معنى آية: أما أعدائي فاذبحوهم قدامي
سؤال: في مثل الوزنات قال السيد المسيح له المجد “هاتوهم وأذبحوهم قدامي”. أريد تفسير وافي لهذه الأية. وشكرا والرب معكم
سؤال: “اما اعدائي اولئك الذين لم يريدوا ان املك عليهم فاتوا بهم الى هنا و اذبحوهم قدامي” من هم المقصودين هنا كاعداء المسيح حيث البعض يقول انهم الشياطين فهل هذا صحيح ومتى يتم هذا الامر
الإجابة:
حينما نتحدث عن آية من الكتاب. لا نستطيع أن نفصلها عن روح الكتاب كله، لأننا قد لا نفهمها مستقلة عنه.
فلنضع أمامنا روح الإنجيل، ورسالة المسيح التي ثبتت في أذهان الناس. ثم نفهم تفسير الآية في ظل المفهوم العام الراسخ في قلوبنا. ولا ينبغي أن نعتمد على آية واحدة أو جزء من آية، بدون وضع السياق والزمن الذي قيلَت فيه، ومَنْ القائل، ولِمَنْ.. إلخ.
رسالة السيد المسيح هي رسالة حب وسلام: سلام مع الله، وسلام مع الناس: أحباء وأعداء. وسلام داخل نفوسنا بين الجسد والعقل والروح.
ورأينا أيضًا عندما انفعل بطرس وقت القبض على السيد المسيح وأخذ آلة حادة كانت معه وضرب أذن ملخس عبد رئيس الكهنة، كيف انتهره السيد المسيح و”قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ!” (إنجيل متى 26: 52).
وكمقدمة ينبغي أن أقول إن الإنجيل يحوي الكثير من الرمز، ومن المجاز. ومن الاستعارات والكنايات، من الأساليب الأدبية المعروفة.
نعود الآن للسؤال الذي أرسله البعض لنا هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت عن هذه الآية، ولنعرض الآن الجزء المتعلق بالآية كاملًا في إنجيل لوقا الأصحاح 19، حتى نعرف سياق الحديث:
فبعد دعوة زكا العشار، ودخول السيد المسيح بيته، ينتهي الأمر بتوبة زكا العشار، وليس فقط توبته، بل إصلاح أخطاء الماضي كما يتضح من الآيات: “فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: «هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضًا ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (إنجيل لوقا 19: 8-10).
ثم يتم عرض موضوعنا كما يلي:
“وَإِذْ كَانُوا يَسْمَعُونَ هذَا عَادَ فَقَالَ مَثَلًا، لأَنَّهُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ أُورُشَلِيمَ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْحَالِ.
“فَقَالَ: «إِنْسَانٌ شَرِيفُ الْجِنْسِ ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مُلْكًا وَيَرْجعَ. فَدَعَا عَشَرَةَ عَبِيدٍ لَهُ وَأَعْطَاهُمْ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ، وَقَالَ لَهُمْ: تَاجِرُوا حَتَّى آتِيَ. وَأَمَّا أَهْلُ مَدِينَتِهِ فَكَانُوا يُبْغِضُونَهُ، فَأَرْسَلُوا وَرَاءَهُ سَفَارَةً قَائِلِينَ: لاَ نُرِيدُ أَنَّ هذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا. وَلَمَّا رَجَعَ بَعْدَمَا أَخَذَ الْمُلْكَ، أَمَرَ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ أُولئِكَ الْعَبِيدُ الَّذِينَ أَعْطَاهُمُ الْفِضَّةَ، لِيَعْرِفَ بِمَا تَاجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ. فَجَاءَ الأَوَّلُ قَائِلًا: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ رَبحَ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ. فَقَالَ لَهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ! لأَنَّكَ كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ، فَلْيَكُنْ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عَشْرِ مُدْنٍ. ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي قَائِلًا: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ عَمِلَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ. فَقَالَ لِهذَا أَيْضًا: وَكُنْ أَنْتَ عَلَى خَمْسِ مُدْنٍ. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ قَائِلًا: يَا سَيِّدُ، هُوَذَا مَنَاكَ الَّذِي كَانَ عِنْدِي مَوْضُوعًا فِيمِنْدِيل، لأَنِّي كُنْتُ أَخَافُ مِنْكَ، إِذْ أَنْتَ إِنْسَانٌ صَارِمٌ، تَأْخُذُ مَا لَمْ تَضَعْ وَتَحْصُدُ مَا لَمْ تَزْرَعْ. فَقَالَ لَهُ: مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ. عَرَفْتَ أَنِّي إِنْسَانٌ صَارِمٌ، آخُذُ مَا لَمْ أَضَعْ، وَأَحْصُدُ مَا لَمْ أَزْرَعْ، فَلِمَاذَا لَمْ تَضَعْ فِضَّتِي عَلَى مَائِدَةِ الصَّيَارِفَةِ، فَكُنْتُ مَتَى جِئْتُ أَسْتَوْفِيهَا مَعَ رِبًا؟ ثُمَّ قَالَ لِلْحَاضِرِينَ: خُذُوا مِنْهُ الْمَنَا وَأَعْطُوهُ لِلَّذِي عِنْدَهُ الْعَشَرَةُ الأَمْنَاءُ. فَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَمْنَاءٍ! لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي» (إنجيل لوقا 19: 11-27).
إذًا، يتضح من الأمر أن هذا أولًا ليس وصية إلهية، بل مجرد كلام في مَثَل proverb لتقريب المعنى، وليس كلام حرفي.. وثانيًا الكلام جاء على لسان ذلك الإنسان صاحب المُلك، وليس كنص من كلام السيد المسيح نفسه كوصية للشعب أو للتلاميذ.. ولا يوجد حادثة واحدة في حياة السيد المسيح ولا التلاميذ ولا الآباء الرسل ولا ما بعدهم عن تنفيذ هذا الكلام، لأنه حتى أبسط شخص يقرأ هذا الكلام يعرف أنه مجرد مثل ورمز عن العقاب الأبدي في يوم الدينونة بعد نهاية العالم..
فهذا المثل يتحدث بصورة رمزية عن السيد المسيح، الذي صعد إلى السموات ليعد لنا مكانًا (يوحنا 14: 2)، وأعطى لكل البشر “عبيده” وزنات أو ما يجب عليهم عمله، ومسئوليات كل واحد منهم ومواهبه.. وهؤلاء العبيد هم كل البشر بدون استثناء.. لا يوجد أحد لم يأخذ وزنة. غير أن البعض تاجَر وربح، والبعض أهمل وزنته ولم يعمل بها. ثم هناك فترة اختبار على الأرض، يعقبها فترة المحاسبة وفترة المكافأة حسب عمل كل واحد.. ومعظم الأديان -على الأقل اليهودية والمسيحية والإسلام- تؤمن بمبدأ الثواب والعقاب، والملكوت (أو الجنة عند البعض) والنار الأبدية أو جهنم للأشرار..
فإن كان هذا هو إيمان هذه الأديان، فلماذا بعض الأخوة المسلمون يستخدمون هذه الآية كأنها معادلة لآيات الجهاد الإسلامي ضد الكفار؟! هذا يدل أولًا على عدم الدراية الكافية بالدين المسيحي، ولا طبيعة الله في المسيحية أن “اللهَ مَحَبَّةٌ” (رسالة يوحنا الرسول الأولى 4: 8، 16)، وأننا نحب الجميع، ولا نجاهد ضد أحد، بل نجاهد لأجل الناس في خدمتهم لكي يعرفوا الله عز وجل.. ونجاهد ضد سلطان الخطية خلال علاقة كل إنسان مع الله، ولا ندين أحدًا أو نحكم عليه.. بل نحب الجميع، بغض النظر عن السن أو العقيدة أو التوجه الطائفي أو الدين أو حتى اللادين..
هذا من جانب، ومن جانب آخر، العقاب الأخير هذا هو من صلاحية الله وحده عزّ وجل، فالله وحده هو “الدَّيَّانُ الْعَادِلُ” (سفر المكابيين الثاني 12: 5، 41؛ رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس 4: 8)، وحتى الحديث الشريف على لسان رسول الإسلام محمد يتحدث بما معناه: “لا يأتي يوم القيامة إلا وينزل بينكم عيسى بن مريم حكمًا عادلًا وإمامًا مقْسِطًا”، والدينونة هي حق الله وحده.. فكل البشر الذين رفضوا بخطاياهم أن يملك المسيح عليهم، سيدانون أمام مجده يوم الدينونة، ويذبحون أي يموتون، ليس مرة واحدة بل يعانون الموت والعذاب إلى الأبد في النار الأبدية. ومن ضمن هؤلاء المُدانين اليهود الذين رفضوا المسيا الذي أتى في انتظار لرجل سياسي يجعلهم سادة العالم.. فقد نال -الذين لم يؤمنوا منهم- بالفعل عقاب رفضهم للسيد المسيح، مرة من خلال لعنتهم الأبدية بقولهم «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا» (إنجيل متى 27: 25)، ومرة من خلال مجيء الرومان الذين حاصروا بلادهم وذبحوا الغالبية العظمى منهم ودمروا الهيكل، وأسروا البقية الباقية من فلولهم، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى.. فعاشوا مُستعبدين مشردين منبوذين معزولين في كل مكان وفي كل زمان، وسيظلون هكذا إلى أن يقفوا في نهاية الزمان أمام الإله الديان فيقضي عليهم كما يقضي على جميع الأشرار بالهلاك الأبدي. هذا طبعًا لغير المؤمنين منهم، حيث آمن بالفعل الكثير من اليهود وقت السيد المسيح مثل التلاميذ وكثير من المؤمنين الجدد كانوا يهودًا، وأيضًا يؤمن البعض منهم عبر العصور، وسيتوب الكثير منهم في نهاية الأيام، وهي إحدى علامات نهاية العالم حسب إيماننا المسيحي..
فمن جانب هذا مَثل رمزي عن علاقة الإنسان بالله والحياة على الأرض ونهايتها والثواب والعقاب، ومن جانب فقد كان به جزء نبوي عما حدث لرافضي المسيا المعاصرين له..
لقد أعطاك الله أمانة مثل باقي أولاده، فليتك تكون أمينًا في وقتك وقدراتك ومواهبك، وتعلَّم من المجاهدين حولك، حتى تتحمس مثلهم فتختبر عشرة الله على الأرض، ثم تفرح بالأكثر في السماء.. فمحبتنا لله والحياة معه ليست هي هربًا من العقاب الأبدي، بل “نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلًا” (رسالة يوحنا الرسول الأولى 4: 19)، وكما تقول الترنيمة: “إني أحب الرب لا لأربح النعيم، ولا لكي أنجو من العذاب في الجحيم”..