التعداد ع1 – سفر العدد للعلامة أوريجينوس
العظة الأولى
1 ـ ليس كل الناس يستحقون أن يحسبوا ضمن الأعداد الإلهية. لكن يوجد نظام محدد لتعيين الذين يجب أن يكونوا ضمن أعداد الله.
التعداد ـ والتاريخ
سفر العدد يقدم لنا حجة ساطعة، عن هذا النظام، وقد ورد به أنه بناءً على أمر الله، لا تحسب النساء في هذا العدد، وذلك طبعًا بسبب الضعف الأنثوي.
كذلك لا يحتسب أي عبيد بسبب دناءة حياتهم وطبائعهم حتى من المصريين، كما لم يحصَ أحد من الذين قد امتزجوا مع الشعب، لأنهم من الغرباء والبرابرة. ولم يحسب سوى الإسرائيليون وليس الكل، لكن من سن 20 سنة فما فوق، ولا يعمل اعتبار للسن فقط بل يبحث أيضًا لمعرفة ما إذا كان الرجل قويًا لخوض الحرب حيث إن ما فرضته كلمة الله “يحسب كل الذي يسير في القوة”. إذًا لا يُطلْب من الإسرائيلي السن، بل القوة أيضًا. والطفولة لم تحتسب وهي غير معتبرة في التعداد الإلهي، إلا إذا كان الأطفال من ضمن الأبكار أو من أصل السلالة الكهنوتية من سبط لاوى (عد 3: 4)، هؤلاء فقط هم الأطفال الذين قد حسبوا في التعداد دون إدخال سيدة واحدة.
النص بالمعنى الروحي
ماذا نقول؟ لا يمكن أن يكون في هذه الفقرة سر؟ وهل سنكتفي بأن الروح القدس عندما أوحى للكاتب لم يقصد إلا تعريفنا أي جزء من الشعب قد أُحصىَ وأي جزء ظل خارج العدد؟ وما هي الفائدة التي يمكن أن يستخرجها الذين يبحثون لكي يتعلموا من الكتب المقدسة؟ وما الفائدة التي تعود علينا من تعلّمنا هذا؟ وما الفائدة للنفس[2] ولخلاصها من معرفتها بأن جزءًا من الشعب قد أحصى في الصحراء، وأن جزءًا آخر من الشعب لم يحصَ؟
الشروط اللازمة لكي نُحسب أمام الله
إذا تتبعنا مبدأ الرسول بولس نجده يقول إن “الناموس روحي” (رو7: 14). وإذا تفهمنا محتوياته روحيًا، سنستخلص من النص فوائد عظيمة للروح.
القراءة الحالية تعلمني بأنه إذا اجتزت مرحلة سذاجة الطفولة، أي أبطلت ما للطفل من أفكار الطفولة[3]، أي ” لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل” (1كو13: 11)، إذا قلت لقد صرت “حدثًا قادرًا على غلبة الشرير” (1يو2: 13)، سيكون ذلك تأهيلاً لي أن أكون من ضمن الذين ينطبق عليهم المكتوب ” كل الذين يسيرون في القوة في إسرائيل“. وسأكون مؤهلاً للتعداد الإلهي، لكن طالما بقى لأحد من بيننا أفكار صبيانية، متأرجحة أو طالما بقى لأحد من بيننا صفات الضعف والفتور، وإذا سلكنا بطريقة مصرية بربرية[4] لا نستحق أن نكون محسوبين أمام الله في سفر العدد الطاهر والمقدس “لا يحصى عدد” الذين يهلكون كما قال سليمان، وبالعكس الذين خلصوا قد أحصوا جميعًا.
هل تريد الدليل بأن عدد القديسين أحصى أمام الله؟
اسمع ما يقوله داود النبي عن كواكب السماء ” فإن الله هو الذي يحصى كثرة النجوم يدعو كلها بأسماء” (مز147: 4)، ولم يكتف المخلص بتحديد عدد التلاميذ الذي اختارهم، بل قال أيضًا شعور رؤوسكم محصاة “ حيث شعور رؤوسكم جميعها محصاة” (مت10: 3)، وهو لا يريد بذلك أن يقول إن الشعور التي نقصها بالمقص والتى نلقيها في الزبالة، أو الشعور التي تسقط وتموت مع تقدم السن كانت محصاة، ولكن الذين أحصوا أمام الله هم الذين من الناصرة، حيث سكنت فيهم قوة الروح القدس التي سمحت بغلبة الفلسطينيين. قوى النفس وكثرة الأفكار التي تنبع من ملكة الإدراك والفهم، والتي يرمز إليها برأس التلاميذ، هذا ما يسميه النص “بشعور الرأس” ولقد تكلمنا عن هذا الموضوع بطريقة عرضية فلنعد الآن إلى حديثنا.
قوة إسرائيل وقوة الأجانب
2ـ ” وكلم الرب موسى في برية سيناء” قال له ما قد سبق تلخيصه وأمره بأن يحصى من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل من يحسب للقوة في إسرائيل. كل من يحسب “للقوة”، وليست أية “قوة” ليس في قوة مصر، وليس في قوة الآشوريين (الكلدانيين)، ولا في قوة اليونان، لكن الذين هم في قوة إسرائيل سيحصون أمام الله.
توجد فعلاً قوة النفس التي يعلّمها الفلاسفة اليونانيون، ولكن ليس لها صلة مع تعداد الله. وهي ليست لله، لكن تعمل للمجد البشري[5] الباطل. أيضًا توجد قوة الآشوريين أو قوة الكلدانيين الخاصة بالدراسات الفلكية، لكن لم تكن هي القوة الإسرائيلية لذلك ليس لها صلة بالله. توجد أيضًا قوة المصريين ويدّعون أنها أوهام حكمتهم السرية. لكن هذه الحكمة لم تحسب في حسابات الله. القوة الإسرائيلية هي الوحيدة المعتبرة أمام الله، هي القوة التي أعلنت من الله، والتي تلقن من الكتب الإلهية والمنقولة بالإيمان الإنجيلي والرسولى[6] لهذا يقول الرب لا تحصوا إلا “الذين يسيرون في القوة الإسرائيلية”.
التقدم نحو الكمال:
لكن لنفحص أيضًا هذا السؤال:
لماذا لم يحصَ الشعب منذ الخروج من مصر؟[7] وهذا لأن فرعون كان يتعقب هذا الشعب (خر14: 15)، ولم يحصَ بعد العبور عبر البحر الأحمر، عندما وصل للصحراء لأن الإسرائيليين (خر 16) لم يُجرَبوا بعد ولم يهاجمهم الأعداء بعد، لقد حاربوا مع عماليق، وحصلوا على النصر (خر17) لكن لا تكفي نصرة واحدة لشعب يصبو نحو الكمال ويحصلون على طعامهم من المن ويشربون الماء من “الصخرة التي كانت تتبعهم” (خر16: 14)، لكنهم لم يحصوا بعد لأن العناصر الحقيقية للعدد مازالت غير نامية فيهم (خر17: 6؛ 1كو 10: 1). خيمة الاجتماع نصبت، أيضًا وقت التعداد للشعب لم يكن قد آتى بعد، لكن الشريعة قد أعطيت لموسى، وطريقة تقديم الذبائح قد رسمت، طقوس التطهير قد وضعت، والشرائع وأسرار التقديس قد وضعت، حينئذ حسب أمر الله قبل الشعب في التعداد (عد 1: 2). “انقش” أيها السامع، هذه التعاليم على قلبك (انظر أم 7: 3)، من نسختين ومن ثلاث نسخ.
تطلع إلى التجارب التي يجب أن تجتازها ومدى الآلام الواجب تحملها، وبعد كم درجة من التقدم والنمو، ومدى التجارب والمعارك الواجب تحملها والانتصار فيها، حتى يكون الإنسان معدودًا أمام الله. ولكي يعتبر جديرًا بأن يحسب مع الأسباط المقدسة. لكي يستطيع أن يكون مذكورًا في سجلات التعداد بواسطة كهنة الرب، هارون وموسى. يجب عليك أولاً أن تستلم شريعة الله، شريعة الروح القدس، تقديم الذبائح، إتمام التطهير، إتمام وصايا شريعة الروح القدس لتتمكن في النهاية من الانتماء للتعداد الإسرائيلي.
تصنيف المختارين
3 ـ أجد أيضًا موضوعًا كبيرًا للتأمل في سفر العدد هذا وهو موضوع توزيع الأسباط وتمييز الرتب، وتجمع الأسباط، وكل ترتيب المعسكر (المحلة) يشكل لي أسرارًا عظيمة بفضل الرسول بولس الذي علمنا بذور المعنى الروحي.
تصنيف القائمين أو رتب القيامة
فلنتطلع لمعنى الأسرار الموضوعة في حساب التعداد وفي الأماكن المختلفة التي أشير إليها. فنحن ننتظر بثبات قيامة الأموات، اللحظة التي فيها لا يسبق الأحياء الباقين على الأرض الراقدين (1تس4: 14)، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن نفس ساعة مجيء المسيح سيخطف الأحياء في السحب بالروح لملاقاة المسيح في الهواء، وبالتالي سنترك فساد هذا المكان الأرضي الذي هو مسكن الموتى وسنكون كلنا الأحياء والذين رقدوا “في الهواء” كما نادى بولس، والبعض سينتقل إلى الفردوس أو إلى مواضع أخرى مختارة من ضمن منازل الآب الكثيرة (يو14: 2).
ولكن هذه المواضع وهذا المجد الخاص ستعطى حسب استحقاقات وأعمال كل واحد، وكل واحد سيكون في الرتبة التي وضعته فيها استحقاقات أعماله كما يؤكد بولس الرسول قائلا عن الذين يقومون “ كل واحد في رتبته المسيح أولاً ثم الذين هم له” (1كو15: 23)، ومن ثم سيسجل كل واحد حسب المقاييس الروحية فمثلاً سيسجل واحد في سبط رأوبين RUBEN لأنه شابه رأوبين في العادات والطباع والأعمال أو الحياة.
ويسجل آخر في سبط شمعون بسبب طاعته، وآخر في سبط لاوى، لأنه أكمل وظائفه الكهنوتية حسنًا أو حصل فيها على درجة الكمال. ويسجل آخر في سبط يهوذا لأنه يملك في ذاته مشاعر ملوكية، وقد قاد الشعب قيادة حسنة بأفكار عقلانية وعواطف قلبية، وبذلك فكل واحد سيكون شريكًا ومنتسبًا للسبط الذي تميزه به أعماله وطبائعه. سيوجد إذًا رتب عند قيامة الأموات كما نفهم من الرسول، وصورة وشكل هذه الرتب تبدو لي موضحة مسبقًا في كتاب سفر العدد هذا. وحقيقة أن المعسكر (المحلة) يوضع ويرسم بين الأسباط وبعض التجمعات هو مرتبط أيضًا بقيامة الأموات. أما أن تكون ثلاثة أسباط قد وضعت من ناحية الشرق، وثلاثة من ناحية الجنوب، وثلاثة من ناحية البحر (الغرب)، والثلاث الأخيرة نحو الشمال التي تكون “ريح باردة”، وأما أن يكون سبط يهوذا، وهو السبط الملكي، قد أقيم في الشرق من حيث “قد أشرق ربنا”، وأن يشارك يساكر وزبولون، وأما أن يكون العدد ثلاثة منسوبًا لأربعة أقسام المحلة. ومع أن لكل سبط مميزات في وضعه الخاص، ومع ذلك فالكل يدخل تحت عدد الثالوث القدوس.
وأننا نجد دائمًا في الأربعة أجزاء هذه نفس العدد ثلاثة، لأنه قد أحصى باسم الآب والابن والروح القدس دون غيره، سكان أربعة أجزاء العالم الذين يدعون باسم الإله ” ويتكئون مع إبراهيم وأسحق ويعقوب في ملكوت السماوات” (مت8: 11). وهذه وقائع لا يمكن إهمالها. لقد أعطينا هذه البيانات المختصرة للذين يريدون أن يأخذوا لمحة سريعة عن المحتوى الرمزي لكل هذا السفر المقدس، حتى ننتهز هذه الفرصة للوصول إلى المعنى الروحي للموضوع ونتابع أبحاثًا من هذا النوع. أو أيضًا إذا منح الله نوره بأكثر سخاء لكي نصل إلى أبحاث أعظم. أما بالنسبة لي، فإني أجد نفسي عاجزًا فعلاً عن وصف الأسرار المتضمنة في سفر العدد هذا، وليس فقط أسرار سفر العدد بل أني أشعر بنفس الشعور وأكثر حيال الأسرار الكامنة في سفر التثنية.
تقسيم الأرض
لذلك يجب علينا الإسراع لنصل إلى يسوع (يشوع[8])، وليس لابن نون ولكن يسوع المسيح. لكن أولاً يجب أن نضع أنفسنا في مدرسة موسى، فلنتخلص عنده “ من جيل الأطفال” (1كو13: 11)، ثم فلنسر نحو كمال المسيح، فموسى لم يخمد كل الحروب، ولكن يسوع (يشوع) قد أطفأ كل الحروب وقد أعطى السلام لكل الناس. مثلما نتبينه من هذا النص ” واستراحت الأرض من الحرب“[9] (يش14: 15). أرض الميعاد، أرض الميراث ” الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً” (خر23: 3)، قد قسمت من قبل يسوع (يشوع) ” طوبى للودعاء (لأنهم بفضل يسوع) يرثون الأرض” (مت5:5).
هذا التقسيم أيضًا نجده معلنًا بواسطة صور وأمثلة فإنه يجب أن نعرف أن البعض سيحصلون بالتقسيم على الأرض الواقعة وراء نهر الأردن. والبعض الآخر على الأرض الواقعة عن جانب نهر الأردن، هذا أي أنه يوجد ورثة من الدرجة الأولى والثانية وأيضًا الثالثة. وأنه حسب الترتيب سيصير تقسيم الأرض حيث كل واحد ” يجلس تحت تينته وتحت كرمته بدون أن يأتي أحد يعكر صفوه” (ميخا4:4). كل هذه المناظر المصورة من قبل بأسرار فائقة سيعملها الرب المسيح بنفسه في يوم مجيئه، ليس في مرآة ولغز لكن وجهًا لوجه (1كو13: 12)، حسب استحقاقات كل واحد، التي يعرفها هو الذي يفحص القلوب الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. آمين.
[1] سفر العدد يشير هنا إلى القداسة والكمال في نفس الوقت.
[2] إن كل شئ في الكتب المقدسة يحمل فائدة للنفس وهذا مبدأ عام عند أوريجينوس.
[3] تعني: إذا اجتزت الصورة الأولية للحياة الدينية أي مجرد الإيمان التي هي درجة أقل من الحياة الروحية.
[4] أي بطريقة جسدية أو شيطانية حيث أن مصر ترمز إلى الاتكال على الجسد والشياطين. وبربرية تشير هنا إلى العبيد أي المشاعر المنحطة ومن يستعبد لها.
[5] عتاب بلا انقطاع من المسيحيين للفلاسفة اليونانيين من جهة الاعتقاد بأن الفلسفة يمكن أن تستعمل في غاية الإتقان، لكن لا تؤدي للسلام.
[6] حيث إن الكنيسة هي إسرائيل بالحقيقة.
[7] أوريجانوس يلخص هنا التقدم المبين بارتحال العبرانيين، ههنا الكيفية التي بها نستطيع أن نفهم هذه المراحل.
أولاً: خروج من مصر انشقاق مع إبليس، لكن الشيطان (فرعون) مازال متسلطًا على النفس. =
=ثانيًا: عبور من البحر الأحمر ليس للتجربة كما تظهر في العظة 27 لكن ربما لأجل العماد. الدخول في الصحراء، ترسم بداية النسك والتجارب.
ثالثًا: الكفاح ضد عماليق (الشيطان) وهو يعبر عن الأعمال لصالحة.
رابعًا: والصخرة، النفس متغذية من كلام الله وتشرب من الصخرة التي هي المسيح وهذا يمثل العلم.
خامسًا: نصب خيمة الاجتماع، اقتناء الفضائل.
سادسًا: الشريعة (الروحية) المعطاة بالتطهير حسب الشريعة الموسوية، ذبائحهم (صلواتهم).
أخيرًا التبرير الذي يفصل القديس من الجماعة ويعزله عن العالم.
[8] اليونانيون والعبرانيون لا يميزون اسم يسوع عن يشوع، يشوع هو يمثل تمامًا يسوع وهو هنا يرمز للمسيح قمة الكمال، الذي يجب علينا أن نصل إليه خلال أسرار الناموس.
[9] نعم أنه من المؤكد أن أرضنا لا تستطيع أن تستريح من الحرب إلا بواسطة قدرة ربنا يسوع المسيح.