومكتبتها لدراسة الفلك ورصد النجوم في القبة السماوية.. أما الفراغ الذي يتوسط المبنى.. يستعمل في رفع المعدات الهندسية وألات الرصد، بالإضافة إلى مواد إشعال كشافات الإنارة إلى قمة المبنى ” (13)0
فنار الإسكندرية
وفي منطقة الفنار أقيمت بعض المسلات التي تخص سيتي الأول بالإضافة إلى نحو ثلاثين تمثالاً لأبي الهول يحمل كل منها إسماً لأحد ملوك الفراعنة من سيزوستريس الثالث إلى رمسيس الثاني، وأيضاً ترى ثلاثة تماثيل ضخمة من الجرانيت لثلاثة ملوك من ملوك البطالمة، وبذلك حملت المنطقة الطابع الفرعوني والإغريقي، فقد نجح الإسكندر الأكبر وخلفائه من ملوك البطالمة في مزج الحضارتين الفرعونية واليونانية والبُعد عن صراع الحضارات، فارتفعت تماثيل البطالمة جنباً إلى جنب بجوار تماثيل الفراعين0 أما الربة إيزيس فهي إلهة مقدَّسة لدى المصريين واليونانيين وعلى ذات الجزيرة يقوم معبد ” إيزيس فاريا ” حامية البحار، والملكة كليوباترا التي ظهرت في شكل إيزيس أحبها الجميع مصريين ويونانيين، وغرب جزيرة فاروس يوجد معبد إله البحر ” بوسيدون ” شفيع البحارة والمسافرين0 ومن المناظر المألوفة طوابير الدواب تحمل الأخشاب التي تستخدم وقوداً في مصباح المنارة فيعلو لهيبها إلى عنان السماء، ومن المناظر التي تحب أن تطيل النظر إليها طائر النورس الذي يحلق بأعداد كبيرة، ينقض الواحد منها تلو الآخر، فيضرب الماء بمنقاره بقوة ثم يحلق في الهواء وقد إقتنص إحدى السمكات التي كانت تلهو مع أخواتها0
ومرت عدة أشهر على ” ديمتري ” وهو يتمتع بحياته كبحري ويظهر تفوقاً ومهارة وذكاءً وفكراً حتى صار مشهوراً بين أقرانه أُختبر ليشارك في مهمة ” قنص القراصنة ” بالبحر الأحمر، فإنضم إلى سفينة ” النسر المُنقض ” سريعة الحركة ومعها سفينتين آخرتين، والمهمة بقيادة القائد ” ديجينيس “.. أقلعت تلك السفن من الميناء البحري إلى قناة شيديا حتى بلغت الفرع الكانوبي للنيل، وسارت في القناة التي تصل النيـل بالبحـر الأحمر، فوصلت إلى ” هيرونيوس ” (خليج السويس) ومنه دلفت إلى أعماق البحر الأحمر.. لقد عاث القراصنة فساداً في هذا البحر، فطالما تعرضوا للسفن التجارية ونهبوها، وأسروا بحاراتها وباعوهم عبيداً في سوق الرقيق0
والقرصنة لها تاريخها البشع فـي البحرين الأبيض والأحمر، بل أن ” مينيلاس ” ملك أسبارطة كون ثروته من السلب والنهب عن طريق القرصنة، وفي القرن الخامس قبل الميلاد تولت ” أثينا ” مكافحة القرصنة حتى كادت تقضي عليها، ولكنها عادت سريعاً بعد أقل من مائة عام، وفي سنة 122 ق0م تصدى أهل كريت مع المصريين للقراصنة الذين يهاجمون التجارة الكبيرة بين مصر وكريت وفينيقيا، وفي القديم كانت صقلية مركزاً للقراصنة حتى أنهم كونوا أسطولاً ضخماً مـن السفن المختطفة بلغ ألف سفينة، وكانوا يشاركون الملوك في حروبهم مقابل مبالغ مجزية، وخرج القراصنة من كريت وكيليكيا وهاجموا سواحل آسيا الصغرى وسوريا وأسروا أعداداً كبيرة من السكان وباعوهم كعبيد في جزيرة ديلوس، فقيل أنه كان يُباع في اليوم الواحد في أسواق الرقيق الأبيض نحو عشرة آلاف شخص، وقد إستُغلوا في المزارع الرومانيــة المتسعــة، فأصـدر ” مجلس الشيوخ ” أمراً للقائد ” ماركوس أنطونيوس ” (جد ماركوس أنطونيوس الشهير) بمهاجمة قواعد القراصنة شرق البحر المتوسط، فهاجمها ودمرها سنة 102 ق0م وحولها إلى ولاية رومانية، وإن كان هذا حدَّ من خطر القرصنة لكنه لم يقضي عليها، حتى إضطرت روما سنة 100 ق0م إلى إغلاق كل المواني التابعة لها، وعانى الشعب الروماني من مجاعة بسبب نقص كمية الغلال الواردة لروما، وفي سنة 82 ق0م قرَّر جنرال روما ” ميتريدات ” تطهير سواحل صقلية من القراصنة، فطالما هاجم القراصنة سفن القمح المتجهة من مصر إلى روما، وفي سنة 67 ق0م عينت روما دكتاتوراً للبحار تحت أمرته 500 سفينة وآلاف الجنود، فتمكن مـن أسر 360 سفينة، وتدمير 1000 سفينة وقتل عشرة آلاف قرصان وأسر 20 ألف آخرين، وفي هذه الأيام إستولى القراصنة على سفينة تحمل بضائع ثمينة مملوكة لتاجر إسكندري له صلاته ونفوذه في القصر الإمبراطوري بروما، وعلى هذه السفينة علامة الأسدين، ومهمة هذه الحملة إسترداد هذه السفينة0
ولمح قائد المهمـة تلك السفينة المختطفــة ولمـح عليها ” علامة الأسدين ” على جانبيها، فبدأت السفن الثلاث تحدد إتجاهاتها فأحاطت بتلك السفينة من على بُعد أكبر مـن مرمى السهام، وشك القرصان الأول في هذه السفن الثلاث، فأعلن حالة الطوارئ على ظهر السفينة المختطفة0 أما ” ديمتري ” ذاك البحار المغامر، فقد أدهش قائده ” ديجينيس ” إذ فاجأه بخطة جديدة مبتكرة للإقتحام، ولثقة القائد الزائدة في البحار ” ديمتري ” وافقه على خطته واثقاً في رجاحة فكره وحسن تصرفه، وبدلاً من الإعتماد على المواجهة التصادمية إستخدام ” ديمتري ” بالأكثر عقله، وسُمح له بإختيار فريق معه مكوَّن من عشرة جنود من أصدقائه المعروف عنهم مهارتهم الشديدة في الغطس، فهؤلاء الفريق المتجانس هم أبناء غطسة واحدة، وحمل كل منهم مثقاب يدوي بسيط ووتد خشبي صغير، وسريعاً ما غاصوا في البحر بعيداً عن أعين القناصة التي تركزت تماماً على ظهر السفن الثلاث التي تظاهرت أنها تبحر في سلام في نفس الإتجاه الذي تبحر فيه سفينة القراصنة التي أبطأت كثيراً في حركتها0 أما القراصنة فأصطفوا على سطح سفينتهم كل منهم يقبض على قوسه وسهمه، منتظراً إقتراب تلك السفن، وإنطلاق السهم الأول من القرصان الأول ليبدأ الهجوم على تلك السفن، فيمطرونها بوابل من السهام المشتعلة، وفي نحو نصف ساعة وصل فريق ديمتري إلى سفينة القراصنة دون أن يلمحهم أحد، وسريعاً ما أعمل كل منهم مثقابه ذو البريمة في جسم السفينة، والمثقاب بمجرد أن يُغرَس في الخشب يجد طريقه بقوة الصد الذاتية الناتجة من البريمة مادامت يد الغطاس تديره بقوة، وبدأت المياه تندفع إلى قاع السفينة من عشرة ثقوب متفرقة قطر كل منها نحو 3 سم، وإذ أحس القرصان بحاسته البحرية أن هناك بداية خلل في السفينة، أومأ لأحد رجاله ليستطلع الأمر، فعاد على الفور يصرخ: سنغرق.. سنغرق، وهبط القرصان الأول ليرى بنفسه المياه التي بدأت ترتفع في قاع السفينة إلى نحو 30 سم، وظن أن السفينة قد إحتكت بأحد جبال الشُعب المرجانية، وهو يعرف بخبرته أنه يستحيل تدارك الموقف من داخل السفينة فأرسل أحد رجاله ليستطلع الأمر من الخارج، وقفر الرجل في الماء ولم يعد، فأسرع بإرسال رجلين قفزا في الماء ولم يعودا لأن ديمتري ورجاله شلوا حركتهم وأبقوهم معهم.. أمر القرصان الأول بقرع أجراس الإنذار وإرسال إستغاثة للسفن القريبة، وأنزلوا زوارق النجاة من أحد جوانب السفينة بينما ديمتري ورجاله في الجانب الآخر، وسريعاً ما هربوا بتلك الزوارق متجهين للسفن التي إقتربت منهم سريعا فأعتلوها ليكتشفوا الحقيقة المرة أنهم بدلاً من أن يستولوا على تلك السفن، فإذ بالسفن سفن حربية عليها جنود أشداء وأنهم وقعوا في الأسر بحيلة بارعة.. في خلال هذه اللحظات الحرجة كان فريق ديمتري ينجز عملاً غاية في الأهمية وهو إغلاق الثقوب العشرة بالأوتاد الخشبية قبل أن تغوص السفينة للأعماق، ونجح الفريق، وإقتربت أحد السفن الحربية من السفينة المختطفة، نقلوا إليها المضخات اليدوية التي وصلت حديثاً للأسطول البحري الروماني، وبدأ التخلص من المياه التي إندفعت في أحشاء السفينة، وعادت السفينة للتوازن، وتولى بعض الجنود قيادتها، وإنتهت المعركة قبل أن تبدأ، وإنتهت دون أن تراق الدماء على مياه البحر الصافية، وعادت السفن تقطع رحلة العودة إلى مياه الإسكندرية وقد أعادت السفينة المختطفة، فأُستقبلت إستقبال الأبطـال، وكُلّل القائد ” ديجينيس ” بأكليل الغار، إلاَّ أن الحضور بهتوا عندما رأوه يخلع الإكليل عنه ويطوق به عنق ” ديمتري ” البحار المغامر، ويعلن أمام الجميع الدور الهام الذي قام به ” ديمتري ” بينما همس أحد الجنود الحاقدين: وماذا فعل ديمتري أكثر مما فعلناه ؟! فكل ما فعله لا يتعدى سوى لعبة صبيانية بالمثاقيب.. ولكن الجندي الآخر لم يوافقه الرأي، بل قال له: لولا هذه اللعبة الصبيانية لربما نشبت معركة ضارية مع القراصنة، ولربما إنغرس في صدرك سهم من سهامهم وسالت دماءك على صفحات المياه ولفظت أنفاسك، وصرت وجبة شهية لأسماك القرش0
(10) د0 يسرية عبد العزيز – البعث الجديد – إكتشاف الآثار الغارقة في أبي قير والإسكندرية ص 224
(11) المرجع السابق ص 225، 226
(12) المرجع السابق ص 222، 223
(13) د0 سيد كريم – مكتبة الإسكندرية وتخطيط المدينة ص 25، 26