الغطاس الماهر ف1 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل الأول: الغطاس الماهر
في صباح يـوم 19 يونيو (12 بؤونة) سنة 288م خرج ” ديمتري ” ذو الستة عشر ربيعاً من منزله قاصداً شاطئ البحر، مصطحباً معه توأمه ” صفانيا “، فهما إبنان لـ ” منسى ” الرجل اليهودي المتشدد الذي يعمل بالتجارة والمال، فيُقرض أمواله للغير بالربا الفاحش، حتى يكاد رأس ماله يتضاعف من عام إلى عام، وأمهما ” سوسنا ” المرأة الفاضلة التي تعبد يهوه بإخلاص مع بناتها ” راحيل “، و” دينه “، و” ميراب “، وتسكن أسرة ” منسى ” الحي اليهودي بالإسكندرية، ووجودهم مُتجذّر فيها، فمنذ نحو ألف عام أقبل عدد كبير من يهود فلسطين إلى مصر مصطحبين معهم أرميا النبي، وتزايد عددهم حتـى قال ” فيلون ” (30 ق0م – 50م) أن عددهم وصل في الإسكندرية إلى مليون شخص، وإن كان هذا العدد مُبالغ فيه كثيراً لكنه يُظهر كثرة عددهم في المدينة التي يقل تعداد سكانها عن مليون شخص 0 وبعد تدمير أورشليم وإحراق هيكلها سنة 70م على يد الوالي الروماني ” تيطس ” جاء عدد كبير منهم إلى مصر والإسكندرية، وبالرغم من أن يهود الإسكندرية ظلوا على ولائهم لروما، إلاَّ أن الرومان خشوا منهم لئلا يجعلوا معبدهم الفاخر ” أونياس ” (ليونتوبوليس) بديلاً لهيكل أورشليم، ولذلك خربوا هذا المعبد وسلبوا محتوياته وكنوزه، ولأن يهود أورشليم أحرقوا في ثورتهم معبد ” جوبيتر كاميتو لنيوس ” كبير آلهة الرومان، لذلك فرضت روما عليهم أن يدفعوا ضريبة الدرهمين – التي كانوا يدفعونها لهيكل أورشليم – لتعمير معبد جوبيتر الذي أحرقوه، بل ضاعفوها أربعة أضعاف فصارت ثمانية دراهم، وبدلاً أن كان يدفعها البالغون فقط من سن العشرين إلى الستين فُرفضت على كل يهودي من سن ثلاث سنوات فما فوق، بل فُرفضت أيضاً على العبيد الذين هم في حوزة اليهود، ولم يكن الهدف من هذا تعمير معبد جوبتر بقدر ما كان تأديباً لليهود، ولذلك ظلت هذه الضريبة تُحصل حتى القرن الثاني الميلادي0
و” الحي اليهودي ” بالإسكندرية من أكبر أحياء المدينة، يحده من الشرق أسوار المدينـة، ومـن الغـرب ” البروخيوم ” (الحي الملكي) ومن الشمال البحر المفتوح، ومن الجنوب أهم شـوارع الإسكندرية الطوليـة قاطبـة، وهو ” الشارع الكانوبي ” (شارع أبو قير) وللحساسية المفرطة لليهود، وبسبب الإضطرابات العنصرية، أقاموا أسواراً خاصة تحيط بحيهم ليحتموا خلفها، فطالما حدثت تصادمات دامية بينهم وبين الإغريق وتدخلت القوات الرومانية لفض الإشتباكات وقمع الإضطرابات، فيقوم كل من اليهود والإغريق بإرسال الوفود إلى روما لتقديم شكواهم للإمبراطور، وبينما كانت مقابر الإسكندرية تقع خارج أسوار المدينة غرباً وشرقاً، فإن اليهود أحتفظوا بمقابرهم داخل أسوار المدينة في الجهة الشرقية الشمالية0
و ” يهود الإسكندرية ” لهـم حياتهـم الخاصة ومعابدهم و” مجلس الشيوخ ” الخاص بهم، ذاك الحق الذي حرم منه الرومان السكندريين تخوفاً من ثوراتهم المتكررة ونزعتهم المتجددة نحو الإستقلال، وحافظ اليهود على كيانهم ونقاء جنسهم، فالتزاوج محصور بينهم، ويرفضون الزواج المختلط، وإن كان بعضهم قد تخلى عن تقاليدهم القديمة وشابهوا الأغريق (اليونانيين) في ملابسهم، ودخلوا في تعاملات تجارية ومالية مع جميع طبقات المجتمع، وتعلموا اللغات اليونانية والمصرية، ولكن الأغريق لم يستريحوا لهم، حتى كتب أحدهم لصديقه ” مثل أي شخص آخر عليك أن تحترس من اليهود ” (1) ومع هذا فإن بعض اليهود ظلوا متمسكين بمبادئهم حتى أنك تجد جماعة ” المتأملين في الإلهيات ” في جانب من جوانب الحي، وقد تخلوا عن الزواج وسلكوا في طريق الفقر الإختياري، وشغلوا أوقاتهم بالصلوات والتسابيح بالمزامير0
وصل ” ديمتري ” وتوأمه ” صفانيا ” إلى شط البحر، وسريعاً ما خلع كل منهما ملابسه، وألقى بنفسه في أحضان المياه الدافئة، فإن المياه تكتسب الحرارة ببطء وتفقدها ببطء، فالحرارة التي تكتسبها طوال اليوم من شمس الصيف اللافحة تظل محتفظة برصيد منها للصباح، و” ديمتري ” يهوى السباحة التي تعلمها منذ طفولته، بينما يتهيب ” صفانيا ” أمواج البحر العالية لأنه تعرض لحادث غرق منذ ست سنوات، وقد أنقذه توأمه ” ديمتري ” الذي يجيد السباحة والغطس والإنقاذ، فصفانيا يسبح في الماء طالما قدماه تلمسان الأرض0 أما في هذا اليوم فوجد في قلبه شجاعة لم يعهدها من قبل، فالأمواج أخذت تعلو وتتلاطم ووقف هو يتصدى لها فترفعه فتطوح وهو سعيد بهذا ومطمئناً، فمادام ” ديمتري ” بجواره فما الداعي للخوف والقلق والتهيب ؟ وبينما يصارع صفانيا الأمواج تارة يحاول أن يقفز فوقها، وتارة يغطس تحتها، وتارة يتصدى له فتقلبه، إنشغل ” ديمتري ” بهوايته المفضلة، وهي الغطس تحت الماء، وشيئاً فشيئاً إشتدت الرياح أكثر وإرتفعت الأمواج أعلى ووقف صفانيا صامداً في مواجهتها كلما أسقطته موجة يسرع ويقف قبل أن تلحقه الأخرى، وفجأة صرخ ” صفانيا ” مستغيثاً بأخيه السباح الماهـر، فإن الأمواج المرتدة قد سحبته للداخل، وكلما وقف لا يجد تحته أرضاً تحمله.. تَّتابع الأمواج وسرعتها لا يعطه فرصة لإلتقــاط الأنفاس، وضاعت صرخاتـه أدراج الرياح لأن ” ديمتري ” الذي يغوص في الماء لا يسمعه، ويبدو أنه فقد الإحساس بتوأمه.. ” صفانيا ” يضرب الماء بذراعيه ويركله بقدميه محاولاً الإقتراب من الشاطئ دون جدوى، فالأمواج تقوى عليه وتصرعه، وبينما يحاول إلتقاط الأنفاس إنسلت المياه إلى حنجرته، وسريعاً ما أُنهكت قواه وبدأ يغوص ويطفو في لجج البحر، مثله مثل المئات الذين لفظوا أنفاسهم في تلك المنطقة الخطرة من البحر المفتوح0 كل هذا حدث في أقل من دقيقتين، هي مدة غطسة من غطسات ” ديمتري ” الذي خرج ليلتقط أنفاسه ويواصل غطساته، غير أنه لم يلمح أخيه لا في المياه ولا على الشاطئ، وإذ لاحت منه نظرة للداخل هيئ له أنه أخيه هناك، فاندفع في لمح البصر وإذ بيديه تقبضان على ” صفنيا ” الذي بدأ بلا حراك، فجذبه إلى الشاطئ وقَلَبَهُ رافعاً إياه لأعلى، فأفرغ كم من الماء كان قد إبتلعه، ثم نفخ في فمه قبلة الحياة، وأخذ يعيد المحاولات مراراً وتكراراً مستصرخاً السماء فشعر بأن الحياة تعود إليه رويداً رويداً، وهو لا يدري إن كان ” صفانيا ” قد فارق الحياة ثم عاد إليها، أم أنه وصل إلى درجة الموت والرب أنقذه0
وعاد ” ديمتري ” وتوأمه إلى البيت، وقد أقسم ” صفانيا ” باسم رب الجنود أنه لن ينزل ثانية إلى ماء البحر، بل أنه لم يطق أن ينظر للبحر، فأخذ يلح على أبيه ” منسى ” أن يسمح له بالسفر إلى أورشليم ليتاجر هناك ويربح، وإذ فشلت الأسرة في تغيير رأي ” صفانيا ” إنتهز والده حضور بعض التجار الذين يعرفهم جيداً من أورشليم ويثق فيهم، وأوصاهم بإبنه، فسافر معهم ” صفانيا ” إلى مدينة أورشليم بعد أن زوده والده بالمال اللازم ليبدأ حياته في أرض الأجداد 0 أما ” ديمتري ” فقد عشق الإسكندرية وبحرها وشوارعها وشعبها وفنارها ومكتبتها ومعابدها وإحتفالاتها، وكل ما فيها.. ففي يوم 12 بؤونة يوم الإحتفال بوفاء النيل، تحتشد الجماهير وتتزاحم لتستمع للتراتيل والمدايح، وتبصر مواكب الصوُّر والتماثيل المقدسة، وتشتم رائحة البخور، وتأخذ نصيبها من تقدمات النبيذ والعسل والكعك والمأكولات الأخرى، وتضج المدينة العظمى بالحيوية والنشاط0
فالإسكندرية هي المدينة المنفتحة على الداخل والخارج، الطرق البحرية تربطها بكافة مواني البحر الأبيض، والطرق النهرية تربطها بمصر الوسطى والعليا، والقناة التي تربط بين نهر النيل وبين ” هيرونيوس ” (خليج السويس) والتي أعاد الإمبراطور ” تراجان ” (98 – 117م) فتحها تربطها ببلاد الشرق حتى الهند والصين، كما أن هناك طريقاً برياً على ساحل البحر يتجه من الإسكندرية إلـى ” باراثيوم ” (مرسى مطروح) و” كاتاباغيوس ” (السلوم) ويصل إلى ” قرنبائية ” (طرابلس) وينتهي بقرطاجنة (تونس) وقد زُود هذا الطريق الطويل جداً بمحطات للراحة وحانات لنزول القوافل، وأبار جوفية للتزود بالمياه، وتُحصّل الدولة الضريبة من هذه القوافل مقابل توفير هذه الخدمات لها، وأيضاً لحمايتها من عصابات اللصوص0
وهكذا تجد في الإسكندرية أجناس وأجناس، فهي دائماً محط الأنظار، فالأغريق يمثلون جزءاً كبيراً من عدد السكان ويسكن معظمهم في الحي الملكي، والرومان يقيمون بالمدينة وبأيديهم السلطة، والمصريون يزدحمون في حي راكوتي، وحتى بعد رحيل الفرس عن المدينة ظل بعضهم مفضلاً البقاء في هذه المدينة الرائعة 0 كما أقبل التجـار من كافة بقاع الأرض، من أثينا، ومقدونيا، وأسيا الصغرى، وسوريا، وفينيقيا، وبلاد العرب والحبشة والهند والصين 0 وأيضاً مناخ الإسكندريى المعتدل يجتذب السياح بقصد الإستشفاء، أو بقصد الإطلاع على الحضارة الفرعونية الساحرة.. يشاهدون الأهرامـات بأمجادها الغابرة، و” أرسينوي ” (الفيوم) حيث عبادة التمساح، وقصر التيه، حتى صارت السياحة تمثل جانب هام من الدخل القومي0
ناهيك عن القادمين من مختلف البقاع المصرية، فبعضهم جاء ليعمل لأن فرص العمل بالمدينة أفضل، وبعضهم جاء للسياحة ومشاهدة معالم الإسكندرية بفنارها ومكتبتها وأكاديميتها ومعابدها، وبعضهم من الفلاحين الذين جاءوا هرباً بعد أن أثقلت الضرائب كواهلهـم، فتركوا أراضيهم وأهاليهم وتاهوا وسط زحام هذه المدينة، حتـى أنه في سنة 215م أصدر الإمبراطور ” كاراكالا ” (211 – 217م) مرسوماً بترحيل هؤلاء الفلاحين خارج المدينة، فجاء بالمرسوم: ” كافة المصريين المقيمين بالإسكندرية ولاسيما المزارعين منهم من فروا من أماكن أخرى، ويمكن العثور عليهم بسهولة، لابد أن يُطردوا بكل وسيلة ممكنة، باستثناء تجار الخنازير، ومن يعملون في النهر (على السفن النهرية) ومن يُحضرون البوص لتدفئة الحمامات 0 وأطردوا الباقين الذي يثيرون الصخب والضجيج في المدينة بأعدادهم الكبير بلا أي منفعة0 وإني أعلم أن في إحتفالات ” سرابيس ” وبعض أيام الإحتفالات الأخرى، أو حتى في أيام أخرى فإن المصريين قد إعتادوا أن يُحضروا معهم ثيراناً وغيرها من حيوانان الإضحيات، وهؤلاء لا ينبغي تقييدهم0 إن من يجب طردهم هم أولئك الذين هربوا من موطنهم الأصلي لتجنب إلتزاماتهم الزراعية، وليس أولئك الذين يتجمعون هنا لمشاهدة مشاهد الإسكندرية أمجد مدينة، أو أولئك الذين يسعون للتمتع بمباهج حياة المدينة، أو من يأتون لأعمال ومهام طارئة ومؤقتة 0 وفيما يتعلق بنساجي الكتان فإن المصريين الحقيقيين يمكن التعرف عليهم بسهولة من خلال لهجتهم أو ملامحهم وبنيانهم الذي يفصح عن إختلافهم عن الآخرين0 هذا بالإضافة إلى طريقتهم في المعيشة التي تظهر أن المزارعين غرباء عن حياة المدينة ” (2)00 لقد أراد الأباطـرة الرومان الحفاظ على شخصية الإسكندرية اليونانية، فتمتع اليونانيون بالإمتيازات، ثم اليهود، أما المصريون فكانوا يعاملون في بلادهم كالعبيد0
والإسكندرية هي مقر الأسطول البحري، ففيها يعيش الآلاف من ضباط وجنود البحرية، سواء من الرومان أو من المصريين الذين يطمعون في نهاية خدمتهم التي تستمر 26 عاماً في الحصول على الرعوية الرومانية، وأيضاً على المكافأة المالية المجزية، كما يوجد بالإسكندرية فرقة رومانية من المشاة لحماية المدينة يفوق عددها الستة آلاف 0
والإسكندرية هي مدينة النشاط الصناعي، فتوافر المواد الخام مثل الكتان والصوف والجلود والبردي والكروم والرمال التي يصنع منها الزجاج، والطمي الذي يصنع منه الأدوات الفخارية، وأيضاً توافر الأيدي العاملة القادمة من الريف والرخيصة، وأيضاً سهولة تصريف المنتجات، كل هذا ساعد على قيام صناعات مميزة في الإسكندرية مثل ” صناعة الزجاج ” والعاملون فيها يبرعون في إختيار نوعية الرمال التي يحصلون منها على الزجاج النقي، ويعتبرون تلوين الزجاج سراً من أسرار الحرفة، فيصدَّرون هذه الزجاجيات المختلفة الأحجام والأشكال بألوانها البديعة، سواء فارغة، أو معبأة بالعطور والزيوت ونبيذ مريوط المشهور0
و” صناعة الورق ” من نبات البردي الذي ينمو على جوانب بحيرة مريوط أو في أماكن مختلفة بمصر، فساق النبات عبارة عن لباب ليفي ذي عصارة لزجة، يُقطَّع طولياً إلى شرائح، توضع متجاورة ويوضع فوقها طبقة أخرى متقاطعة معها، وتضغط الطبقتان فتلتصقان بواسطة العصارة اللزجة، ثم تُطرق بمطرقة خشب لتسوية الألياف الخشنة، فتحصل على ورقة صالحة للإستخدام، وتُلصق أطراف هذه الأوراق بمعجون خاص فتكون لطفات طويلة، يقص منها التاجر حسب الطلب، وأصحاب المستنقعات التي ينمو فيها نبات البردي يحدون أحياناً من إنتاجهم للحفاظ على مستوى الأسعار في السوق، ويستخدم ورق البردي في المكتبات العامة والخاصة، وتستورد روما كميات ضخمة من هذه الأوراق بأنواعها المختلفة من جهة الجودة والسعر، بل أن كثرة الكمية التي تستوردها روما دفعتها لتشغيل الجنود في أوقات السلم بمصانع الورق0
كما إشتهرت الإسكندرية بـ ” صناعة النسيج ” ولاسيما الكتان المصري الذي يُستخرج من نبات القنب حتى أن الإمبراطور ” جالينوس ” قال: ” هل نعيش بدون كتان مصر ” فالجيش الروماني يستهلك كم هائل من المنسوجات في صناعة الملابس، وإشتهرت الإسكندرية بنسيج Polymita ويحفظ عمال النسيج طريقة تلوينهم وصباغتهم للملابس كسر من أسرار الحرفة، ومن أجل أهمية هذه الصناعة يُعفي العاملون فيها من الخدمات الإلزامية التي تفرضها الدولة (حيث يُكلف البعض بالقيام ببعض الأعمال بدون مقابل)0 كما أن الإسكندرية تستورد الحرير والقطن من الهند وتنسجه وتصدره للخارج، وإن كان هناك مناطق في مصر فاقت الإسكندرية في صناعة النسيج مثل أخميم ونقادة0
وجدير بالذكر أن بعض أساتذة الموسيون قد هجروا الإسكندرية وذهبوا ليقيموا في مدينة ” أخميم ” التي تتميز بمعبدها الضخم الذي تقف على بوابته تماثيل الفراعين الذي يصل طولها إلى 30 متراً، ونحو نصف سكانها من المسيحيين0
وأيضاً تستورد الإسكندرية الزيوت العطرية وتقوم بتصنيعها وتصديرها للخارج، ولأن صناعة العطور تحتاج لرأس مال ضخم لذلك يخضع عمال هذه الحرفة لرقابة صارمة في معاملهم0 وأيضاً عرفت الإسكندرية صناعة العقاقير الطبية بما ورثته من خبرة الفراعنة في الطب والكيمياء، وتحصل على الأعشاب الطبية من مناطق مصر وأثيوبيا وبلاد العرب والهند، وعُرِفت الإسكندرية بمدرستها الطبية العريقة، وتمتع الأطباء المصريون بسمعة طيبة في كافة أرجاء العالم، وكتاب ” المواد الطبية ” لصاحبة ” ديوسكوريدس ” يشهد بمدى تفوق الطب المصري0
والإسكندريـة هـي مدينـة الرواج التجـاري، وصفها ” يوليوس قيصر ” بأنها المدينة ” الشاسعة المساحــة الواسعة الثراء ” (3) وطوال تجوالك في المدينة تسمع لغات عديدة ولهجات شتى، فقد إجتمع فيها المصريون واليونانيون والرومان والسريان والفرس والعرب والأثيبيون والهنود 0 وتجار الإسكندرية الأغنياء لا يكتفون بالتجارة داخل المدينة، ولا يكتفون بالإستيراد والتصدير، إنما يذهبون في رحلات بحرية تجارية ســواء إلى أثينا ويوتولي (إيطاليا) وماسيليا (مارسيليا) وغيرهم بالبحر المتوسط، أو إلى ” ميليتس ” بالبحر الأسود، أو إلى ” رودس ” و” ديلوس ” بجزر بحر إيجة، أو إلى جزر قبرص وكريت ومالطة بالبحر المتوسط، أو يبحرون عبر النيل ومنه للبحر الأحمر فيصلون إلى أثيوبيا والهند والصين، فيستوردون العاج والتوابل والبخور والذهب والفضة واللؤلؤ والحرير والقطن والصبغة.. إلخ والتجار السكندريون في إبحارهم يتشفعون بإله البحر ” بوسيدون ” ليحفظهم مع سفنهم من الغرق0 وبسبب إكتشاف الرياح الموسمية في المحيط الهندي زادت سرعة السفن، فأصبح من الممكن قطع الرحلة من مصر إلى الهند والعودة في نفس العام، فالرياح الموسمية تدفع التجار إلى شواطئ الهند الغربية، حيث ينهون أعمالهم وينتظرون حتى تهب الرياح في الإتجاه العكسي فتدفع سفنهم نحو مواني مصرنا الحبيبة، فإحتكر تجار الإسكندرية تجارة الهند، وصار لهم نحو 120 سفينة ضخمة، ونظرت الهند للإسكندرية على أنها رمز للعالم الغربي، وإستفادت الدولة الرومانية من الضريبة المزدوجة التي تفرضها على هذه البضائع تارة لدى إستيرادها وتارة أخرى لدى إعادة تصديرها لدول البحر المتوسط، وبسبب إنتشار القرصنة في البحر الأحمر لذلك كان لهذه الرحلات مخاطرها وتكلفتها، مما رفع سعر هذه البضائع من أماكن المنبع لتتضاعف عشرات المرات عندما تصل للمستهلك الغربي، حتى قال ” بلينيوس “: ” هكذا ندفع غالياً من أجل كمالياتنا ونساءنا.. مقابل بضائع تُباع لنا بأثمان تبلغ مائة ضعف ثمنها الأصلي ” (4) وهكذا صار التجار الأثرياء في الإسكندرية ينافسون أغنياء روما، وبعضهم تمكن من الحصول على مناصب عليا في القصر الإمبراطوري بروما0
وتعتبر الواردات التي تدخل للإسكندرية عن طريق ميناء مريوط أضعاف الواردات التي تصل إليها عن طريق الميناء البحري، وصادرات الإسكندرية من الميناء البحري تفوق وارداتها من نفس الميناء، وعلى كلٍ فإن صادرات الإسكندرية تفوق الواردات، ويكفيك أن تسير قليلاً في حي الميدان (حي الميناء) لترى مدى الإزدحام، وتدرك حجم التعامل التجاري الداخلي والخارجي، فالمخازن المتسعة والتي تضج بالحركة تشهد على عظم النشاط التجاري لهذه المدينة، فإن كانت الإسكندرية تشغل مركز المدينة الثانية بعد روما من الجهة السياسية، فإنها تشغل المركز الأول بلا منازع في النشاط الإقتصادي والحضاري والعلمي0 وداخل المدينة تنتشر محلات الجزارة والحلاقة والعطارة والنجارة والأحذية والحانوتية وتحنيط الجثث، والأفران وغيرها، وفي الأحياء الراقية تجد محلات المجوهرات والتحف والتماثيل.. إلخ0
والإسكندرية هي مدينة الديانات المختلفة، فالجالية اليهودية الضخمة تتمتع بكافة حقوقها في ممارسة العبادة وبناء المعابد الفاخرة، والإغريق يفتخرون بمعابدهم الضخمة، والرومان لهـم السلطة واليد الطولى في المدينة فيشيدون ما يشأون من المعابد، ويؤلّهون أباطرتهم ويعتبرون أن شخصياتهم مقدَّسة، ويضعـون تماثيلهم في معابد الآلهة، ويقدمون لهم العبادة، وهناك كاهن خاص يهتم بهذا في الإسكندرية، ومن أهــم آلهة الرومان ” أبوللـون ” (الإلـه العظيـم والـروح الطيبة) و” جوبيتر ” كبير الآلهة0 وليس هناك قيداً على المصريين في عبادة آلهتهم القديمة، والطائفة الوحيدة التي لا تستطيع ممارسة عبادتها جهراً هم المسيحيين الذين طحنتهم الإضطهادات المفرطة من أباطرة الروم، وإن كانـوا فـي هـذه الأيام ينعمون بشئ من السلام، فمنذ تولي ” دقلديانوس ” الحكم سنة 284م وهو لم يسئ إليهم للآن، مما جعل ” البابا ثاؤنا ” أن يفكر جدياً في إنشاء كنيسة ضخمة بالحي المصري0
والذي يتمشى في شوارع الإسكندرية يلحظ العبادات المصرية ولاسيما لإيزيس، وأوزيريس، وحورس، وآمون، والعجل أبيس، والبقرة حتحور، ورع كبير الآلهة0 أما عبادة النيل فشئ أساسي في كل الأراضي المصرية، ويوم 12 بؤونة هو يوم عيده، فتكثر الضحايا والتقدمات التي تقدم له والتي تصل في عددها إلى ستة عشر نوعاً، وبالأمس القريب وزَّع الكهنة المصريون النص الآتي:
” سيتم الإحتفال ببدء فيضان نيلنا المقدَّس بإقامة الشعائر المقدَّسة لجلب الخير والبركة 0 لقد وصل الماء، فتحية للينابيع عندما ترتفع في نهر إيزيس ذي المياه الجارية0
فلتسيطر على ينابيعك يانيل الفيضانات العديدة.. لتصل إلينا سخياً متدفقاً0 ولتنشر الغرين المُخصِب في فيضانك00
فهل لك أن تمنح عذوبتك لمصر كلها، مُخصِباً إياها كل عام، مثل هذا الفضل00
أنظروا كيف أن الفيضان كالذهب لكل شئ ولكل فرد، أما أنتم أيها المنشدون فردّدوا الأناشيد ثلاث مرات في إحتفالكم بتدفق المياه في مجاريه00
إرتفع أيها النيل وواصل الإرتفاع بنشوة حتى تصل إلى ستة عشر ذراعاً ” (5)0
وهذه العظمة التي توسمها المصريون في آلهتهم إحتقرها الشاعر ” جوفينال ” قائلاً: ” من ذا الذي لا يعلم أن مخلوقات غريبة تقدسها مصر المجنونة ؟ فهذه المنطقة تعبد التمساح، وتلك يمتلأ قلبها رهبة من أبي منجل ملتهم الثعابين.. هناك يعبدون القطط، وهنا السمك 0 وهناك مدينة بأكملها تعبد الكلب ” (6)0
ويحرص الكهنة المصريون علـى أن تكون رؤوسهم حليقة، ومن يتجرأ منهم ويترك شعره يتعرض لغرامة ضخمة تصل إلى 100 دراخمة، ويرتدون الملابس الكتانية، ويحرصون على الختان، وقد إمتزجت عبادتهم بالسحر والأحجبة والتمائم، فيكثرون من التعويذات التي تجلب الحب، حتى أنهم يضعون بعضها مع مومياء الميت إعتقاداً منهم بأن قوة السحر تجبر روح الميت على القيام بالمهمة المطلوبة، وجاء في إحدى التعويذات ” أن تدعو الإله العظيم الجبار بأن يجعل فلانة الفلانية تقع في حبك من أول نظرة وبخضوع تام وإن لا تستطيع المقاومة، وبعد ذلك عندما تراها تأخذ ثلاثة أنفاس عميقة بينما تنظر إليها بإمعان، وفي هذه اللحظة سوف تبتسم لك، وهي علامة علـى أنهـا وقعـت في حبك ” (7)0
وبسبب تغلل سلطة رجال الدين لدى الشعب المصري، لذلك حد الرومان من سلطتهم، إذ إستحدثوا وظيفة ” أديوس لوجوس ” أي ” كبير كهنة مصر والإسكندرية ” وهي وظيفـة إدارية، والذي يشغلها يشرف على المعابد المصرية وحساباتها، ويصير حلقة الوصل بين الكهنة والدولة، وسار الرومان على نفس المنهج الإغريقي الذي بدأه الأسكندر الأكبر، وهو محاولة التوفيق بين الأديان، والبعد عن الصراع الديني، فظهرت حركة التوفيق بيـن آلهـة المصرييـن وآلهـة اليونانييـن والتـي عُرفت باسم ” Syncretism ” فأعتبر الإسكندر ومن بعـده ملـوك البطالمة أن ” أمون ” الإله المصري هو ” زيوس ” الإله اليوناني، كما عبد اليونان والرومان ” الإلهة إيزيس ” مانحة الحياة السخية، وإنتشرت عبادة إيزيس في روما ودعوها بأسماء عديدة، فهي أفروديت، وهيرا، وسيليني، وعذرية التوالد، والمرحة، والشجاعة، والمنقذة، وفائقة القدرة، والمعظَّمة، والملكة المقدَّسة، والربة الفاتنة، وقائدة ربات الفنون، وواهبة القوانين، وأقـام الإمبراطور ” دوميتيان ” معابد لإيزيس، وسرابيس في روما، بل إنتشرت عبادة ” الربة إيزيس ” في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، حتى أنها وصلت إلى الهند وفارس عن طريق تجار ألإسكندرية0
ومن المعابد الهامة في الإسكندرية معبد ” السيرابيوم ” المخصص للإله ” سيرابيس ” الذي وضع بطليموس الأول سوتر أساسه على ربوة عالية بحي راكوتي المصري، وأكمله إبنه بطليموس الثاني فيلادلفوس الذي أمر بترجمة التوراة من العبرية لليونانية، فخرج تحفة معمارية غاية في الروعة، يزدان بالأعمدة الرخامية والتماثيل الناطقة، كما أُلحق به مكتبة علمية حوت نحو أربعمائة ألف كتاب، وفتحت أبوابها للدارسين 0
وأيضاً نجـد فـي الحـي الملكي من المعابد الفخمة معبد ” قيصريوم ” الذي أقامته كليوباترا تكريماً لزوجها ” ماركوس أنطونيوس ” وتسمى على إسم إبنها ” قيصريون ” الذي أنجبته من يوليوس قيصر زوجها السابق، وأقيم أمام هذا المعبد مسلتان أحضرتهما كليوباترا من معبد الشمس بهليوبوليس (وقد قُطعتا من مجراهما بأسوان قرب الشلال الأول للنيل، ونُقشِت عليهما أعمال أحد الفراعنة باللغة الهيروغليفية) وأحاطتهما بالأعمدة الرخامية البيضاء، والحقيقة أن البطالمة حاولوا أن يصبغوا الإسكندرية بالصبغة الفرعونية، ولذلك تجد المسلات والتماثيل الفرعونية منتشرة في الميادين والشوارع والمعابد كنوع من الوحدة الوطنية في هذه المدينة الإغريقية0
والإسكندرية مدينة إغريقية ضمن أربعة مدن إغريقية أُقيمت في مصر وهي:
- نقراطيس: في دلتا النيل أُنشئت في أواخــر القرن السابع قبل الميلاد بيد أحد الفراعنة إعترافاً منه بالخدمات التي قدمها له الإغريق، فهي أقدم مدينة إغريقية في مصر0
- الإسكندرية: أسسها الإسكندر الأكبر سنة 330 ق0م، وهي أعظم وأهم المدن الإغريقية في مصر0
- بطلمية (مركز المنشاة بسوهاج): أنشأها بطليموس الأول في القرن الثالث قبل الميلاد0
- أنتينوبوليس: أسسها الإمبراطور الروماني ” هدريان ” سنة 130 م على موقع مدينة مصرية قديمة في مصر الوسطى، ليُخلّد ذكرى صديقه ” أنطنيوس “، ذاك الشاب الوسيم الذي قام برحلة نيلية وغرق في تلك المنطقة0
وتتميز المدن الإغريقية بتقسيمها المنظم، وتسجيل سكانها طبقاً للأحياء التي يقطنونها، ولكل مدينة مجلس شورى، وإن كانت اسكندرية قد حُرمت من هذا الحق مئات السنين تخوفاً من إستقلالهــا عــن روما، فإنه في سنة 200 م قرر الإمبراطور ” سبتميوس سيفيروس ” (193 – 211 م) منح كل عواصم الإقليم المصري تكوين مجالس، فكوَّنت الإسكندرية مجلس الشورى الخاص بها، وسكان هذه المدن يتمتعون بمزايا يحسدهم عليها الآخرون، فيُسمح لهم دون بقية سكـان مصر بشراء أراضي الدولة، والأراضي التابعة لهذه المدن تتمتع بالإعفاء الضريبي، ولا يخضع سكان المدن الإغريقية لضريبة الرأس التي تُفرض على كل مصري بلغ عمره الرابعة عشر عاماً، وأيضاً يُعفون من الخدمات الإلزامية التي تُفرض على المصريين بلا مقابل، ويمكن لسكان هذه المدن الإلتحاق بالجيش الروماني، ولأن أسماء سكان الإسكندرية مُسجَّلة في سجلات الدولة، لذلك ليس كل من يقيم في الإسكندرية يتمتع بالمزايا السابقة0
والإسكندرية هي مدينة العلم والثقافة فالمدارس بمستوياتها المختلفة تنتشر بالمدينة، ويبدأ الأولاد والبنات في الذهاب لهذه المدارس من سن العاشرة يتعلمون مبادئ اللغة اليونانية والحساب وبقية العلوم، وكان التعليم يبدأ بتعلم الحروف الأبجدية ثم الكلمات المكوَّنة من حرفين، ثم ثلاثة، ثم أكثر من ذلك، ثم يدرس الطالب النحو والبلاغة والأدب والرياضة والفلسفة، وتعتبر أشعار هوميروس هي حجـر الزاوية في هذا العصر الروماني، فلو قلت ” الكتاب السادس ” فأنت لست في حاجة أن تذكر أنه من الألياذة، والذي حوى أهازيج النصـر ومراثي أبطال أسبرطة وأغاني المآدب، وبجوار أشعار هوميروس يـدرس المثقفون روايات مناندر، وقصائد كاليماخوس، وروايـات إيسخيلوس، وسوفوكليس، وكوميديا هوبسيكراتس Hypsicrates0
وكثير من المعلمين من العبيد، فليس شرطاً أن يأتي العبيد من بيئة متدنية، بل أن بعضهم كانوا في أشراف القوم ومثقفيه وسقطوا في أسر القراصنة فباعوهم كعبيد، ولذلك كُلف بعضهم بالتدريس، وقام بعضهم بالوظائف الكتابية، وأمسك بعضهم حسابات أراضي وأنشطة أسيادهم فكانوا بمثابة وكلاء لهم، وكثير من الأسياد أُستأمنوا عبيدهم على ممتلكاتهم، ولاسيما إذا كانوا من المسيحيين، فالمسيحيون في منتهى الأمانة0 وقامت بعض السيدات بدور المعلمات، فأرتفعت نسبة التعليم في الإسكندرية، وقلت نسبة الأمية، وتشعر السيدة المتعلمة بالفخر، ففي سنة 263م كتبت السيدة ” لوليان ” إلتماساً إلى والي مصر، جاء فيه “ إنني سيدة أتشرف بأن لدي ثلاثة من الأطفال من ذوي الإمتيازات، وقد مُنحت الحق في التصرف بنفسي والتفاوض دون وكيل قانوني لي فيما يتعلق بما أنجزه من أعمال0 كما أنني أعـرف القراءة والكتابة، وعلى ذلك فإنني فخورة بوجود هؤلاء الأطفال كما أنني غيـر أميـة وأكتـب بيسر وسهولة0 ولذا فأنني ألتمس من سيادتكم.. ” (8)0
وعندما ينتهي الطلبة من التعليم في المدارس المحلية يلتحق المتفوقون منهم بالميزيوم (أو الموسيون Mousion) أي دار المعرفة أو العلوم، وهو بمثابة جامعة أو أكاديمية ضخمة تضم جميع التخصصات، كما يفد الكثيرون من داخل مصر وخارجها ليدرسوا في هذه الأكاديمية، ومن يحضر من خارج الإسكندرية قد يصطحب معه عبداً أو أثنين للإهتمام بإحتياجاته، وطالما شجع ملوك البطالمة العلماء والأدباء، فمنحوهم الإقامة في الميزيوم على نفقة الدولة 0وكانت الندوات الثقافية التي تُقام في القاعة الضخمة المُلحقة بمسرح المدينة يحضرها حاكم المدينة، وأيضاً بعض السيدات المثقفات0 وبالإسكندرية تنتشر المكتبات الخاصة لبيع الكتب المتنوعة، فتجد كتب ” ديوجنيس ” عن الزواج، والخلاص من الألم وفضل الوالدين، وفائدة إستخدام العبيد في المنازل، وتجد محاورات ” أفلاطون ” العشرين، وكتب أشعار ” هوميروس ” ومسرحيات الكوميديا التي ألفها ” مناندرس ” وتجد قواميس يوناني / لاتيني، وكتب مختلفة عن الديانات، وتجد الكتب رواجاً كبيراً في هذه المدينة العظمى، ومنها يعيش النسَّاخ وأصحاب المكتبات، وكثيرون يفدون للإسكندرية لشراء الكتب، فجمع الكتب يدخل في دائرة الزهو والإفتخار.. أما مكتبة الإسكندرية المكتبة الأولى في العالم كله فهي شئ آخر0
والإسكندرية هي مدينة الرياضة ويعتبر ” الجمنازيوم ” من أحد معالم الإسكندرية الهامة، فيضم حلبات المصارعة والملاكمة، وصالات المساج، وساحات الجري، والملعب الرياضي الضخم الذي تزينه الأعمدة، والأروقة العديدة التي تخدم الجهاز الرياضي واللاعبين، فهو المعهد الرياضي الثقافي الذي تمارس فيه الرياضات المختلفة، كما يشغل الوافدون أوقاتهم بمناقشة الأمور العامة، وإمتدت أهمية الجمنازيوم من العصر الإغريقي للعصر الروماني الحالي0
ويحقق الرياضيون شهرة واسعة مع ثروات ضخمة تفوق ثروات الفنانين، فأحد أبطال سباق المركبات حقق خلال 24 عاما نحو مليون ونصف دراخمة، ومن الأسماء اللامعة في سماء الملاكمة ” موروس ” Moros الذي لم يُهزم خلال مائة مباراة فنال المواطنة لأربعة عشر مدينة منها الإسكندرية، وينضم الرياضيون إلى ” جمعية هادريان أنطونيوس المقدَّسة لإبطال الرياضة ” تحت رعاية الإله ” هيراكليس “0
والإسكندرية هي مدينة الفن والمباهج العالية، فإحدى السيدات نصحت صديقتها التي ذهب زوجها إلى الإسكندرية بأن تتزوج، لأن زوجها لن يعود لها ثانية، فأهل الإسكندرية يحبون السهر ليلاً، ولاسيما فترة الصيف، ويتأخرون في الإستيقاظ، وفي الإحتفالات بالأعياد مثل عيد وفاء النيل أو عيد قيامة أدونيس أو عيد ميلاد الإمبراطور أو تنصيبه تضج المدينة بالزحام والصخب وتُقام الحفلات التمثيلية الشعبية والكوميدية والهزلية، وهناك فرق متجولة للموسيقى والرقص والألعاب البهلوانية تجوب شوارع المدينة، وبالإسكندرية صالات للموسيقى وأخرى للرقص ويوجد متخصصون في تصميم الرقصات، وقد زُينت المسارح بأنواع الجرانيت الوردي والرمادي والأسود، والرخام الأبيض والأرجواني الإمبراطوري، والمرمر المستورد من الخارج، وأحد المسارح المشهورة في المدينة صرف في خلال شهرين للممثلين 6000 دراخمة، وبينما يحصل عامل البناء الماهر على أجر يومي 4 دراخمة فإن الممثل في أحد العروض المسرحية أو أحد الأشخاص الذين يلقون أشعار هوميرس يصل أجرهم اليومي إلى أكثر من 400 دراخمة، والممثل الكوميدي غالباً ما يكتب النص لنفسه ويغني ويرقص، ويطوف ممثلوا المسرح المشهورين حول العالم، وينضمون إلى ” جمعية الفنانين العالمية المقدَّسة ” مقابل رسوم تبلغ نحو 250 دراخمة ويتم إعفاء أعضاء هذه الجمعية من الضرائب والخدمة العسكرية والسجـن، وتتم ممارسة الفن تحت رعاية الإله ” ديونيسوس “0
ويجد التمثيل الإرتجالي الضاحك رواجاً في المدينة بين الرجال والسيدات، وسيدات إسكندرية يبالغن في الإهتمام بأنفسهن، ومعظمهن يستأجرن مرضعات لأطفالهن، وأحياناً تقوم الإماء بإرضاع الأطفال، كما أن أجرة المُرضعة قليلة فهي تتساوى مع أجرة العامل غير الماهر، وتتراوح الرضاعة من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، وفي العادة هي سنتين0
وفي الإسكندرية تجد بائعات الهوى اللاتي يدفعن ضرائب كبيرة للدولة، فبينما يدفع العامل الحرفي ضريبة 8 دراخمة على مزاولته المهنة، تدفع بائعة الهوى أكثر من مائة دراخمة، وبعض هؤلاء لا يسلكن ذلك الطريـق الردئ إلاَّ بسبب الفاقة، وعندما أُتهم ” ديوديموس ” بقتل إحدى بائعات الهوى وقُدم للمحاكمة، قالت أمها ” ثيؤدورا “: ” أنه من أجل هذا السبب وافقتُ على إعطاء إبنتي للمسئول عن الماخورة، حتى يكون لي مصدر للرزق أتعيش منه، والآن وقد فقدت مصدر إعاشتي بعد وفاة إبنتي، ولذلك فأنني أطالب بأن يخصص لي وأنا المرأة الفقيـرة مصدر بسيط أتعيش منه ” (9)0 وبينما بعض الفقراء يلقون بأطفالهم في الشوارع، فإن الأغنياء يعيشون في ترف وبذخ يقيمون الولائم الضخمة ولاسيما خلال الإحتفالات بالمناسبات الدينية، والرحمة لا تجد طريقها إلاَّ لقلوب المسيحيين0
(1) د0 محمد السيد محمد عبد الغني – لمحات من تاريخ مصر تحت حكم الرومان ص 161
(2) امرجع السابق ص 329، 330 ومحمد عبد القادر راشد – مدينة الإسكندرية البطلمية وإقليمها ص 202 (رسالة ماجستير)
(3) د0 محمد السيد محمد عبد الغني – لمحات من تاريخ مصر تحت حكم الرومان ص 283
(4) د0 مصطفى عبادي – من الإسكندر الأكبر إلى الفتح العربي 265
(5) نافتالي لويس – ترجمة د0 أمال الروبي – الحياة في مصر في العصر الروماني ص 103
(6) المرجع السابق ص 98
(7) المرجع السابق ص 105
(8) المرجع السابق ص 68
(9) المرجع السابق ص 162