آبائياتأبحاث

الجدل الأوغسطيني والصراع النصف بيلاجي – د. أنطون جرجس عبد المسيح

الجدل الأوغسطيني والصراع النصف بيلاجي - د. أنطون جرجس عبد المسيح

الجدل الأوغسطيني والصراع النصف بيلاجي – د. أنطون جرجس عبد المسيح

الجدل الأوغسطيني والصراع النصف بيلاجي - د. أنطون جرجس عبد المسيح
الجدل الأوغسطيني والصراع النصف بيلاجي – د. أنطون جرجس عبد المسيح

 

الجدل الأوغسطيني والصراع النصف بيلاجي[1]

البيلاجية ولاهوت الشرق في الموضوعات مثيرة الجدل -النصف البيلاجية- غريغوريوس الأول

في عام 411، عبر بيلاجيوس وكالستوس إلى أفريكا، حيث قابل بيلاجيوس أوغسطينوس. سرعان ما وجَّه نفسه إلى الشرق. في عام 412، الكاهن باولينيس Pauliniis، من ميلان، أتهم كالستوس بالهرطقة، أمام مجمع في قرطاجنة، متهمًا إياه بستة قضايا هرطوقية.[2] قُطِعَ كالستوس من شركة الكنيسة، وإعادته مرة أخرى من الشرق. هناك جيروم، من دون فهم واضح لنقط الجدال، ومذبذبًا بصراعه مع روفينوس، الذي كان صديقًا لبيلاجيوس، دخل الحرب بشدة على معتقداته.

في عام 415م، أوروسيوس Orosius، كاهن شاب أسباني كان في زيارة إلى جيروم، وجَّه اتهامًا إلى بيلاجيوس أمام جماعة من كهنة أورشليم بقيادة أسقفهم يوحنا، الذي، عند سماع شرح المتهم، أمتنع عن الحكم ضده. طالما أن بيلاجيوس كان من الكنيسة اللاتينية، كما قال، فكان للأسقف الروماني الاطلاع على الأمر.

في نفس العام، في مجمع ديوسبوليس Diospolis في فلسطين، الذي ترأسه أولوجيوس Eulogius، أسقف قيصرية، تم اتهام بيلاجيوس مجددًا بالهرطقة من أساقفة الشرق، ولكن تمت تبرئته، بسبب، كما يزعم أوغسطينوس، عدم الإخلاص في التبرؤ منه.[3] بذلت المجامع في قرطاجنة، وميليفيه Mileve، وأوغسطينوس شخصيًا، في عام 416م، جهدًا ناجحًا لإصدار حرمان لبيلاجيوس وكالستوس من إينوسنت Innocent الأول.

ولكن، خليفته، زوسيموس Zosimus، عند استلامه اعتراف الإيمان الذي قد أرسله بيلاجيوس إلى إينوسنت، وإيضاحات معينة من كالستوس، شهد علنًا على أرثوذكسيتهما. بينما أعلن الأساقفة الأفارقة، المجتمعين في قرطاجنة، في نهاية عام 417م أو بداية عام 418م، تأييدهم لقرار إينوسنت. في مجمع عام من أساقفة شمال أفريقيا في عام 418م، تمت تمرير ثماني أو تسع قوانين، مؤكدةً على الآراء الأوغسطينية، ورافضةً للآراء البيلاجية.[4]

تم حث الإمبراطور هونوريوس Honorius على إصدار منشور يبعث بالخطر ضد المؤيدين للهرطقة الجديدة. وكانت هناك مراسيم إمبراطورية أخرى صادرة في وقت لاحق بنفس الصفة. زوسيموس، بعد مجمع ثانٍ ثم مجمع أفريقي عام في قرطاجنة، على الرغم من ذلك، قد بدأ في التردد عما سبق، وغيَّر موقفه. وفي مجمع روماني، تم حرمان بيلاجيوس وكالستوس، وأصدر زوسيموس رسالة دورية -tractoria- مصدقًا بالكامل على رد فعل كنيسة شمال أفريقيا.

وطُلِبَ من جميع الأساقفة في الغرب الموافقة على خطاب زوسيموس بموجب البيان. رفض ثماني عشر أسقفًا، كان من أبرزهم يوليان أسقف إكلانوم، الخضوع للقرار. لجأ العديد منهم إلى الشرق. أستقبل ثيؤدور الموبسويستي يوليان، الذي لم يوافق على جميع آرائه، بل رفض عقيدة الخطية الأصلية.

وجلبت علاقتهم بنسطوريوس وأتباعه على بعض البيلاجيين جزءًا من عدم شعبيتهم. بذل ماريوس ميركاتور Marius Mercator، شخص علماني من الغرب، مجهودات كبيرة لإقناع الإمبراطور ثيؤدوسيوس الثاني بهرطقة البيلاجيين.

نتيجة لهذه التعقيدات، حرم مجمع أفسس في عام 431م، الذي حرم نسطوريوس، أيضًا كالستوس ومؤيديه، ولكن دون تحديد أخطائهم. حيث من الواضح في جميع هذه الإجراءات أن القناعات الحقيقية للكنيسة الشرقية كانت على الحياد (موقف وسط) بين أوغسطينوس وبيلاجيوس، وأن الشرق، وبالأخص اللاهوتيين الأنطاكيين، بصرف النظر عن التأثيرات من الخارج ومن الأسباب العارضة، كانوا ميَّالين للتسامح مع القادة المزعجين.

وأكد هؤلاء القادة على الدوام أن آرائهم لا تحتوي على عقائد، ولم تتلقى حرمانًا رسميًا من الكنيسة، بل تتعلق بأسئلة يجوز فيها المفاضلة والاختلاف في الحكم.

     كان الدعم الذي تلقاه أوغسطينوس في الغرب، فيما يتعلق بعقائد العجز التام، والنعمة الجبرية، وسبق التعيين المطلق، أبعد عن أن يكون بالإجماع. ولم يذهب مجمع قرطاجنة العام أبعد من توضيح أن سقوط آدم هو الذي جلب الموت، وأنه ينبغي تعميد الأطفال من أجل مغفرة الخطية المستمدة من آدم، وأن النعمة تعمل داخل النفس، معطيةً العون المطلوب لمنع الخطية، وأن الكمال بلا خطيئة صعب الوصول إليه في هذه الحياة.

في عام 426م أو 427م، نما إلى علم أوغسطينوس أن الرهبان في دير أدروميتم Adrumetum في شمال أفريقيا انقادوا إلى اليأس في بعض الحالات، وفي الحالات الأخرى تحولوا إلى التساهل والتهاون مع الذات، بسبب تعليمه عن العجز البشري والنعمة الجبرية. حيث أرسل إليهم كتابين من أجل إصلاح هذه الشرور.[5]

حتى جيروم، مؤيد القضية الأوغسطينية، لم يتخل عن اعتقاده ببقاء الحرية في الإرادة، ولم يتبن حقيقةً عقائد الانتخاب المطلق والنعمة الجبرية. وإنه لحقيقة بارزة في التاريخ العقيدي أنه كان على سبيل الاعتراض غير المباشر على آراء أوغسطينوس هذه أن فينسنت الليرنزي Vincent of Lerins كتب كتابه (الأول) الجامع Commonitory (عام434م) الذي أوضح فيه معايير العقيدة الكاثوليكية (الجامعة).

وتم إعلان هذه المعايير بأنها تراثية وعالمية. ويعادل هذا القول بأن هذا هو فقط من الإيمان، وهو العقيدة الكاثوليكية أو الأرثوذكسية، المقبولة دائمًا، في كل مكان، ومن الجميع Semper, ubique et ab omnibus. وكان من بين المعارضين الهادئين والمعتدلين هيلاري، أسقف أرلس Arles، الذي قدد عاش في دير ليرنز Lerins. ولكن أبرز المعارضين كان يوحنا كاسيان.

لقد تم تعليمه في الشرق، وكان المؤسس والمرشد لدير مارسيليا. يرتبط اسمه بنوع من التعليم اللاهوتي الذي يلقبه الدارسون بـ ”النصف بيلاجية“، ولكنه، كما قد قيل، ربما معروف أيضًا بـ ”النصف أوغسطينية“. حيث أعتقد بميل القلب إلى الخطية، والحاجة إلى عمل النعمة الداخلي، الإنسان قاصر في نفسه. ولكنه لم يعتقد بأن هذا الميل الموروث للشر هو ذنب بالمعنى المناسب، بل أكد على القوة الباقية والفعل المتآزر للإرادة البشرية في التغيير، وبالتالي، سبق التعيين المشروط.

نما تزايد هذه التحركات إلى علم بروسبر أسقف أكويتانيا Prosper of Aquitania وهيلاري آخر، علماني، فكتب أوغسطينوس مقالتين للدفاع عن آرائه.[6] وكتب هذان الصديقان في نفس الجانب، وهكذا استمر الجدال بعد نياحة أوغسطينوس. حيث أوضح بروسبر Prosper رأي أوغسطينوس بشأن سبق التعيين باعتدال دؤوب. وكُتِبَ بنفس الروح عمل مجهول عن دعوة الأمم،[7] حيث تم التمييز فيه بين النعمة العامة والخاصة -كان العمل الأخير فقط مؤثرًا.

هناك عمل آخر مجهول بعنوان ”سبق التعيين“ Predestintus، حيث تم استعراض العقيدة بصورة أبسط، وربما قام بتأليفه نصف بيلاجي ككاريكاتير وسلام للهجوم. في النصف الأخير من القرن الخامس، كان فاوستوس أسقف ريجيوم Faustus of Rhegium مدافعًا قديرًا عن العقيدة النصف بيلاجية.

تراجع أحد خصومه، كاهن اسمه لوسيديوس Lucidus، المدافع القوي عن سبق التعيين، عن آرائه في مجمع أرليس Arles عام 475م. كما هاجمت المقالة[8] التي كتبها فاوستوس بيلاجيوس على حد السواء، حيث وُصِفَ بأنه مهلِك ومضلِّل المدافعين عن سبق التعيين.

عن طريق تشابك غريب للظروف، اندلع الجدال النصف بيلاجي من جديد. ففي سردينيا Sardinia وكورسيكا Corsica، حيث كان يوجد أساقفة معينة من شمال أفريقيا منفيين، من بينهم فيلجينتيوس أسقف نوميديا Fulgentius of Numidia.

في عام 519م، أشار بوسيسور Possessor، أسقف أفريقي، في مناظرة مع الرهبان السكيثيين Scythian فيما يتعلق بصيغتهم المؤلمة لله Theopaschite، إلى فاوستوس كمرجعية في صفه أثناء النقاش. لذا سعى الرهبان إلى حكم ضد أرثوذكسية عمله، ولم ينالوا مواقفة هورميسداس Hormisdas أسقف روما (عام 514-553م)، فتحولوا إلى الأساقفة المنفيين. وهكذا دُفِعَ فيلجينتيوس إلى تأليف سلسلة من الكتب للدفاع عن سبق التعيين الأوغسطيني.

ظهر آخرون من نفس الجانب في جنوب غالة Gaul، بما فيهم قيصريوس أسقف أرلس Caesarius of Arles، بالرغم من ذلك، لم يعارض مجمع فالنس Valence في عام 529م للرأي النصف بيلاجي. ولكن بمناسبة تدشين كنيسة عام 529م في أورانج Orange بمقاطعة أرلس، وافق مجمع مكوِّن من أربعة عشر أسقفًا، بما فيهم قيصريوس، على مجموعة من الأقوال المقتبَسة من أوغسطينوس وبروسبر، واعتنقوا عقيدة إضافية.

حيث أكد المجمع على ضرورة النعمة المانعة، وضرورة النعمة في كل مرحلة من مراحل تجديد النفس، وأكدوا على أن النعمة غير المستحَقة تسبق الأعمال الصالحة، وأن الصلاح كله، بما فيه محبة الله، هو نعمة إلهية، وأنه حتى الإنسان غير الساقط بحاجة إلى النعمة. وتم إنكار ليس فقط سبق التعيين للخطية، وبل ولا يوجد تأكيد على الانتخاب المطلق أو النعمة الجبرية.

علاوة على ذلك، يُقال عن الإرادة الحرة أنها ”ضعفت“ في آدم، ويتم استردادها بنعمة المعمودية. العقيدة هي عقيدة مضادة للبيلاجية، بل ويتم حرمان عقائد النصف بيلاجية جزئيًا فقط على نحو واضح. حيث صادق الأسقف الروماني بونيفاس الثاني Boniface II على ذلك.

تنتهي عند غريغوريوس الأول، القائد والمدبر العظيم، ولكن ليس له مكانة كمفكر لاهوتي، الحقبة الآبائية في الغرب. حيث اختلطت عنده العقائد الأوغسطينية مع الأفكار النصف بيلاجية. وهكذا بالإصرار على عقيدة النعمة المانعة، يُسقِط فكرة النعمة الجبرية والحرية المفقودة تمامًا.

حيث يتم غفران الخطية في المعمودية، ولكن الخلاص هو عمل شخصي من خلال التوبة والأعمال الصالحة، مع النعمة الداخلية كعامل مساعد. فإن كان جهنم هو عقوبة على الخطايا المميتة والآثام المميتة، التي لا يمكن الترضية عنهم من خلال التوبة هنا، بل يمكن التكفير عن الخطايا ذات الدرجة الأقل وتنقية النفس في نار المطهر. وبالتالي يتم رفع حدس أوغسطينوس إلى مرتبة التعريف كتعليم قاطع.

وهكذا يُعتبر عشاء الرب ذبيحة حرفية، لا تفيض بالنفع فقط للأحياء، بل للمتألمين في المطهر أيضًا. ولو لم يتم تحديد الكنيسة بجماعة القديسين، فإنه من خلال الكنيسة، وطقوسها، وأسرارها يتم تزويد هؤلاء بوسائط الخلاص. الأرضية الأساسية للرجاء هي شفاعة القديسين والملائكة الكاملين.

وتضامنًا مع أوغسطينوس، يتم تثمين كلمة الله والروح اللذين يجلبان تدبير الكلمة وعنايته. وفي الوقت نفسه، هذه المراسم والممارسات الأخرى التي أتبعتها الكنيسة كمسارها خلال المجتمع الوثني -التي حسمت الأمر لمسيحية ”المرتبة الثانية“، أي الكاثوليكية المعروفة التي كان يقبلها أوغسطينوس، ولكن، مع ذلك، وعلى نحو متناقض، اخترقت أفكاره العميقة والروحية إلى نقاط عدة -كل هذا كان مثمَّنًا في نسق غريغوريوس، حيث تم نقل هذه التوليفة من العقائد إلى القرون التالية القادمة.

[1] هذا المقال هو ترجمة فصل من كتاب

George Park Fisher, History of Christian Doctrine, (Edinburgh, T & T Clark, 1896), Ch 7, p. 194-198.

[2] Mercator, Comm. II. P.113. See Munscher, DG. I. 374, N. 1.

[3] بالنسبة إلى تقارير هذا المجمع،

See Mansi, IV. Pp. 315 sq. See Hefele, History of Councils, II. B. VIII. §118.

[4] Mansi, III. 810-823. See Hefele (as above), §119.

[5] De Grat. Et lib. Arbitr. And De Corrept. Et Grat.

[6] De Predest. Sanctorum & De Dono. Perseverantia.

[7] DeVocat. Genitilum.

[8] De Grat. Dei et human. Mertis lib. Arbitr.

الجدل الأوغسطيني والصراع النصف بيلاجي – د. أنطون جرجس عبد المسيح