Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

الخطية الأصلية ما بعد أوغسطينوس في الغرب – د. أنطون جرجس عبد المسيح

الخطية الأصلية ما بعد أوغسطينوس في الغرب – د. أنطون جرجس عبد المسيح

الخطية الأصلية ما بعد أوغسطينوس في الغرب – د. أنطون جرجس عبد المسيح

 

الخطية الأصلية ما بعد أوغسطينوس في الغرب

(دراسة لاهوتية في اللاهوت اللاتيني والمدرسي حتى مجمع ترنت 1546م)

 

المقدمة

تُعد هذه الراسة هي الأولى من نوعها في مجال البحث الكنسي القبطي المعاصر، حيث تتناول هذه الدراسة موضوع الخطية الأصلية فيما بعد أوغسطينوس في الغرب اللاتيني.

وتحاول هذه الدراسة تتبع وتحليل مفهوم المعلمين الكنسيين الغربيين الذين جاءوا بعد أوغسطينوس للخطية الأصلية، وكيف انقسموا إلى فريقين، أحدهما مؤيد للرؤية الأوغسطينية والمفهوم الأوغسطيني للخطية الأصلية بكل ما يحمله من معاني ومفاهيم، وفريق آخر معارض للنظرة الأوغسطينية الصارمة للخطية الأصلية، وهذا الفريق بدأ ينحو نحو النصف بيلاجية في سبيل تخفيف النزعة الأوغسطينية الحادة والصارمة في تعليمه عن الخطية الأصلية.

وتناولت هذه الدراسة أيضًا مفهوم اللاهوت المدرسي للخطية الأصلية، والنعمة، وحرية الإرادة، ممثلاً في أعلامه أمثال: جون سكوت إريجينا، وأنسلم رئيس أساقفة كانتربري، وتوما الأكويني، وجون دنس سكوتس، وويليام أوكام.

وهكذا تُختتم هذه الدراسة باستعراض ما آل إليه التعليم عن الخطية الأصلية والنعمة في مجمع ترنت اللاتيني 1546م، وكيف مال المشاركون في هذا المجمع المسكوني الكاثوليكي إلى النظرة النصف بيلاجية عن النظرة الأوغسطينية الحادة للخطية الأصلية.

أصلي إلى إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح أن تكون هذه الدراسة سبب بركة واستفادة واستنارة لكثيرين، بصلوات وطلبات القديسة العذراء مريم والدة الإله، وصلوات أبينا وراعينا البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية.

د. أنطون جرجس عبد المسيح

القاهرة – نوفمبر 2022

 

 

الخطية الأصلية ما بعد أوغسطينوس في الغرب

لقد كان الدعم الذي تلقاه أوغسطينوس في الغرب، فيما يتعلق بعقائد العجز التام، والنعمة الجبرية، وسبق التعيين المطلق، أبعد عن أن يكون بالإجماع. ولم يذهب مجمع قرطاجنة العام أبعد من توضيح أن سقوط آدم هو الذي جلب الموت، وأنه ينبغي تعميد الأطفال من أجل مغفرة الخطية المستمدة من آدم، وأن النعمة تعمل داخل النفس معطيةً العون المطلوب لمنع الخطية، وأن الكمال بلا خطيئة صعب الوصول إليه في هذه الحياة.

وهكذا نما إلى علم أوغسطينوس في عام 426م أو 427م أن الرهبان في دير أدروميتم Adrumetum في شمال أفريقيا انقادوا إلى اليأس في بعض الحالات، وتحولوا في الحالات الأخرى إلى التساهُّل والتهاون مع الذات بسبب تعليمه عن العجز البشري والنعمة الجبرية. فأرسل إليهم كتابين من أجل إصلاح هذه الشرور.[1] حتى جيروم، الذي كان مؤيدًا للقضية الأوغسطينية، لم يتخل عن اعتقاده ببقاء الحرية في الإرادة، ولم يتبن حقيقةً عقائد الانتخاب المطلق والنعمة الجبرية.

وإنه لحقيقة بارزة في التاريخ العقيدي أن فينسنت الليرنزي Vincent of Lerins كتب كتابه (الأول) الجامع Commonitory (عام434م) على سبيل الاعتراض غير المباشر على آراء أوغسطينوس هذه، الذي أوضَّح فيه معايير العقيدة الكاثوليكية (الجامعة). وهكذا تم إعلان هذه المعايير بأنها تراثية وعالمية. ويساوي هذا القول بأن هذا هو الإيمان فقط، والعقيدة الكاثوليكية أو الأرثوذكسية المقبولة دائمًا، في كل مكان ومن الجميع – Semper, ubique et ab omnibus.

وكان هيلاري، أسقف أرل Arles، من بين المعارضين الهادئين والمعتدلين، الذي قد عاش في دير ليرن Lerins. أما عن يوحنا كاسيان فقد كان من أبرز المعارضين. لأنه قد تعلَّم في الشرق، وكان مؤسس ومرشد دير مارسيليا. يرتبط اسمه بنوع من التعليم اللاهوتي الذي يُلقِّبه الباحثون باسم ”النصف بيلاجية“، ولكنه، كما قد قيل، قد يكون معروفًا أيضًا باسم ”النصف أوغسطينية“. حيث أعتقد بميل القلب إلى الخطية، والحاجة إلى عمل النعمة الداخلي، لأن الإنسان قاصر في نفسه.

ولكنه لم يعتقد بأن هذا الميل الموروث للشر هو ذنب بالمعنى الصحيح، بل أكَّد على القوة الباقية والفعل المتآزر للإرادة البشرية في التغيير، وبالتالي، أقر بسبق التعيين المشروط. نما تزايد هذه التحركات إلى علم بروسبر أسقف أكويتانيا Prosper of Aquitania وهيلاري آخر، علماني، فكتب أوغسطينوس مقالتين للدفاع عن آرائه.[2] وكتب هذان الصديقان في نفس الجانب، وهكذا استمر الجدال بعد نياحة أوغسطينوس. حيث أوضَّح بروسبر Prosper رأي أوغسطينوس بشأن سبق التعيين باعتدال دؤوب.

وكُتِبَ بنفس الروح عمل مجهول عن دعوة الأمم،[3] يُميِّز بين النعمة العامة والنعمة الخاصة -لقد كان العمل الأخير فقط مؤثرًا. وهناك عمل آخر مجهول بعنوان ”سبق التعيين“ Predestintus، يستعرض العقيدة بصورة أبسط، وربما قام بتأليفه نصف بيلاجي بمثابة كاريكاتير وجزء من الهجوم. لقد كان فاوستوس أسقف ريجيوم Faustus of Rhegium في النصف الأخير من القرن الخامس مُدافعًا قديرًا عن العقيدة النصف بيلاجية.

وهكذا تراجع أحد خصومه -كاهن اسمه لوسيديوس Lucidus، كان مدافعًا قويًا عن سبق التعيين- عن آرائه في مجمع أرل Arles عام 475م. كما هاجمت المقالة[4] التي كتبها فاوستوس بيلاجيوس (سبق التعيين) بنفس الطريقة، حيث وُصِفَ بأنه مُهلِك ومُضلِّل المدافعين عن سبق التعيين.

اندلع الجدال النصف بيلاجي من جديد عن طريق تشابك غريب للظروف. حيث كان هناك أساقفة من شمال أفريقيا منفيين في سردينيا Sardinia وكورسيكا Corsica، من بينهم فيلجينتيوس أسقف نوميديا Fulgentius of Numidia. وأشار بوسيسور Possessor -أسقف أفريقي- في عام 519م في مناظرة مع الرهبان السكيثيين Scythian فيما يتعلق بصيغتهم المؤلمة لله Theopaschite، إلى فاوستوس كمرجعية في صفه أثناء النقاش.

لذا سعى الرهبان إلى حكم ضد أرثوذكسية عمله، ولم ينالوا موافقة هورميسداس Hormisdas أسقف روما (عام 514-553م)، فتحولوا إلى الأساقفة المنفيين. وهكذا دُفِعَ فيلجينتيوس إلى تأليف سلسلة من الكتب للدفاع عن سبق التعيين الأوغسطيني.

ظهر آخرون من نفس الجانب في جنوب غالة Gaul، بما فيهم قيصريوس أسقف أرل Caesarius of Arles، على الرغم من ذلك، لم يُعارِض مجمع فالنس Valence في عام 529م الرأي النصف بيلاجي. ولكن بمناسبة تدشين كنيسة عام 529م في أورانج Orange بمقاطعة أرل، وافق مجمع مُكوَّن من أربعة عشر أسقفًا، بما فيهم قيصريوس، على مجموعة أقوال مُقتبَسة من أوغسطينوس وبروسبر، واعتنقوا عقيدة إضافية.

حيث أكَّد المجمع على ضرورة النعمة المانعة (الوقائية)، وضرورة النعمة في كل مرحلة من مراحل تجديد النفس، وأكَّدوا على أن النعمة غير المُستحَقة تسبق الأعمال الصالحة، وأن الصلاح كله، بما في ذلك محبة الله، هو نعمة إلهية، وأنه حتى الإنسان غير الساقط بحاجة إلى النعمة. ولم ينكروا فقط سبق التعيين للخطية، بل وعدم وجود تأكيد على الانتخاب المطلق أو النعمة الجبرية. علاوة على ذلك، يُقال عن الإرادة الحرة أنها ”ضعفت“ في آدم، ويتم تجديدها بنعمة المعمودية.

إذًا، العقيدة هي عقيدة مضادة للبيلاجية، ويبدو واضحًا حرمان العقائد النصف بيلاجية جزئيًا فقط. وهكذا صادق الأسقف الروماني بونيفاس الثاني Boniface II على ذلك.[5]

بعد مجمع أورانج Orange،[6] أصبحت النظرية الأوغسطينية عن الطبيعة البشرية -على الرغم من رفضها في الشرق- لفترة من الزمن التعليم المقبول في الكنيسة الغربية، ولكنها -كما قد رأينا-[7] لم تحظى بالقبول التام، ولم يتم التمسك بها كليةً، حتى من أولئك الذين أدَّعوا بأنهم من أتباعها ومؤيديها.

الحقيقة أن الجزء العملي (التطبيقي) من أنثروبولوجيته، أي ذلك الجزء الذي تناول فساد الجنس البشري، وعمل النعمة في تجديدها، قَبِلَه وعلَّم به آباء القرنين الخامس والسادس الأكثر تقوى، مثل: ليو (لاون)،[8] وغريغوريوس،[9] وآباء القرنين الثامن والتاسع، مثل: بيدا[10] Bede، وألكوين[11] Alcuin، بينما الجزء التأملي الذي تناول تعليم سبق التعيين (الاختيار) تم التغاضي عنه وتجاوزه غالبًا في صمت.

حيث نتج عن جهود السلطات الكنسية للتخفيف من حدة مبادئ أوغسطينوس، والتراجع العام في الرغبة والقدرة على الاشتباك، أو استيعاب المشكلات المنطقية والتأملية، القبول العام للاهوت أخف في النبرة، وبعيد تمامًا عن الأوغسطينية الجامدة المتشددة، الذي أصبح أكثر أو أقل تطابقًا مع الموقف الشبه بيلاجي.

في الواقع، اجتذبت النصف بيلاجية Semi-pelagianism دائمًا فئة هائلة من العقول، ليس فقط بسبب سمتها الأقل تأملاً بوضوح، وصمتها فيما يتعلق بالأجزاء الأكثر صعوبةً من تعاليم الخطية الأصلية، وحرية الإرادة، بل وأيضًا بسبب مقاومتها للنظرية الأوغسطينية عن سبق التعيين (الاختيار)، وبسبب تمهيدها للتعليم عن التجديد بعنصر التآزر (السينرجيا) Synergism البشري والجهاد العملي.

ولكن على الرغم من الإحلال التدريجي للأوغسطينية بالنظرية شبه البيلاجية عن التجديد التآزري (التعاوني) Synergistic ورؤيتها الأقل حدةً عن الشر الموروث، ولكنها هدأت حتى عصر الإصلاح، إلا أنه كان هناك بعض الأشخاص أثناء الفترة المدرسية الذين دافعوا عنها [أي عن الأوغسطينية] بكل حدتها المتطرفة. لقد كان هؤلاء في الأساس هم جوتشالك[12] Gottschalk، وبطرس اللمباردي[13] Peter Lombard، وبيدا Bede، وأنسلم[14] Anselm، وبرنارد[15] Bernard، والأكويني Aquinas.

وأثناء انتصار آراء أوغسطينوس في الغرب، كان من المفهوم ضمنيًا أن نظريته عن سبق التعيين ذهبت بعيدًا جدًا، لذا تغاضى مجمع أورانج Orange عن هذا التعليم في صمت. بل يمكن اعتبار هذه الطريقة في تناول التعبير غير المقنع عن علاقة الله بالإنسان أنها طريقة نهائية، وهكذا أرجأت ببساطة البحث والبت في المشكلة إلى وقتٍ لاحقٍ.

جوتشالك Gottschalk ومقاومة هينسمار Hincmar لآرائه عن سبق التعيين في مجمع كويرسي Quiercy

اندلع الجدال من جديد في القرن التاسع. جوتشالك هو راهب غالي Gallican، كان تلميذًا مخلصًا لكتابات أوغسطينوس، وكان أول مَن جلب هذه المشكلة المبهمة والصعبة إلى الصدارة مجددًا بإقراره لتعليم سبق التعيين (الاختيار) بكل حماسته وطاقته قدر استطاعته. ولكنه كان رجلاً عنيدًا ذا آراء ضيقة وطاقة محدودة.

أكَّد بشدة بعد خبرة شخصية ليست بأقل من خبرة أوغسطينوس على عقيدة سبق التعيين بكل ما أؤتي من قوة وثبات، بعد حياة ماجنة، ولكنه أهمل تمامًا جميع الجوانب الأخرى الأساسية والموازية لتعليم أوغسطينوس، وحصر نفسه في هذه السمة التي أعطاها اهتمامًا خاصًا.

وفي حماسه لعقيدة سبق التعيين، ذهب جوتشالك إلى لغة أبعد من اللغة المعتادة التي سمحت الكنيسة بها في هذا الصدد، والتي كانت أن الأبرار سبق تعيينهم مسبقًا، بينما الأشرار مجرد معروفين مسبقًا، ولكنه استخدم مصطلح ”المعيَّنين مسبقًا“ على الفئتين معًا، وهكذا مهَّد الطريق لنظرية سبق التعيين المزدوج duplex praedestinatio، أي النظرية القائلة بإشارة سبق تعيين الحياة بصورة منطقية أيضًا إلى سبق تعيين الموت، وأصبه هذا الأمر الركيزة الأساسية في الخلاف.

وهكذا تمثل الأسس الخمسة التالية تعبيرات جوتشالك عن العقائد الأساسية كالتالي:

تناول وأدار الجدال هينسمار[17] Hincmar رئيس أساقفة رييم Rheims من ناحية، وريمجيوس Remigius رئيس أساقفة ليون Lyons من ناحية أخرى، وعلى الرغم من إثارة الجدل بشدة لمدة سنتين (849- 850م)، إلا أن النتيجة كانت بعيدة كل البعد عن أن تكون مرضية أو حاسمة، جزئيًا بحكم الحالة الضعيفة للعلم اللاهوتي والميتافزيقي (ما وراء الطبيعة) آنذاك..

كما أخفق المجادلون في الوصول إلى جذر المشكلة، وكانوا مهتمين فقط بمجر نقاش ولغو صوتي، وجزئيًا أيضًا بسبب عزوف أنصاف البيلاجيين الغاليين تمامًا عن تقديم تنازلات فيما يخص العقيدة، مما قد تسبب في مثل هذا الاستياء في الماضي، والذي صمتت عنه المجامع، لأن الأوغسطينيين كانوا رافضين لأي تغيير في صيغهم ومصطلحاتهم، أو التزحزح قيد أنملة عن حدة آرائهم.

ونتيجة لذلك، على حد قول موزلي Mozley،[18] لم يقدم هذا الجدل مادةً أكثر قيمةً للباحث اللاهوتي. ومع ذلك، أول شيء يُصدِّره -على الرغم من أنه يستحيل القول بأنه قد قام بتسوية النقطة بصورة مرضية- أنه لفت انتباه الكنيسة في الأخير إلى السؤال حول هل يمكن تطبيق سبق التعيين على معاقبة الأشرار، وهل يمكن الحديث حقًا عن سبق تعيين البشر للموت.

وهكذا أحضر هينسمار Hincmar جوتشالك في عام 849م أمام المجمع في كويرسي Quiercy، الذي حرم وأدان آرائه، وأصدر إعلانًا مضادًا بتعليم يحصر سبق التعيين للخير فقط، ويؤكد على أنه عندما يتعلق الأمر بالشر، فهناك فقط العلم السابق في دائرة الله. وبالتالي، تم الإقرار بسبق التعيين للحياة، وتم رفض سبق التعيين للعقاب. وميَّز هينسمار Hincmar بين حياة الإنسان في حالته الآثمة، التي ستكون نتيجتها الحتمية هي العقوبة، وبين سبق تعيينه إلى هذه العقوبة.

سكوتس إريجينا Scotus Erigena ومجمع كويرسي Quiercy الثاني

جاءت المحاولة الوحيدة المبنية على حجة علمية والمساهمة القوية الوحيدة في الفكر اللاهوتي أثناء هذا الجدل من سكوتس إريجينا[19] Scotus Erigena، الذي دخل القوائم بدعوة من هينسمار، وكتب مؤلفًا ضد جوتشالك وأنصاره. حيث أقام حجته على الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، ونادى باستحالة التمييز بين سبق التعيين وسبق العلم، لأنهما واحد ونفس الشيء، وأنه لا يمكن في الله إلا أن يكونا واحدًا، ولكنهما يتعلقان بالخير فقط، ولا يتعلقان بالشر، وأن هذا الشر هو مجرَّد عدم أو سلب (الخير).

فلا يمكن لله أن يتوقع أو يفرض شيء لا وجود له. فالخطية -كما علَّم أوغسطينوس نفسه- هي مجرَّد انتفاء الصلاح، والعقوبة هي انعدام المسرة؛ وبالتالي، يستحيل وجود سبق تعيين أو سبق معرفة بهذه السوالب (العوادم). وهكذا أنكر سكوتس بهذه الطريقة بناءً على أسس علمية سبق التعيين المزدوج الذي نادى به جوتشالك وريمجيوس Remigius.

وبالتالي، أصدر مجمع كويرسي Quiercy الثاني في عام 853م أربع قرارات غالبًا نصف بيلاجية في لغتها، ورفض سبق التعيين المزدوج، وأكد على التجديد الكامل لحرية الإرادة بنعمة المسيح.

وكانت فحوى القرارات هي كالتالي: (1) يسقط الإنسان بسبب سوء استخدامه لإرادته الحرة.

(2) أختار الله بعلمه المسبق البعض الذين بنعمته، سبق فعينهم للحياة، والحياة لهم.

(3) أما بالنسبة لهؤلاء الذين تركهم بحكمه الصائب في حالتهم الضالة، لم يسبق أن عيَّنهم للهلاك.

(4) فُقِدَت حرية الإرادة بالسقوط، ولكن تمت استعادتها في المسيح.

(5) هناك حرية إرادة للخير، إذا ساندتها وحصَّنتها النعمة، علاوة على وجود حرية إرادة الشر، إذا فارقتها النعمة.

(6) أخيرًا، يريد الله خلاص جميع البشر، وقد تألم المسيح لأجل الجميع، لذلك هلاك هؤلاء الهالكين هو بسبب خطيتهم فقط.

وعلى الرغم من إضافة هذا المجمع برئاسة هينسمار فقرة خاصة[20] تفيد بإمكانية الحديث فقط عن سبق التعيين الأحادي، المتعلق سواء بعطية النعمة، أو بالقصاص العادل، إلا أنه بعد ذلك بقليل، سوف نجد أن هينسمار نفسه يكتب مقالة أعترف فيها بسبق التعيين المزدوج، بمعنى أنه بينما يتم سبق تعيين الأبرار للحياة، والحياة هي لهم، ويتم سبق تعيين العقوبة للفاسقين، إلا أنه لا يتم سبق تعيينهم مسبقًا له [أي للهلاك]. فهم مجرد محرومين من الله.

وهكذا توقف الجدال بهذا العمل، ومات جوتشالك بعد حالة مزرية جدًا في السجن في عام 869م، متمسكًا بعقيدة سبق التعيين للموت حتى النهاية، على الرغم من حرمان هذا التعليم الآن كتعليم هرطوقي. وهكذا انتهت الكنيسة اللاتينية من هذه النقطة -على الرغم من الحفاظ على اسم أوغسطينوس في أعلى مكانة- عامةً بواحدة أو اثنين من الردود الجديرة بالملاحظة إلى الموقف النصف بيلاجي.

 

 

أنسلم الكانتربري ومحاولة إرساء ”اللاهوت الطبيعي“

لم يكن هناك أية مساهمة إيجابية حتى القرن 11 من أجل الدفاع عن الأنثروبولوجي [التعليم عن الإنسان] الأوغسطيني؛ الذي فَقَدَ مصداقيته إلى حد ما، ولهذا نتحوّل إلى أنسلم، الذي كان رئيس الأساقفة لإيبارشية كانتربري غير المعروفة آنذاك. فلم تنجب الكنيسة منذ زمن أوغسطينوس نفسه معلمًا بمثل هذه السماحة والقوة مثل أنسلم، أو إنسانًا كان تأثيره على العصور اللاحقة تأثيرًا كبيرًا كذلك.

لقد وُصِفَ بأنه مؤسس ”اللاهوت الطبيعي“، الذي نفهم منه بأنه اللاهوت الذي حاول دعم الأرثوذكسية بمساعدة الفكر الفلسفي. لذا من الأفضل تلخيص بإيجاز قدر المستطاع محاولات أنسلم من أجل حل ميتافزيقي (فوق الطبيعة) للمشاكل الصعبة حول الخطية والإرادة الحرة. إنه من الصعب تمييز آراء أنسلم في موضوع الخطية الأصلية عن آراء أوغسطينوس.

ولكنه يمتلك بعض المميزات الخاصة به هو شخصيًا. فعلى سبيل المثال، يشير إلى أن خطايا الأجداد الآخرين غير آدم لا يمكن إلصاقها بذريتهم؛ لأنه لم يرتكبها إنسان يُمثِّل أو يحوي في ذاته كل الطبيعة البشرية. علاوة على أن خطايا آدم الشخصية اللاحقة لا نشترك فيها كذنب إضافي خاص بنا، ولا تؤثر في النسل إلا في كونها نماذج أخرى للخطية العامة (خطية الجنس) التي قد ارتكبها، بينما لا يزال ممثلاً عن البشرية كلها. بل تُنسَب هذه الخطية فقط إلى جميع البشر، والتي قد ارتكبها البشر جميعًا.

التمييز بين الفرد والجنس كنظرية للخطية الأصلية عند أنسلم

يسعى أنسلم أيضًا بلا شك إلى توضيح العلاقة الوثيقة بين الفرد والجنس، ولإثبات أهمية هذه العلاقة لأي نقاش حول لزوم الخطية، وتخصيص الذنب. فآدم لم يخطئ كفرد واحد فقط، بل كجد للجنس البشري كله. لقد كان نسله موجودًا فيه، ليس كأفراد كثيرين مميزين، بل بجوهرهم [أي بطبيعتهم]، سواء الروحي والجسدي، كانوا كامنين وموجودين فيه بذريًا، وطبيعتهم مساوية لطبيعته في الجوهر. لذا أفسدت خطية آدم -على الرغم من أنها تعدي فردي (شخصي)- الطبيعة البشرية كلها، التي كانت لا تزال كامنة وموجودة فيه.

لذا أفسد الفرد بفعله الواحد الجنس؛ لأن الجنس كان في ذلك الوقت موجودًا ومتضمنًا في الفرد. ولكن تعمل العملية العكسية في نسل آدم. وهنا يُفسِد الجنس الفرد. ولا يمكن أن يهرب الفرد المولود في العالم من الفساد الشامل؛ بسبب فساد وانحراف الطبيعة التي يشترك فيها بالضرورة، ولا يمكنه بسبب هذا الانحراف تجنب ممارسة الخطية كفرد. وهكذا يؤكد أنسلم بهذه الطريقة على حتمية الخطية الفعلية في الفرد، ولم يضع الله على عاتقه هذه الحتمية، بل اشترك بعلاقته الحتمية في الجنس الخاطئ الذي يُعتبر أحد أعضائه.

وبالتالي، للإيجاز، يوضح أنسلم أنه كما في حالة آدم، أفسدت المعصية الفردية أو الخطية الفعلية الطبيعة، وصارت مسئولةً عن الخطية الأصلية، كذلك في حالة النسل، تُفسِد خطية الطبيعة الفرد، وهي مسئولة عن المعصية الفردية أو الخطية الفعلية. وينتج عن ذلك، أنه في حالة آدم، يقع ذنب الطبيعة؛ أي ذنب الخطية الأصلية، على عاتق ذنب الفعل الفردي، ولكن في حالة النسل، يقع ذنب الفعل الفردي حقًا على عاتق ذنب الطبيعة، أو الخطية الأصلية. وهكذا قد أفسد آدم بفعل إرادته الخاصة الطبيعة البشرية، وجلب على نسله جميعًا الميل للخطية.

ويقع ذنب نشأة تلوث (دنس) هذا الجنس صراحةً على تعدي آدم الفردي (الشخصي). ولكن يقع أبناء آدم في حالة مختلفة عن والدهم الأول. فنحن جميعًا أعضاء فرديين في الطبيعة البشرية المشتركة (العامة)، ولكن لا يمثل أي أحد منا الطبيعة البشرية ككل، ولا يحتوي أي أحد منا على الطبيعة ككل في ذاته. لذا خطايانا الفردية هي مجرد مظاهر وتعابير عن الفساد الموروث. إنهم نتيجة الخطية الأصلية والولادة من طبيعتنا الملوثة (الدنسة).

لذا ذنب الخطية الفعلية يمكن إلى حد ما محوه وإزالته من الفرد، ويُوضَع على عاتق طبيعتنا البشرية المشتركة (العامة). بمعنى آخر، لا ينبغي البحث عن مصدر وأصل الخطية الفعلية في الحياة أو الخبرة الفردية، بل في وحدة الجنس في آدم. فالفرد فاسد بسبب الطبيعة التي نشترك فيها ونأخذها من آدم. ونتيجة لذلك، يقع ذنب الفرد -الواقع تحت الحتمية الوخيمة لممارسة الخطية- على عاتق ذنب الطبيعة، ولكن يشترك الفرد حقًا في ذلك، كما أكد أنسلم بالفعل.

وبالتالي، من الواضح أن مصدر الخطية الأصلية في نظام أنسلم هو الوجود في الوحدة الأصلية للجنس البشري. وهكذا قد نشأت الخطية -بصفتها أساس شرير- منذ بداية التاريخ الإنساني. وبالتالي، لو تم إنكار الوجود التاريخي لآدم وحواء، ورفض تعليم السقوط المُفسَّر حرفيًا، فحينئذ تسقط كل نظرية أنسلم عن الخطية الأصلية الموروثة على الأرض. حيث تشير الخطية الأصلية بالنسبة له إلى نائب أصلي، ولا بد أن يكون هذا النائب الأصلي إنسانًا واحدًا، يحوي في ذاته الجنس البشري كله غير المتأقنم (المشخصن)، والطبيعة البشرية كلها دون توزيع (تخصيص).

وهكذا تُرِكَ التغيُّر في الطبيعة الأخلاقية الناشئة بسبب انحراف آدم ورائه كميراث لا مفر منه، يُسلَّم من جيل إلى جيل. وبالتالي، لا بد أن يُولَد الفرد بالخطية؛ لأنه مولود من الطبيعة البشرية، وبسبب انتقال الخطية الأصلية من الأب إلى الابن تمامًا مع جميع الخصائص الأخرى الثابتة في الطبيعة البشرية، متدفقةً في تيار لا ينقطع عبر جميع البشر -ما عدا في حالة ربنا [يسوع المسيح] فقط الذي حُفِظَ بمعزل عن سلوك الولادة الطبيعية بسبب ميلاده المعجزي وغير الطبيعي.

نظرية أنسلم عن حرية الإرادة

يتم التعبير عن آراء أنسلم بخصوص هذا الموضوع في مقالته ”عن حرية الإرادة“ De Libero Arbitrio،[21] التي تأخذ شكل حوار بينه هو شخصيًا وبين تلميذه. وهكذا يبدأ بمناقشة معنى حرية الإرادة. حيث يوضح التعريف القديم[22] أن حرية الإرادة تتمثل في ”القدرة على ممارسة الخطية وعدم ممارسة الخطية“، فيصرح [أنسلم] أن هذا التعريف غير كافٍ تمامًا، على أساس أنه يمنع الحرية الأخلاقية عن الله وعن الملائكة، الذين لا يستطيعون ممارسة الخطية في الوقت الحالي.

فلا تمثل القدرة على ارتكاب الخطية الحرية: بل على العكس، إذا كانت هذه القدرة مرتبطة بالإرادة، فلا بد من أنها تحدَّ بالضرورة من حريتها، طالما أن استحالة فقدان الشيء تعطي حرية في امتلاك هذا الشيء بشكل أكبر منه عندما توجد إمكانية فقدانه.

ولكن إذا كانت القدرة على ممارسة الخطية لا تمثل جوهر الحرية، فلا يمكن أن تكون الخطية حتمية -لأنه يستحيل وجود طريق وسط بين الفعل الإرادي والفعل الإجباري. لا، لا ينبغي اعتبار الخطية أنها حتمية، بل إنها مجرد إمكانية. لقد كانت إمكانية، ولم تكن أكثر من ذلك سواء مع الملائكة الأشرار، كما كانت مع آدم. وبالتالي، لقد كان لديهم القدرة على فقدان حالتهم المقدسة، تمامًا مثلما يمتلك الرجل الغني القدرة على التخلي عن ثرواته، ولكنه من الخطأ الاعتقاد بأنهم يفقدون حريتهم تمامًا بفعل ذلك.

بل من الحقيقي أن الإنسان قد صار عبدًا للخطية، ولكنه لم يفقد قدرة الإرادة خاصته. فلازالت إرادته موجودة، وتظل كل خطية مُرتكَبة فعلاً إراديًا للإرادة. ولكن هل يمكن الحديث عن الإنسان بصفته نائبًا إراديًا؟ أليس مُجبرًا على الخطية بسبب القدرة الهائلة للشهوة على الإرادة، وبسبب ضعف إرادته بواسطة الخطية الأصلية؟ لا، ليست حقيقة؛ لأن الله أعطى الإنسان القدرة الكاملة للحفاظ على حالة البر الأصلية خاصته، إنْ أراد فعل ذلك، واستخدم هذه القوة.

فحقيقة فقدانه لبره الأصلي قد جعلت الإنسان بطريقة ما تحت ذنب حتمية ممارسة الخطية، ولكن هذا الشيء مختلف عن القول بأنه نائب إرادي. وبالتالي، يُميِّز أنسلم لتوضيح ذلك بين قدرة الإرادة وفعل الإرادة. فالسابقة هي الوسيلة، والأخيرة هي مجرد استخدام الوسيلة. لأن الإرادة كقوة لا تُقهَر. ولا يمكن أن تصير خاطئة ضد اختيارها. فمن ناحية أخرى، نحن نجد عادةً باستخدامها أن الإرادة مسلوبة القوة بسبب سوء استخدام القوة (الملكة) الأصلية. وبالتالي، يمكن أن تكون الإرادة مُستعبَدة وحرة في نفس الوقت.

ولكن لا ينشأ استعبادها من عملية الخلق، بل فقط من حقيقة أنها حرمت نفسها من الرباط الأصلي للبر. وهكذا لا تُغيِّر حقيقة أنها الآن لا تستطيع أن تساعد على ارتكاب الخطية، حقيقة عدم وجود ضرورة لها بسبب فقدانها لقداستها الأولى، وإنْ كانت لم تقم بفعل ذلك، فبالتالي لن يمكنها الاستمرار بسهولة في الطريق السليم، وليست مُجبَرة بأي شكل من الأشكال عليه. ولكنها لازالت بمعنى ما إرادية، لأن الإنسان يعجز عن ارتكاب الخطية؛ إنْ كان الفعل مصنوعًا ضد إرادته. فالغواية ليست أكثر جبرًا مما يكون عمل الروح القدس فينا.

وبالتالي، يشير أنسلم هنا إلى أن النهاية الحقيقية وغاية الإرادة ليست في الاختيار بين الخير والشر بلا مبالاة، بل اختيار الخير فقط. فالله قصد أن يريد الإنسان فعل الصواب، وليس أي شيء آخر. ولهذا السبب، أعطى الخالق الإنسان البر الأصلي بدلاً من إعطاءه مجرَّد شخصية محايدة أو عديمة اللون. لم يكن من المتوقع أن يُوجِد الإنسان الصلاح: بل كان عليه مجرد قبوله والحفاظ عليه. ولكن بما أنه قد خُلِقَ قديسًا، فبالتالي لم يكن هناك استحقاق أكثر في صلاحه. لأن هذا يمكن اكتسابه فقط عن طريق شيء ما كان هو نفسه صانعه.

وبالتالي، إمكانية فقدان حالة البر هذه كانت كائنة داخل قوته، لكي ما يفوز بالحفاظ عليها عن طريق الفعل الإرادي بالمديح الذي يتبع فقط فعل التقرير الذاتي. لذا من الخطأ القول بأن قصد الخالق من جهة الإنسان هو أنه ينبغي عليه امتلاك الاختيار بين الخير والشر، وهكذا تشكَّلت حرية إرادته في هذا الاختيار. فالهوى ليس حريةً. بل قصد الله أن يريد الإنسان اختيار الصواب، أو بالأحرى، الحفاظ على هذه الحالة المقدسة التي خُلِقَ بها؛ أي يجب عليه امتلاك حرية إرادة البر.

ولكن إنْ كانت حرية الإرادة كامنة بالكامل في الإنسان، وليست فرضًا عليه، فلا بد من وجود احتمالية طريق بديل؛ أي حرية إرادة ممارسة الخطية. ولكن يتم إثبات أن هذا الطريق كان مجرد إمكانية، وليس شيئًا أكثر من ذلك في الحالة، من خلال حقيقة أن الإنسان باختياره هذا البديل كان عليه اختراع الخطية.

فالخطية لم تكن استمرارية، بل تدشين (بداية) للحالة. لقد كان على الإنسان أن يصبح مخترع الخطية. حيث تُثبِت حقيقة أنه فعل ذلك، أن اختيار الخطية كان عملاً (نشاطًا) ذاتيًا. لقد كانت [الخطية] إرادية تمامًا. لا بل الأكثر من ذلك، لقد كانت انحراف إرادي عن المسار والمصير الذي كان في قصد الله للجنس البشري.

لذا يحاول أنسلم أيضًا التمييز بين الطواعية والحرية. حيث يقول إن الحرية الحقيقية هي اختيار الخير وليس الشر. يمكن للإنسان اختيار فعل الشر طواعيةً (إراديًا)، ولكن إنْ فعل ذلك، فإنه بذلك يتوقف عن أن يكون حرًا بالحقيقة. أما إذا استمر في البر، فيكون بذلك مريدًا وحرًا، وعندما يترك الطريق السليم، فيكون بذلك مريدًا، ولكنه لم يُعد حرًا فيما بعد.

علاقة الله بالخطية في نظام أنسلم هي مجرَّد أمر من السماح. فالعلاقة السببية الإلهية الوحيدة فيما يتعلق بمصدرها هي الحقيقة السلبية بعدم منع الله لها. لأن منعها من جانبه سيكون بمثابة القضاء على حرية الإرادة في الإنسان، وجعله فاعلاً لا إراديًا (مُسيَّرًا)، آلة تسير على الدوام في طريق واحد، لأنها لا تستطيع مساعدته. وهكذا يكون حق تقرير المصير في هذه الحالة غير موجود في الطبيعة البشرية، وهكذا يكون العزم الذاتي للإنسان نحو الصواب هو الشيء الوحيد الذي قصده وأراده الله للجنس البشري فوق جميع الأشياء الأخرى.

وبالتالي الملاحظة الأساسية في أنثروبولوجية أنسلم هي مصطلح ”إرادي“. لقد كانت الخطية الأصلية هي تخلي إرادي عن البر الأصلي بسبب الإرادة الذاتية للطبيعة البشرية، ولكنها لازالت حتى الآن موجودة في آدم، ومازالت غير متأقنمة (مشخصنة) حتى الآن. فالخطية الفعلية هي التكرار الإرادي لاختيار الشر هذا بسبب الإرادة الذاتية للطبيعة البشرية المُوزَّعة والمتأقنمة (المشخصنة). وبالتالي كل عملية من أولها إلى أخرها هي عملية إرادية.

وهكذا يستمر أنسلم بالنظر إلى أصل ومصدر الخطية بفحص طبيعتها. وهنا يتخلى عن آراء السابقين عليه، ويرفض الرأي القائل بأن الخطية هي عدم أو سلب. لقد علَّم سكوتس إريجينا Scotus Erigena، مثله مثل أوغسطينوس، بأن الخطية هي انعدام الصلاح. ولكن يعزو أنسلم إليها وجودًا إيجابيًا، بل ويُعرِّفها بطريقة جديدة نوعًا ما.

حيث تتمثل الخطية بالنسبة له في إهانة الله. لقد كان هناك الكثير من النقاش حول إدخال أنسلم لكرامة الله في اللاهوت. فما الذي يقصده بقوله إن الإنسان الخاطئ يسرق من الله كرامته Deum exhonorat؟ يقصد أنه عندما نخطئ، فإننا نقوم بأكثر من مجرَّد التعدي على قانون أو مبدأ: بل نحن نجرح شخص؛ نحن نسيء إلى الله. فالذي لا يستطيع تسديد دَّين الحياة المقدسة لله؛ أي الكرامة التي من حقه، فإنه يسلب من الله شيء ما خاص به. ويمكننا الحديث عن إنسان كهذا بأنه يسيء حقًا إلى الله.

ولكن يذهب أنسلم إلى أبعد من ذلك. فالخطية في ضوء ذلك عبارة عن شيء يطلب الله ترضيةً لأجله. لأنه قد تم التعدي على كرامته. وقد تم ارتكاب جريمة في حقه. العدل يطالب، والعناية الإلهية تطالب بتقديم التعويض. وبالتالي هذا هو رأي أنسلم عن الطبيعة النيابية (البدلية) للكفارة. ولأنه ينبغي العقاب على الخطية، لذا تألم المسيح بدلاً عن الخطأة. ولقد كان تقديم ذبيحته وسيلةً لإرضاء الله الذي أؤسِيَ إليه بشدة. لذا موت المسيح هو بديل عن عقوبة الإنسان كترضية تامة عن الخطية.

نقد نظرية أنسلم

يُعد أنسلم شخصية مهمة جدًا في تاريخ الفكر المسيحي، لذا يستحق لبعض الوقت أن نذكر ما يبدو أنه مميزات وعيوب نظريته.

ميزتها الأساسية هي امتلاكها للإحساس الشديد والعميق بخطورة الخطية. لم يستنكف أنسلم أبدًا من الإصرار على جسامتها. لقد أعتقد الناس في عصره أن الجميع كانوا في حالة جيدة، إذ قُدِّمَت ترضيةً عن الخطية. واعتقدوا أنه بإمكانهم القيام بذلك من دون جهد مضني للغاية. حتى أنهم اعتقدوا أنه بإمكانهم في بعض الحالات دفع الآخرين لتقديم الترضية عنهم.

ولكن الميل في يومنا هذا للتفكير في الترضية هو أمر غير مجدي. لأن العصر الذي احتضن العلم الطبيعي لا يميل إلى التقليل من جسامة الخطية -التقليل من شأنها إلى حد الوراثة، وإلى الظروف المحيطة، وإلى الدوافع الطبيعية، التي سوف تتفاقم في الوقت المناسب، وتصبح غير مهمة للغاية على كل حال.

يعود إلى أنسلم الفضل في التعريف بأن الخطية تخلق مساءلة غير محدودة، ينبغي مواجهتها بترضية غير محدودة، ولن يكون من الجرأة الشديدة القول بأنه لا يوجد تعريف عن الخطية يُعبِّر عن خطورتها وعن طبيعة الحالة البائسة الناتجة عنها يكفي حقيقة الخطية؛ لأنها تظل واضحة في الضمير المسيحي. وهكذا يقف العهد الجديد ويقين كل إنسان مُفكِّر في مواجهة جميع هذه الآراء الناقصة داعمًا لأنسلم في قوله: ”لا يمكن التفكير في ثمن ثقل الخطية“ “Nondum considerasti quanti: ponderis sit peccatum”.

الميزة الأخرى لأنسلم هي معالجته للسؤال المزعج عن حرية الإرادة بمثل هذه الطريقة التي يمكن بها تجنب ممارسة العنف سواء إلى قداسة الله، أو إلى حقيقة الشر. بمعنى آخر، إنه أول لاهوتي يحاول حل مشكلة الثيؤديسيا Theodicy [أي الدفاع عن الله وتبرئته من فعل الشر]، على الرغم من ذلك، قد يكون حله غير مقنع تمامًا، ولا يشمل الخلفية الكاملة.

تنهار ثيؤديسيه [أي دفاعه وتبرئته لله عن فعل الشر] بسبب فشله في تفسير سماح الله بالشر في العالم بصورة مقنعة، وتفويضه للقوة على جعله حقيقيًا، كما هو الحال أيضًا في تمييزه المصطنع جدًا بين ما هو ”حر“، وما هو ”إرادي“. وهكذا يُثبِت الفشل الواضح لمربط الفرس هذا أن الحل الحقيقي لمشكلة الشر لا يمكن إيجاده مطلقًا على طول هذه السياقات.

وهناك عيب لايزال خطيرًا للغاية في نظام أنسلم ألا وهو إحيائه للنظريات الأوغسطينية القديمة الفاقدة للمصداقية. لأنه إنْ كان آدم موجودًا قبل السقوط في حالة البر الأصلي، فيتعذر تفسير خطيته. وبالتالي تبتعد هذه النظرية كثيرًا جدًا عن تبيان أو تفسير أصل الخطية، لدرجة أنها ببساطة تُبعِده إلى الوراء أكثر، وتجعل من الصعب اكتشافه. لذا كان المدرسيون اللاحقون أكثر قربًا في الحقيقة، بل ويقتربون أكثر من الآراء الحديثة في وصفهم لحالة آدم الأولى كسالب أو محايد، واعتباره قادرًا على التحول سواء في اتجاه الخير أو الشر.

كما تُعتبر نظرية أنسلم عن الخطية الأصلية غير منطقية أيضًا من ناحية التفاوت الواضح الذي تعتقد بوجوده بين معصية آدم الأولى والمعاصي التالية له هو شخصيًا، وللبشر الآخرين. حيث تُثبِت تجربة الحياة أن المخالفة الأولى، على الرغم من أنها قد تكون فاصلة، إلا أنها أقل فداحةً من التكرارات اللاحقة. وهكذا يوضح أنسلم أن الأمر في حالة آدم لم يكن أكبر فقط، بل أكبر إلى درجة غير محدودة ومفجعة على الإطلاق في نتائجه.

إذًا، مرةً أخرى، لقد ناقشنا مغالطة الربط بين الخطية الأصلية والذنب الشخصي في الفصل السابق. وبالتالي أية محاولة للربط بين الجنس البشري ورأسه هي محاولة خيالية تمامًا، وعند الحكم عليها بحكم المنطق السليم، فلا بد من أنها ستكون ناقصة. فالذنب يمكن التكهن فقط بأنه فعل إرادي وفردي واحد. ولكن مازال أنسلم يذهب إلى أبعد من ذلك بشأن عدم الإقرار بأن الخطية الأصلية تشمل كل إنسان في ذنبه الشخصي فقط، بل أن الذنب الموروث كذلك أيضًا أعظم من الذنب المترتب على الخطية الفعلية.

عيب آخر عند أنسلم هو معالجته لموضوع الكفارة معتمدًا فقط على موت المسيح، وكأنه شيء منفصل عن حياته ومثاله القدوس -رأي لا يمكن إثباته. أمَّا فيما يتعلق بموت المسيح كبديل وتعويض عن عقوبة الخطية، فإنه ينسب بذلك التعسف والاستبداد لتعامل الله مع الإنسان، الذي يُعد شيئًا بشعًا بالنسبة لمفهومنا عن العدل.

نقد آخر ينبغي إقراره عن إشارة أنسلم المتكررة إلى الخطية كجريمة مُوجَّهة لكرامة الله. قد تكون كذلك، إذا كنا نعتقد حقًا بأن مثل هذا الفكر يمكن أن يدخل على الإطلاق إلى قلب الآب في السماء، فلا يوجد إله آخر صار معروفًا لدينا إلا في المسيح. يُضخِّم أنسلم تمامًا بحسب ذهنية عصره من تسامي الله، إنْ كان في الواقع يُضخِّم حقًا منه لدرجة أنه يَعتبره واقفًا في وضع الحاجة إلى تبرئته والدفاع عنه. لقد علَّم المسيح عن المحايثة (الملازمة) الإلهية، أو بكلمات أخرى، المحبة الإلهية. فالخطية تُحزِن، ولكنها لا تُحزِن الله.

عندما يضع أنسلم أصل الخطية بالكامل في الإنسان، فيبدو أنه قد نسى أن كل فرد لا يبدأ بمجرد اختيار الفعل، بل يبدأ بمثل هذه الظروف، الخارجية والداخلية، إذ يجعل هذا الاختيار اختيارًا صعبًا للغاية. فلماذا يضع الله في مثل هذا الموقف الخطير؟ لأنه لنفس السبب، يرسل الأب المحب ابنه إلى المدرسة، حيث يوجد خطر محدق دائمًا من أنه قد يتعلم الشر بدلاً من الخير. وهكذا يفعل الله ذلك -مثلما يفعل الأب- لأنه لا توجد طريقة أخرى يمكن للابن بها اختيار الخير بدلاً من الشر إلا بالوقوف في موقف يمكنه فيه اختيار الشر بدلاً من الخير.

 

توما الأكويني (1227- 1274 م)

اللاهوتي التالي الذي صنع تطورًا حقيقيًا نحو فهم التعليم عن الخطية كان توما الأكويني، الذي -كونه دارسًا متعمقًا للفلسفة- طبَّق تعليم أرسطو على المسيحية، وأسس نظرية عن الطبيعة البشرية مبنية على نسق الفيلسوف الأخلاقي اليوناني العظيم. لقد كان إسهامه في اللاهوت متقدم بشكل مميز عن أي شيء آخر قد تحقق من قبله.

ولكن، للأسف، كان الأكويني عاجزًا عن إزاحة نفسه بحرية متحررًا من قيود الأوغسطينية، وقيَّد بحثه من البداية بتأسيس نظامه الجديد معتمدًا على تعليم الأب الأفريقي الكبير بكل حدته الصارمة. لذا أخفق بسبب محاولته مع المستحيل. وأخفق بسبب سعيه للمصالحة بين رأيين في الطبيعة البشرية متناقضين ومتضاربين في الأساس.

ولكن إنجاز الأكويني كان يستحق الجدارة، وبسبب هذه الميزة، أصبحت الخلاصة Summa دليلاً لكثيرين من لاهوتي العصر الوسيط، ويمكن القول بأنها تعكس الفكر اللاهوتي في العصور الوسطى. لذلك، في البداية، تحتاج آرائه عن موضوع الخطية للفحص.

توما الأكويني والخطية الأصلية

العائق الكبير الذي ينبغي على كل نظام أنثروبولوجي مواجهته في البداية هو موضوع أصل الشر. وهكذا يعطي الأكويني ثلاث شروحات معقولة عنه. الشرح الأول هو السماح بالشر عن طريق التضاد والتباين لإبراز الخير كأفضل ميزة، ولجعله مقدَّرًا كما ينبغي أن يكون.[23] وإنْ كان من الحقيقي أن المكاسب الصالحة في قيمتها تعود إلى وجود الشر في العالم، إذًا، لا بد أنه من المقبول أن يكون الشر جزءًا ضروريًا في نظام الكون، ويصعُب التخلص منه.

وهذا حدس (توقع) ملحوظ جدًا للرؤية النشوئية عن الشر، ولكن ينبغي علينا تأجيل مناقشة هذا الأمر إلى الفصل التالي. الشرح الثاني مبني على ضرورة وحتمية التنوع. لأنه من الضروري وجود طبائع مختلفة في العالم. ويتطلب قانون التنوع المنظور عبر العالم المرئي ذلك. لذا يجعل تمايز الطبائع من الضروري أن يكون البعض أكثر نبلاً من الآخرين، وأن يمتلك البعض إرادة أفضل وأقوى من الآخرين، باختصار، أن يكون البعض أقوياء بالشكل الكافي لفعل الصواب بغض النظر عن كل إغراء لأي شيء آخر.

ونجد أن هذا الرأي مرتبط بالرأي السابق. لأنه سيكون أكثر وضوحًا إذا تم التعبير عنه من وجهة نظر التطور. حيث يحتاج التطور إلى النقص في مراحله الأولى، النقص الذي -كما يزعم الأسقف بتلر Butler-[24] يمكن فقط ظهور المُبرِّر منه عند وصول المُخطَّط إلى ذروة اكتماله. حيث يؤدي التطور أيضًا إلى التنوع -إنه قانون التنوع نفسه الذي أدرك الأكويني وجوده في الكون، بالرغم من جهله طبعًا بالسبب العلمي لهذا التنوع.

التفسير الثالث الذي قدَّمه الأكويني مبني على نظرية أوغسطينوس بأن الشر هو سلبي. كلاهما في هذا الشأن يتبعان الفلسفة اليونانية التي دخلت لأول مرة إلى اللاهوت الغربي من خلال الفلسفة الأفلاطونية المحدثة السكندرية. فالله هو مصدر الوجود كله. والشر هو عدم: انفصال عن الوجود الحقيقي. وبالتالي يبقى الشر بعيدًا جدًا عن أن يكون له أصل في الله، بل هو انفصال عن الله، وارتداد عن مشيئته وغايته. وبالتالي، يكون الشر خارج مقولة الجوهر، فهو لا كيان، أو بمعنى ما، لا شيء (عدم).

يستمر الأكويني أيضًا في إثبات أن هناك جانبان ينبغي اعتبار أن الشر فيهما لا شيء (عدم). أولهما، إنه عدم بمعنى النفي أو السلب التام، وإنه عدم في المقام الثاني بمعنى الفقدان أو الحرمان. فالشر هو انعدام أو انتفاء الصورة (الهيئة). إنه نقص الفعل. إنه الفشل في عمل القصد الذي كان من المقصود للإنسان فعله. إنه الفشل في الحفاظ على ذلك المصير الذي صُمِّمَ الكائن الأخلاقي لأجله. فعلى سبيل المثال، كما أن الشر في حالة الملح هو فقدان (انعدام) الملوحة، كذلك الشر في حالة الإرادة هو انعدام العمل الطبيعي الصحيح للإرادة.

وهكذا بدا هذا البرهان للأكويني عند تطبيقه على أصل الشر أنه حل مقنع للمشكلة. فالذي ليس له وجود، ليس له علة، وذاك الذي ليس له علة، يستحيل إيعازه للعلة الكونية العامة. لذا لا يمكن إرجاع الشر إلى الإرادة العلية في الله.

وكان هذا البرهان مُستمدًا من كُتَّاب سابقين، ولكن تفسير عودة اعتماده إلى الأكويني هو تداركه للإجابة المدعومة من فلسفة التطور بعد ذلك بأزمنة كثيرة. الشر هو سلبي (نفي) بمعنى أنه نشوء الفشل في جزء من الإنسان عن فعل الصواب. إنه ليس بكيانٍ؛ إنه عدم.

توما الأكويني وحرية الإرادة

أكد الأكويني على أن الله هو العلة الأولى للإرادة،[25] وأنها كانت مستمدة منه باعتباره العلة الكونية العظمى التي تحرك جميع الأشياء، وتمنح جميع الأشياء طبيعتها المميزة. وفيما يحرك الله الأشياء غير الحية بالعلل الضرورية؛ أي بالعلل الخارجية والنهائية، فإنه يحرك الأشياء الأخرى بالعلل العرضية (المشروطة)؛ أي العلل التي لم يُؤسِّسها الله، بل تعتمد على عنصر ما وسيط. لذا تتحرك الإرادة عن طريق الحركة الإرادية لصاحبها. فالإنسان سيد إرادته، ويحركها للعمل، أو يمتنع عن تحريكها للعمل كما يشأ.

فيبدو من هذه الفقرة أن الأكويني في طريقه للتحرر من عقيدة الحتمية (الجبرية). حيث يعترف بأن الإنسان في فئة مختلفة من الطبيعة، وتميل إرادته إلى الحرية. وهكذا لا يُلام الأكويني بسبب عدم اهتمامه بالموضوع أكثر من ذلك.

والمفاجأة أنه تقدم بالحري بقدر ما في استطاعته فعله، ونأى بنفسه من الانحراف في جوانب كثيرة جدًا عن الأوغسطينية، التي لا بد أنها كانت مؤثرة على عقول العلماء في العصور الوسطى، والذي من الصعب الآن تحديد مفهومه الكامل. لذا يشيد الجميع بالأكويني بسبب تأكيده الجريء على الحرية الإنسانية بالرغم من خطر اتهامه بالميول البيلاجية.

ثم يطرح الأكويني نفسه بعد ذلك السؤال: لماذا توجد النعمة في بعض الناس لمساعدة الإرادة، بينما لا توجد في البعض الآخر. وهنا يعود الأكويني مجددًا إلى موقف أوغسطينوس القديم، بأن ضعف الإرادة لم يكن خطأ فردي، بل خطأ الجنس كله. فلا يقصد الأكويني بذلك أن الإنسان بعيدًا عن اللوم.

بل تقع المسئولية على الإنسان، لأنه طالما الإنسان على كل حال هو كائن مريد، ويمتلك إرادة، على الرغم من أنها ليست إلا إرادة ضعيفة، لذلك فهو يستحق المدح أو اللوم. ولكن السبب الحقيقي وراء زوال النعمة -عندما تكون زائلة- هو نقص الرغبة في النعمة في الفرد بسبب فساد الطبيعة البشرية بواسطة خطية آدم.

إنه من الصعب علينا رؤية الأكويني يذهب إلى أكثر مما فعل بسبب تمسُّكه بالتفسير الحرفي لرواية التكوين. لقد حافظ على المسئولية الفردية بقدر جرأته.

توما الأكويني والنعمة

يمكننا رؤية الميل الفلسفي للأكويني بكل وضوح في تعليمه عن النعمة. حيث يبدأ بالتعليم الأوغسطيني عن النعمة المانعة (الوقائية)، التي لا تعتمد في عطيتها الأولى ولا في استمرارها على أي عمل من إرادة الإنسان، فيدمج مع ذلك التعليم الأرسطي عن ”العادات“، مؤكدًا على أن الله منح الصلاح في صورة عادة، وهكذا يميز بين النعمة العادية والنعمة الفعلية.[26] فالمقصود بـ ”العادة“ هو الانحياز أو الميل إلى الفعل بطريقة محددة.

وهكذا يتناول الأكويني موضوع ”العادات المغروسة“، ويقسمها إلى نوعين: (1) العادات المكتسبة بالطبيعة عن طريق الولادة، (2) والعادات المكتسبة بعد الولادة من الله. النوع الأول، يتمثل في العادات الطبيعية، [27]فيحصرها بشكل أساسي في تلك العادات المرتبطة بالجسد، مثل: العفة، والاعتدال، وما إلى ذلك، التي يمتلكها البعض بصورة طبيعية بدرجة مُميَّزة، ويبدو أنها تنقص الآخرين تمامًا.

مع ذلك، يقر الأكويني بالفضيلة الأخلاقية الطبيعية بطريقة محدَّدة (التي يدعوها أرسطو بـ φυσική άρετή أي الفضيلة الطبيعية)، ويقول إن مبادئ الأمانة، والعدالة، والاستقامة، قد تكون، أو أحيانًا تكون موروثة حتى في الوثني، على الرغم من أنها يمكنها أن توجد فقط في صورتها الحقيقية الأصح جنبًا إلى جنب مع الإيمان المسيحي.

ثم يضع الأكويني الفضائل اللاهوتية تحت عنوان النوع الثاني، أو العادات التي يغرسها الله -الإيمان، والرجاء، والمحبة- ولكن لا يمكن لهذه الفضائل، حتى عند غرسها، أن تصير عاملة من دون قوة روحية أخرى.

ونتيجةً لذلك، أضاف الأكويني إلى العادات المكتسبة مواهب الروح القدس السبعة -الحكمة، والفهم، والمعرفة، والمشورة، والطاعة، والصبر، والمخافة. وهكذا اختلف هذا النوع الثاني من العادات المغروسة بحسب الأكويني عن النوع الأول في ذلك، أي أنه كان القصد منهم هو منفعة الإنسان الروحية، بينما كان القصد من العادات السابقة هو صلاحه الدنيوي. ولكن شكَّل الاثنان معًا ما سماه بالنعمة ”العادية“، أو نعمة العادات المكتسبة.

ولكن لا تكفي النعمة العادية في حد ذاتها بسبب عجزها عن تفعيل ذاتها. لأن الميل إلى عمل الشيء لا يعني بالضرورة ممارسة العمل، ولا يشير امتلاك العادة أيضًا إلى ممارسة هذه العادة. وهكذا كانت النظرية الوحيدة هي أن القوة التي تحرك هذه العادات هي حرية الإرادة، ولكن رفض الأكويني والمدرسيون هذا على اعتبار أنه يشير إلى امتلاك حرية الإرادة على وظيفة ناشئة وسببية خاصة بها، وهذا ما رفضوه.

وبالتالي، رجعوا مجددًا إلى تفسير آخر، وافترضوا قوة خارجية، أي نوع آخر ومختلف من النعمة، الذي أطلقوا عليه اسم ”النعمة الفعلية“ gratia actvalis. وهذه النعمة بحسب الأكويني هي القوة المحركة الحقيقية والفاعلة في النعمة العادية معطيةً إياها التأثير، وتجعلها تؤتي بثمارها.

في الواقع، ”النعمة الفعلية“ هي مجرد امتداد للنظرية الأوغسطينية عن النعمة، ولكن أولها التوماويون Thomists والجانسنيون Jansenists خلفاؤهم الكثير من الاهتمام الشديد وأصروا عليها، لأنها التعليم الوحيد الذي نفى الافتخار والتباهي بالاستحقاق من جانب الإنسان، لأنه لو كان يُحرِّكه اختياره الخاص للاستفادة من النعمة العادية، فمن ثم بإمكانه أن يدَّعي الجدارة في عمله، الذي يتعارض تمامًا مع عقيدة سبق التعيين.

لذلك كانت النعمة ”الفعلية“ هي استنتاج خاص بالأكويني، ولقد دافع عن هذا التعليم بشدة على اعتبار أنه أحد أهم وأقوى المواقف في الحقيقة المسيحية.

وهكذا يمكننا رؤية أنه على الرغم من دعمه لمبادئ الأوغسطينية الأساسية، إلا أن الأكويني يقدم تعديلات مهمة، تتميز بنزعة أكثر ليبرالية (تحررية). خاصةً اعترافه الواضح بالفضائل الطبيعية حتى في الوثنيين. لقد فُرِضَت هذه الليبرالية عليه بسبب اعتماده على أرسطو، لأنه كان عليه إيجاد مكانًا في هيكل الله بمثابة واجب خاص يُلزِمه.

هذه رواية موجزة عن نظام الأكويني مبنية -كما قد أوضحنا- على أنثروبولوجية أوغسطينوس، ولكنها مالت إلى رؤية أكثر ليبرالية (تحررًا) للطبيعة البشرية بوجه عام بسبب تأثير الفكر الفلسفي اليوناني.

لقد كان هناك قلق واستياء عام من حدة الآراء الأوغسطينية المتشددة أثناء فترة العصور الوسطى كلها، حتى بين هؤلاء الذين صنَّفوا أنفسهم أنهم من بين أتباعه، علاوة على الاستعداد لقبول نظريته عن الخطية بشكل أساسي، كما نشأ تيار قوي لرأي يميل إلى أنماط أقل حدةً في التفكير ممثلاً في المدرسة النصف بيلاجية.  لذا ينبغي علينا وضع هذين التيارين المتعارضين في الحسبان، عندما انعقد مجمع ترنت في عام 1546 م.

وبالتالي، أضطُرَ المصلحون التريدنتنيون Tridentine في محاولة للتوفيق بينهما إلى اللجوء إلى أسلوب غامض من العبارات والصياغات نوعًا ما، ولكن سيتضح بالفحص أنهم هم أنفسهم فضَّلوا الأنثروبولوجي النصف بيلاجي بدلاً من الأنثروبولوجي الأوغسطيني بوجه عام. فتبدو في الحقيقة صيغة قراراتهم تدعم العقيدة الأوغسطينية، إلا أنها وُضِعَت بمثل هذه البراعة، بحيث تُرِكَت آراء أوغسطينوس عن موضوع الخطية الأصلية في الحقيقة لحرية القبول أو الرفض حسب الرغبة، بينما أتخذوا بالفعل الموقف النصف بيلاجي في تفسير القوانين في بنود الحرومات.

 

 

جون دنس سكوتس John Duns Scotus

تمثل النسخة الفرنسيسكانية[28] لعقيدة السقوط تمردًا أكثر حزمًا وثباتًا على الأوغسطينية، وتُظهِر انسجام ميول واضحة مع ما قد أشارنا إليه كرأي مبدئي عن ”الميلاد الواحد“، و ”الهيليني“. لذا نتناول آراء جون دنس سكوتس[29] بالاتفاق مع الأسلوب الذي شرحنا به مسبقًا بصفته نموذجًا لمدرسته.[30]

يُحافِظ على المفهوم الأوغسطيني الرفيع عن ”البر الأصلي“ في هذا المخطَّط بحسب سياق الحديث؛ ولقد كانت فكرة كمال الإنسان الفردوسي حتى ذلك الوقت متجذرة بعمق شديد جدًا في الفكر المسيحي لدرجة تجاهُّلها صراحةً. ولكن تم تعديلها إلى مدى معين. ويؤكد على ”البر الأصلي“ بأنه قد كان عطيةً فائقةً للطبيعة donum supernaturale، وكان لها أثرًا على انتاج انسجام وتوازن كامل بين القدرات والوظائف المتنوعة في النفس الإنسانية، انسجام يتضمن إخضاع الشهوة قانونيًا للعقل.[31]

ولكن لم يكن هذا الانسجام مستقرًا تمامًا، حتى في الفردوس؛ لأن اختبار مقاومة ناجحة للغواية كان بحاجة إلى أن تكون الطبيعة البشرية ثابتة في النعمة. وهكذا حملت حالة آدم الطوباوية خاصية مشروطة بمجرد إغوائه لمرة واحدة. ولو كان قد غلب في الحادثة الأولى، عندما تم اختباره، فكان سيكتسب تعودًا أكثر ثباتًا واستمراريةً على الفضيلة؛[32] وتنطبق نفس القاعدة على كل فرد من أفراد نسله لو لم يسقط. وبالتالي، يتم اختبار كل عضو من أعضاء الجنس البشري وُلِدَ فيما بعد لمرة واحدة؛ فلو غلب سيكون ثابتًا في النعمة.[33]

وبالتالي، يمكن الاقتراح بأن سكوتس يُظهِر علامات الرغبة في الرجوع -بقدر استطاعته داخل حدود الأرثوذكسية الغربية في العصر الوسيط- إلى مفهوم القرن الثاني عن حالة الإنسان غير الساقطة كأحد مراحل ”الطفولة“ νηπιότης -على الرغم من أنها تتضمن ”نقطة الانطلاق نحو الارتقاء“ άφορμή προκοπής. ويتفق مع هذا التأكيد على أن ”عدم الموت“ الذي تمتع به آدم غير الساقط لا يتمثل في استحالة الموت، بل في إمكانية عدم الموت.[34]

وبالتالي، يكون لدينا تخمين أقل لمستوى الشر المرتبط بالسقوط طبقًا لهذا المفهوم المختلف نوعًا ما عن البر الأصلي. فلم يكن جذر خطية آدم بحسب سكوتس (كما هو الحال في رأي أوغسطينوس) نزعة غامضة وغير مبررة لتحدي خالقه، بل خلل طبيعي -كما إن جاز التعبير- يُغتفر ”لرغبة مفرطة تحت تأثير حبه لزوجته“ immoderatus amor amicitiae uxoris، رغبةً في عدم الانفصال عنها حتى بعد خطيئتها، رغبةً تحت ظروف غالبًا ما حوَّلت نفسه بصورة شبه حتمية إلى رغبة فعل ذاك الذي كان غير قانوني voluntas explendi illud quod non licuit.[35]

وطالما أن نشوء الخطية الأولى من مصدر بشري ولطيف كهذا، فيكون مبالغة واضحة وصف ”شرها“ بأنه ”غير محدود“،[36] وبالتالي تمت إزالة الأساس الذي يُبنى عليه المفهوم الأوغسطيني عن الجنس البشري الساقط ككتلة ملعونة وهالكة مُشكَّلة على مستوى الجماعة massa damnationis.

كما يبدو نفس الاتجاه إلى التخفيف من الملامح الحادة للنظام الأوغسطيني ملحوظًا في الغالب عند مناقشة موضوع الخطية الأصلية بوصفها خللاً vitium أي مرض نفسي. يتمثل جوهر الخطية الأصلية بحسب سكوتس فقط في ”فقدان البر الأصلي“ carentia originalis iustitiae، ولا يتمثل في الشهوة على الإطلاق،[37] وهذه أحد اختلافاته الأساسية عن توما (الأكويني). في الواقع، يمكن الحديث عن الشهوة بأنها أمر ”طبيعي“، على اعتبار أنها مجرد رد فعل ضروري من الجزء الحسي في النفس نحو أمور مرغوبة داخليًا.[38]

فيبدو من المرجح أن المعلم الغامض [أي سكوتس] يستخدم الكلمة هنا بمعناها الاصطلاحي، كمجرد تعبير عن ”شهوة كهذه“، وليس عن ”شهوة جامحة“؛ وبالتالي يمكننا بحق وضع اسم دنس سكوتس جنبًا إلى جنب مع اسم يوليان أسقف إكلانوم Julian of Eclanum، لأنه اسم أحد المفكرين المسيحيين القلائل الذين قد أدركوا بقوة فكرة الحيادية الأخلاقية للشهوة المادية (الطبيعية).

فبدا من المحتمل أن الإقرار ببراءة الشهوة يجلب بصورة طبيعية في طريقه النتائج الأخرى لإنكار الذنب الأصلي أو Reatus، أو إنكار الذنب على كل حال الذي يرتبط في المبادئ الأوغسطينية بالطبيعة المصابة أو الملوثة بالشهوة. ولكن يبدو هنا أن شجاعة الفرنسيسكان قد خانتهم. ويبدو أن تجاهُّل مفهوم الذنب الأصلي صراحةً يتضمن إنكار لممارسة طقس معمودية الأطفال بحسب فكر العصور الوسطى. لقد كان للممارسة الفعلية في الكنيسة -كما هو الحال في القرن الخامس- تأثيرًا لا يُقاوم على تطور الفكر.

حيث تُعمِّد الكنيسة بالفعل الأطفال المولودين حديثًا، ولا يمكننا الاعتقاد بأن الكنيسة مارست ذلك خطاءً أو بدون سبب وجيه، وبالتالي، يبقى الأطفال، حتى لو بعمر يوم واحد، في حاجة ماسة إلى المعمودية. ولكننا نعترف في قانون الإيمان ”النيقاوي“ بإيماننا بـ ”معمودية واحدة“ التي ”لمغفرة الخطايا“. فلا يوجد نوعين مختلفين من المعمودية، أحدهما للبالغين تقدم غفرانًا للخطايا، والأخرى لا تقدم غفرانًا للخطايا؛ وبالتالي، تتم معمودية الأطفال ”لمغفرة الخطايا“، ولا بد من الاعتقاد تبعًا لذلك أنهم يحملون خطية ما حقيقية بمعنى الذنب التي يمكن غفرانها.

فمن المحتمل أن المعرفة التاريخية التامة فيما يتعلق بتطور تقليد معمودية الأطفال، وما يرتبط بالعلاقة بين قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني (أو ما يُعرَف بـ ”النيقاوي“) و ”النيقية“ الأصيلة قد جعل تسلسُّل هذا الاستدلال أقل كثيرًا جدًا على الإقناع.[39] ولكن لم تكن مثل هذه المعرفة في أولوية نظام سكوتس: وبالتالي فهو يسعى إلى تفسير الذنب الأصلي بمقولة ”الدَّين“ غير الكافية نوعًا ما.

وهكذا ائتمن الله الإنسان في الفردوس على عطية البر الأصلي، ولكن الإنسان بدَّدها وفرَّط فيها؛ وبالتالي، يُعتبر الإنسان في المجمل في حالة ”مديونية“ لله، لأنه قد بدَّد الكنز الذي منحه إياه والده. وتنحدر حالة المديونية هذه من جيل إلى جيل، وهكذا تُعتبر قانونيًا بمثابة ”ذنب“ مشترك في نظر الله.[40]

ولكن مذهب الأسمية[41] Nominalism الذي كان سمة مُفكِّرين فرنسيسكان آخرين، وهكذا بإنكاره للوجود الموضوعي للكليات[42] universals، أنكر ضمنيًا أن آدم كان كلي البشرية، وبالتالي أقتلع جذر فكرة الذنب الأصلي، طالما أن هذا يشير إلى تحمُّل المسئولية عن خطية آدم من قبل المولد.

فالتناقضات التي وجد السكولائيون الفرنسيسكان اللاحقون أنفسهم مُتورِّطين فيها بمحاولة تبرير نوع من الأوغسطينية المعيبة على أساس اسمي بحت، إنْ كان من الممكن حلها بمجرد تطبيق المبدأ الشكي، الذي كان -للمفارقة الساخرة الوحيدة- المنتج العقلاني الأخير لعصر الإيمان، فالفرضيات التي قد تكون حقيقة في اللاهوت، هي خاطئة في الفلسفة، والعكس صحيح.[43]

ننتقل الآن لفحص الحالة الساقطة الحاضرة في الإنسان بحسب المفهوم السكوتي. يمكن تحديد التعليم الفرنسيسكاني بصورة طبيعية من خلال الموقف الأساسي بأن جوهر الخطية الأصلية لا يتمثل في فساد حقيقي للطبيعة البشرية، بل في مجرد فقدان عطايا فائقة محددة، كانت تمتلكها الطبيعة البشرية ذات مرة. وبالتالي يستطيع الفرنسيسكان الحفاظ على حرية إرادة حقيقية، وليست مجرد حرية اسمية.

فالإرادة بالنسبة لسكوتس حرة بالمعنى السيكولوجي (النفسي) للحرية بحكم العادة والشخصية، وأيضًا بالمعنى الميتافزيقي للحرية بحكم العلية (السببية) الإلهية الحاضنة لكل شيء. وكل من هذين الموقفين له نتائج لافتة للانتباه، والتي يمكن الإشارة إليها دون الابتعاد كثيرًا جدًا عن السياق الأساسي لبحثنا. حيث يتطلب الإقرار بالحرية السيكولوجية (النفسية) للإنسان الساقط الاعتراف بأنه يمكنه ممارسة الأعمال الصالحة في النظام الطبيعي بصورة أخلاقية، حتى من قبل نوال النعمة.

وهكذا من الواضح أنه ينبغي تمييز أعمال الفضيلة الطبيعية المجردة بشدة عن الأعمال المعجزية الفائقة للطبيعة، التي تحتاج النعمة، ولكنها على الرغم من ذلك، هي أفعال أخلاقية حقيقية، ومازالت ترضي الله حتى هذه اللحظة.

حتى أنها تستحق نعمة مقابلة congruo، أي تُعتبر بمثابة مكافأة مقابلة -على الرغم من عدم اكتسابها بالمعنى الكامل- الموقف الذي يُعتبر غير مُستساغ بشكل طبيعي مع الأوغسطينية المتطرفة لمترجمي مقالاتنا التسعة والثلاثين،[44] وهكذا يرفض سكوتس بقوة فكرة أن فضائل الوثنيين ليست أفضل من ”الفضائل الفائقة“، وبالتالي، تتفق الحرية الميتافزيقية التي ينسبها سكوتس إلى النفس الإنسانية مع شمولية العلية (السببية) الإلهية على افتراض الانسجام المُحدَّد مسبقًا بين قرارات الله الأزلية ونتائج الاختيار البشري.

فأنني أمتلكُ هنا والآن الحرية الكاملة في الاختيار بين بديلين، إما (أ) أو (ب). فإذا قررت اختيار (ب)، فأنني حر بالكامل في فعل ذلك، وأتحمل المسئولية الكاملة عن اختياري: بالرغم من ذلك، عرف الله مسبقًا منذ الأزل بأنني سأختار (ب)، وصادق على قراري بحدسٍ في مشوراته الإلهية، وهكذا يُصمَّم باقي التاريخ البشري على اعتبار أن (ب) هو اختياري بالفعل؛ وبالتالي، يمتلك الفرنسيسكان القدرة على التقارب كثيرًا جدًا مع النصف بيلاجية Semi- Pelagianism فيما يتعلق بعمل النعمة المانعة (الوقائية).

وهكذا من الطبيعي أن تصل هذه النسخة المُعدَّلة من العرض الغربي التقليدي للأنثروبولوجي المسيحي إلى ذروتها في رأي معتدل على نحو استثنائي لنتائجه الطبيعية الأسخاتولوجية (الأخروية)، أي في رأيه عن الليمبو Limbo حتى أنه أقل حدةً من رأي توما (الأكويني). وبالتالي يضطر سكوتس بسبب التقليد إلى إيعاز هذه الآراء في الليمبو Limbo إلى أنها ”آراء ملعونة“،[45] ولكن تبدو لعنتهم من النوع البالغ السعادة والهدوء.

فهؤلاء هالكون ببساطة بسبب الخطية الأصلية في طبيعتهم، ولكنهم بلا خطية فعلية أو شخصية، ولا يعانون من أي ألم أو حزن من أي نوع؛ وبالتالي فهم معافون من العقوبة الحسية poena senus، وعذابات النار الأبدية، ومن العقوبة اللعينة poena damni، أي عقوبة الانفصال عن الله.[46] فعلى الرغم من فقدانهم المعاينة الطوباوية لله في جوهره الحميم، إلا أنه من الممكن أنهم سيعرفون الله من خلال أعماله، وربما بصورة كاملة بالقدر الذي يمكن معرفته به، وسوف تمنحهم معرفة سعادة إيجابية معينة.[47]

حيث يستشهد سكوتس بقول بونافنتورا[48] Bonaventura أن أوغسطينوس تحدث بصورة مبالغة -”بمغالاة“- في إنكاره للحالة المتوسطة التي سلم البيلاجيون بها جدلاً في حالة غير المعمدين الأبرار أو الذين بلا خطية.[49]

وهكذا فازت النظرية الفرنسيسكانية على طول الخط في العصور الوسطى بقدر الاهتمام بمفهوم الليمبو Limbo. لقد كان هناك القليل من الأوغسطينيين المتشددين أمثال غريغوريوس من ريميني Rimini (1358م)، الذين تمسكوا بفكرة العذابات الحقيقية الإيجابية التي تقع على الأطفال غير المعمدين، والتي كانت تُلقَّب باستهزاء باسم تعذيب الأطفال tortores infantium. وهكذا تخصَّص كالفن Calvin في إحياء هذا الجزء من التعليم الأوغسطيني بكل هوله.

ويجب ذكر نتيجتين آخرتين للتعليم السكوتي من أجل الشمولية -أحدهما تعود إلى شخص المخلص، والأخرى تعود إلى شخص والدته. لقد كان من الصعب بشكل طبيعي على هؤلاء الذين خفَّفوا من قسوة السقوط الاعتقاد بأن حدث هائل مثل التجسُّد كان مشروطًا به [أي بالسقوط].

وبالتالي يبتعد الفكر الفرنسيسكاني في هذا الموضوع بالأساس عن التعاطف مع الفكرة المُعبَّر عنها في العبارة الشهيرة عن السماح Exultet: ”يا لَقيمة الخطية اللازمة بالطبع! يا لَخطية السعيدة التي كانت سببًا في مثل هذه المكافأة والربح باقتناء الفداء!“، وبالتالي، يأتي الرأي السكوتي على نحو خاص بأن التجسُّد كان سيحدث على كل حال، حتى لو لم يوجد السقوط، وأنه كان مُعدَّ من الله منذ كل الأزل كلحظة تتويج للتاريخ البشري.[50]

كما جعلت الفكرة السلبية أو المجردة عن الخطية الأصلية المتمثلة فقط في فقدان أو غياب نعم محددة فائقة للطبيعة من السهل الاعتقاد بأن هذه النعم كانت بمثابة امتياز خاص مُعطَى لأم المسيح لتجعل من جسدها ونفسها مسكنًا مناسبًا للكلمة الإلهي.[51]

ولكن رأي هارناك Harnack العابر بأنه من السهل على الكاثوليك الرومانيين إقرار عصمة مريم من الخطية الأصلية، لأن الخطية الأصلية لا تعني أي شيء بالنسبة لهم، هو مبالغة واضحة،[52] لأنه يتجاهل حقيقة أن التعليم اللاتيني فيما بعد المجمع التريدنتيني Tridentine عن جرح الطبيعة البشرية الموروث هو أكثر حدةً من التعليم السكوتي، على الرغم من عدم حدته للغاية مقارنةً بالتعليم التوماوي أو الأوغسطيني.[53]

وإنه من الإنصاف أيضًا الإشارة إلى الاختلاف بين توما (الأكويني) ودنس سكوتس فيما يتعلق بامتياز مريم الذي تحول، ليس بسبب السؤال حول هل كانت مريم بعد ولادتها معصومة من الخطية الأصلية -لأن كلاهما أقر بذلك- بل بناءً على السؤال حول هل مُنِحَت هذه العصمة لها في لحظة ما مجهولة أثناء حياتها داخل الرحم، كما أقر المعلم الملائكي [أي توما الأكويني] بذلك،[54] أم في اللحظة الأولى عينها من وجودها، أي في لحظة الحبل بها، كما أكد المعلم الغامض [أي دنس سكوتس].

وهكذا قد أوضحت الخلاصات السابقة للفكر الأنثروبولوجي عند المعلميِّن البارزين في العصور الوسطى، كما نرجو ذلك، أن تاريخ موضوعنا أثناء الحقبة المدرسية هو تاريخ انحدار تدريجي للأوغسطينية الصارمة. فقد وجَّه أنسلم الضربات الأولى لسطوتها في القرن الحادي عشر، عندما قدَّم مفهوم ”فقدان البر الأصلي“ كمكون أساسي من مكونات تعليم الخطية الأصلية، مُمهِّدًا بذلك الطريق أمام استبدال فكرة الضعف الموروث بفكرة الشر الموروث عند أبيلارد Abelard الذي كان أول مَن تحدى فكرة الذنب الأصلي.

وهكذا حافظ توما (الأكويني) والدومنيكان على نوع مُعدَّل من الأوغسطينية، حيث يُوصَف فقدان البر الأصلي أنه بمثابة ”الصورة“، والشهوة بمثابة ”المادة“ للخطية الأصلية. ثم طوَّر سكوتس والفرنسيسكان نسخة مُعدَّلة أكثر بكثير من الأوغسطينية (إنْ كان من الممكن أن ندعوها بذلك)، حيث تأتي الخطية الأصلية من كافة الأغراض العملية لتتمثل في فقدان البر الأصلي فحسب، وتتوقف الشهوة عن أن تكون شريرة بأي معنى.

فكان من الطبيعي أن يفترض مثل هذا المفهوم الأكثر تصنعًا وتجريدًا بفقدان نعم فائقة محدَّدة ومجرَّدة مكانًا قاصرًا خاصًا بالجد البعيد للجنس البشري، الذي كان لديه القليل من القدرة على التأثير في ضمائر البشر، أو حتى إثارة اهتمامهم الذهني: فإذا كان ميل الفرنسيسكان والاسميين إلى التخفيف من حدة عقيدة السقوط إلى لا شيء قد استمر، فيمكن بذلك رفض كل عمل أوغسطينوس فيما يتعلق بهذه الأفكار، حتى داخل دائرة وفترة الكاثوليكية في العصر الوسيط.

إنها حقيقة صادمة تجاهُّل التعليق الوافي الذي كتبه بيير من إيلي[55] Pierre d’ Ailly على كتاب ”الأحكام“ موضوع الخطية الأصلية برمته. لقد كان للرد الفعل الأوغسطيني القصير الأمد المرتبط بأسماء مثل برادفاردين Bradwardine وويكليف Wycliffe أثرًا محدودًا على الفكر العام في أوروبا. ولكن ما قد أعطى بالفعل للأوغسطينية عقدًا جديدًا للحياة كان الإصلاح. ومع ذلك، سيؤول إلى ظهور اللحظة التي ننكر فيها هذا الحدث الجلل، وهكذا تستمر قصة الانحدار التدريجي للأوغسطينية داخل المسيحية اللاتينية بالنزول إلى العصور الحديثة.

ويليام من أوكام William of Ockham

ويليام من أوكام[56] هو راهب فرنسيسكاني إنجليزي، وأحد أهم اللاهوتيين المدرسيين في القرن الرابع عشر في أوروبا العصور الوسطى. لذا سوف نبحث مفهوم الخطية الأصلية، وسبق التعيين، وحرية الإرادة، عند أوكام الذي كان له أكبر الأثر في تشكيل الفكر اللاهوتي في مجمع ترنت Trent.

نجد أن أوكام في سياق شرحه للخطية الأصلية والإرادة الحرة في الإنسان، يغالي ببساطة في الحفاظ على قدرة الله على كل شيء والحفاظ على الحرية أيضًا.[57] وهكذا يتبنى أوكام التمييز بين قوة الله المطلقة وقوته الإلزامية؛ التي قد أشار إليها بالفعل بطرس اللومباردي في الكتاب الأول من مؤلفه ”الأحكام“، التمييز 42- 43.[58]

وبالتالي أصبح هذا التمييز في القرن 13 (عند ألكسندر من هالس[59] Alexander oh Hales، وألبرت[60] الكبير Albert The Great، وتوما الأكويني Thomas Aquinas) معتادًا، على الرغم من فهم اللاهوتيين المختلفين له بطرق مختلفة بعض الشيء. حيث تشير القوة المطلقة عند توما الأكويني إلى كل شيء يمكن أن يفعله الله، بينما تشير قوته الإلزامية إلى القوة الإلهية بقدر ما ”لأنها تدفع الأمر بالمشيئة الصالحة إلى التنفيذ“.[61]

وبالتالي، يتزامن ما يفعله الله حقًا بحسب توما (الأكويني) مع قوته الإلزامية. فأفعال مثل معاقبة المصريين، وإقامة لعازر من الأموات هي أفعال قوة الله الإلزامية. وهكذا يفسر أوكام متبعًا دنس سكوتس التمييز بين القوة المطلقة والقوة الإلزامية بمصطلحات قانونية أكثر. فعلى سبيل المثال، تشير القوة الإلزامية عند دنس سكوتس إلى الفعل بحسب القانون السليم، بينما تشير القوة المطلقة إلى إمكانية فعل الشيء خارج نطاق هذا القانون أو عكسه.[62] وهكذا يحذو أوكام حذو سكوتس في منهجه الأكثر قانونيةً.

ويستطرد أوكام -بعدما شرح بعدم آخذ التمييز بين القوة المطلقة والقوة الإلزامية بمعنى وجود قوتين في الله- في شرح معناهما كالتالي: ”يجب فهم التمييز بمعنى أن ’طاقة فعل شيء ما‘ تعني أحيانًا ’قوة عمل شيء ما بحسب القوانين التي وضعها وأسسها الله‘، وبالتالي يُقال عن الله أنه يستطيع عمل هذه الأشياء بقوته الإلزامية. بمعنى آخر، يجب فهم ’القوة‘ بأنها ’القدرة على عمل أي شيء لا ينطوي فعله على تناقض‘. بغض النظر عما إذا كان الله قد فرضه فعله أولاً“.[63]

وبالتالي، تختلف النتائج المترتبة على فهم أوكام للتمييز بين القوة المطلقة والقوة الإلزامية تمامًا عن فهم توما (الأكويني).[64] ففي رأي توما (الأكويني)، يختار الله (’يفرض‘) عدد محدود من الخيارات المنطقية (التي قد تكون غير محدودة في العدد تمامًا)، وبالتالي، القوة الإلزامية عند توما (الأكويني) ليست قوة عرضية (مشروطة) -بل القوة المطلقة هي كذلك فقط. لأنه بمجرد أن يختار الله، يتوفر نوع من الغائية. وهذا نابع من منظور توما (الأكويني) باستحالة تغيُّر قوة الله الإلزامية. بينما في رأي أوكام، تمتد عرضية (شرطية) قوة الله المطلقة إلى القوة الإلزامية.

لأنه توجد العديد من الأمور التي تتوافق مع القانون الصحيح، التي يستطيع الله فعلها، ولكنه لا يفعلها. وبالتالي، هذا الشيء مستحيل في فهم توما للقوة الإلزامية. مرةً أخرى، قوة الله الإلزامية عند سكوتس وأوكام يمكنها أن تتغيَّر، لأنه على سبيل المثال، يمكن لله أن يُصدِر قوانين أخلاقية جديدة. ويستطيع الله الحكم على إلحاق الضرر بأنه مقبول في عصرٍ، وغير مقبول في عصرٍ لاحقٍ.

فلا يمكن أن تكون النتائج المترتبة على أمور لاهوتية، مثل: النعمة، وسبق التعيين (الاختيار)، والاستجابة، راديكالية (متطرفة) في فكر أوكام كما هو معتاد الحديث عنه -بل تحتوي على بذور الأخلاق الإلهية الحاكمة والكاملة النضوج، والمحسومة بشكل نهائي من أخلاق القانون الطبيعي.[65] ومع ذلك، لم يتخذ أوكام هذه الخطوة، لأن الأخلاق عنده تتضمن المنطق السليم والمشيئة الإلهية المطلقة، ولكنه من الصعب إمكانية حدوث هذا التوازن بين أخلاق المنطق السليم والأخلاق الإلزامية (الجبرية).[66]

وهكذا قد يرى أوكام أن ”الإنسان قادر على الخلاص بقوة الله المطلقة من دون نعمة مخلوقة“.[67] ومع ذلك، ”يستحيل أن يخلُص أي إنسان أو يقدر على الخلاص من دون النعمة المخلوقة“ بحسب القوانين التي فرضها الله الآن. فالله يحب بحرية مَن يحبه. وهكذا يسمح [أوكام] بإمكانية أن يقبل الله شخص ما، أو ممارسة أعمال صالحة مستحقة دون إحسان أو نعمة مغروسة. فبدا ذلك للاهوتيين المعاصرين له أنه يُشابِه بصورة خبيثة الآراء البيلاجية.[68]

يبدو جديرًا بالملاحظة أن أسباب أوكام للتمسُّك بهذا الرأي هي كالتالي: ”أعتقد بذلك بسبب الكتاب المقدس وتعاليم القديسين“.[69] مرةً أخرى، يستطيع الله بقوته المطلقة ”إذا كان يسره ويرضيه ذلك، أن يغفر جميع الذنوب […] دون غرس نعمة مخلوقة“.[70]

على الرغم من ذلك، إنه من الظلم الادعاء بأن إله أوكام -بقوته الإلزامية- يتصرف اعتباطيًا، بل من الواضح أنه يقدم تأكيدًا أقوى من تأكيد توما على حرية الله للتصرف بصورة عرضية (مشروطة). فنحن كحقيقة مسلمة لسنا في وضع لننسب الاعتباطية إلى الله. فالله وحده يقرر استحقاق الشخص أو الفعل، ولا يوجد شيء مستحق الخلاص بموافقة الله. لأن موافقة الله تقع ما بين الفضيلة والاستحقاق، ”الذي يمكن الإنعام به فقط كعطية بحرية، ولا يُنتزَع باعتباره حقًا مكتسبًا“.[71]

مجمع ترنت 1546م والنزعة النصف بيلاجية في القرارات التريدنتينية

لقد كانت مناقشة هذه التعاليم بين اللاهوتيين في النظامين النسكيين الكبيرين موضوعًا للبحث والدراسة في المدارس المختلفة على نطاق واسع. ولكن لم تؤثر الأسئلة المتعلقة بذلك في الحياة العملية بأي شكل من الأشكال،[72] ولم يكن لها اهتمام لدى طبقة من جمهور المؤمنين، أو مثل هذا الاهتمام لدى الإكليروس، لأنهم لم يكونوا خبراء لاهوتيين.

لقد انتموا إلى نفس المجادلات باعتبارها جدالات طويلة لا نهاية لها بخصوص الملائكة، هل يشغلون حيزًا أم لا، وهل يمكن لملاك واحد أن يتواجد في مكان ومكان آخر في نفس الوقت، وهل فكر الملائكة استطردي أم بديهي (حدسي). ولكن كان للإصلاح -متحديًا البنية الكلية لحياة وفكر كنيسة العصر الوسيط كما فعل ذلك- أثرًا ملحوظًا على نقل التعاليم عن السقوط والخطية الأصلية إلى خارج الدير وقاعات المحاضرات، إلى ساحة السوق، جاعلاً منها أمورًا ذات أهمية واهتمام كبيرين لحياة المئات والآلاف الدينية من الشعب العادي.[73]

لذلك عندما قامت الكنيسة اللاتينية -بعد انفصال الأمم الشمالية- بتقييم نفسها، ومضت قدمًا إلى إعادة تنظيم نفسها على أساس حربي، مثل مدينة محاصرة، بنظام صارم مُخصَّص لتأمين حياتها ضد هجمات أعدائها، كان من الضروري تقليص هذه التعاليم أيضًا بشكل صارم ومُحدَّد، للإبقاء على مسافة آمنة عن التأثير المصلح. ونتيجةً لذلك، تمت صياغة ما يزال قائمًا من العقيدة الرسمية للكنيسة الرومانية حول هذه الموضوعات في مجمع ترنت. فبغض النظر عن قلق الإمبراطور كارل الخامس، الذي كان يُفضِّل كثيرًا ترك المجمع لمثل هذه الشائكة جانبًا.

لقد كان كاترينو Catterino ودي سوتو de Soto هما الممثلين عن الدومينيكان في المجمع، وهما اثنان من أكثر اللاهوتيين علمًا في نظامهم الرهباني؛ ولكن من الجدير بالملاحظة أننا نسمع قليلاً جدًا عن الفرنسيسكان. لقد مر نظام الرهبان (الأخوة) الأصاغر بأيام شريرة، ولم يفرز لاهوتيًا كبيرًا منذ وقت ويليام أوكام William Ockham.

حيث كانت هذه الفترة مضطربة بالانقسامات بين الرهبان الكبوشيين Capuchins والرهبان الفرنسيسكان (السكوتيين/ الديريين)؛ وهكذا غطت عباءة دنس سكوتس -كداعم لتأسيس موقف مناهض للأوغسطينية- على مجتمع يسوع حديث التأسيس [يقصد اليسوعيين].

تضمنت قرارات المجمع قرارًا بخصوص الخطية الأصلية في الجلسة الخامسة، أقرته في يوم 17 يونيو 1546م، وقرارًا بخصوص التبرير في الجلسة السادسة، أقرته في يوم 13 يناير 1547م.[74] ويتضمن القرار السابق خمس قوانين مُكرَّرة شفويًا من أول قانونين من مجمع أورانج Orange الثاني، وتحتوي أيضًا على فقرة طويلة مأخوذة من القانون الثاني لمجمع قرطاجنة الثاني، الذي حرم كل من بيلاجيوس وكالستوس عام 418م. ولكن قد تبدو هاتان الحقيقتان على الرغم من القرارات التريدنتينية Tridentine أنهما قد كانا انتصارًا للأوغسطينية.

في الواقع، لقد كانت النتيجة توفيقية، لا يمكنها إرضاء أي حزب تمامًا، كما سيبين التحليل الموجز لها. (1) ”البر الأصلي“. حيث يمكن الحديث عن آدم أنه قد ”جُبِلَ“ في قداسة وبر. ولكن يصمت المجمع عن موضوع منجزاته الفكرية المفترضة (فالمقصود من كلمة ’جُبِلَ‘ بوضوح هو منع إثارة السؤال: هل خُلِقَ آدم في حالة البر الأصلي، كما أكد الدومينيكان، أن خُلِقَ في حالة الطبيعة الأصلية، ووُهِبَ القداسة الفائقة للطبيعة بعد ذلك، كما أكد الفرنسيسكان). (2) تُعتبر الخطية الأصلية بمثابة فقدانًا أو حرمانًا vitium.

ويُعتبر المجمع هنا بشكل مدروس غامضًا، راضيًا في حد ذاته ترديد الإقرار غير الواضح لمجمع أورانج Orange الثاني الذي يفيد بأن آدم قد تغيَّر بالسقوط إلى الأسوأ نفسًا وجسدًا، وجرح نسله وليس مجرد نفسه فحسب. (3) تُعتبر الخطية الأصلية بمثابة ذنب Reatus، أي ”الذنب الأصلي“. ويتم التأكيد على ذلك بقوة. فيبدو أن القانون رقم 3 (قانون خاص بموضوع الخطية الأصلية) يشير إلى نظرية ”الوحدة البذرية“ Seminal Identity، على الرغم من أن لغته غامضة للغاية.

كما يقر القانون رقم 4 بوجود خطية في الأطفال، التي لا بد من التكفير عنها في جرن التجديد [أي المعمودية]. ثم يستخدم القانون رقم 5 عبارة واضحة عن ذنب الخطية الأصلية reatus peccati originalis، ويقر بأن شيئًا غير معروف -الذي له الطبيعة الحقيقية والمناسبة للخطية- تمحوه المعمودية. (4) يؤكد المجمع بخصوص حالة الطبيعة البشرية الناتجة عن السقوط على أن الشهوة ليست خطيةً، بل مجرد نارًا fomes أو وقودًا للخطية، وأنها تُمحَى بالجهاد المستمر adagonem، وبالتالي ينبغي عليهم مقاومتها.

لذا من الواضح أيضًا أنه تم طمس إرادة الإنسان الحرة على كل حال، بل بالأحرى قد ضعفت وتشوهت، لذلك يعجز البشر عن إطلاق وتحرير أنفسهم من سلاسل الشهوة الشريرة بمعزل عن النعمة. وهكذا نلاحظ فورًا أن هذه المواقف تمثل توفيقًا بين آراء الدومينيكان وآراء اليسوعيين Jesuit، لأنه بوجه عام، حصل اليسوعيون بشكل كبير جدًا على أفضل اتفاق. ولكن يُؤمِّن الدومنيكيان التأكيد على الذنب الأصلي بتعبيرات تذهب إلى أبعد مما ذهبت إليه نظرية سكوتس عن الدَّين.

من ناحية أخرى، يُؤمِّن الحزب المناوئ للأوغسطينية التأكيد الشديد على حقيقة حرية الإرادة في الإنسان، وإنكار اعتبار الشهوة خطيةً بأي معنى حقيقي، واستثناء العذراء الطوباوية من سياق أي قرار يؤكد على شمول الخطية الأصلية لها، وإنكار الموقف الأوغسطيني باعتبار أعمال غير المؤمنين أنها خطايا. وبالتالي يمكن الحديث عن الأرثوذكسية التريدنتينية بخصوص هذا الموضوع أنها سكوتي Scotist بوجه عام، مع جزئية واحدة غير مُستوعَبة من الأوغسطينية المحضة، أي مفهوم الخطية الأصلية المرتبط بها بشكل غريب.

يمكن المرور سريعًا على التاريخ اللاحق لهذه التعاليم في الكنيسة اللاتينية في بضع كلمات. لقد مال الجدل بين الدومينيكان واليسوعيين إلى الابتعاد عن الأنثروبولوجي، وأصبح مشتبكًا أكثر فأكثر بالسؤال عن ”النعمة“، الذي -كما قد أشارنا في المحاضرة الخامسة- لم نهتم به مباشرةً. مع ذلك، لا بد من ذكر محاولة وحيدة لإحياء النظام الأوغسطيني الكامل داخل المجتمع الروماني -المحاولة التي عن طريق إفشالها وإخمادها أثَّرت تأثيرًا غير مباشر في التأكيد على الصفة السكوتية للأرثوذكسية اللاتينية المناوئة للأوغسطينية في هذه النقاط.

وهذه المحاولة مرتبطة باسم مايكل من باي Michail de Bay، أو بايوس Baius.[75] بايوس -هو بروفيسور في جامعة لوفان Louvain- قد حضر مجمع ترنت كخبير ومستشار لاهوتي، أنكر التمييز المدرسي بين العطية الفائقة donum supernatural للبر الأصلي، والطبيعة النقية pura naturalia مؤكدًا بذلك على أن العطايا الفائقة لذهن ونفس آدم كانت خاصة بجوهر الطبيعة البشرية، وهكذا بالغ من ذنب سقوطه، وأعاد التأكيد مرةً أخرى على الموقف الأوغسطيني بأن الوجود المجرد للشهوة الكامنة في الطفل حديث الولادة هي خطية مميتة في حد ذاتها.[76]

كان لحرم هذين الاقتراحين[77] من بين العديد من الاقتراحات الأخرى المجموعة من أعمال بايوس -كما يمكن القول- انعكاسًا على التعليم الحالي للاهوتيين الرومانيين. حيث قاموا بصقل وتنميط التمييز بين الطبيعة البشرية المجردة و ”العطايا الفائقة للطبيعة“؛ ودنت فكرة الخطية الأصلية من تفسيرها بنمط سكوتي من الناحية العملية باعتبارها مجرد فقدان لهذه العطايا الفائقة للطبيعة، فقط مع تضافر طفيف للعلاقات السليمة بين العقل والشهوة كنتيجة لها.

ولكن مازالت فكرة الذنب الأصلي باقية في الحديث، ولكنها تُفسَّر بمثل هذه الطريقة المتعلقة بتفريغ وتجريد مصطلح ”ذنب“ والمصطلحات القانونية المرتبطة بالطبيعة بهذا المفهوم من كل معانيها الحقيقية. وبالتالي، نحتاج من أجل توضيح ذلك إلى مجرد اقتباس تصريح حديث ذي سلطة عن وجهة النظر الرومانية الكاثوليكية موجود في مجلد من أبحاث عن ”الله والفائق للطبيعة“.[78]

حيث يقول الكاتب عن ”مشكلة الشر“ في سياق حديثه عن مصطلح ”الدنس“ كمصطلح مُستخدَم عن الخطية الأصلية التالي:

”لا يوجد دنس مادي للطبيعة مثلما تقصد الكنيسة بمثل هذه اللغة، بل مجرد الولادة فحسب في الطبيعة ذاتها المجردة من الطبيعة الفائقة التي تجعلها كاملةً. وهذه هي البراءة الشخصية الموجودة في الطفل المولود حديثًا، وهكذا تتناسب براءته في النظام الطبيعي مع ذنب طبيعته في علاقته بالنظام الفائق للطبيعة. كما أنه عزيز على الله أيضًا بسبب اتحاده جوهريًا به على اعتبار أنه بدايته ونهايته الطبيعية، ولكنه مازال ’ابنًا للغضب‘ في انفصاله ونفوره عنه باعتباره نهايته الفائق للطبيعة“.[79]

ثم يضيف في حاشية:

”لا يجب استخدام ’ولكنه مازال بالطبع بمثل هذه اللغة ابنًا للغضب‘، أو ”مرفوضًا من الله“ عن الأطفال الأبرياء بالطبيعة وبشكل شخصي دون تفسير متعقل لمعناها التقني وغير الطبيعي“.

ولذلك، نحن مهتمون في هذا الجزء من بحثنا برصد وتسجيل مسار حركة الأفكار أكثر من نقدها. ولكن يستحيل أن يمنعنا هذا من ملاحظة أنه إذا كان من المكن فقط استعمال مصطلح ”ذنب“ عن الخطية الأصلية بمعنى غير طبيعي، فيبدو من الأفضل أكثر ألا يُستعمَل هكذا على الإطلاق.[80]

وهكذا يتم التعبير عن تصريح المجمع بخصوص التعليم عن الخطية الأصلية في القوانين التالية القابلة بالطبع للتفسير الأوغسطيني:

”إنْ كان أحد لا يعترف بأن الإنسان الأول آدم، عندما قد تعدى على الوصية الإلهية في الفردوس، فقد على الفور القداسة والبر الذين خُلِقَ عليهما، وجلب غضب الله وسخطه من خلال ذنب هذا التعدي، وكذلك الموت الذي قد سبق وهدَّد الله به، وهكذا بالموت العبودية لسلطان مَنْ له سلطان الموت، أي إبليس، وتحول آدم كله، جسدًا ونفسًا، وتغيَّر بهذا العصيان إلى الأسوأ، فليكن محرومًا“.[81]

”إنْ كان أحد يقر بأن تعدي آدم أصاب نفسه فقط، وليس نسله، وأنه بفقدانه القداسة والبر الذي قد أخذه من الله، وفقده عن نفسه فقط، وليس عنا، أو أنه نقل بواسطة تلوثه بخطية التعدي الموت وعقوبة الجسد فحسب للجنس البشري كله، وليس الخطية نفسها، أي الموت الروحي، فليكن محرومًا، لأنه يخالف الرسول القائل: ”بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا سار الموت إلى جميع الناس، لأن الجميع أخطئوا فيه (أي في آدم)“.[82]

”إنْ كان أحد يقر بأن خطية آدم هذه واحدة في الأصل، وانتقلت بالتناسل وليس بالتقليد، وبالتالي فهي موروثة في الجميع، وتخص كل واحد منهم، ويمكن محوها بقوة الطبيعة الإنسانية، أو أي علاج آخر غير استحقاقات الوسيط الوحيد ربنا يسوع المسيح […]، فليكن محرومًا“.[83]

صيغة هذه القوانين حول المعضلة الصعبة للخطية الأصلية هي غامضة عن قصد، ويمكن حتى أن يقبلها أوغسطينوس نفسه بلا شك، ولكننا عندما نتحول إلى الكاتشيزم[84] الروماني Roman Catechism الملحق بالقوانين، وله نفس السلطة التي لها، نجد الحديث عن أن البر الأصلي لم يكن برًا طبيعيًا، بل نعمة فائقة للطبيعة، أي أضافها الله إلى الإنسان بعد خلقته، ولا تشكل جزءًا أصيلاً من تكوينه. وبالتالي هذا، على الرغم من ذلك، يتعارض مع القوانين -ويتعارض مباشرةً مع النظرية الأوغسطينية. ويشير إلى أن الإنسان خُلِقَ ناقصًا.

فلم يكن خاطئًا من البداية، ولم يكن قديسًا أيضًا. إضافة عطية البر الأصلي -المضافة بعد الخلق، أو على الأقل باستقلالية عن فعل الخلق- ضرورية، لكي يمكن للنفس العاقلة وغير المائتة أن تميل إلى العلو، وأن تنال النصرة على الجسد، والتي لكونها مملوءة بالشهوات المادية، تميل إلى أسفل،[85] وهكذا يمكن أن تنتهي العداوة بين الجسد والنفس، ويصير المخلوق كاملاً. من ناحية أخرى، اعتبرت نظرية أوغسطينوس الإنسان مخلوقًا كاملاً. ودخل إلى تكوينه نفسه البر الأصلي آتيًا من الخالق، ولم يكن شيئًا ينبغي إضافته بصورة فائقة بعد ذلك.

وبالتالي، يمكن القول عن اللاهوتيين التريدنتينيين بأنهم كانوا في اتجاهات نصف بيلاجية لتغيير عقيدة أوغسطينوس عن الخطية الأصلية. ولم يقبلوا بالفساد الكامل للإنسان بعد السقوط.

بل قالوا ببساطة إنه قد تغيَّر وتحول إلى الأسوأ in deterius، وبالتالي، بالتأكيد أو الإشارة إلى أن الإنسان خُلِقَ ناقصًا، فإنهم يأخذون العلة الأولى للخطية الأصلية إلى أبعد من السقوط، ويجعلون مصدرها في النزعة الطبيعية للجسد التي تتعارض مع نزعة النفس، أي في الجزء الأدنى من الطبيعة الإنسانية الذي خُلِقَ مناقضًا لجزءها الأعلى- أي في الجزء الطبيعي الذي يتعارض مع الجزء الروحي- في الجزء الأرضي مقابل الجزء الإلهي.

ولكننا يمكننا أن نرى بكل وضوح في النتيجة المنطقية لهذه النظرية نزعتها النصف بيلاجية. وبالتالي أدى التعليم أعلاه القائل بأن البر الأصلي كان عطية فائقة للطبيعة إلى التعليم القائل بأن السقوط تسبب في فقدان وضياع العطية الفائقة للطبيعة، وليس فقدان العطية الطبيعية. وهكذا نتيجةً لخطية آدم، فقد الجزء الروحي من الإنسان سلطانه وسيطرته على جسده، وارتدت الطبيعتان، أي الأعلى والأدنى، اللذين خُلِقَ بهما، إلى صراعهما الأصلي.

وبالتالي لا تعني الخطية الأصلية في هذا النظام أي شيء آخر سوى فقدان البر الأصلي. وهكذا لم يكن الإنسان فاسدًا بالكلية، بل ”تغير وتحول إلى الأسوأ“، أي أنه قد ارتد إلى الحالة السلبية التي خُلِقَ عليها.

بينما اعتبر أوغسطينوس الصراع بين الجسد والنفس بمثابة نتيجة ودليل على السقوط، ويرفض كغنوسي وجود تعارض بين الأثنين في طبيعة الأشياء بالخلق. من ناحية أخرى، تمسك اللاهوتيون التريدنتنيون متبعين الرأي النصف بيلاجي بأن هذا الصراع هو الحالة الأولى والطبيعية في الإنسان المخلوق، حيث كان الجانب الروحي في حاجة إلى مساعدته بإضافة نعمة فائقة للطبيعة.

وبالتالي، قد كانت النتيجة المنطقية لهذا الرأي هي إنكار عقيدة النعمة المانعة (الوقائية) وسلبية الإنسان في عملية التجديد، أي العقيدة التي حرمها اللاهوتيون الكاثوليك الرومانيون باعتبارها قدرية بحتة، وتبني واضح للنظرية النصف بيلاجية عن التآزر (السينرجيا)، التي دافعوا عنها بقوة شديدة، كما يتضح من الاقتباسات التالية:

”إنْ كان أحد يقر بفقدان حرية إرادة الإنسان، وأنها صارت مندثرة بعد خطية آدم […] فليكن محرومًا“.[86]

”إنْ كان أحد يقر بأن حرية إرادة الإنسان التي يحركها ويقودها الله، لا تتعاون على الإطلاق بالاتفاق مع الله، هكذا من خلال الحض والدعوة بمثل هذه الطريقة الخاصة بتهيئة وإعداد نفسها لنوال نعمة التبرير، ولكنها لم تفعل أي شيء على الإطلاق مثلها مثل أي شيء غير حي، بل إنها سلبية فحسب، فليكن محرومًا“.[87]

”إنْ كان أحد يقر بتبرير الخاطئ بالإيمان فقط، بمعنى أنه لا يوجد أي شيء آخر ضروري، الذي قد يتعاون تجاه الحصول على نعمة التبرير، وأن الخاطئ لم يكن بحاجة إلى إعداد وتهيئة عن طريق تحريك إرادته، فليكن محرومًا“.[88]

وبالتالي، يمكن أن يؤدي هذا الاتجاه من ناحية الخطية الأصلية فحسب إلى إنكار أنها تُعتبر خطيةً حقًا -الرأي الذي طرحه أولاً النصف بيلاجيين، الذين رأوا الخطية الأصلية كمرض وليست خطيةً بالمعني الحقيقي والصحيح. وهكذا انتشرت الفكرة منهم بشكل واسع، واستمر ينادي بها اللاهوتيون الذين لديهم جميع أشباه هذا الرأي، من دنس سكوتس Duns Scotus إلى زفينجلي Zwingli، والأرمينيون Arminians [أتباع جاكوب أرمانيوس]. ولم يتردد المصلحون التريدنتينون في اعتناق هذا الرأي.

طالما أن حالة الإنسان بعد السقوط هي نفس حالته عند خُلِقَ أولاً قبل إعطائه البر الأصلي، فيشير القول بأن السقوط قد ترك الإنسان في حالة الخطية إلى خلق الله للإنسان في حالة الخطية، ويتهمه بالمسئولية عن الخطية الإنسانية. لقد قارن المجمع منح الإنسان الطبيعي البر الأصلي بتغطية الإنسان العريان بالملابس. وبالتالي كان تأثير السقوط هو تعري الإنسان من ردائه الخارجي، وتركه في حالته الأصلية in puris naturalibus، ليس بحال أفضل أو أسوأ.

لذا أقر المجمع بأن الخطية الأصلية في عملية التجديد ليست خطيةً بالمعنى الصحيح. بل إنها مجرد وقود للخطية fomes peccati. وهكذا قاموا بتغيير تعليم أوغسطينوس عن الخطية الأصلية إلى التعليم عن الشر الأصلي. وإنه من الحقيقي استمرار الشهوة حتى في غير المعمدين، التي يدعونها خطيةً أحيانًا، وهكذا دعاها الرسول،[89] ولكن هذا ليس بسبب ليجعل منها خطيةً في حد ذاتها بالمعنى الحقيقي والسليم، بل بسبب أنها تأتي من الخطية، وتميل إلى الخطية.[90]

وبالتالي، أعتنق مجمع ترنت Trent بالطبع وعبَّر بدقة عن الآراء النصف بيلاجية، وتمتع بالسلطة الكاملة حتى مجيء الإصلاح، عندما أحيا البروتستانت الأنثروبولوجي الأوغسطيني، وأعادوا الأوغسطينية في كنائس الغرب.[91]

[1] De Grat. Et lib. Arbitr. And De Corrept. Et Grat.

[2] De Predest. Sanctorum & De Dono. Perseverantia.

[3] DeVocat. Genitilum.

[4] De Grat. Dei et human. Mertis lib. Arbitr.

[5] George Park Fisher, History of Christian Doctrine, (Edinburgh, T & T Clark, 1896), Ch 7, p. 194-198.

[6] هذا الجزء مترجم من كتاب

Reginald S. Moxon, The Doctrine of Sin, (London: George Allen & Unwin LTD, 1922), p. 142-165.

[7] للمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى بحثنا المنشور على صفحتنا على الفيس بوك Antoun Guirgis بعنوان ”الجدل الأوغسطيني والصراع النصف بيلاجي“.

[8] ليو (لاون) الكبير: لاون كان أسقف روما من 29 سبتمبر 440م إلى 10 نوفمبر 461م.

[9] غريغوريوس الأول (الكبير): (ولد 540 م – 12 مارس 604) كان بابا روما في الفترة منذ 3 سبتمبر 590 حتى وفاته. وُلد في عائلة رومانية أرستقراطية. كان من أول البابوات ذوي الخلفية الرهبانية. في عام 573، عُين غريغوريوس الأول حاكماً لمدينة روما. بعد عامين أسس دير القديس أندرو.

في عام 578 عينه البابا بندكت الأول كأحد الشمامسة السبع لروما، وبعد عام أرسله البابا بيلاجيوس الثاني سفيرًا للمحكمة الإمبراطورية في القسطنطينية. عاد غريغوريوس الأول إلى روما في عام 586 ليصبح رئيس دير القديس أندرو. وفي 3 سبتمبر 590 أصبح غريغوريوس البابا الروماني، وفي عام 593 قام بكتابة كتب ”الحوارات“ (Dialogues) الأربع. وفي عام 596 أرسل البابا غريغوريوس أوغسطينوس ورهبان آخرين لتبشير الإنجليز. توفي في 12 مارس من عام 604.

[10] بيدا: والمعروف أيضًا باسم القديس بيدا Saint Bede في الكنيسة الكاثوليكية، وبيدا المكرم Venerable Bede، وباللاتينية: Bēda Venerābilis‏، هو راهب إنجليزي في دير نورثمبريا التابع للقديس بطرس Saint Peter في مونكويرماوث Monkwearmouth، ورفيقه دير القديس بولس الموجود في مدينة جارو Jarrow، وهما موجودان في مملكة نورثمبريا. كان دير بيدا متصلاً بمكتبة رائعة تحتوي على كتب يوسابيوس القيصري، وأوروسيوس Orosius، والكثير غيرهم.

عُرف بيدا ككاتب وباحث، وتسبب كتابه الأشهر، Historia ecclesiastica gentis Anglorum (التاريخ الكنسي للأمة الإنجليزية) في أن يُلقَّب بيدا بـ ”مصدر التاريخ الإنجليزي“. وفي عام 1899م، اختاره ليون الثالث عشر Leo XIII ليكون ملفانًا، وهو منصب ذو أهمية لاهوتية كبيرة، وكان بيدا هو أول إنجليزي من أصول إنجليزية خالصة يتولى ذلك المنصب (كان أنسلم الكانتربري Anselm of Canterbury ملفانًا أيضًا، ولكنه كان من أصول إيطالية).

وعلاوة على ذلك، كان بيدا عالم لغويات ومترجمًا بارعًا، وكان لاشتغاله بالكتابات اللاتينية والإغريقية الخاصة بآباء الكنيسة أثرٌ كبيرٌ في المسيحية الإنجليزية، حيث سهل ذلك الأمر على أقرانه من الأنجلوسكسونيون وجعل النصوص متاحة لهم بشكلٍ أكثر.

[11] ألكوين: (724م – 804م) كان عالم لاهوت، وكاتب، وكاهن، وشاعر، ولاهوتي، وفيلسوف من نورثمبريا.

[12] جوتشالك: (808-868 م) كان من أوربايز Orbais سكسونيا. جوتشالك هو لاهوتي، وراهب وشاعر. كان جوتشالك محاميًا مبكرًا عن عقيدة سبق التعيين المزدوج التي هزت إيطاليا وفرنسا من 848م إلى 850م و860م. أدَّعى تحت تأثير تفسيره الخاص لتعاليم أوغسطينوس حول هذه المسألة أن الطبيعة البشرية خاطئة، وضرورة الرجوع إلى الله بتواضع للخلاص. رأى نفسه كوعاء إلهي يدعو كل المسيحية للتوبة لعقود من الحرب الأهلية.

فشلت محاولاته في هذا التبشير بالتعليم الجديد في فرانسيا، أُدينت عقيدته في النهاية باعتبارها بدعة في مجمع ماينز 848م، ومجمع Quierzy 849م. بعد إدانته بالهرطقة، ظل جوتشالك عنيدًا على أيديولوجيته التي خالفت التسلسل الهرمي الكنسي، مما جعله ”مهرطقًا حقيقيًا“، لأن هذا العصيان وضع جوتشالك في الحبس الرهباني؛ لكن الصدمات التي أرسلتها أيديولوجيته حول العالم المسيحي الغربي رفضت التوقف عن الارتداد، وتمكن جوتشالك من كسب المزيد من الأتباع، وظل التهديد قائماً حتى وفاته في عام 868م.

أنذرت آراء جوتشالك عن الخلاص بوجهة النظر البروتستانتية عن السولا فيدي أو الإيمان فقط.

[13] بطرس اللمباردي: (1095- 1160م). أحد علماء اللاهوت في القرون الوسطى، كتب مرجعًا لاهوتيًا بعنوان ”الأحكام“ في أربعة كتب، انتهى من كتابته عام 1158م. وقد ظل هذا الكتاب مرجعاً رئيسياً في مدارس اللاهوت طوال 300 عام. عرض لومبارد في كتابه الأحكام لآراء السابقين والمعاصرين، تلك التي تدور حول المشكلات اللاهوتية بأسلوب منهجي. وقد جمع هذه الآراء من عدد من أبرز الرجال الثقات بالكنيسة، وبخاصة أوغسطينوس.

كما قام لومبارد بتلخيص موقف الكنيسة، وكتب آراءه الخاصة حول هذه الأمور. وقد كان على طلاب اللاهوت لقرون عديدة أن يكتبوا تعليقاتهم بشأن كتاب الأحكام في شكل مقالات نقدية. وقد كانت بعض هذه المقالات هي الأعمال الكبرى المنسوبة إلى كُتابها علماء اللاهوت والفلاسفة البارزين في القرون الوسطى، ومن بينهم بونافنتورا، وجون دنس سكوتس، ووليم أوكام.

وُلد لومبارد بالقرب من نوفارا بإيطاليا، ودرس في بولندا، وذهب إلى باريس في حوالي عام 1134 م للتدريس في المدرسة التابعة لكاتدرائية نوتردام. وسرعان ما اكتسب شهرة بوصفه عالمًا في اللاهوت. وتم تعيينه مطراناً لباريس في عام 1159م.

[14] أنسلم الكانتربري: (1033- 1109م) هو لاهوتي وفيلسوف من أوائل السكولائيين المدرسيين. كان له تأثير بالغ على اللاهوت الغربي. كان أنسلم يعتقد أن الإيمان يجب أن يسبق المعرفة، فيجب أن تؤمن لتعرف، ومع ذلك يمكن للإيمان أن يبنى على المعرفة. يُستخدم البرهان الأنطولوجي (الوجودي) حتى يومنا هذا في الجدالات الفلسفية حول حقيقة وجود إله، ومارس أنسلم تأثيرًا مهمًا على المفكرين اللاحقين، بما في ذلك توما الأكويني، وويليام أوكام، وكذلك على عقيدة الكنيسة اللاحقة في مختلف الأمور. توفي أنسلم في كانتربري عام 1109 ودُفِنَ في الكاتدرائية هناك.

[15] برنارد من كليرفو: (1090- 1153م) كان رئيس الدير الفرنسي والقائد الأساسي في إصلاح الرهبنة البندكتية التي تسببت في تشكيل النظام السسترسي. في عام 1128، حضر برنارد مجمع تروي، الذي تتبع فيه الخطوط العريضة لقاعدة فرسان الهيكل. عند وفاة البابا هونريوس الثاني في 13 فبراير 1130، اندلع انشقاق في الكنيسة. عقد الملك لويس السادس ملك فرنسا مجلسًا وطنيًا للأساقفة الفرنسيين في مدينة إيتامب في 1130، واُختير برنارد للفصل بين المنافسين على الباباوية.

بحلول نهاية عام 1131، ممالك فرنسا وإنجلترا وألمانيا والبرتغال وقشتالة وأراغون دعمت ’إينوسنت الثاني‘. ومع ذلك، فإن معظم إيطاليا وفرنسا الجنوبية، وصقلية، مع البطاركة اللاتينية في القسطنطينية، أنطاكية، والقدس دعموا ’أناكليتوس الثاني‘. شرع برنارد في إقناع هذه المناطق الأخرى بالوقوف وراء إينوسنت. في عام 1139، ساعد برنار في مجمع لاتران الثاني. وفي وقت لاحق ندد بتعاليم بيتر أبيلارد إلى البابا، الذي دعا إلى مجلس في سنس في 1141 لتسوية المسألة.

بعد أن ساهم في إنهاء الانقسام داخل الكنيسة، كان برنارد الآن مدعوًا لمكافحة الهرطقة. في يونيو 1145، سافر برنارد في جنوب فرنسا وساعدت بالوعظ هناك على تقوية الدعم ضد الهرطقة. بعد هزيمة المسيحيين في حصار الرها، كلّف البابا برنارد بالدعوة بالحملة الصليبية الثانية.

كانت السنوات الأخيرة من حياة بيرنارد حزينة بسبب فشل الصليبيين، حيث تم إلقاء المسؤولية عليه بالكامل. توفي برنارد عن عمر يناهز 63 عامًا بعد 40 عامًا كراهب. كان أول سسترسي يوضع على تقويم القديسين، تم إعلان قداسته من قبل البابا ألكسندر الثالث في 18 يناير 1174. في عام 1830، منح البابا بيوس الثامن برنارد لقب ’ملفان‘ (معلم الكنيسة).

[16] Predestination, p. 234 n.

[17] هينسمار: (806- 882م) هو رئيس أساقفة رييم Rheims ولاهوتي فرنكي ينتمي إلى أسرة نبيلة في شمال فرنسا.

[18] Predestination p. 234 n.

[19] جون سكوتس إريجينا: (815- 877م) فيلسوف أيرلندي المولد نال تعليماً في سن مبكرة، وعاش في فرنسا. وهكذا أبدع اريجينا مذهبه الصوفي الذي عرض جوهره في مؤلفه ”عن الطبائع الإلهية“ على أساس الأفلاطونية الجديدة.

[20] Conc. Carisiac. II, A, D. 853, c. i.

[21] Hasse, Anselm von Canterbury, II 364 seq.

[22] Potestas pecccandi et non peccandi: or possibilitas utriusque partis.

[23] Summa Theol. Ima Q. 22 Art. 2.

[24] See his sermons on human nature.

[25] Summa Theol. Ima 2dae Q. 10 Art. 6.

[26] Summa Theol. Ima 2dae Q. 51 Art. I.

[27] Ibid, Ima 2dae Q. 51 Art. I.

[28] تمت ترجمة هذا الجزء من كتاب

  1. P. Williams, The Ideas of The Fall and of The Original Sin, (London, New York, Toronto: Longsman, 1929), p. 408-419.

[29] جون دنس سكوتس: (1265 – 1308 م) هو فيلسوف ولاهوتي فرنسيسكاني أسكتلندي. تعرف فلسفته بـ ’السكوتية‘. تأثر بالنزعة الأوغسطينية، وبالقديس بونافنتورا، وأستفاد كثيرًا من أرسطو. انتقد لاهوت توما الأكويني. أكد أن الإيمان ليس شأنًا تأمليًا، بل عمل من أعمال الإرادة.

[30] يتم شرح تفسير سكوتس للتعاليم عن السقوط والخطية الأصلية بإسهاب في كتابه

Quaestiones in II. Lib. Sentent., distinct. XVII-XXXIII. (Paris edition, 1893, tom XIII. pp. 332-61.

يُفهَم من المخطط المعروض في النص بسعيه فقط لاختيار بعض من نقاطه الأكثر تميزًا، ولا يحاول نقد النقاش كله. إلا عندما يُشَار بطريقة أو بأخرى إلى الإشارة “dist” التي تشير إلى أحد هذه التمايزات.

[31] Dist. XXIX. (Paris edn. tom. XIII. p. 272.).

[32] Dist. XX. Q. I (op. cit. p. 116).

[33] Dist. XX. Q. I (pp. 115 ff.).

ولكن هذا ”الثبات في النعمة“ لا يمنح الحالة المعروفة بـ “non posse peccare” أي ”عدم إمكانية ممارسة الخطية“ الممكنة فقط للأبناء المتبنين (أي المغبوطون الذين ينالون المعاينة الطوباوية)، بل هو امتياز فقط للذين لم يخطئوا أو يمارسوا الخطية، أي يليق بالمسافرين فقط (أي هؤلاء الذين مازالوا يعيشون على هذه الأرض تحت الاختبار).

[34] Dist. XXIX. 5 (p. 274); cf. dist. XIX. 2 (p. 103).

ولكن هذا الموقف هو موقف أوغسطينوس تحديدًا.

[35] Dist. XXI. Q. 2 (p. 139).

[36] Ibid. (p. 141).

نشأت خطية آدم من محبته الزائدة لخليلته (أي حواء). وبالتالي يوجد تقسيم لذنب السقوط في ص 143 -كما كان – بين آدم وحواء.

[37] Dist. XXX. Q. 2 (p. 293).

[38] يميز هذا التمييز نفسه بين هذين المعنين للكلمة في dist. XXXII. 7 cp. 311 ويعترف بأن ”الشهوة هي الخطية الأصلية المادية“ “concupiscentia est materiale peccati originalis” في المعنى الأخير، وهكذا يتفق مع توما (الأكويني) شفهيًا.

ولكن لم يكن من غير المعقول اعتبار هذا الاعتراف الأخير كمجرد فعل عابر لولاء شفهي للأوغسطينية، والتمسك بالتعبير عن فكر سكوتس الحقيقي في صمته الواضح في dist. XXXI. Q. unica. حيث يعلق هنا على فقرة من كتاب الأحكام و Senti. II.، حيث يقتبس لومبارد ويصادق على فقرة من عند أوغسطينوس، تعبِّر في صورتها الصريحة عن نظرية انتقال الخطية الأصلية من الأب إلى الابن عن طريق الشهوة المصاحبة لفعل الولادة de fide ad petrum, 2. وهكذا يعبر سكوتس عن هذا الاقتباس المستهجن دون تعليق، ويخالفه صراحةً، بالرغم من أن السلطة المركبة لأوغسطينوس وصاحب كتاب الأحكام كان من الصعب جدًا التنصل منها صراحةً.

[39] See Additional Note G “Infant Baptism” (p. 550).

[40] Dist. XXXII. 7 (p. 311).

ولكن يغفر الله ”دَّين“ البر الأصلي (أو بمعنى آخر، الصفح عن الذنب الموروث لفقدان العطايا الفائقة للطبيعة في الطبيعة البشرية غير الساقطة) بواسطة المعمودية، لأنها تستبدل ضرورة اقتناء الفضائل المسيحية المعتادة.

[41] الأسمية: هو مذهب ينتمي أصحابه، بالمعنى الدقيق، إلى فلسفة العصر الوسيط الأوروبي، وهو بالحري حركة منطقية وابستمولوجية امتد تأثيرها الموصول إلى ميدان العلم الحديث والمعاصر. يتفق الباحثون في تاريخ المذاهب الفلسفية على أن الاسمية تنطلق من نقاط سابقة متصلة بتاريخ المنطق في العصر القديم. فقد كان المنطق لصيق الاتصال بما وراء الطبيعة. وقد تأثر بالرواقية وبالمشائية وغدا علمًا صوريًا يُعنى عناية خاصة بنظرية المفهوم أو التصور.

وبقيت كتب خطباء اللاتين المتأخرين معتَمدة في التعليم حتى القرن الثاني عشر، ومنها كتب كايوس ماريوس ف. كتورينوس Gaius Marius Victorinus ومرتيانوس كابلا Martianus Capella وهكتور بويس (470-524) Hector Boece مترجم مصنفات أرسطو المنطقية إلى اللاتينية. وقد ترجم بويس التحليلات الأولى والثانية وسواها وأطلق عليها اسم المنطق الجديد، فكان من جراء ذلك الرجوع إلى طرح مشكلة الكليات طرحاً حاداً أثار خصاماً شديداً هو إلى المعركة أدنى، وبها أشبه.

دارت هذه المعركة بين ثلاثة فرقاء يمثلون النزعات الأكثر إثارة في الفكر الفلسفي الوسيط المتضمن مشائية مشوبة ببعض من الأفلاطونية الحديثة من نمط المذاهب اللاهوتية ـ الكلامية التي عرفها من قبل الفكر اليهودي والمسيحي والإسلامي وقد انعكست تفاعلاتها المعقدة في تراكيب تتساءل عن حقيقة الكليات: هل هي كلمات، أو أفكار، أو وقائع؟ وإذ ذاك ظهرت الحلول الثلاثة الآتية. رأى الاسميون أن الكلي هو الكلمة (أو الصوت) التي تعرب عنه.

ورأى الواقعيون، على العكس، أن الكلي شيء، وأنه لا يوجد بذاته كما حسب أفلاطون، بل في الكائنات الفردية. وإلى ذلك ذهب غيوم ده شامبو (1070-1120)Guillaume de Champeaux ، أسقف شالون، قائلاً: كل إنسان هو الإنسان مضافاً إليه ما يجعله هذا الإنسان أو ذاك. ولكن خصومه انتقدوه بملاحظة أن ذلك الأمر لو صحّ لكان الإنسان الماثل في سقراط يتألم، وكذلك الإنسان الماثل في أفلاطون، أو في أي فرد من الناس.

فرجع عن رأيه، ودنا من مذهب ثالث هو الواقعية المعتدلة ويمثلها بوجه خاص أبيلارد (1078-1124) Abelard القائل بنظريات حظيت بشهرة واسعة، وهي ترى أن ثمة واقعاً في الكائنات الفردية، ولكن بين هذه الكائنات الفردية صفات مشتركة، وهذه الصفات لا تنفصل عن الصفات الفردية. غير أن الفكر يستطيع أن ينظر إليها واحدة واحدة. وبذلك تكون الأفكار العامة نتيجة عملية التجريد: إن الفكر يدرك في الموضوعات الخاصة الشكل العام مثلما يدرك بوساطة الألوان رسماً في لوحة.

والاسمية مذهب يؤكد أن الأفكار العامة لا تقابل أية حقيقة (في الذهن ولا خارج الذهن) وإنما تنحلّ الأفكار إلى إشارات عامة تعرب عنها. وقد أكد كوندياك أن واقع الأفكار المجردة والعامة وهو واقع اسم. وعلى هذا فإن الحوادث أو التصورات لا تتحلى بصفة الواقع الدالّ إلا بتسميتها مادام من اللازب تمثل هذه الحوادث تمثلاً حسياً في سبيل فهمها. ويرى كوبلو أن الاسمية مذهب ينكر وجود الأجناس سواء أكان وجودها بذاتها (كما في الواقعية) أم في الذهن (كما ترى التصورية) وأنها ليست سوى أسماء يمكن انطباقها على عدد لا محدد من الموضوعات المختلفة.

ويرى ريجيه جوليفه Régis Jolivet أن الاسمية مذهب ينطلق من التجربة وينكر الأفكار (الكليات) وينقسم إلى اسمية متطرفة يمثلها هيوم، وهي ترى أن ليس للأفكار واقع ذهني لأنها تنحل إلى صور (وهذه هي النزعة الحسية)، وإلى اسمية معتدلة أو تصورية، وقد قال بها أوكّام، وديكارت، وبركلي، وكانط، وعندهم أن الأفكار لا تنشأ من التجربة، بل إن لها واقعًا ذهنيًا خاصًا لا ينحل إلى الصور. أما لالاند فإنه يُعرِّف الاسمية بوصفها مذهباً ينكر وجود الأفكار العامة، ولا يقر إلا بوجود إشارات عامة، ومن أشهر زعمائها روسلان وأوكام وهوبز.

لقد حذا روسلان في مجال الكليات حذو بويس وسمبليقيوس Simplicius القائلين إن مقولات أرسطو والجدل الناجم عنها لا يتناولان الأشياء بل الكلمات من حيث دلالتها على الأشياء. وذهب روسلان إلى أن كل ضروب التمييز الجدلي بين الجنس والنوع والجوهر والصفة، ليست سوى تمييزات لفظية تنشأ من مجرى المقال. ”إنما التمييز الوحيد الذي يمكن قبوله في الواقع هو تمييز الجواهر الفردية. وبذا يتجلى مذهبه في قضايا ثلاث هي: إن الجواهر الكلية ليست سوى أصوات، واللون ليس سوى الجسم الملوَّن وحكمة الإنسان ليست إلا الإنسان نفسه“.

وهذا عنده يعني أن من الجائز بالكلام وحده فصل الإنسان عن سقراط، والبياض عن الجسم، والحكمة عن النفس. ولكن الإنسان المقصود هو في الواقع سقراط، والبياض جسم أبيض، والحكمة هي الحكيم نفسه. ليس ثمة شيء عن روسلان إلا رسالة موجهة إلى أبيلارد تلميذه السابق ثم خصمه. وقد نسب إليه هذا الخصم الاعتقاد بأن من باب الاعتساف والمواضعة تقسيم الأشياء بحسب الأصوات والمقولات. وكذلك تقسيم الجسم إلى أجزاء اسمية، بل الأشياء الجزئية المحسوسة هي وحدها الأشياء الواقعية.

وكل جسم، مثل البيت، لا يقبل التجزئة. وما القول إن البيت مؤلف في الواقع من أساس وجدران وسقف إلا نظرٌ إلى أحد أجزائه، وليكن السقف، على أنه، في آن واحد، جزء من كل، وشيء مميز ضمن كثرة أشياء ثلاثة. وقد قاد هذا الرأي إلى نتائج خطيرة في المجال الديني. والمعروف أن مجمع سواسون الكنسي حكم سنة 1092 على روسلان بإنكار رأيه في الثالوث المقدس، ذلك أنه جَرُؤ على تطبيق قول بويس إن الشخص يدل على جوهر عاقل. ولذا فإن في ذات الإله عددًا من الجواهر بعدد الأشخاص (الأقانيم).

وهذه عقيدة ثلاثية الإله، فالآب والابن، الوالد والمولود، واقعان متمايزان. والأقانيم الثلاثة ينفصل بعضها عن بعض انفصال ثلاثة ملائكة. وبذا ”يمكن القول بثلاثة آلهة لو كان العرف يسمح بذلك“. ولكن العرف يأبى هذه التعددية، فسعى روسلان إلى التوفيق بين الإله المثلث والواحد معًا. وأعلن أنها وحدة إرادة ومشيئة. ولكن ذلك لم يمنع أمثال أنسلم Anselm of Canterbury من أن يأخذ عليه وعلى أضرابه ”شدة انخراط الفكر في الصورة الجسمية حتى امتنع الافلات منها“ فجاءت الاسمية تهدم كل لاهوت مسيحي لأنها تميز ما لا ينبغي تمييزه.

ويؤكد راسل Russell أن ”أهم سكولائي بعد توما الأكويني هو ويليام الأوكامي (غيوم دو أوكام)“. ويذهب مؤرخو الفلسفة إلى أن الفلسفة المدرسية قد تراجعت وانحلت من جراء أمرين أحدهما هو انتصار الاسمية، والآخر ذيوع الصوفية. والحق أن راية هذا النصر إنما حملها أوكام ومدرسته. إن الحجج التي اعتمدها أوكام لإنكار وجود الكليات ترجع إلى ما عرفه سابقوه في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ومَن قَبلهم إلى مناقشة أرسطو مُثُلَ أفلاطون كما نقلها بويس: إن الكلي الذي يُفرض فيه أنه موجود بذاته سيكون فرداً.

وهذا تناقض، وإن طرح الكلي لتفسير الفردي لا يؤلف تفسيرًا، بل يعني ازدواج الكائنات، وإن عدّ الكلي موجودًا في الأشياء الفردية والتي سيستخرجها العقل بالتجريد هو كذلك بمنزلة جعل الكلي فرديًا. وقد عُرِفت اسمية ويليام من أوكام بأنها حدية terminisme أنجبت صورية رهيفة جعلت المنطق علم الكلمات. وقد منعتها كلية الفنون في جامعة باريس سنة 1339م وسنة 1340م وجُدِّد هذا المنع بعد قرن بمرسوم أصدره الملك لويس الحادي عشر سنة 1473م، وفرض على الأساتذة أداء قَسَم يتعهدون فيه باعتماد الواقعية بدل الأوكامية.

ولكن اسمية أوكام حظيت بشهرة فائقة وكان لها أكبر الأثر في تاريخ العلم والفلسفة. وذاعت في ألمانية ولاسيما بجهود جابريل بيل Gabriel Biel (ت 1495) وتلاميذه الذين أطلعوا مارتن لوثر على اللاهوت الاسمي وفيه يشبه الإله نوعًا من يهوه العابث بأكثر من شبهه إلهًا تخضع إرادته لقانون النظام والخير كما يتصورهما عقله.

[42] الكليات: هو أحد أصناف الكيانات العقلية المجردة المستقلة حسب ما تعرفها الفلسفة الواقعية، حيث يفترض أن هذه الكليات هي التي تؤسس وتشرح العلاقة بين الماهيات النوعية والتشابه بين الأفراد. يمكننا أن نقول عن الأفراد انها متشابهة عن طريق تقرير تشاركهم بالكليات. فالتفاحة الحمراء والياقوتة تتشابهان بأنهما حمراوان، فتشاركهما بالاحمرار نتيجة تشاركهما في كلي (كيان عقلي) هو الاحمرار. وهذا هو ما يميز الكلي عن الأفراد والأشياء، فهو يمكن ان يتواجد في مكانين أو أكثر بنفس اللحظة.

في الفلسفة، ضرورة الكليات لشرح العلاقة بين الماهيات والأفراد المتشابهة كانت نقطة جدال مركزية لآلاف السنين بين الفلاسفة والميتافيزيقيين. ويمكن ان نلخص النزاع بين ثلاثة أطراف رئيسية: الواقعيين الذين يدعمون الكليات ويرون انها ذات وجود واقعي، الاصطلاحيون يشرحون التشابه بين الأفراد بقبول مصطلحات عامة أو أفكار، أي أشياء تتواجد فقط في العقل دون الواقع، وأخيرا الاسميون وهم يميلون إلى ترك التشابهات بين الأنواع والماهيات النوعية غير محددة وغير مؤسسة بشكل محدد بل بشكل متطور حسب السياق التاريخي.

وجدت خلال التاريخ نسخ عديدة من الاسمية، بعضها على درجة عالية من التعقيد، شهدت الساحة مؤخرا نشوء مدرسة اسمية جديدة تدعى الاسمية المجازية، وهي تعمل على استخدام نوع خاص من الجزئيات (الأفراد) يعرف بالمجاز. فالأفراد المتشابهون يملكون العديد من الخواص لكن المجاز هو حالة وحيدة الخاصية.

[43] راجع الملاحظات التالية على عقيدة السقوط عند أوكام. لقد كان أوكام مُقيَّدًا كلاهوتي كنسي بالحفاظ على هذا المفهوم [أي مفهوم الخطية الأصلية]، وبالمثل أيضًا التعريف التقليدي الخاص بها بوصفها فقدان البر الأصلي. ولكن من منظور الإمكانية […] يبدو من المستحيل بأي حال من الأحوال بحسب أوكام أن يكون الإنسان مُقيَّدًا باقتناء عطية فائقة للطبيعة بالإضافة إلى أداته الطبيعية. فليست الخطية الأصلية نقصًا حقيقيًا في طبيعة الإنسان: بل إنها الإسناد المنطقي الأفضل لخطية آدم في علاقتها بكل نسله.

ومعناها ببساطة أن جنس آدم بسبب قوة الله المنظمة potential ordinata، وبسبب معصية الآخر، تم تضمينها في عبارة الإدانة. ولا يوجد نقاش هنا حول خطية الإنسان الخاصة. لأنه من البديهي بالنسبة للاسميين عدم وجود ارتباط حقيقي بين آدم وباقي البشرية. وتبين هذه الأطروحات بكل بساطة ماهية الهوة العظيمة الفاصلة بين عقيدة الخطية الأصلية هذه وبين الدوافع التي أدت إلى صياغتها الأولى بواسطة أوغسطينوس. في الواقع، لقد تركنا فقط الصيغ الجوفاء، وذهب الآن ذاك الذي كان يعطيهم الحياة فيما سبق. فالعقيدة هي موقف لاهوتي، وبالتالي لا يوجد أي سبب آخر لوجوده سوى ما يفرضه التقليد الكنسي. ولكن كيف يمتلك فهم أوكام القليل من المغزى الأصلي للعقيدة، فنرى ذلك بوضوح في أسلوب تناوله لموضوع الشهوة […] فالشهوة أو الوقود fomes بالنسبة له بالكامل من الطبيعة الحسية هو مجرد خلل جسدي محض. وينبغي الاعتقاد بأن مقارنتها ببساطة بالأمراض الجسدية وما شابهها يرتكز على توزيع غير متساو ”للأمزجة“ في الإنسان. ويعزو للوقود أيضًا الدورة الكاملة للحياة النباتية؛ كالجوع، والعطش، والنوم، وما إلى ذلك، فهي نتائج للشيء نفسه بمقدار استحالة السيطرة عليهم. وبالتالي، لم يكن المسيح، ولا العذراء مريم بهذا المعنى الأخير، خاليين من الشهوة. وهكذا يعود أوكام إلى موقف يوليان الذي أثار مرةً استياء أوغسطينوس الشديد.

  1. Ljunggren, op. cit. p. 248 f. (tr. G. C. Richards).

[44] حيث يستنكرونها بشدة في Art. XIII.

[45] Dist. XXXII. 2 (p. 328).

[46] Ibid. 2 (p. 329).

[47] Ibid. 3 (p. 330).

[48] بونافنتورا: (1217- 1274 م) هو عالم لاهوت وفيلسوف إيطالي سكولائي ينتمي إلى القرون الوسطى. وكان سابع كاهن عام للرهبانية الصغرى، كما كان أسقفًا وكاردينالًا لألبانو. وقام البابا سيكتوس الرابع بإعلان قداسته في 14 من إبريل 1482م، وأعلنه البابا سيكتوس الخامس معلمًا في عام 1588م. وقد عُرِف أيضًا باسم ”المعلم السيرافيمي“.

[49] Dist. XXXIII. 4 (p. 331).

[50] يوجد عرض كلاسيكي لنظرية الغاية الحتمية من التجسُّد في كتاب ويستكوت Westcott بعنوان ”إنجيل الخليقة“ (رسائل ق. يوحنا، 1883، ص 273- 315).

[51] J. Turmel (ERE VII. P. 66, art).

تعكس عقيدة ”الحبل بلا دنس“ العلاقة بين السبب والنتيجة المشار إليها في النص، ويُعتقد أن الحماس الشعبي لفكرة وعيد الحبل بلا دنس أضطر اللاهوت الرسمي للتخفيف من حدة مفهومه عن الخطية الأصلية، وتحديدًا إسقاط الاعتقاد بالذنب الموروث للشهوة. حيث تستبعد المبادئ الأوغسطينية الصارمة فكرة الحبل بلا دنس، لأن نفس مريم لا بد من أنها مُصابة تلقائيًا بالخطية الأصلية عن طريق الشهوة التي من المفترض وجودها أثناء ولادتها من يواقيم وحنة. ولقد عارض ق. برنارد Bernard، كما هو معروف جيدًا، إقرار العيد (ep. CLXXIV, PL CLXXXII. 332).

[52] History of Dogma (E. tr., 1899), VII. P. 100, n. 1.

[53] سيكون من اللائق هنا إضافة بعض الكلمات بخصوص تحاملنا على التعليم الكاثوليكي بحبل العذراء مريم الطوباوية بلا دنس في نقاشنا. حيث يؤكد كتاب بول Bull ”الإله غير المنطوق عنه“ Ineffabilis Deus (الذي يعود تاريخه إلى 8 ديسمبر، 1854) على أن ”التعليم الذي ينادي بأن العذراء كلية الطوبى كانت معصومة من وصمة الخطية الأصلية برمتها منذ اللحظة الأولى للحبل بها بنعمة وامتياز وحيد من الله القدير في ضوء استحقاقات ربنا يسوع المسيح مخلص الجنس البشري (abomni originalis culpae labe praeservatam immune)، قد أعلنه الله، لذلك يجب على جميع المؤمنين أن يؤمنوا بذلك بقوة وثبات“ (Denzinger-Bannwart, Enchiridion, § 1641).

وهكذا بحسب التعريف الذي أصدرته السلطة الرومانية، ويفترض على الأرجح مسبقًا المفهوم الحالي للخطية الأصلية، الذي (كما هو مشار إليه في النص) أكثر حدةً نوعًا ما من التعليم السكوتي، لأنه لا يحتوي على مجرد ذنب فقدان البر الأصلي، بل يحتوي أيضًا على ذنب ارتكاب الخطية ”في آدم“. وبالتالي لا بد أن معنى العصمة ”من وصمة الخطية الأصلية برمتها“ بين الآخرين inter alia هو عصمة من الذنب الأصلي. وهكذا يتضح من منطلق الأطروحة المقدَّمة في هذه المحاضرات أن الاعتراض الرئيس على عقيدة الحبل بلا دنس -ليس أكثر من حقيقة عدم وجود أثر لأي عقيدة كهذه في العهد الجديد، أو عند الكُتَّاب المسيحيين في القرون الأربعة الأولى، بل بالأحرى- هو حقيقة أن (إنْ كانت ادعاءاتنا سليمةً) فكرة المسئولية عن المشاركة قبل الولادة في خطية آدم هي فكرة ميثولوجية (أسطورية) وغير منطقية. فإنْ كان -كما قد قلنا من قبل- ”الذنب الأصلي“ مجرد كابوس أوغسطيني، فلا معنى من الإقرار بأن مريم كانت معصومة منه.

[54] يوجد تعليم توما الأكويني حول هذا الموضوع في الخلاصة اللاهوتية Summa theol. III. Q. XXVII تحت عنوان ”طهارة العذراء مريم الطوباوية“ (de beatae Mariae virginis sanctificatione).

[55] بيير من إيلي: (1350- 1420م) كان بالتتابع مستشارًا لنوتردام باريس، ثم أسقفًا على كامبري Cambrai، ثم أسقفًا لأورانج Orange، ثم كاردينالاً. لعب دورًا بارزًا في الحركة ”المجمعية“ في بداية القرن 15، أنظر دراسة عن حياته وكتاباته في P. Tschackert, Peter von Ailli, Gotha, 1877. وهكذا نعرض الحديث في النص بناءً على مرجعية Ljunggren, op. cit., p. 249.

[56] ويليام من أوكام: (1288م – 1348م) هو راهب فرنسيسكاني ولاهوتي مدرسي إنجليزي من أوكام، قرية صغيرة في سري. كان له أثر فكري وسياسي على مجرى الأحداث في القرن الرابع عشر.

[57] هذا الجزء هو ترجمة من كتاب

Rikvan Nieuwenhove, An Introduction to Medieval Theology, (Cambridge University Press, 2012), p. 258-260.

[58] In I Sentences. d43 c.5.

حيث يميز بيتر لومبارد بين ما يفعله الله بشكل منطقي، وبين جميع الأشياء التي بإمكانه فعلها بشكل منطقي.

[59] ألكسندر من هالس: (1185- 1245م) هو راهب فرنسيسكاني حاصل على وسام الرهبان الصغار، وكان فيلسوفًا وعالم لاهوتٍ مهمًا في تطوير الفلسفة المدرسية والمدرسة الفرنسيسكانية.

[60] ألبرت الكبير: (1200 – 1280م)، معروف أيضًا باسم ألبرتوس ماجنوس، وألبرت من كولونيا، كاهن وراهب دومينيكي حقق شهرة واسعة لمعرفته الشاملة، ودعوته للتوفيق بين العلم والدين. يُعتبر أعظم لاهوتي وفيلسوف ألماني في العصور الوسطى. كان أول الدارسين في القرون الوسطى الذي طبَّق فلسفة أرسطو في الفكر المسيحي. كرَّمته الكنيسة الكاثوليكية بلقب معلم الكنيسة واحدًا من أهم 33 شخصية نالوا هذا التكريم فقط.

[61] In Sentences. I, 25. 5 ad I.

[62] See ordin. I. d.44. q.u-no.3, quoted by McCord Adams, William Ockham, 1190.

[63] Quodlib. VI. I (trans. 491-92).

[64] See McCord Adams, William Ockham, 186-207.

[65] كما يلخص مويرر Maurer, (The philosophy, 263): ”لم يرسم أوكام صورة الله باعتباره حاكمً متقلبًا: تحكم عالمه قوانين طبيعية وأخلاقية تعطيه النظام والمنطقية، بل أنها قوانين عرضية (مشروطة) بناءً على تأسيسه لها بحرية“.

[66] Maurer, The philosophy, 539.

[67] Quodlib. VI. I art. 2 (trans. 492).

[68] McCord Adams, William Ockham, 1279.

[69] Ibid., trans. 493.

[70] Quodlib. VI. 4 art. 2 (trans. 500).

[71] Gordon Leff, William Ockham. The Metamorphosis of Scholastic Discourse, (Manchester University Press, 1975), 473.

[72] ولكن يعتقد G. C. Coulton في كتابه (Five Centuries of Religion, Vol. I, 1923, p. 145) أن كأبة وقتامة التعليم الأوغسطيني الصارم قد ساعدت على تشجيع تنامي عبادة العذراء الطوباوية، الفكر الذي قدمت قواه الشفاعية الناس ببعض الاعتقاد الذهني بإمكانية اللعنة والهلاك المحتمل.

[73] تفسر الاعترافات الليتورجية عن الخطية الواردة في العديد من أنظمة الكنائس البروتستانتية هذا الترويج للتعليم عن السقوط، الذي يتطلب الاجتماع على إلصاق الخطية الأصلية والخطية الفعلية إلى نفسه: أنظر بخصوص مجموعة من مثل هذه الاعترافات في الملاحظة رقم 2 الإضافية “Congregational Confessions of Original Sin in The Churches of The Reformation”, p. 443. زيادة الاهتمام الهائل بموضوع الخطية الأصلية الذي توضحه هذه الصيغ يمكن قياسه إذا ما قورنت بسابقاتها في العصر الوسيط، فالاعتراف الكاثوليكي هو اعتراف بالخطية الفعلية فقط. وربما جدير بالملاحظة أن الاعترافات الموجودة في المكاتب اليومية ومجتمع الخدمة في كنيسة إنجلترا -على الرغم من إبرازهم العلاقة الأدبية بالاعترافات على مستوى القارة- أهملت ذكر موضوع الخطية الأصلية.

[74] أنظر بخصوص نص الإجراءات المتعلقة بهذه الوثائق، الملاحظة الإضافية رقم F في “Formularies (II), Western & Roman”, p. 538.

[75] وُلِدَ عام 1513م، وتوفي عام 1589م: وهو المبشر بكورنيليوس جانسن Cornelius Jansen المعروف جدًا.

[76] شكَّل هذان الموقفان -كما سوف نشرح أدناه- الاختلاف حول نسخة عقيدة السقوط المميزة للإصلاح. لقد كان بايوس Baius في الحقيقة يسعى إلى توطين الأنثروبولوجي البروتستانتي داخل سياق الكاثوليكية اللاتينية بعد المجمع التريدينتيني. أنظر فاكنت-مانجنوت Vacant-Mangenot, DTC., art. “Baius”.

[77] حُرِمَ بمرسوم من البابا بيوس الخامس Pius V, Ex omnibus affictionibus (1567). أنظر أيضًا بخصوص الاقتراحات الأساسية المحرومة في Denzinger-Bannwart, Enchiridion, §§ 1001 ff، لاحظ بالأخص الصفحات أرقام 1021، 1023، 1025-1027، 1047، 1051.

[78] Ed. Fr. Culthbert, O. S. F. C. (1920).

[79] P. 150.

[80] هذا الجزء من ”جون دنس سكوتس“ إلى ”مجمع ترنت“ هو ترجمة عن كتاب

  1. P. Williams, The Ideas of The Fall & of Original Sin: A Historical & Critical Study, (London, New York, Toronto: Longmans, Green & Co., 1929), p. 408-423.

[81] Canones Concilii Tridentini, Sessio V § 1.

[82] Ibid. Sessio V § 2.

[83] Ibid. Sessio V § 3.

[84] Catechismus Romans. P. I Cap. II Q. 18.

[85] أنظر بيلارمين Bellarmin, Gratia Primi Hominis وشرحه للنظرية الرسمية عن البر الأصلي.

[86] Canones Concilii Tridentini, Sessio VI § 4.

[87] Ibid. Sessio VI § 5.

[88] Ibid. Sessio VI § 9.

[89] (رو6: 12؛ 7: 8).

[90] Canones Conc. Trid., Sessio V.

[91] هذا الجزء مترجم من كتاب

Reginald S. Moxon, The Doctrine of Sin, (London: George Allen & Unwin LTD, 1922), p. 142-165.

الخطية الأصلية ما بعد أوغسطينوس في الغرب – د. أنطون جرجس عبد المسيح

Exit mobile version