الهدوء في الصلاة – معنى ”السكون” Hesychia – الملكوت الداخلي للأسقف كاليستوس وير
الهدوء في الصلاة
معنى ”السكون” Hesychia
للأسقف كاليستوس (وير) [1]
الهدوء في الصلاة، معنى ”السكون” Hesychia من كتاب: الملكوت الداخلي للأسقف كاليستوس وير
الحق الإلهي لا يكون بالكلام بل بالهدوء والصمت،
يكون بالبقاء داخل القلب بطول أناة (كتاب المساكين بالروح)
يسوع المسيح، هو الكلمة الذي خرج من الصمت
(القديس أغناطيوس الإنطاكي إلى مغنيسيا)
عدة مستويات للسكون (الهيزيخيا = الهدوئية).
إحدى قصص “أقوال آباء البرية” تصف زيارة قام بها ثيئوفيلوس رئيس أساقفة الأسكندرية إلى رهبان الأسقيط. ولأن الرهبان أرادوا أن يثيروا إعجاب ضيفهم الكبير، لجأوا إلى الأنبا بموا قائلين له: ” قل كلمة منفعة لرئيس الأساقفة” فأجاب الشيخ: ” إن كان لا ينتفع بصمتى، فلن ينتفع بكلامي”[2] هذه القصة توضح الأهمية الكبرى التي يعطيها تقليد البرية لصفة “الهيزيخيا”، أي صفة الهدوء أو السكون.
وتؤكد “أقوال آباء البرية” في موضع آخر أن ” الله فضل السكون على كل الفضائل الأخرى. ويصر القديس نيلوس على أنه، ” من المستحيل أن تصير المياة العكرة صافية إن كانت تُحرّك باستمرار؛ وهكذا من المستحيل أن تصير راهبًا بدون السكون”. والسكون يعني أكثر جدًا من مجرد تحاشى الكلام الخارجي. فهذه الكلمة يمكن تفسيرها على مستويات عديدة. فلنحاول أن نميز بين المعاني الرئيسية للكلمة، مبتدئين من المعنى الخارجي إلى ما هو داخلي أكثر.
1 ـ السكون والعزلة:
في أقدم المصادر تشير لفظة “هيزيخاست” اليونانية ـ ومعناها الصامت بالعربية، والفعل المشتق منه “هيزيخيزو” إلى راهب يعيش في عُزلة، أى راهب متوحد في مقابل راهب يعيش في دير شركة. هذا المعنى نجده عند “إيفاجريوس البنطي” (القرن الرابع)، وعند “نيلوس” و”بلاديوس” (بداية القرن الخامس).
وترد اللفظة بهذا المعنى في “أقوال آباء البرية”، وعند “كيرلس من سيكيثوبولس”، و”يوحنا موسخوس”، و”برصنوفيوس” وفي قوانين يوستينيان. ويستمر استعمال كلمة “السكون” بهذا المعنى عند كُتّاب متأخرين عن السابقين، مثل القديس غريغوريوس السينائي (المتوفي1346). والكلمة، على هذا المستوى، تشير إلى علاقة الشخص بأشخاص آخرين من جهة المكان. هذا هو المعنى الخارجي تمامًا بالنسبة للمعاني المختلفة الأخرى.
2 ـ السكون وروحانية الصومعة:
“السكون” ـ كما يقول “الأنبا روفس” في “أقوال آباء البرية” ـ هو أن تجلس في صومعتك بمخافة لله ومعرفة له، وهو أن يبتعد كلية عن أي إساءة وعن المجد الباطل. هذا “السكون” هو أم جميع الفضائل ويحفظ الراهب من سهام العدو الملتهبة”. كما يربط “روفس” “السكون” بتذكر الموت، ويختم بقوله: ” كن ساهرًا على نفسك”[3] وهكذا فإن “السكون” يُقترن بكلمة أخرى تعتبر أحد أساسات تقليد البرية وهي “السهر”، أي اليقظة الروحية.
وحينما يرتبط “السكون” بهذه الطريقة مع الصومعة، فإن الكلمة لا تزال تشير للوضع الخارجي للراهب “الصامت” في المكان، ولكن معناها يصير في نفس الوقت باطنيًا أكثر وروحانيًا أكثر. فالراهب الصامت بمعنى الشخص الذي يظل في سهر يقظ في صومعته، لا يحتاج بالضرورة أن يكون متوحدًا بل يمكن أن يكون راهبًا يعيش في دير شركة.
فهذا الراهب الصامت إذن هو ذلك الذي يطيع وصية الأنبا موسى: ” اذهب واجلس في صومعتك وهي ستعلمك كل شئ”[4].
فهو يضع في قلبه النصيحة التي أعطاها الأنبا أرسانيوس لراهب أراد أن يذهب لعمل أعمال رحمة: [ قال أخ لأنبا أرسانيوس، “أفكاري تزعجني قائلة، إن كنت لا تستطيع أن تصوم أو تجاهد، فعلى الأقل اذهب وافتقد المرضى، فهذا أيضًا هو عمل من أعمال المحبة”، فإذ أدرك الشيخ الأفكار التي زرعها الشيطان، أجابه: “امضى ـ كل واشرب وارقد دون أن تعمل أي عمل، ولكن لا تترك صومعتك”، لأنه عرف أن البقاءفي القلاية يأتي بالراهب إلى الإتمام الحقيقي لدعوته][5].
والارتباط بين السكون والقلاية ذُكر بوضوح في قول مشهور للقديس أنطونيوس الكبير: ” السمك يموت إن بقى في أرض جافة، وبنفس الطريقة فإن الرهبان إن مكثوا خارج صومعتهم أو صرفوا أوقاتهم مع أهل العالم، يفقدون ذروة هدوئهم”[6]. الراهب الذي يبقى داخل صومعته هو مثل وتر آلة موسيقية جاهز للعزف. السكون يحفظه في حالة تيقظ؛ وإن بقى كثيرًا خارج صومعته، فإن نفسه تصير ضعيفة ومترهلة. فالصومعة، عندما تُفهم بهذه الطريقة على أنها الإطار الخارجي لحياة “الهدوء“، فإنها تعتبر أساسًا كمعمل “للصلاة بلا انقطاع“.
فنشاط الراهب الرئيسي، وهو في سكون وصمت في صومعته ـ هو تذكر الله باستمرار، مع شعور الحزن والنوح. قال أنبا أمون لشيخ يفكر في انتهاج أسلوب في النسك يتسم بالتفاخر: “اجلس في قلايتك، خذ قليلا من الطعام كل يوم وضع في قلبك كلمات العشار، وعندئذ يمكن أن تخلص”[7]. وكلمات العشار هي: ” اللهم ارحمنى أنا الخاطئ” (لو13:18)، وهي مقاربة جدًا لصيغة صلاة يسوع كما وصلتنا من القرن السادس فصاعدًا حسب برصنوفيوس في “حياة أنبا فليمون” وحسب مصادر أخرى.
وسنعود إلى هذه النقطة عندما نتحدث عن “السكون” (الهيزيخيا) ومناداة الاسم (يسوع). ونجد الحديث عن حبس القلاية الرهبانية واسم يسوع مرتبطان معًا بكل وضوح في قول ليوحنا الغزاوى عن زميله المتوحد برصنوفيوس: ” القلاية التي يُحبس فيها حيًا كأنه في قبر، من أجل اسم يسوع، هي مكان راحته؛ لايدخل هناك شيطان ولا حتى رئيس الشياطين يمكن أن يدخلها. إنها قدس أقداس، لأنها مكان سكنى الله”[8].
إذن، فالقلاية للراهب الصامت، هي “بيت صلاة“، هي موضع مقدس ومكان للقاء بين الإنسان والله. كل هذا يعبر عنه بشكل ملفت القول: ” قلاية الراهب هي أتون بابل التي فيها وجد الثلاث فتية، ابن الله حاضرًا معهم؛ هي عمود السحاب الذي منه كلم الله موسى”[9].
في كل هذه الأوصاف نحن نسير من الخارج إلى المعنى الباطني “للسكون” (هيزيخيا). وعندما نفسر كلمة “السكون” بلغة روحانية القلاية فإنها تشير ليس فقط إلى حالة خارجية جسمية بل إلى حالة النفس، أي أنها تعنى موقف شخص يسعى ـ بتعبير “القديس ثيوفان الناسك”: ” أن يقف أمام الله واضعًا ذهنه في قلبه، ويستمر واقفًا أمامه بلا انقطاع نهارًا وليلاً، حتى نهاية الحياة”[10] هذا هو بالضبط ما يعنيه هدوء وسكون القلاية بالنسبة للراهب الصامت.
3 ـ السكون ” والعودة إلى النفس ”:
هذا الفهم الأكثر عمقًا و”الأكثر باطنية more Interiorized” للسكون يؤكد عليه بوضوح الوصف الكلاسيكي “للراهب الصامت” الذي يذكره يوحنا الدرجي: ” الراهب الصامت هو ذلك الذي يحصر كيانه غير الجسمي داخلي بيته الجسمي رغم ما قد يبدو في هذا القول من تناقض”[11].
فالراهب الصامت ـ بالمعنى الحقيقي للكلمة ـ هو ليس شخصًا رحل جسديًا وخارجيًا إلى البرية، بل هو شخص قد بدأ الرحلة داخليًا إلى داخل قلبه؛ ليس هو من قطع نفسه جسديًا من العلاقة بالآخرين بإغلاق باب قلايته، بل هو ذلك الذي “يرجع إلى نفسه” بإغلاق باب ذهنه. لقد قيلت عبارة “رجع إلى نفسه” عن الابن المسرف (لو17:15)، وهذا ما يفعله الراهب الذي يحيا في “السكون”.
وكما يقول القديس باسيليوس، “هو يرجع إلى نفسه؛ وهكذا برجوعه إلى الداخل، فإنه يصعد إلى الله”[12]، وبهذه الطريقة فإن راهب الصمت هو شخص يستجيب لكلمات المسيح، ” ملكوت الله داخلكم” (لو21:17)، وهو يسعى أيضًا أن “يحفظ قلبه بكل يقظة وسهر” (انظر أم23:4). وكما يقول القديس مار اسحق، فهو ” يغوص داخل نفسه، ويكتشف في داخل نفسه، السلم الذي يؤدى إلى الملكوت”[13].
وإذ نعيد شرح تعريفنا الأصلي للراهب الصامت، بأنه متوحد يعيش في عزلة في البرية، فإننا يمكن أن نقول إن العزلة هي حالة خاصة بالنفس، وليست مسألة مكان جغرافي، وأن البرية الحقيقية توجد داخل النفس.
عند هذه النقطة في شرحنا، سيكون من المفيد أن نتوقف قليلاً، ونميز بدقة أكثر بين المعنى الخارجي والمعنى الداخلي لاصطلاح “الهيزيخيا” ـ “السكون”. يقدم لنا القول المشهور عن الأنبا أرسانيوس ثلاث مستويات. فحينما كان يعمل معلمًأ لأولاد الملوك في القصر صلى إلى الله قائلاً: “عرفني كيف أخلص”.
فجاءه صوت، “يا أرسانيوس، أهرب من الناس وأنت تخلص”. فترك القصر وذهب إلى البرية وصار متوحدًا؛ وبعد ذلك صلى ثانية الصلاة نفسها. جاء الصوت هذه المرة يقول: “يا أرسانيوس، أهرب، احفظ الصمت، عش في سكون، لأن هذه هي جذور عدم الخطية”[14].
اهرب من الناس، احفظ الصمت، كن في سكون: هذه هي الدرجات الثلاث “للسكون”. الدرجة الأولى مرتبطة بالمكان، “أي الهرب من الآخرين” خارجيًا وجسديًا. الدرجة الثانية لا تزال خارجية، “احفظ الصمت”، أي يكف عن الكلام الخارجي. لا يمكن لأي من هذين الأمرين بذاته أن يجعلنا نصير في السكون الحقيقي؛ لأننا يمكن أن نحيا في عزلة خارجية ونحفظ فمنا مغلقًا، ومع ذلك يمكن أن نكون في داخلنا مملوئين بالقلق والاهتياج.
فلكي نبلغ إلى “السكون” الحقيقي من الضروري أن ننتقل من المستوي الثاني إلى المستوى الثالث، من “السكون” الخارجي إلى “السكون” الداخلي، من مجرد عدم الكلام إلى ما يسميه القديس أمبروسيوس “السكون النشط والخلاّق”[15]. ويوحنا الدرجي يميز بين المستويات الثلاث بقوله: “اغلق باب قلايتك ماديًا واغلق باب لسانك عن الكلام، واغلق الباب الداخلي في وجه الأرواح الشريرة”[16].
هذا التمييز بين مستويات “السكون”، له تأثيرات هامة من جهة علاقة الراهب الصامت بالمجتمع. فقد يحقق شخص معين هروبًا مرئيًا وجغرافيًا إلى الصحراء، ومع ذلك فهو في قلبه لا يزال يحيا في وسط المدينة؛ وبالعكس، فإن شخصًا آخر قد يعيش بجسده في المدينة ومع ذلك فهو يحيا في السكون الحقيقي داخل قلبه. فما يهم ليس هو المكان الذي نحيا فيه بل حالتنا الروحية.
صحيح، أن بعض الكُتّاب في الشرق المسيحي، وأشهرهم القديس مار اسحق، كان يؤكد أن “السكون الداخلى” لا يمكن أن يوجد بدون عزلة خارجية. ولكن هذا الرأى لا يحظى بإجماع من آباء البرية. فهناك قصص في “أقوال آباء البرية” تتحدث عن مؤمنين عاديين يقومون بخدمة نشيطة في العالم وتقارنهم بالمتوحدين والنُسّاك، فتتحدث مثلاً عن طبيب الأسكندرية وتعتبره مساويًا روحيًا للقديس أنطونيوس الكبير نفسه[17].
والقديس غريغوريوس السينائي رفض أن يُلبس الأسكيم لواحد من تلاميذه اسمه ايسيذور، وأرجعه من جبل آثوس إلى مدينة تسالونيكي ليكون مثالاً ومرشدًا لمجموعة من الشعب هناك، وبهذا أوضح أن دعوة حياة السكون في المدينة ليس أمرًا مستحيلاً[18]. وغريغوريوس بالاماس المعاصر لغريغوريوس السينائي أصر بطريقة لا التباس فيها إطلاقًا على أن وصية الرسول بولس: “صلوا بلا انقطاع” (1تس17:5) هي لكل المسيحيين بلا استثناء[19].
وهنا ينبغي أن نتذكر أن الكُتّاب الذين كتبوا باليونانية مثل أيفاجريوس ومكسيموس المعترف، حينما يستعلمون الكلمات praxis أى “عمل” (أو عَمّْال) و”Theoria” (أي تأمل)، التي تُترجم عادة “حياة العمل” و”حياة التأمل”، فإن “حياة العمل” عندهم تعنى ليس الخدمة العملية النشطة للعالم ـ مثل الكرازة، والتعليم والعمل الاجتماعي وأمثالها ـ بل تعنى الكفاح للسيطرة على الشهوات واقتناء الفضائل.
وإذا استعملنا عبارة “حياة العمل” بهذا المعنى، فيمكن أن يُقال إن كثيرين من النُساك والرهبان الذين يعيشون في حبس كامل لا يزال اهتمامهم الأساسي هو “بحياة العمل”. ولنفس السبب، فإنه يوجد رجال ونساء مكرسين كلية لحياة خدمة في العالم ومع ذلك فهم يملكون “صلاة القلب”؛ هؤلاء يمكن أن يُقال عنهم بحق أنهم يعيشون “الحياة التأملية”. ويصرّ القديس سمعان اللاهوتي الجديد أن رؤية الله الكاملة ممكنة “في وسط المدن” كما “في الجبال والصوامع”.
وكان يعتقد أن المتزوجين الذين لهم وظائف مدنية وأولاد، والمُثقلين بأتعاب رعاية بيت كبير، يمكن أن يصعدوا إلى درجات التأمل العالية؛ فالرسول بطرس كانت له حماة، ومع ذلك دعاه الرب إلى صعود جبل تابور ورؤية مجد التجلي[20]. فالمقياس ليس هو الوضع الخارجي بل الحقيقة الداخلية. وكما أنه من الممكن للإنسان أن يحيا في المدينة ومع ذلك يحيا “حياة السكون”، هكذا يوجد البعض الذين يقتضى واجبهم أن يتكلموا باستمرار ومع ذلك فهم صامتون داخليًا.
وكما يقول أنبا بيمن: ” هناك من يظهر أنه يحفظ الصمت ومع ذلك يدين الآخرين في قلبه؛ مثل هذا لا يكف عن الكلام طوال الوقت. وشخص آخر يتكلم من الصباح إلى المساء ومع ذلك يظل صامتًا؛ أي أنه لا يقول شيئًا سوى ما ينفع الآخرين”[21].
وهذا ينطبق بالضبط على المرشدين الروحيين مثل القديس سيرافيم ساروفسكي وغيره الذين كانوا مضطرين بسبب دعوتهم أن يقبلوا تيارًا لا ينتهي من الزائرين ـ عشرات بل ومئات في اليوم الواحد ـ دون أن يفقدوا هدوءهم (صمتهم) الداخلى. وفي الواقع، بسبب هذا الهدوء الداخلى، صارت لهم الإمكانية أن يعملوا كمرشدين للآخرين. والكلمات التي كلموا بها كل زائر كانت كلمات بسلطان لأنها كانت كلمات خارجة من الصمت (السكون).
في إحدى إجاباته، وضع يوحنا الغزاوى تمييزًا واضحًا بين الصمت الداخلي والصمت الخارجي. فهناك أخ ـ يحيا في دير شركة ـ وقد وجد أن واجباته كنجار في الدير تسبب له اضطرابًا وتشتتًا، ساله إن كان ينبغي أن يصير متوحدًا “ويمارس السكون الذي يتكلم عنه الآباء” فلم يوافق يوحنا على هذا، وأجاب: “أنت لا تفهم ـ مثل معظم الناس ـ ما هو المقصود “بالسكون” الذي يتحدث عنه الآباء”. فالسكون (الصمت) لا يكون بحفظ فمك مغلقًا.
فهناك من يتكلم عشرة آلاف كلمة للمنفعة، وهذه تعتبر سكونًا؛ وآخر ينطق كلمة واحدة لا لزوم لها، وتُحسب على أنها كسر للوصية، “ كل كلمة بطاّلة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابًا يوم الدين” (مت36:12)[22].
الهدوء في الصلاة
معنى ”السكون” Hesychia(2)
للأسقف كاليستوس (وير) [23]
(القسم الأول من هذا الموضوع الذي يحوى: 1 ـ السكون والعزلة 2 ـ السكون وروحانية الصومعة 3 ـ السكون “والعودة إلى النفس” ـ نُشر فى العدد السابق)
4 ـ السكون والفقر الروحي:
السكون الداخلى، حينما يُفسر على أنه حفظ للقلب وعودة إلى النفس، فإنه يتضمن عبورًا من الكثرة إلى الوحدة، ومن التعدد إلى البساطة والفقر الروحي. وإذا استعملنا تعبير ايفاجريوس، فإن العقل يصير “عاريًا”. هذه الناحية من السكون (الهيزيخيا) تظهر بوضوح في تعريف آخر ليوحنا الدرجى، عندما يقول: ” السكون هو طرح الأفكار جانبًا” (السلم27). وهو هنا يطور عبارة إيفاجريوس، ” الصلاة هي طرح الأفكار جانبًا”[24].
أى أن السكون يستلزم تفريغًا متزايدًا للذات (Progressive Self emptying)، حيث يُعرّى العقل من الصور البصرية ويُعرّى أيضًا من المفهومات التى يبتكرها الإنسان، وهكذا يمكنه أن يتأمل عالم الله بنقاوة. فالراهب الصامت من وجهة النظر هذه ـ هو بالضبط ذلك الشخص الذى إرتقى من مستوى “حياة العمل” إلى “حياة التأمل”. وغريغوريوس السينائي يعتبر الراهب الصامت عكس الراهب العَمّال إذ يقول: ” …
الرهبان الصامتون يصلون لله في داخل قلبهم ويتخلون عن الأفكار”[25]. فالراهب الصامت إذن، ليس هو اساسًا ذلك الذي يتحاشى لقاء الآخرين والحديث معهم، بل هو بالأحرى ذلك الذي يجحد في صلاته كل الصور والأفكار المتجولة والكلمات، هو “الذي يرتفع فوق الحواس ليدخل في السكون الصافى”[26].
هذا “السكون الصافى”، رغم أنه يدعى بأنه “الفقر الروحي”، هو بعيد عن أن يكون مجرد نقص أو حرمان. وعندما يعرّى “الصامت” عقله من كل المفهومات التي يبتكرها الإنسان ـ بقدر ما يكون هذا ممكنًا ـ فإن هدفه في هذه “الملاشاة للذات” هو هدف بنّاء تمامًا، أي لكي يمتلئ بإحساس غامر بالحلول الإلهي. هذه النقطة يوضحها القديس غريغوريوس السينائي جيدًا عندما يقول: ” ولماذا نكثر الكلام؟ فالصلاة هي الله، الذي يكمل كل شئ في كل إنسان”[27].
الصلاة هي الله، فهي أساسًا ليست شيئًا أعمله أنا بل هي شئ يعمله الله في”، “… لا أنا، بل المسيح” (غلا20:2). فبرنامج “الصامت” نجده مرسومًا بدقة في كلمات المعمدان عن المسيح، ” ينبغي أن ذاك يزيد وإنى أنا أنقص” (يو30:3). “فالصامت” يكف عن نشاطه الذاتي، لا لكي يكون كسولاً متراخيًا، بل لكي يدخل في فاعلية الله. فسكونه وصمته ليس فارغًا وسلبيًا ـ وليس فترة توقف غير مثمرة بين الكلمات، أو راحة قصيرة قبل استئناف الكلام ـ بل سكونه إيجابي بقوة: فهو موقف انتباه يقظ، هو موقف سهر، وفوق كل شئ هو موقف “إنصات“.
“الصامت” ـ هو بلا منازع ـ ذلك الشخص الذي “ينصت“، هو الذي يكون منفتحًا لحضور “آخر“: ” اصمتوا، واعلموا إني أنا الله” (مز 11:45س). وكما يقول يوحنا الدرجي، “الصامت هو ذلك الذي يصرخ بإخلاص، ” قلبي مستعد يا الله” (مز8:56س)، الصامت هو ذلك الذي يقول: ” أنا نائم وقلبى مستيقظ” (نش2:5)[28].
فالصامت إذ يعود إلى نفسه، فهو يدخل إلى الغرفة السرية في داخل قلبه، لكي بوقوفه أمام الله ، في هذه الغرفة السرية، يمكن أن ينصت إلى حديث خالقه، هذا الحديث الذي بدون كلام. ويلاحظ كاتب أرثوذكسي معاصر من فلندا قائلاً: ” حينما تصلى.. أنت نفسك يجب أن تصمت، ودع الصلاة تتكلم”[29]. وبدقة أكثر، دع الله يتكلم. “الإنسان .. يجب أن يظل صامتًا على الدوام ويدع الله وحده يتكلم”[30]. هذا هو ما يقصد الصامت أن ينجزه.
إذن ـ فالسكون يعنى الانتقال من “صلاتي” أنا إلى صلاة “الله العامل فيّ” حسب تعبير الأسقف ثيوفان، من الصلاة “الشاقة” أو “الكادحة” إلى “الصلاة الفاعلة بذاتها” أو “المدفوعة من ذاتها”. السكون الداخلى الحقيقي ـ بأعمق معنى له ـ يماثل تمامًا الصلاة المستمرة التي يصنعها الروح القدس في داخلنا. وكما يعبّر مار اسحق، “حينما يجعل الروح القدس سكناه في أي شخص فإن هذا الشخص لا يكف عن الصلاة، لأن الروح سيصلى فيه على الدوام”[31].
وفي موضع آخر يشبّه مار اسحق هذا الدخول إلى “الصلاة الفاعلة بذاتها” بشخص يجتاز من خلال الباب بعد أن يكون قد تم فتح قفل الباب، ويشبهه بصمت الخدام حينما يأتى سيدهم في وسطهم.
وعندما يفهم بهذه الطريقة ـ على أنه دخول إلى حياة الله وفاعليته، فإن السكون يكون أمرًا لا يمكننا أن نحققه في هذه الحياة الحاضرة إلاّ بدرجة محدودة وناقصة. فالسكون هو حقيقة مرتبطة بزمن النهاية، وهو محفوظ بكل ملئه للحياة المستقبلة في السماء. وفي هذا يقول مار اسحق، “السكون هو سر الدهر الآتى”[32].
السكون وصلاة يسوع :
من جهة المبدأ، فإن السكون هو اصطلاح عام، ولذلك فهو يشمل عدة أنواع بطرائق متخصصة من الصلاة. ولكن، عمليًا، فإن معظم الكُتّاب الأرثوذكس في القرون الحديثة يستخدمون هذه الكلمة ليشيروا بها إلى طريقة روحية بعينها، وهي “مناداة اسم يسوع”. وفي بعض الأحيان ـ فإن كلمة “السكون” تُستعمل ـ بدون مبرر ـ بمعنى ضيق أكثر لتشير إلى العملية الجسمية التى تتضمن التحكم في التنفس خاصة الذي يستعمل أحيانًا بالاشتراك مع صلاة يسوع.
إن ربط السكون مع اسم يسوع ـ وكما يبدو أيضًا ـ مع التنفس، نجدها قبل ذلك عند يوحنا الدرجي الذي يقول: “السكون هو أن تقف أمام الله في عبادة بلا انقطاع. دع ذكر يسوع يتحد بتنفسك، وحينئذٍ ستعرف قيمة السكون”[33].
ما هي العلاقة بين صلاة يسوع والسكون؟ كيف يساعد استدعاء اسم يسوع في تحقيق نوع من السكون الداخلى الذي سبق وصفه؟
لقد قيل، إن الصلاة هو “طرح الأفكار جانبًا”، هي العودة من الكثرة إلى الوحدة. والآن حينما نبتدئ بعمل جهد جدى لنصلى داخليًا، واقفين أمام الله ونحن نضع الذهن في القلب، فإننا في الحال نصير واعين لتمزقنا الداخلى ـ واعين لعجزنا عن تركيز أنفسنا في اللحظة الحاضرة، من الزمن. فالأفكار تتحرك بلا هدوء داخل رأسنا مثل طنين النحل (القديس ثيوفان).
أو مثل قفز القرود المتقلب من غصن إلى غصن (راماكراشنا). وهذا العجز عن التركيز، أى عدم استطاعتنا أن نكون “هنا” و”الآن” بكياننا كله، هو أحد أكبر النتائج المأسويةلسقوط الإنسان.
فماذا ينبغى أن نفعل؟ التقليد النُسكى الأرثوذكسي يذكر منهجين أساسيين للتغلب على “الأفكار”. المنهج الأول، مباشرة، بأن “نقاوم” أفكارنا، أى أن نقابلها وجهًا لوجه، محاولين أن نطردها بمجهود من الإرادة: إلاّ أن مثل هذا المنهج قد يبرهن على أنه غير مثمر. فحينما نكبت خيالاتنا بعنف فإنها عادة ترجع ثانية بعنف زائد. فما لم نكن متأكدين تمامًا من أنفسنا، فإنه أكثر أمانًا لنا أن نستعمل المنهج الثاني، الذي هو غير مباشر. فبدلاً من محاربة أفكارنا مباشرة ومحاولة طردها بمجهود إرادى، يمكن أن نسعى لتوجيه انتباهنا بعيدًا عنها وننظر في اتجاه آخر.
وبهذه الطريقة فإن استراتيجيتنا الروحية تصير إيجابية بدلاً من كونها سلبية؛ ويكون هدفنا العاجل ليس أن نفرغ ذهننا مما هو شرير، بل بالحرى أن نملأه بما هو صالح. وهذا المنهج الثاني هو الذي يوصى به “برصنوفيوس” و”يوحنا” اللذان من غزة. فهما ينصحان بالقول: ” لا تقاوم الأفكار التي يعرضها الأعداء، “لأن هذه المقاومة هي بالضبط ما يريده الأعداء، وهم لن يكفوا عن المحاربة.
بل تحول إلى الرب لطلب المعونة ضدهم، واعرض أمامه عجزك؛ فهو يستطيع أن يطردهم ويجعلهم كلا شئ”[34]. والآن فإن صلاة يسوع هي بالضبط “طريق” ـ الطريق الأعلى ـ الذي بواسطته “نتحول إلى الرب لطلب المعونة”. فصلاة يسوع تصارع الإغراءات خاصة بأن تعطينا القدرة أن “ننظر فى اتجاه آخر“.
إنه لأمر واضح بالتأكيد لكل واحد منا أننا لا نستطيع أن نوقف تدفق تيار تصوراتنا وأفكارنا بجهد فج لقوة الإرادة. فلا فائدة من أن نقول لأنفسنا: “ممنوع التفكير”؛ بل وحتى لو قلنا أيضًا: “ممنوع التنفس”. فالقديس مرقس المتوحد يصر على أن ” العقل لا يستطيع أن يظل عاطلاً”. فكيف إذن يمكننا أن نحقق الفقر الروحي والسكون الداخلى؟ فرغم أننا لا نستطيع أن نجعل العقل الذي لا يكف أبدًا عن العمل، أن يتوقف عن قلقه، فإنه ما نستطيع أن نفعله هو أن نبسّط ونوّحد نشاطه بأن نكرر باستمرار صيغة صلاة قصيرة.
إن تدفق تيار التصورات والأفكار سيستمر كما هو ولكننا سنتمكن بالتدريج أن نفصل أنفسنا عنه. فالاستدعاء المتكرر للاسم سوف يساعدنا على “تسريح” الأفكار المعروضة علينا من ذاتنا الواعية أو غير الواعية. هذا “التسريح” يبدو أنه يماثل ما يعنيه إيفاجريوس حينما يتحدث عن الصلاة على أنها “طرح الأفكار جانبًا”، أو “عزل الأفكار” ـ فهو ليس صراع وحشى، ليس حملة عنيفة لهجوم غاضب، بل هو انفصال هادئ ولكنه متواصل.
هذه إذن هي الخطة النُسكية المفترضة مقدمًا في استعمال صلاة يسوع. إنها تساعدنا على تطبيق المنهج غير المباشر للتغلب على الأفكار: فبدلاً من محاولة إيقاف تخيلاتنا الفاسدة أو التافهة عن طريق المواجهة المباشرة، فإننا نتحول جانبًا وننظر إلى الرب يسوع؛ وبدلاً من الاعتماد على قوتنا الخاصة، فإننا نهرب لنحتمى في القوة والنعمة التى تعمل من خلال: الاسم الإلهي. فالاستدعاء المتكرر يساعدنا على فصل أنفسنا عن لغو أفكارنا الذي لا يتوقف.
وفي نفس الوقت، فإن صلاة يسوع، عندما تفصلنا أكثر فأكثر عن الأفكار الكثيرة المتضاربة وغير المترابطة، فإنها تساعدنا على أن نركز شخصيتنا المشتتة حول نقطة واحدة. يقول فيلوثيؤس السينائي: ” اجمع عقلك المُشتت بواسطة ذكر يسوع المسيح”[35].
فنحن نركز ونوّحد عقلنا الدائم النشاط والتجوال، بأن نطعمّه “بفكر واحد”، بأن نغذيه بطعام روحاني هو طعام غنى ومع ذلك فهو بسيط غاية البساطة. يقول الأسقف ثيوفان: ” لكي توقف التصادم المستمر لأفكارك، ينبغي أن تحزم عقلك وتربطه بفكر واحد، أو بفكر “الواحد” وحده”[36] ـ فكر الرب يسوع. وبكلمات القديس ديودوخوس الفوتيكي: [ حينما نغلق كل مداخل الذهن بواسطة ذكر الله، فإن العقل يتطلب منا بالضرورة عملاً ما يقوم به، يشبع حاجته للنشاط. فلأجل تحقيق هدفه بشكل كامل، لا ينبغي أن تعطيه سوى صلاة ياربي يسوع”][37].
هذه باختصار هي الكيفية التي يمكن أن تُستَعمل بها صلاة يسوع لتحقيق “السكون” داخل القلب. ويتبع ذلك أمران هامان، أولاً، لكي يحقق استدعاء اسم يسوع هدفه، ينبغي أن يكون متواترًا ومنتظمًا ـ وفي حالة الراهب الصامت المختبر ـ يجب ان يكون بدون انقطاع ويكون متواصلاً لفترات طويلة من اليوم. والأدوات الخارجية المساعدة مثل سبحة الصلاة، وضبط التنفس، هدفها الأساسي هو بالضبط تحقيق تواتر منتظم.
ثانيًا، أثناء ترديد صلاة يسوع يجب ان يكون العقل خاليًا بأقصى درجة ممكنة من الصور الذهنية : لهذا السبب فالأفضل أن نمارس صلاة يسوع في مكان لا توجد فيه أصوات خارجية؛ فينبغي أن يتم ترديد الاسم إما في غرفة مظلمة أو بغلق العينين، وهذا أفضل جدًا من الترديد وأنت تنظر إلى أيقونة مُضاءة بالشموع أو بمصباح خاص. والقديس سلوان الأثوسى اعتاد أن يخفى ساعته في دولاب الملابس ـ أثناء ترديده للصلاة ـ حتى لا يسمع صوت دقاتها، ثم يغطى عينيه وأذنيه بطاقيته الصوفية الرهبانية الضخمة[38].
ورغم أن الصور الذهنية يمكن أن تنشأ في داخلنا أثناء الصلاة إلاّ أننا لا يجب أن نحاورها بتعمد منا. إن صلاة يسوع ليست تأملاً استطراديًا في احداث متنوعة في حياة المسيح. فالذين ينادون الرب يسوع يجب أن يكون لهم في قلوبهم اقتناع قوى جدًا وحار جدًا.
بأنهم يقفون في الحضور المباشر للمخلص، وأنه حاضر أمامهم بل وفي داخلهم، وأنه ينصت لصلاتهم ويستجيب لها بدوره. ولكن هذا الشعور بحضور الله، لا ينبغي أن يصاحبه أى تصور بصرى، بل ينبغي أن يكون قاصرًا على اقتناع أو إحساس بسيط. والقديس غريغوريوس يصف هذا الأمر بقوله: ” العريس حاضر ولكنه لا يُرى”[39].
(يتبع)
الهدوء في الصلاة
معنى ”السكون” Hesychia(3)
للأسقف كاليستوس (وير) [40]
هل الصامت له فائدة عملية للآخرين؟:
إذن، فحياة السكون تقتضى انفصالاً عن العالم ـ انفصال إما خارجي أو داخلى، وأحيانًا كلا الانفصالين معًا: انفصال خارجي “بالهروب إلى الصحراء”؛ وانفصال داخلى “بالعودة إلى النفس”، و”طرح الأفكار جانبًا”. وإذا اقتبسنا من “أقوال آباء البرية” نجد هذا القول: ” إذا لم يقل الإنسان في قلبه: أنا وحدى مع الله في العالم، فلن يجد راحة البتة”[41].
ولكن أليس هذا نوع من الأنانية، أليس هذا رفضنا للقيمة الروحية للخليقة المادية وتهربًا من مسئوليتنا نحو اخوتنا من البشر؟ فحينما يغلق “الراهب الصامت” عينيه وأذنيه عن العالم الخارجي كما فعل الراهب سلوانس في صومعته بجبل أثوس، فما هي الخدمة الإيجابية والعملية التى يقدمها للآخرين؟
هيا بنا نبحث هذه المشكلة من وجهتين أساسيتين. فمن الناحية الأولى هل منهج “السكون” يمكن أن تُنسب إليه نفس الانحرافات مثل تلك التى أُدين “الانعزاليون الهادئون” (Quietists) بسببها في القرن السابع عشر في الغرب؟ هل الراهب “الصامت” (Hesychast) هو واقعيًا له نفس وجهة نظر “المنعزل الهادئ”؟.
ومن الناحية الثانية، ما هو موقف “الصامت” بالنسبة للبيئة المحيطة، سواء كانت بشرية أو طبيعية. ما فائدته (أو فائدتها) العملية للآخرين؟
فلنأخذ وصف “الإنعزالية الهادئة” (Quietism) في مرجع رئيسي مثل: ” قاموس أكسفورد للكنيسة المسيحية Oxford Dictionary of the Christian Church”، دون أن نحاول أن نحكم هل هذا يعتبر تلخيصًا عادلاً لآراء ميجيل دي مولينوس Miguel de Molinos أو مدام جويون Madame Guyon. يقول “قاموس أكسفورد”: ” المبدأ الأساسى للإنعزالية الهادئة هو رفضها لكل جهد بشرى.. فالإنسان لكي يكون كاملاً ، يجب أن يصل إلى سلبية كاملة وتلاشى الإراد، مسلمًا ذاته لله لدرجة إنه لا يهتم لا بالسماء ولا بجهنم، ولا يهتم بخلاصه الشخصى..
والنفس ترفض ـ عن وعى ـ ليس فقط التأملات الفكرية، بل وأى رغبة في الفضيلة، أو محبة المسيح أو تعبد الأقانيم الإلهية، ويستريح في حضرة الله بإيمان مجرد… وبما أن هذه الصلاة السلبية تعبّر عن قمة الكمال، فهي تجعل أى أعمال خارجية من إماتات، محبة الفقراء، الذهاب للاعتراف… الخ، لا قيمة لها. حالما يصل الإنسان إلى هذه الحالة، تصير الخطية مستحيلة”[42].
إن كانت هذه هي “الإنعزالية الهدوئية”، إذن فإن تقليد حياة السكون يختلف عنها بالتأكيد. “فالسكون” لا يعنى السلبية بل يعنى السهر (nepsis)، هو ” لا يعنى غياب الكفاح بل غياب عدم اليقين وغياب الارتباك”[43].
وحتى لو كان الراهب “الصامت” قد وصل إلى مستوى “التأمل”، فإنه لا يزال محتاجًا للكفاح في مستوى حياة العمل، ساعيًا بجهد إيجابي لاقتناء الفضيلة ورفض الرذيلة ـ حياة العمل وحياة التأمل بالمعنى الذي عرفناه قبل ذلك، لا ينبغى أن يُنظر إليهما كبديلين ولا تعتبران كمرحلتين متتابعتين زمنيًا ـ بحيث تنتهى الواحدة منهما عندما تبدأ الأخرى ـ بل بالحرى تعتبران مستويين متداخلين من الاختبار الروحي، يكونان موجودين معًا في حياة الصلاة.
وهذا هو التعليم الواضح للقديس أنطونيوس الكبير: ” إن العمل الأساسي للشخص هو أن يهتم بخطاياه أمام الله، وأن يتوقع حدوث التجربة حتى آخر نسمة… فالذي يقيم في الصحراء ويحفظ “السكون” يكون قد هرب من ثلاث حروب: السمع، والكلام، والنظر، ولكنه يجب أن يجاهد على الدوام ضد أمر واحد ـ وهو ـ الحرب في داخل قلبه”[44].
إنه لأمر صحيح أن “الراهب الصامت” (hesychast)، مثل “الإنعزالى الهادئ” (Quietist)، لا يستخدم التأملات الفكرية في صلاته. ولكن، رغم أن “السكون”(hesychia) يقتضى عملية “تنحية” جانبًا للأفكار والتصورات، فهذا لا يعنى بالنسبة “للراهب الصامت”، موقف “سلبية كاملة” أو غياب أى عمل محدد مثل…”محبة المسيح”. “فتنحية” الأفكار الشريرة أو التافهة أثناء ترديد صلاة يسوع، واستبدالها بالتفكير في الفكر الواحد “للاسم” (اسم يسوع)، هو ليس سلبية بل طريقة إيجابية قوية لضبط أفكارنا بمعونة نعمة الله.
فمناداة اسم يسوع هي بالتأكيد نوع من “الاستقرار في حضور الله بإيمان نقى”، ولكنها في نفس الوقت تتميز بحب إيجابي للمخلص واشتياق حار للاشتراك إلى أقصى حد في الحياة الإلهية. والذين يقرأون “الفيلوكاليا” تلفت نظرهم بشدة حرارة التقوى التى تشع من الكُتّاب الهيزيخيين (السكونيين)، يلفت نظرهم إحساس الصداقة الحميمة والشخصية مع “يسوعي”. هذه الحيوية الشخصية تظهر بنوع خاص في كتابات حزيقيوس السينائي.
وعلى خلاف “الانعزالى الهادئ”، فإن “الصامت” الحقيقي لا يدّعى أنه يصير بلا خطية أو أنه غير مُعرض للتجربة. وحالة “اللاهوى” (Apatheia) التى تتحدث عنها النصوص اليونانية النُسكية ليست حالة من عدم المبالاة وعدم الإحساس السلبية، وبالأولى ليست حالة يكون فيها الوقوع في الخطية مستحيلاً. ويقول مار اسحق السرياني: ” اللاهوى لا يعنى أن الشخص لا يشعر بأى شهوات، بل يعنى أنه لا يقبل أى شهوة من الشهوات”[45].
وكما يؤكد القديس أنطونيوس أن ” الشخص ينبغى أن يتوقع النجربة حتى آخر نسمة”، ويصاحب التجربة دائمًا احتمال السقوط في الخطية. ويقول أنبا أبراهام: ” الشهوات تبقى حية، ولكنها تكون مُقيدة بواسطة القديسين”[46]. وحينما يدّعى شيخ قائلاً: ” أنا قد مُت عن العالم”، يكمل جاره قائلاً: ” أنا قد مُت، لكن الشيطان لم يمت”[47].
و”اللاهوى” عند المؤلفين باليونانية منذ أيفاجريوس فما بعده، يرتبط بالمحبة برباط وثيق، وهذا يوضح بجلاء المحتوى الإيجابى والديناميكى لتعبير “اللاهوى” أو “عدم الهوى”. ففي أساسه الجوهرى هو حالة من الحرية الروحية، التى نستطيع فيها أن نسعى إلى الله باشتياق حار. فهو ليس مجرد إماتة للشهوات الطبيعية للجسد، بل هو ” طاقته الجديدة والأفضل”، هو “حالة النفس” التى يشتعل فيها حب حار نحو الله والناس، فلا يترك مكانًا للشهوات الأنانية والحيوانية”[48].
ويوضح القديس ديادوخوس طابعه الديناميكى باستعماله جملة مُعبّرة عنه هي: ” نار عدم الهوى”[49]. كل هذا يوضح بشكل مقنع الهوة التى تفصل بين “السكون” و”الانعزالية الهادئة”.
والآن نأتى إلى السؤال الثاني: بعد أن أوضحنا أن طريق “السكون” في الصلاة ليس انعزاليًا بأى معنى يثير الشكوك أو احتمال الهرطقة؛ فإلى أى درجة يعتبر طريق “السكون” سلبيًا في نظرته للعالم المادي، وغير اجتماعى في موقفه تجاه الآخرين؟ ويمكن توضيح صعوبة الأمر من قصة وردت في “أقوال آباء البرية” عن ثلاثة أصدقاء صاروا رهبانًا. الأول منهم اتخذ أولاً مهمة صنع السلام كعمل نُسكى يقوم به، ساعيًا لعمل الصلح بين الذين يذهبون للمحاكم ضد بعضهم بعضًا. والثاني جعل اهتمامه بخدمة المرضى، أما الثالث فمضى إلى البرية وعاش متوحدًا.
وبعد فترة من الوقت صار الأولان في غاية الملل والضجر. ومهما بذلا من جهد فلم يكونا يستطيعان تلبية كل الواجبات الموضوعة عليهما. وعندما اقتربا من حافة اليأس، ذهبا إلى الراهب الثالث، المتوحد، وأخبراه بمتاعبهما. في البداية صمت المتوحد.
وبعد برهة سكب ماء في إناء وقال لهما، “انظرا”. كان الماء قذرًا وعكرًا. ثم انتظرا دقائق قليلة. فقال لهما المتوحد: ” انظرا مرة أخرى”. وبعد أن رسب الطين في القاع وصارت المياه صافية، عندئذٍ نظرا فأبصرا وجهيهما كما في مرآة. فقال المتوحد: ” هذا ما يحدث بالضبط للشخص الذي يسكن بين الناس: فبسبب العكارة فهو لا يرى خطاياه الشخصية. ولكن عندما يتدرب على السكون، وخاصة في البرية، فهو يتعرف على ضعفاته الخاصة”[50].
هكذا تنتهى القصة، فهي لا تخبرنا كيف طبق الرهبان مثل المياه على حياتهما. ربما عادا كلاهما إلى العالم، واستأنفا عملهما السابق، لأن المجتمع على أى حال يحتاج بشدة لوسطاء وممرضين. ولكن ربما حاولا أيضًا أن يأخذا معهما بعضًا من “سكون” البرية. وفي هذه الحالة، يكونان قد فهما كلمات الراهب الثالث بمعنى أن العمل الاجتماعى مهما كان ضروريًا ومهمًا لا يكفى في ذاته.
فإن لم نحتفظ بالاتصال بأعماقنا الداخلية، إن لم يكن هناك مركز هادئ في وسط العاصفة، إن كنا وسط أنشطتنا لا نحتفظ بغرفة سرية داخل قلبنا نقف فيها وحدنا أمام الله، فإننا سنفقد كل إحساس سليم بمعرفة الاتجاه، وسنتمزق إلى قطع متناثرة. بلا شك هذه هي العبرة التى يميل معظم القراء في القرن العشرين إلى استخراجها من القصة: إننا يجب علينا جميعًا أن نكون متوحدين بدرجة ما في داخل قلوبنا. ولكن هل كان هذا هو “القصد الأصلى من القصة”؟.
غالبًا لم يكن هذا هو القصد. ولكن الأرجح أنه قُصِد بها أن تكون ترويجًا لحياة التوحد بالمعنى الحرفي والجغرافى. وهذا يثير في الحال السؤال الكبير عن الأنانية الظاهرة والسلبية الموجودة في الصلاة التأملية. فما هي إذن العلاقة الحقيقية بين “الراهب الصامت” والمجتمع؟.
الهدوء في الصلاة
معنى ”السكون” Hesychia(4)
للأسقف كاليستوس (وير) [51]
علاقة ” الصامت ” بالمجتمع:
ينبغى أن نعترف مباشرة، أنه في الحركة الهيزيخية للقرن 14، وفي النهضة الهيزيخية للقرن 18، وكذلك في الأرثوذكسية المعاصرة، فإن المراكز الأرثوذكسية لصلاة السكون كانت في المناسك الصغيرة، وهي صوامع يسكن فيها ما لا يزيد عن خمسة رهبان أو راهبات، يحيون كعائلة رهبانية صغيرة مترابطة ومختفية عن العالم.
وكثيرون من الذين كتبوا عن حياة السكون يفضلون بوضوح الأسقيط الصغير على دير الشركة الكبير، فالحياة في دير شركة كبير يعتبر سبب تشتيت من جهة الممارسة المكثفة للصلاة الداخلية. وطبعًا الحياة في المجتمع تسبب تشتيتًا أكثر.
ومع ذلك، فإن كان المنسك (الأسقيط) بوضعه الخارجي يعتبر مثاليًا، فلا يمكن الإدعاء أن له الأفضلية المُطلقة. فالمقياس دائمًا ليس هو ظروفنا الخارجية بل هو حالتنا الداخلية. بعض أوضاع خارجية معنية ربما تكون مساعدة أكثر من غيرها على السكون؛ ولكن لا يوجد أى وضع يجعل السكون الداخلى مستحيلاً تمامًا.
وقد رأينا القديس غريغوريوس السينائي يعيد تلميذه ايسيدور إلى العالم؛ بينما كثيرون من زملائه في جبل آثوس وفي صحراء باروريا Paroriaصاروا بطاركة وأساقفة، وقادة ورؤساء للكنيسة. وغريغوريوس بالاماس الذي علّم أن الصلاة الدائمة ممكنة لكل مسيحي، هو نفسه اختتم حياته بأن صار رئيس أساقفة لثاني أكبر مدينة في الإمبراطورية البيزنطية.
و”نيقولا كاباسيلاس” الذي كان علمانيًا ، وموظفًا مدنيًا، وكان صديقًا لكثيرين من قادة “حياة السكون” (الهيزيخيا)، يؤكد بإلحاح شديد: ” ينبغى أن يحتفظ كل واحد بحرفته أو وظيفته. فقائد الجيش ليبق في مكان سلطاته، والفلاح ليرعى الحقل، والفنان ليمارس فنه.
وأقول لكم لماذا؟ ليس من الضرورى أن نعتزل في الصحراء، وأن نأكل طعامًا غير شهي، وأن نغيّر زينا، وأن نجور على صحة أجسادنا، أو أن نفعل أى شئ غير حكيم؛ لأنه من الممكن تمامًا أن نظل في بيتنا دون أن نترك كل ممتلكاتنا، ومع ذلك يمكن أن نمارس التأمل باستمرار”[52].
وبنفس الروح يصرّ القديس سمعان اللاهوتى الجديد أنه لا توجد ” حياة أعلى” بمعنى مجرد ومطلق، لأن ” الحياة الأعلى” لكل واحد منا هي الحالة الخاصة التى يدعو الله إليها كل واحد شخصيًا: ” كثيرون اعتبروا حياة التوحد مغبوطة، وآخرون نظروا هكذا إلى رهبنة الشركة.
وآخرون أيضًا أطلقوا هذه الصفة على رعاية المؤمنين، أو على الإرشاد والتعليم الروحي وإدارة الكنائس… ولكن من جهتى، أنا لا أحكم بأن أى واحد فيهم هو أفضل من الآخرين، ولا أقول إن أحدهم يستحق مديحًا وآخر يستحق توبيخًا. ولكن، فى أية حالة، أيًا كان عملنا أو نشاطنا، فإن الحياة التى تُعاش لأجل الله وبحسب الله هي الأكثر غبطة”[53].
إذن، فطريق “السكون”، يبقى مفتوحًا للجميع! فالأمر الوحيد الضرورى هو الهدوء الداخلى وليس الخارجي. ورغم أن الهدوء الداخلى يفترض تنحية الصور جانبًا في الصلاة، فإن التأثير النهائي لهذه التنحية هو التأكيد بحيوية متجددة على القيمة الأساسية لكل الأشخاص والمخلوقات فى الله. فطريق الرفض هو في نفس الوقت طريق القبول الأكيد.
هذه النقطة تبرز بوضوح تام في كتاب “سائح في الطريق”، بطل هذه القصة وهو الفلاح السائح الروسى المجهول، يكتشف أن الترديد المتواصل لصلاة يسوع يصنع تجليًا لعلاقته بالعالم المادى المحيط به، فيغير كل الأشياء لتصير سرًا لحضور الله، ويجعلها شفافة. إذ يقول: ” حينما بدأت أصلى بقلبى، فإن كل الأشياء حولى أخذت شكلاً بهيجًا: الأشجار، الحشائش، الطيور، الأرض، الهواء، والنور. كل الأشياء بدت كأنها تقول لى إنها وُجِدتْ لأجل الإنسان، وإنها تشهد لمحبة الله نحو جنس البشر، وإنها كلها تصلى وتغنى بمجد الله.
وفهمت من هذا ما تسميه “الفيلوكاليا” ـ معرفة لغة كل المخلوقات ـ وشعرت بحب شديد ليسوع المسيح وأيضًا بحب لكل خليقة الله”. ومناداة اسم يسوع تغير أيضًا علاقة السائح باخوته بنى البشر: “وأيضًا صرت أتجول من موضع إلى الموضع الذي بعده، ولكن لم أعد أواجه صعوبات كما كان الحال سابقًا. إن صلاة اسم يسوع كانت تبهجنى في طريقى، وكل الناس كانوا يعاملوننىمعاملة حسنة؛ ويبدو كأنهم جميعًا أحبونى.. وإن شتمنى أو أذانى أحد، فإنى أتذكر عظمة حلاوة صلاة يسوع، وعندئذٍ فكأن الإهانة والغضب يتلاشيان وأنسى كل شئ”[54].
ويوجد دليل آخر على خاصية “قبول العالم” التى تتميز بها “حياة السكون” وذلك في الوضع المحورى الذى يعطيه الهدوئيون لسر التجلى. ويعطينا المطران أنطونيوس (بلووم) وصفًا متميزًا لأيقونتى للتجلى رآهما في موسكو، أحدهما لأندرية روبليف Andrei Rublev والأخرى لثيوفان اليوناني Theophan The Greek. أيقونة روبليف ” تُظهر المسيح في تألق ثيابه البيضاء البراقة وهي تلقى بنورها على كل ما حولها. هذا النور يسقط على التلاميذ، على الجبال والأحجار وعلى كل الأعشاب. وداخل هذا النور…
الذى هو المجد الإلهي، النور الإلهي الذي لا يمكن فصله عن الله، فإن كل الأشياء تكتسب قوة كيانية لم تكن تستطيع أن تحصل عليها بدون ذلك؛ وفي هذا النور فهي تبلغ إلى ملء الحقيقة التى يمكن أن تنالها فقط في الله وحده”. وفي الأيقونة الأخرى ” نرى ثياب المسيح فضية مع ظلال زرقاء؛ وأشعة النور الساقطة على الموقع هي أيضًا بيضاء، فضية وزرقاء. وكل شئ آخر يعطى انطباعًا بأنه أقل وضوحًا جدًا. عندئذٍ نكتشف أن كل الأشعة الآتية من الحضور الإلهي… لا تعطى بروزًا أو تجسيمًا بل تعطى شفافية للأشياء.
ونحصل على الانطباع بأن أشعة النور الإلهي هذه تلمس الأشياء وتدخل إلى عمقها وتخترقها، إنها تلمس شيئًا في داخلها حتى أنه من قلب هذه الأشياء ـ من كل الأشياء المخلوقة ـ فإن نفس النور يعكس ويضيئ وكأن الحياة الإلهي تحيى وتنعش القدرات والإمكانات الخاصة بكل الأشياء وتجعل الكل يمتد متجهًا نحوها. في تلك اللحظة، يتحقق الوضع الأخروى، وبكلمات القديس بولس يصير ” الله الكل في الكل“[55].
هذا هو التأثير المزدوج لمجد التجلى: أن يجعل كل شخص وكل شئ يظهر متميزًا بوضوح تام، في جوهرهما الفريد، وفي نفس الوقت أن يجعل كل شخص وكل شئ شفافًا، وأن يكشف الحضور الإلهي المختفى وراءهما ويكشفه داخلهما. وهذا التأثير المزدوج نفسه ينتج عن “حياة السكون”. فصلاة السكون الداخلى ليست إنكارًا للعالم بل هي احتضان للعالم. إنها تتيح للعابد ” الصامت ” أن ينظر إلى ما وراء العالم إلى الخالق غير المنظور؛ وهكذا تمكنه أن يعود إلى العالم وأن يراه بعيون جديدة.
كثيرًا ما يُقال، إن فائدة السفر هي أن نعود إلى النقطة التى انطلقنا منها، وأن نرى بيتنا من جديد كأننا نراه لأول مرة. وهذا الكلام يصدق على رحلة الصلاة مثل أى رحلة أخرى. ” فالعابد الصامت ” اكثر جدًا من الإنسان الشهوانى أو الإنسان المادي ـ يستطيع أن يقدّر جيدًا قيمة كل شئ، لأنه يرى كل الأشياء في الله ويرى الله في كل شئ. لذلك فلم يكن مصادفة أن غريغوريوس بالاماس ومؤيدوه في القرن 14، كانوا مهتمين أن يدافعوا بتدقيق عن الإمكانات الروحية للخليقة المادية، وبنوع خاص إمكانات الجسم الطبيعى الروحية لكل شخص بشرى.
هذا باختصار، هو الجواب على الذين يعتبرون “حياة السكون” أنها سلبية ولها اتجاه ثنائى في موقفها من العالم. فراهب “السكون” ينكر (العالم) لكي يعود فيؤكده ويقبله، إنه ينسحب لكي يعود. وفي عبارة تلخص العلاقة بين الراهب المتوحد والمجتمع، بين الصلاة الداخلية والعمل الخارجي، يقول إفاجريوس: ” الراهب هو الشخص الذى ينفصل عن الكل ويتحد بالكل”[56].
فالرهبان الهدوئيون يتخذون خطوة انفصال خارجيًا، بأن يعيشوا في عزلة؛ وداخليًا “بأن ينحّوا الأفكار جانبًا” ـ ومع ذلك فإن نتيجة هذا الهروب هي أن يرتبطوا بالآخرين أكثر مما كانوا قبل ذلك، أى أن يجعلهم أعمق إحساسًا بحاجات الآخرين، وأكثر إدراكًا جدًا لإمكاناتهم الخفية. وهذا ما نراه بوضوح عظيم في حالة الآباء والأمهات الروحيين العظام، فأشخاص من أمثال القديس أنطونيوس الكبير والقديس ساروفيم ساروفسكى عاشوا عقودًا كاملة في سكون تام وعزلة مكانية.
ولكن التأثير النهائي لهذا الهدوء والعزلة هو أنه منحهم وضوحًا في الرؤية وحنانًا نادرًا. فلأنهم قد تعلموا أن يعيشوا على انفراد، لهذا بالضبط استطاعوا بطريقة تلقائية أن يجعلوا أفراح وأحزان كل الذين يأتون إليهم لطلب المعونة هي أفراحهم وأحزانهم هم. استطاعوا أن يميزوا الخصائص العميقة لكل شخص، في الحال، وربما تكلموا إليهم بجملتين أو ثلاث فقط، ولكن هذه الكلمات القليلة كانت هي الأمر الوحيد الذى كان كل شخص يحتاج أن يسمعه في ذلك الوقت بالذات.
يقول مار اسحق السرياني: ” إن اقتناء نقاوة القلب هو أفضل من تحويل كل الشعوب الوثنية من ضلالها”[57]. هذا ليس معناه أنه يحتقر العمل الرسولى؛ بل هو يقصد أننا ما لم نحصل على درجة ما من السكون الداخلى، فمن غير المحتمل أننا ننجح في تحويل أى إنسان إلى أى اتجاه صالح. والأنبا أمون تلميذ القديس أنطونيوس يجعل هذه النقطة أقل تناقضًا بقوله: ” لأنهم مارسوا الهدوء العميق أولاً، فإنهم امتلكوا قوة الله لتسكن فيهم، وعندئذٍ أرسلهم الله وسط المجتمع البشرى”[58].
وحتى إن كان كثيرون من المتوحدين لا يعودون بالمرة إلى العالم كرسل أو كمرشدين روحيين بل يواصلون عمل السكون الداخلى طوال حياتهم مجهولين تمامًا من الآخرين ـ فهذا لا يعنى أن تأملهم الداخلى بلا فائدة أو أن حياتهم تافهة. إنهم يخدمون المجتمع ليس بالأعمال الظاهرة بل بالصلاة، ليس بما يفعلونه، بل بما يكونونه، ليس خارجيًا بل وجوديًا. فهم يمكنهم أن يقولوا بتعبير القديس مقاريوس الأسكندري: ” أنا أحرس الأسوار”[59].
1عن كتابThe Inner Kingdom by Bishop Kallistos Ware, S.V.S. Press, N.Y. 2000. للأسقف كاليستوس (وير).
[2] A.P. Theophilius2.
[3] AP. Rufus1.
[4] AP. Moses6.
[5] AP. Arsenius11.
[6] AP. Antony10.
[7] AP. Ammonas4.
[8] Questions and Answers, 73.
[9] AP. A.c. 206, Nau.
[10] The Art of Prayer63.
[11] Ladder27.
[12] Letter2.
[13] Homily2 Wensinck,8.
[14] AP. Arsenius1,2.
[15] On the Clerical Office1,2.
[16] Ladder27.
[17] AP. Antony24.
[18] Patriarch Philotheos, Life of St. Isidore 22.
[19] Patriarch Philotheos, Life of St. Gregory of Thessalonika. PG151, 573B.
[20] Discourses 5, 122.
[21] AP. Poemen.
[22] Questions and Answers, §554.
[23] عن كتابThe Inner Kingdom by Bishop Kallistos Ware, S.V.S. Press, N.Y. 2000. للأسقف كاليستوس (وير).
[24] On Prayer70 (P.G.79. 1181C).
[25] on Prayer (P.G.150: 1333B).
[26] Book of The Poor inSpirit, 2.3.2.
[27] Gregory og Sinai113 (P.G.150: 1280A).
[28] Ladder27 (P.G. 88:1100A).
[29] تيتو كولياندر، طريق النُساك، ترجمة بيت التكريس لخدمة الكرازة، ص 63، طبعة ثانية سنة 1995.
[30] Book of The Poor inSpirit, 2.3.2.
[31] Homily35.
[32] Homily66.
[33] Ladder26.
[34] Questions and Answers § 91.
[35] Philokalia 3:27.
[36] In The Art of Prayer, 97.
[37] Philokalia 1:270.
[38] Staretz Silouan by Archi. Sophrony, London 1958.
[39] Commentary on the Song of Songs II.
[40] عن كتابThe Inner Kingdom by Bishop Kallistos Ware, S.V.S. Press, N.Y. 2000. للأسقف كاليستوس (وير).
[41] A.p. Alonius1.
[42] The Oxford Dictionary of the Christian Church, Oxford, 1997, 1357.
[43] A. Bloom “Contemlation et ascese”, 54.
[44] A.P. Antony4,11المجموعة الأبجدية
[45] Homily74.
[46] AP. المجموعة الأبجدية Abraham 1.
[47] AP, anonymous collection, 266.
[48] Archimandrite Lazarus Moor, in St. John Climacus (London 1959), 51.
[49] Philocalia, 1:258.
[50] AP, anonymous collection, 134.
[51] عن كتابThe Inner Kingdom by Bishop Kallistos Ware, S.V.S. Press, N.Y. 2000. للأسقف كاليستوس (وير).
[52] The Life in Christ 6:42 by N. Cabasilas.
[53] Symon thr new Theologian, Chapters 3, 65.
[54] The Pilgrim’s Tale: Classics of Western Spirituality (1999 New York) 77, 83.
[55] “Body and Matter in Spiritual life” in, “ Sacrament and image” (Fellowship of St. Alban and St Sergius, London 1967) 40-41.
[56] On Prayer 124.
[57] Homily 4. Wensinck 32.
[58] Ep. 1.
[59] Palladius, Lausiac History 18.