الخطية الجدية في فكر الأب غريغوريوس بالاماس – د. أنطون جرجس عبد المسيح
الخطية الجدية في فكر الأب غريغوريوس بالاماس[1]
الخطية الجدية
لقد كانت الخطية الأولى هي العائق الأساسي بين الإنسان والله إلى جانب القيود الضرورية في كل مخلوق. كتب بالاماس: ”نحن نحمل في أنفسنا صور اللوغوس المستقرة في داخل العقل المبدع“. وهكذا تُعتبر هذه الصور بمثابة المرأة الداخلية التي نستطيع بها إدراك الله عن طريق مخلوقاته. ثم يتساءل: ”ولكن لماذا أثبتت تلك الصور من البداية بأنها دون تأثير؟ أليس بسبب الخطية، وبسبب الجهل واحتقار الوصايا الإلهية أيضًا؟ لماذا نحتاج التعليم لرؤية هذه الصور، بالرغم من أنها منقوشة في داخلنا؟ أليس لأن الجزء الشهواني في النفس المتحمس لارتكاب الشر قد أفسدها؟ أليس لأنه قد أطاح بقدرة النفس على الرؤية، وأبعدها عن جمالها الأول؟“.[2] حيث فضَّل الإنسان السعادة الأنانية التي كانت نفسه هي هدفها بدلاً من السعادة في محضر الله؛[3] وهكذا كسر الصوم الذي أوصى الله به للحفاظ على خلوده (عدم موته)،[4] وسقط البرقع منذ ذلك الوقت على نفسه (2كو3: 13-16)، وتشوَّشت الرؤية الإلهية.[5]
وهكذا تجرَّد آدم من شبه الله بعصيان الوصية الإلهية، بالرغم من احتفاظه بالصورة الإلهية.[6] وقد رأينا أن هذا الشبه في المخطَّط البالاماسي -التصور الديناميكي- كان نتيجة النعمة الإلهية الخاصة، أو بالتحديد أكثر، تتمثل في شركة الإنسان في الحياة الإلهية. وهذا هو ما فقده الإنسان بخطيئته، وكانت النتيجة المباشرة له هي الموت، لأنه ”لله وحده عدم الموت“ (1تي6: 16).
يبدو من الضروري لفهم الفكر البالاماسي بخصوص الخطية والموت، التحليل السليم لاستعماله لكلمة ”طبيعة“ (φύσις). لم تكن ’الطبيعة‘ بالنسبة له عبارة عن تصور استاتيكي (ثابت)، بل ينبغي اعتبارها دائمًا في حالة أو في أخرى من حالتيها الوجودية. حيث كانت تشير في حالتها قبل السقوط إلى الحياة في الله التي خُلِقت لأجلها، بالرغم من أن حياتها لم تكن حياتها الخاصة، بل حياة الله، وكانت هذه بالأساس هي الحالة الطبيعية ’للطبيعة‘؛ ولكنها تُرِكت بعد السقوط وتجردها من هذه الحياة للاعتماد على قواها الذاتية فقط، أي الحالة المضادة بالأساس لمصيرها، وتورطت في الموت. أيّ حالة من هاتين الحالتين كانت حالة الإنسان ’الطبيعية‘؟ يمكن للمرء أن يرى في الحال موطن اختلاف هذه الآراء -التي صاغها بالفعل مكسيموس المعترف في الأساس- عن آراء ’النعمة‘ و ’الطبيعة‘ التي تطورت بعد ق. أوغسطينوس في الغرب.
الخطية والموت
من ناحية، يؤكد بالاماس على امتلاك النفس الإنسانية للحياة بحسب الجوهر (κατ ούσίαν) وبحسب الطاقة (κατ ένέργειαν)، لأنها لا تحيي نفسها فقط، بل تُوصِّل الحياة إلى الجسد؛ وهذا هو اختلافها الأساسي عن النفس الحيوانية التي تمتلك الحياة فقط بحسب الطاقة بمثابة وظيفة الجسد الذي تجعله حيًا، وهكذا تبقى على قيد الحياة.[7] من ناحية أخرى، يؤكد بنفس الدرجة بوضوح على ’موت‘ النفس نتيجة الخطية، مشددًا على التناقض الظاهري بين خلود النفس ’الطبيعي‘ وموتها الفعلي. ”النفس المنفصلة عن عريسها الروحي […] التي سلَّمت نفسها للسعادة والحياة في الملذات هي نفس ميتة، بالرغم من أنها لا تزال باقية على قيد الحياة (ζώσα τέθνηκε) لأنها غير مائتة في جوهرها“.[8] وهكذا يظهر هذا التصور عن موت النفس كثيرًا في كلام غريغوريوس كموضوع محوري لتعليمه عن الإنسان وروحانيته؛ إنه ليس كلام رمزي بأي حال من الأحوال، بل بالأحرى موت حقيقي، والدلالة الحقيقية على ذلك هي الانفصال عن الله بسبب الخطيئة: ”بعد عصيان جدينا في الفردوس […] دخلت الخطية إلى الحياة، وصرنا نحن أنفسنا أمواتًا، ونقاسي قبل الموت الجسدي موت النفس، أي كما يمكن القول انفصال النفس عن الله“.[9] وعندما تترك النفس الجسد، وتنفصل عنه، يموت الجسد؛ كذلك عندما يترك الله النفس وينفصل عنها، تموت النفس، بالرغم من بقائها خالدة بمعنى آخر“؛[10] أي ”الموت الأبدي للنفس الخالدة“ (θάνατος αιώνιος τής άθανάτου ψυχής) ؛[11] ولكن كما سنرى، يمكن للمعمودية فقط أن تخلصنا من هذا الموت. أمَّا بالنسبة إلى غير المعمدين، فتظل نفوسهم مائتة.[12] بل يجعل موت النفس هذا -بالرغم من أنه لا يتبع الموت الجسدي مباشرةً- الموت الأخير حتمي لا مفر منه على كل المرضى الذين يلازمهم هذا الموت. ”صارت نفس آدم من وقت الخطية إلى الموت […] لأنها فصلت نفسها عن الله؛ ولكنها بقت على قيد الحياة بالمعنى الجسدي لمدة تسعمائة وثلاثين سنة (راجع تك5: 3، 4)، ولكن الموت الذي قاسته النفس بالعصيان؛ لم يجعل النفس فانيةً والإنسان ملعونًا فقط، بل جعلت جسده أيضًا خاضعًا لآلام وشرور كثيرة، وجعلته فاسدًا“.[13] لذا كان موت النفس هذا -الذي وازنه ”قيامة النفس“ في المعمودية- كارثةً أنطولوجيةً (وجوديةً) ضربت آدم بعد السقوط. فهل كان ’خلوده‘ محفوظًا على الرغم من ذلك بحسب تأكيد بالاماس؟ نعم، ولكنه كان حالة أسوأ من الموت. ”خبأ آدم وحواء نفسيهما من الخزي والعار عريانين ومجردين من المجد الذي تدين حتى الأرواح الخالدة بحياتها إليه، وهكذا تصير بدونه حياة الأرواح أسوأ بشدة من ميتات كثيرة“.[14]
لقد كان بالاماس في كل ذلك أمينًا بالكامل للمفهوم الكتابي عن الموت، الذي لم يكن أي شيء آخر سوى شبه وجود في مكان قاتم أو في الجحيم،[15] الذي يمكن لله وحده أن يخلصنا منه. فالله وحده له عدم الموت، وهكذا كان الإنسان غير مائت في الفردوس بسبب الشركة في الحياة الإلهية.
يُشدِّد بالاماس عادةً على حقيقة أن قصد الله هو إعداد مثل هذا الخلود للإنسان. وكانت نار الجحيم معدةً للشيطان وليس للإنسان وهكذا كان لا بد أن يقبع البشر هناك مع الأبالسة بحرية إرادتهم.[16] حيث يكتب: ”لم يخلق الله فقط الموت، بل جعله مجردًا من الكينونة […] لذا وجد في حكمته وصلاحه وسيلةً لمنع الموت عن الإنسان، وفي نفس الوقت يحفظ له حرية إرادته“؛ وبالتالي تُرِكَ للإنسان حرية الاختيار بين الحياة والموت.[17] فحرية الإنسان بحسب بالاماس هي في قلب كينونته نفسها؛ وهي التي تميِّز في الأساس الكائن ’العاقل‘ عن الحيوانات. كما يتساءل بالاماس: ”هل هناك فرق كبير بيننا وبين الجرذان؟“. ”أليس جسدنا هذا مخلوقًا من نفس المادة؟ أليس طعامنا واحد؟ ولكننا نتفوق في حد ذاتنا بالملكة العقلية في روحنا“. ولكنه يستطرد قائلاً: ”لأيّ استعمال نستخدم هذه الميزة العقلية، لو لم تتضمن القدرة على الاختيار والقرار الحر؟ وكيف يمكن للمرء أن يكون حرًا ويمتلك القدرة على الاختيار؛ إن كان المرء عاجزًا عن اختيار الشر لحساب المرء؟“.[18]
وهكذا أختار آدم وحواء بحرية كاملة الطريق الذي يفصلهما عن الله، ويحرمهما في الوقت نفسه من الحياة. لم يكن الحكم الذي أدانهما وجعلهما تابعين لإبليس عملاً ظالمًا، بل النتيجة المجردة والحتمية لاختيارهما.[19] بالرغم من محاولة الله في رأفته وتحننه للحفاظ على حريتهما لأجلهما، ولهذه الغاية آجَّل موتهما الجسدي لكي ما يكون لديهم الوقت لاختيار طريق الحياة بحرية عن طريق التوبة،[20] وبالتالي الإعداد إلى مجيء المسيح.
كيف انتقل الموت إلينا؟
تساءل بالاماس بوضوح -مؤكدًا هكذا على أن الخطية الأولى كانت مسئولية آدم الشخصية- سؤالاً حول كيفية انتقالها إلينا.[21] ولماذا يجب على المنحدرين من آدم المعاناة من نتائج خطية لم يقوموا بارتكابها؟ أجاب (بالاماس) على هذا السؤال بحسب الرأي العام السائد عند الآباء اليونانيين الذي نادى بأن خطية آدم لم تكن خطية جماعية مشتركة للجنس البشري، بل كانت مثل بعض الفساد في الطبيعة البشرية. لا تظهر مسئولية البشر الشخصية في الصورة إلا بقدر تشبُّههم بآدم؛ وميراثهم الطبيعي الوحيد منه هو الفساد (φθορά) والموت؛ الذي يقودهم بدوره إلى الخطية، وبالتالي يشترك البشر في نوع من الدائرة الشريرة من الموت والخطية. ولذلك يشير بالاماس في أحد عظاته إلى ”عصياننا الأصلي لله“، و ”خطيتنا الجدية في الفردوس“،[22] ولكنه عندما يأتي للإجابة على السؤال حول مسئوليتنا الفعلية عن الخطية بأكثر دقةً، يقول إنها عن خطايانا الشخصية حتى لو كانت أكثر جسارةً من خطية آدم التي ينسبها إليها: ”هناك كثيرون يتهمون آدم بإطاعة المشير الشرير باحتقاره للوصية، وبالتالي نقل الموت إلينا بهذا الاحتقار. ولكنه لا تُشبِه الخطورة الشديدة من مشيئة تذوق الغرس المميت قبل تجربته مشيئة الآكل الذي نعرف جميعًا بالتجربة إنه مميت! ولكن الإنسان الذي أخذ السم عن قصد يستحق اللوم أكثر […] وبالتالي يستحق كل واحد منا اللوم والإدانة أكثر من آدم […]“.[23] لذلك ما أخذناه من آدم هو الموت وليس الذنب؛ فهذا الذي يشدد عليه غريغوريوس بتعبيرات قوية قريبة جدًا من تعبيرات ق. كيرلس الإسكندري: ”غُلِبَ آدم، وأخضع نفسه بإرادته، وهُزِمَ، وصار فانيًا؛ وولدنا نحن الأغصان المائتة باعتباره جذرًا لجنسنا […]“.[24] وهكذا انتقل الفساد بالوراثة في الحقيقة إلى الجنس البشري كله.[25] لذلك تجسَّد الله بحسب بالاماس ليخلصنا من الموت الموروث، وليس بسبب خطيئة آدم؛ حيث كان الغربي يقول felix Adae cupla (يا لا غنى خطيئة آدم)، بينما كان بالاماس ينادي قائلاً felix mors (يا لا غنى الموت). وهذه هي كلماته بالضبط: ”لو لم يصر جنسنا المنحدر من أصل غير مائت قبل الموت، ولو لم يوجد الموت، فلن نغتني بباكورة الخلود، ولن نصير مدعوين إلى السماء، ولن تصير طبيعتنا ممجَّدة فوق جميع الرئاسات والقوات (أف1: 20-21)“.[26] بإمكان الولادة البشرية الطبيعية أن تنتج الفساد فقط،[27] لأن الإنسان ”الذي لم يعد يعيش بحسب الله، يمكن القول بأنه لم يعد يمتلك شبه الله، ولا يمكنه ولادة أشخاص تُشبِه الله، بل تُشبِهه هو نفسه، تشيخ وتخضع للفساد“.[28] ”فالشكر لله، حتى لو كان الزواج لا عيب فيه، إلا أن الطبيعة تظل دائمًا حاملةً لآثار الدينونة“.[29] ”المسيح هو الإنسان الوحيد الذي لم يُحبَل به بالإثم، ولم يُولَد بالخطيئة (راجع مز51: 5)“؛[30] ”إذا كان مولودًا من البذرة، فلن يكون إنسانًا جديدًا، ولن يستطيع اتخاذ كمال الألوهية في ذاته دون أية شائبة؛ لأنه لم تُصِبه الوصمة القديمة وارثًا السقوط“.[31] فهو الوحيد القادر على تدشين جنس بشري جديد، يعبر الإنسان إليه بالولادة الجديدة في المعمودية.
[1] هذا الجزء هو ترجمة من كتاب
John Meyendorff, A Study of Gregory Palamas, Trans. By George Lawrence, (USA: The faith Press St. Vladimir’s Seminary Press, 1974), p. 121-126.
[2] Tr. 1, 1, 3.
[3] Tr. 1, 3, 32.
[4] Hom. 6, col. 81c.
[5] Tr. 1, 3, 47.
[6] Cap. Phys. 39, col. 1148B.
[7] Ibid., 30-32, col. 1140D- 1141A.
[8] Ibid., 45, col. 1153A; cf. Hom. 31, col. 389D (cf. 1 Tim5: 6).
[9] Hom. II, col. 125A; cf. Cap. Phys. 36, col. 1148B; 51, col.1157CD; cf. Hom. 13, col. 157C; Hom. 16, col. 208A; Hom. 32, col. 409CD.
[10] Hom. 16, col. 196A; To Xene, col. 1048C.
[11] Hom. 34, col. 424D; To Xene, col. 1048A.
[12] On Participation to God, Coisl. 99, foi. 23.
[13] To Xene, col. 1048C; cf. 1049AD.
[14] Cap. Phys. 48, col. 1156C.
[15] Cf. Hom. 16, col. 196A.
[16] Hom. 4, col. 60C.
[17] Hom. 31, col. 388D; cf. Hom. 29, col. 369C.
[18] Hom. 41, col. 517AC.
[19] Hom. 16, col. 198C; Hom. 25, col. 324B.
[20] Hom. 22, col. 289AB; Hom. 31, col. 389A, 392A; Hom. 39, col. 492C.
[21] For an interpretation by The Greek Fathers of The Crucial Pauline passage on Original Sin (Rom. 5: 12), See S. Lyonnet, Le sens de έφ ώ en Rom. V, 12 et l’exegese des peres grecs, in Biblica 35 (1955), pp. 436-456; J. Romanides, Original Sin according to St. Paul, in St. Vladimir’s Seminary Quarterly, Vol. IV, Nos. 1-2, 1955-1956, pp. 5-28.
[22] Hom. 31, col. 388C.
[23] Cap. Phys. 55, col. 1160D-1161A.
[24] Hom. 52, ed. Oikonomos, p. 121.
[25] Hom. 5, col. 64B.
[26] Cap. Phys. 54, col. 1160D.
[27] Hom. 16, col. 192C.
[28] Hom. 54, ed. Oikonomos, p. 186.
[29] Hom. 43, ed. Oikonomos, p. 22.
[30] Hom. 16, col. 192C.
[31] Hom. 58, ed. Oikonomos, p. 230.