أبحاث

القراءات المتعددة للكتاب المقدّس في ضوء العلوم البيبلية الحديثة – الدكتور خالد اليازجي

القراءات المتعددة للكتاب المقدّس في ضوء العلوم البيبلية الحديثة - الدكتور خالد اليازجي

القراءات المتعددة للكتاب المقدّس في ضوء العلوم البيبلية الحديثة – الدكتور خالد اليازجي

القراءات المتعددة للكتاب المقدّس في ضوء العلوم البيبلية الحديثة - الدكتور خالد اليازجي
القراءات المتعددة للكتاب المقدّس في ضوء العلوم البيبلية الحديثة – الدكتور خالد اليازجي

 

توطئة.

1: السبعينية هي الكتاب المقدس الذي تستعمله كل الكنائس (في الشرق وفي الغرب) في صلواتها وخِدَمها الليتورجية.

أمثلة:

كتاب الصلوات الطقسية في كنيسة روما الكاثوليكية يزخر بقراءات من أسفار السبعينية (باروخ، الحكمة، سيراخ …الخ) وهذه الأسفار محذوفة من الكتاب العبراني المسوري.

الكنيسة الأسقفية (البروتستانتية) في أميركا، وعبر العالم، تستخدم نشيد الفتية الثلاث، وترتُله في صلاة الصباح: Daily Morning Prayer: Rite One، وهو موجود في سفر دانيال السبعيني ولا يوجد في الكتاب العبراني المسوري[1]. أيضًا كتاب الصلوات العمومي[2] والذي نُشر في إنكلترا لأول مرة عام 1549م على عهد الملك إدوارد السادس، والذي يُستخدم اليوم في الكنائس الأنكليكانية عبر العالم وقد صار مطبوعًا بأكثر من 150 لغة مختلفة، وقد استعارت منه أيضًا الكنائس الإنكليزية البروتستانتية التقليدية كاللوثرية والميثوديست والمشيخية، يستخدم هذا الكتاب مثلًا (طوبيت 4: 8-9) في خدمة القداس الإلهي، ويُحدّد قراءات معيّنة من أسفار السبعينية غير الموجودة في الكتاب المسوري العبراني، مجموع هذه القراءات 127 فصلًا، تُؤخذ من أسفار (طوبيت، الحكمة، سيراخ، باروخ، المكابيين، صلاة منسى، نشيد الفتية الثلاث) ، وبذلك تتفوق هذه الكنائس البروتستانتية على كل الكنائس الأخرى في استعمالها لهذه الأسفار، وهذا شاهد على استمرار التقليد الكنسي الغربي القديم في قراءة السبعينية في خِدَم الكنيسة.

كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك تقرأ كل قراءاتها الكتابية القانونية من السبعينية حصريًا ولا تستعمل أبدًا الكتاب العبراني المسوري في صلواتها وخدمها الليتورجية. نلاحظ في خدمة (أحد الآباء القديسين) مثلًا هذه القراءة المحددة من سفر دانيال السبعيني (نشيد الفتية الثلاث 3: 26-27) وهو غير موجود في العبراني ولا في الآرامي.

كنيسة الروم الأرثوذكس في خدمها الليتورجية تقرأ نصوصها الكتابية من السبعينية حصريًا ولا تستعمل النص العبراني إطلاقًا. أمثلة سريعة:

الأصحاح 3 من دانيال (الفتية الثلاث) يُقرأ كاملًا في مساء السبت الكبير المقدس. تُقرأ التسابيح التسع بحسب ترتيبها في كتاب “الأوديات” وهو أحد أسفار السبعينية في صلاة السحر على طول أيام الصوم. الأصحاحات 3، 4، 5 من سفر الحكمة تُقرأ في أعياد القديسين الممتازين (جاورجيوس المظفر مثلًا)، وعددها بالضبط في كتاب الميناون 26 قراءة، وفي كتاب البندكستاريون قراءتان.

الأصحاح الرابع من سفر باروخ في كتاب الميناون، يُقرأ في غروب عيد الميلاد. صلاة منسى (الموجودة في سفر الأوديات) نجدها في كتاب السواعي الكبير، حيثُ تُقرأ في صلاة النوم الكُبرى في كل يوم من أيام الصوم الكبير المقدس. أكثر كتاب يُقرأ من كتب العهد القديم في كنيسة الروم الأرثوذكس هو كتاب حكمة سليمان (وهو موجود فقط في السبعينية)

الكنيسة القبطية تقرأ نصوصها الليتورجية من السبعينية هي الأخرى. مثال:

تقرأ الكنيسة القبطية المزمور 151 الموجود في السبعينية في سبت الفرح (أبو غالمسيس) ليلة عيد القيامة وهو غير موجود في النص المسوري العبراني. يجدر بنا أن نذكر أنه رغم اعتقاد الكتاب لسنوات طويلة بأن مزمور 151 هو يوناني الأصل وليس له أصل عبري لكنه وُجد بنصه العبراني في قمران في مخطوطات البحر الميت مما يؤكد أصالته في الكتاب المقدس.

2: الكتاب المقدّس المسيحي (عند كل الكنائس) رتّبَ أسفار العهد القديم بحسب ترتيبها في السبعينية وليس بحسب ترتيبها في النص المسوري اليهودي.

3: استعملَ الكتاب المقدس المسيحي أسماء أسفار العهد القديم كما جاءت في السبعينية وليس بحسب أسمائها في النص المسوري العبراني. سفر (التكوين) مثلًا اسمه في النص المسوري (بريشيت) أي «في البدء». سفر (الخروج) اسمه في النص المسوري (وإيله شموت) أي «وهذه أسماء» …الخ

4: تعتبر السبعينية حتى هذه اللحظة أقدم نصٍّ كامل للعهد القديم، فالمخطوطات اليونانية التي تحتوي على كامل أسفار الكتاب المقدس تعود إلى القرن الرابع الميلادي، كالمخطوطات الفاتيكانية والسينائية والإسكندرانية. أما إذا تكلّمنا عن المخطوطات غير الكاملة، أي التي تحوي أجزاء من الكتاب المقدس، فهناكَ في متاحف العالم اليوم مخطوطات للسبعينية تعود تقريبًا إلى نفس الزمن الذي ظهرت فيه السبعينية إلى الوجود.

أما النص العبراني المسوري للكتاب المقدس فتفتقد مخطوطاته إلى مثل هذه العراقة، فأقدم المخطوطات الكاملة له تعود إلى القرن العاشر الميلادي، وهي النصوص المعروفة باسم «المَسورية»MT.

5: من أقدم النصوص المعروفة اليوم للكتاب المقدس هو بردية للسبعينية تعود للقرن الثاني قبل الميلاد محفوظة في جامعة مانشستر في إنكلترا فيها جزء من (تثنية 25: 1-3).

فما هي السبعينية؟

متى ظهرت إلى الوجود؟

ما هي ظروفها القانونية عبر التاريخ؟

لماذا رفضها اليهود بعد أن كانوا يستعملونها رسميًا في مجامعهم؟

ولماذا حافظت الكنيسة (شرقًا وغربًا) على استعمالها إلى هذا اليوم؟

للإجابة على هذه الأسئلة لا بد من استعراض سريع لبعض التاريخ.

 

فذلكة تاريخية

ظهرت الأسفار المقدسة (للعهد القديم) باللغة العبرانية خلال فترات متعاقبة من تاريخ الشعب اليهودي. إلا أنه بعدَ عودة اليهود من السبي البابلي حوالي 540 ق.م ابتدأ اليهود بترك اللغة العبرانية، واستعمال اللغة الآرامية التي سادت في منطقة شرق المتوسط في تلك الفترة. مما اضطرهم إلى جمع التفاسير والترجمات المكتوبة باللغة الآرامية، ليبدأ ظهور ما يُسمّى بالترجوم، وهو يعكس التفاسير المِدراشية، أكثر منه ترجمةً حرفية[3]، واقتصر الترجوم على أسفار موسى، وأسفار الأنبياء، بدون أسفار الكتابات[4]، ومن أهم الدلائل على أنّ اليهود قد كفّوا عن تداول اللغة العبرانية في ذلك الزمن، هو أنّ الكثير من أجزاء الكتاب المقدس التي ظهرت في تلك المرحلة، كُتبت مباشرةً باللغة الآرامية، وليس بالعبرانية، مثل (عزرا 4: 8 –  6: 18)، و(عزرا 7: 12-26)، و (إرميا 10، 11)، و(دانيال 2: 4 – 7: 28).

في القرن الثالث قبل الميلاد، بدأت اللغة اليونانية تحلّ محل الآرامية، بتأثير الانتشار الواسع للثقافة الهيلنستية في حوض المتوسط، واضطرَّ اليهود لترجمة التوراة ترجمة حَرفية هذه المرّة، لاستعمالها في المجامع، لأنّ الأغلبية الساحقة منهم كانت تجهل اللغة العبرانية، فظهرت الترجمة اليونانية المعروفة بالسبعينية.

تروي رسالة “أريستا” التي تعود إلى العام 100 ق.م أنّ إليعازر رئيس الكهنة في أورشليم أرسلَ 6 علماء من كلّ سبط إلى الإسكندرية ليترجموا التوراة من العبرانية إلى اليونانية، بناءً على طلب ملك مصر “بطليموس فيلادلفيوس” (285- 264 ق.م)، فأخذوا معهم النسخة الرسمية المعتمدة من التوراة والمحفوظة في الهيكل اليهودي كنسخة معيارية للكتاب المقدس، ويصفها بأنّها “مكتوبة بماء الذهب على رقوقٍ فاخرة“، وقد لقي هؤلاء العلماء اليهود ال72 عناية مَلكية، وأنزل الملك كل اثنين منهم في غرفة منعزلة، في جزيرة فاروس المصرية، حيث أنجزوا بواسطة الوحيٍ الإلهي، ترجمةً متفقة اتفاقًا كاملًا، بعد المُناقشة والمقارنة[5] وهي الترجمة التي أخذت فيما بعد اسم (السبعينية) نسبة لعدد الشيوخ المترجمين ويرمز لها LXX.

يؤكّد الباحثون[6] اليوم أنّ الخطوط الرئيسية لهذه الرواية هي دقيقة من الناحية التاريخية (بغض النظر عن موضوع الوحي)، فبكلِّ تأكيد تمَّ إنجاز ترجمة أسفار التوراة الخمسة في الإسكندرية، وفي القرن الثالث قبل الميلاد[7]، بدليل وجود مخطوطات يونانية من هذه الأسفار تعود لهذا العصر نفسه، وقد أُكملت بعدَ ذلك ترجمة بقية الأسفار قبل نهاية العام 132 ق.م.

تؤكِّد هذه الرواية اليهودية أنّ اليهود قد اعتبروا الترجمة السبعينية بأنها موحاة من الله، وباعتبارها ترجمة دقيقة للنسخة العبرانية المعيارية فيمكن الاستعاضة بها عن استعمال التوراة العبرانية، يؤكّد ذلك أيضًا ما وردَ في التلمود من التأكيد على تفاصيل رواية “أريستا” حيث يشدِّد على وحي الترجمة السبعينية بعبارات مثل العبارة التالية:

حرّكَ اللهُ قلبَ كلِّ واحدٍ من الشيوخ ال72، لكي يُترجمَ بالحرف الواحد، كما ترجم الآخرون تمامًا[8]

يُؤكد ذلكَ أيضًا تشديد علماء اليهود ومؤرّخيهم أيضًا على صحة ما وردَ في رسالة “أريستا”، كما نجد عند فيلو الإسكندري[9] وكذلك عندَ يوسيفوس[10] ولذلك نجد كلّ الاقتباسات الكتابية الموجودة في أعمالهما، أنها مأخوذة عن السبعينية.

يؤكّد الباحثون[11] أنّ السبعينية قد استُعملت للقراءة الليتورجية في المجامع اليهودية ولدراسة الكتاب المقدّس في كل الأماكن التي انتشر فيها اليهود، وحتى في فلسطين نفسها[12]، وهذا أمر طبيعي لأنّ اللغة العبرانية لم تكن مفهومة عند أغلبية اليهود، الذين تكلّموا الآرامية واليونانية في فلسطين، واليونانية في سائر أنحاء الإمبراطورية الرومانية.

ظهرت المسيحية، وبشكل طبيعي استعمل الرب يسوع ورُسُلُه السبعينية[13] باعتبارها الكتاب المُقدّس المُعتمد والمُستعمل في ذلك الزمن.

وبالتالي استعملت الكنيسة الأولى السبعينية في كل مكان انتشرت فيه في العالم، وقامت بترجمتها إلى كلّ لغات الشعوب التي آمنت بالمسيح، كاللاتينية في روما، والقبطية والحبشية في إفريقيا، والأرمنية والجورجية، والسلافونية في آسيا[14].

إنّ الانتشار السريع للديانة المسيحية، شكّلَ خطرًا حقيقيًا على الدين اليهودي، بسبب تحول الكثير من اليهود إلى المسيحية، مما دفع حاخامات اليهود وعلمائهم في القرن الثاني الميلادي، وبعد أن فشلت محاولاتهم في اضطهاد المسيحيين، إلى اعتماد استراتيجيّات دفاعية أخرى لحماية أتباعهم من التحوّل إلى المسيحية.

بما أنّ المبشّرين المسيحيين كانوا يستعملون السبعينية بمهارة، ويشرحون آياتها لليهود، ويُفسّرون لهم نبوءاتها المسيانية ليقنعوهم بالإيمان المسيحي، فقد كان منع اليهود من استعمال السبعينية هو الاستراتيجية الدفاعية الأولى[15].

حاول الحاخامات إنجاز ترجمة يونانية جديدة للكتاب المقدّس، تُطمس فيها الإشارات المَسيانية الواضحة التي تشير إلى يسوع المسيح الرب، تُنافس السبعينية التي يَستعملها المسيحيون ويستخدمونها في تبشير اليهود بمهارة يصعب مجاراتها ومقاومتها، حيث وصلَ الأمرُ بالأجيال الجديدة من اليهود وحاخاماتهم، إلى تنامي شعور بالنقمة عندهم تجاه السبعينية[16].

أوّل هذه المُحاولات اليهودية كانت ترجمة أكويلا البُنطي عام 130م، تلتها ترجمة ثيودوتيون 150م، وترجمة سيماخوس في نهاية القرن الثاني الميلادي. تجدر الإشارة إلى أنّ سيماخوس نفسه عارض إنجيل متى وهاجمه في كتابه[17] Hypomnemata . للأسف ضاعت هذه الترجمات اليونانية عبر التاريخ.

لكنّ آباء الكنيسة كانوا بالمرصاد، فأثبتوا أنّ هذه الترجمات تحمل تزويرًا وتحريفًا في بعض المواضع، وفنّدوا هذه الترجمات عبر مؤلّفات عديدة[18]، وأوضحوا ما فيها من تحريف لتلك النصوص التي تشير بوضوح إلى المسيح، ما أدّى إلى إحراج اليهود واضطرارهم للتخلّي عن هذه الترجمات نهائيًا، واعتماد إستراتيجية أكثر فعالية وأكثر خطورة.

فقد عمَدَ مُعلِّمو اليهود إلى حذف أسفار كاملة من العهد القديم، وخاصة تلكَ التي يَستعملها المسيحيون في التبشير، وإخراج هذه الأسفار نهائيًا من قانون الكتاب اليهودي المُقدس للتخلّص من الإشارات المسيانية الواضحة فيها. أقصد هنا ما يسمى اليوم بالأسفار القانونية الثانية أو الأنتيليغومينا (كما سمّاها آباء الكنيسة).

أوضح آباء الكنيسة أنّ اليهود حذفوا “الأسفار الأنتيليغومينا(القانونية الثانية) من كتابهم المُقدّس نكايةً بالمسيحيين، لنستمع مثلًا، كيف يَغمِز القديس يوستينوس الشهيد (القرن الثاني) من قناة مُحاورِه اليهودي تريفو، بالإشارة إلى هذه الحقيقة:

إني لا أثق بمعلميكم، الذين يعتبرون أن الترجمة التي قام بها السبعون شيخًا، لدى بطليموس ملك مصر، أنها غير صحيحة، ويحاولون أن يقوموا بترجمة خاصـّة بهم. فحذفوا أسفارًا كاملة من الترجمة التي عملها الشيوخ لبطليموس، لأنها كانت تبيــِّن وتعلن بوضوح أن يسوع (هذا الذي صُلب) كان إلهًا وإنسانًا، وأنه عـُلِّق على الصليب، ومات. يجب أن تعرفوا أني أعلم أن معلميكم ينكرون كلَّ هذه النصوص، ولذلك فأنا لا أحاول أن أحاججَكم منها، بل أحاججكم بالتي تعترفون بها فقط … لاحِظ أنني لم أحاول أن أعطيكَ برهانًا عن المسيح من مقاطع الكتاب المقدّس التي لا تقبلونها، بل فقط من التي تقبلون بها، وأخشى أن يَحذفها معلِّموكَ هي الأخرى، عندما يفهمون معانيها، كما فعلوا بالمقاطع السابقة.[19]

لقد أثبتت مكتشفات خربة قمران في القرن العشرين صحة كلام الآباء هذا، بعد أن كان معظم الباحثين قد اعتقدوا أنها مجرّد اتّهامات كيديّة، فقد أصبح من المعروف اليوم أنّ كل الأسفار الأنتيليغومينا(أو القانونية الثانية) كانت في الماضي جزءًا لا يتجزّأ من كتاب اليهود المقدّس وأنّ السبب الأساس لحذفها هو شيوعها واستعمالها عند الهراطقة (المسيحيين)[20].

أما المعايير التي اعتمدها الحاخامات لتحديد الأسفار التي ينبغي حذفها وتلك التي يجب الإبقاء عليها في كتابهم المقدس فيعتبر الكثير من العلماء أنها كانت اعتباطية تعسّفية وتفتقر إلى المنطق العلمي[21].

الإجراء الثاني الفعّال الذي اعتمده الحاخامات، كان قطع الارتباط نهائيًا بين اليهود والسبعينية، وإعادة الاعتبار للنص العبراني للتوراة، وللترجمات الآرامية التي قام بها “Onkelos” والحاخام “يوناثان بن عُزّيا” (والتي اعتمدت فيما بعد من قِبل المسوريين في القرون الوسطى)، والرفض التام لاستعمال  اللغة اليونانية كلغة للكتاب المُقدّس، وهذا الإجراء كفيل بإقامة حاجز منيع بين عامّة اليهود الذين يجهلون العبرانية، وبين الكتاب المُقدّس، إذ لن يتمكّنوا عندها من التعرّف على محتواه، إلا من خلال أفواه الحاخامات والمعلّمين اليهود، وسيُغلق الباب أمام المُبشِّرين المسيحيين، إذ لن يعود بإمكانهم إقناع اليهود بالإيمان المسيحي من خلال النصوص اليونانية للعهد القديم، بسبب الحاجز اللغوي الذي يفصل بينهم وبين هذه النصوص. المُشكلة الكبيرة التي واجهت الحاخامات هي عدم وجود نموذج نصّي عبري معياري وحيد، ويمكن الاعتماد عليه بثقة لتمييز الاختلافات النصّية والأخطاء، وإصلاحها، وذلك لأنّ العدد الأكبر من المخطوطات العبرانية الموثوقة، كانت قد دُمِّرت واختفت في كارثة اليهود القومية، وخراب هيكلهم، التي جرت على يد الرومان عام 70م[22].

مع الوقت انتخبَ الحاخامات ما اعتبروه أعرق هذه النماذج النصيّة، وفق معايير ارتأوا من خلالها أنه هو النص الأفضل، فكان هذا النص الذي أخذ فيما بعد اسم جماعة المسوريين، الذين ظهروا في ما بين القرن 7- 11م، وضبطوا النص بإضافة النّقط والحركات والأحرف الصوتية لتثبيت طريقة القراءة وللتقليل من أخطاء النسخ، وقد ظهر في البداية نموذجان مسوريان رئيسيّان مُختلفان قليلًا فيما بينهما، نسخة عائلة (ابن أشير)، ونسخة عائلة (ابن نفتالي)، بالإضافة لنماذج أكثر اختلافًا لم تسُد فيما بعد مثل نموذج “فنحاس”، ونموذج “موشي”، ومع الزمن اعتُمدت نسخة (ابن أشير) بشكل رسمي أواخر القرن الثامن، وهي النسخة المسورية السائدة عند اليهود في يومنا هذا.

الطريقة التقليدية التي اعتمدها المسّوريون لتثبيت قراءة النص هي إضافة الحروف الصوتية والحركات إلى الأحرف الساكنة، لكي تَنتُج الكلمة التي اعتقدوا أنها هي الكلمة الصحيحة، ولكن في بعض الأحيان كانت تنتج كلمة مُختلفة تمامًا لم يكن لها وجود في النص الأصلي.

وهكذا استمرّ النموذج النصّي القديم والقراءة الأكثر أصالة للعهد القديم محفوظًا في السبعينية (كتاب الكنيسة المسيحية) والذي حافظت كل الكنائس على استعماله واعتماده كمرجع لترجمة الكتاب المقدس إلى مختلف اللغات.

بقي هذا الأمر سائدًا في الشرق إلى هذا اليوم، أما في الغرب فقد كُسِر لأول مرة على يد القديس جيروم في القرن الخامس الميلادي عندما قام بترجمته اللاتينية المشهورة (الفولكاتا) والتي اعتُمدت رسميًا فيما بعد في الكنيسة الغربية. إذ فضّل جيروم أن يترجم من النص العبراني الذي بيد اليهود بعد أن لاحظ أنه يختلف بشكل واضح عن السبعينية والتي كانت تعتمدها كنيسته (كنيسة روما) قبل ذلك كمرجع للترجمة اللاتينية القديمة. أما الأسفار التي لم يجدها جيروم في الكتاب اليهودي فقد عادت الكنيسة الغربية ووضعتها في الفولكاتا كما كان في السابق وبنفس ترتيبها الموجود في السبعينية.

 

قائمة أسفار السبعينية

وكلها مكتوبة باليونانية القديمة أي نفس اللغة التي كتبت بها أسفار العهد الجديد.

التكوين . الخروج . اللاويين . العدد . التثنية

يشوع . القضاة . راعوث .

الملوك الأول (يعادل صموئيل الأول) . الملوك الثاني (يعادل صموئيل الثاني)

الملوك الثالث (يعادل الملوك الأول)  . الملوك الرابع (يعادل الملوك الثاني)

أخبار الأيام الأول . أخبار الأيام الثاني

عِزرا الأول. عِزرا الثاني (يعادل عزرا ونحميا)

إستير (وتتمته). يهوديت . طوبيت . المكابيين الأول . المكابيين الثاني . المكابيين الثالث . المكابيين الرابع

المزامير ( وعددها151 مزمورًا) . الأوديات (متضمّنًا صلاة منسى)

الأمثال . الجامعة . نشيد الأناشيد . أيوب . حكمة سليمان . حكمة سيراخ . مزامير سليمان

هوشع . عاموس . ميخا . يوئيل ، عوبديا . يونان . ناحوم . حبقوق . صفنيا . حَجّأي . زخريا . مَلاخي

إشَعيا . إرميا (متضمّنًا باروخ والمراثي ورسالة إرميا) . حزقيال . دانيال (متضمنًا سوسنّة، وبيل والتنين، ونشيد الفتية الثلاث، وصلاة عزريا)

 

الوضع في الكنيسة الأرثوذكسية

كل هذه الكتب دون استثناء موجودة في الكتاب المقدس الأرثوذكسي وجميعها قانونية وموحاة من الروح القدس. استمر هذا التقليد منذ نشأة الكنيسة ثم أكّدت عليه عدة مجامع أهمها مجمع أورشليم الأرثوذكسي، الذي عُقد عام 1672م، والذي اعتبره بعض المُؤرخين موازيًا في أهميته للمجامع المسكونية السبعة.

 

الوضع في الكنيسة الكاثوليكية

بقيت أسفار السبعينية موجودة في مخطوطات الفولكاتا، واستمرّ هذا التقليد في الطبعات الحديثة كما نجد اليوم في طبعة شتوتغارت (1969م)[23] رغم ظهور تيار لاهوتي في الغرب يقلل من شأن كتب السبعينية غير الموجودة في الكتاب اليهودي وأطلق عليها اسم «الأسفار القانونية الثانية» هذه التسمية التي ابتدعها للمرة الأولى اللاهوتي الفرنسي «سكستس سينا» في العام 1566[24] مع أنّ مجمع ترنت 1546م، قد أكّد قانونية هذه الكتب وأعلنَ أنّ: “هذه الكتب تستمدّ سلطتها القانونية من وجودِها في الفولكاتا، ومن استعمال الكنيسة لها منذ العصور القديمة، لذلك فكلّ من يرذلها، عن علمٍ بها وعن اختيار ليكن أناثيما”[25]

 

الوضع في الكنائس البروتستانتية

ترجمَ مارتن لوثر الكتاب المقدّس إلى اللغة الألمانية في العام 1534م مُحدِّدًا بذلك قانون الكتاب المقدّس البروتستانتي، وبالطبع ترجَمَ الأسفار السبعينية (القانونية الثانية) لكنه وضعها في قسم خاص لوحدها وأدرجها بين مجموعة أسفار العهد القديم المُعترف بها عند اليهود من جهة، وبين أسفار العهد الجديد من الجهة الأخرى[26]. وهكذا ولأوّل مرّة في تاريخ الكتاب المقدّس المسيحي، أُخرجتْ كل الأسفار والأجزاء الكتابية السبعينية غير الموجودة في النص المسوري اليهودي، من مكانها وترتيبها القديم بين أسفار الكتاب المسيحي، وعُزلت لوحدها تحت اسم الأبوكريفا. استمرّ إذًا وجود هذه الأسفار (ولو باعتبارها أبوكريفا) في الكتاب المقدس البروتستانتي.

عندما صدَرت الترجمة الإنكليزية المشهورة التي تحمل اسم الملك جيمس King James Version في العام 1611م، فقد تبعت ترتيب كتاب لوثر بوضع هذه الأسفار في قسم خاص لوحدها بين كتب العهد القديم وكتب العهد الجديد، تحت عنوان “كتب الأبوكريفا[27]. وهكذا استمرَّت كلُّ الطبعات الغربية لترجمات الكتاب المقدّس تهتمّ بإدراج هذه الأسفار في طبعاتها، تحت اسم الأبوكريفا، ولم يُكسر هذا التقليد إلا في القرن التاسع عشر، وبالتحديد في العام 1827م.

 

“كتاب مقدّس رخيص الثمن” Cheap Bibles

هذه العبارة هي عنوان لكتاب[28] أصدرته كامبريدج في العام 2002م يشرح كيف صدرت لأول مرة في التاريخ طبعات للكتاب المقدس المسيحي حُذفت منها أسفار السبعينية (القانونية الثانية). سنحاول تلخيص القصة كما يلي: قرّرَ أصحاب مطابعBritish and Foreign Bible Society  أنه بإمكانهم تخفيض تكاليف الطبع بالاستغناء عن طباعة ما يسمّونه “الأبوكريفا”، وبيع الكتاب بنفس السعر، ولن يهتم أحدٌ بذلك لأن استعمال هذه الأسفار كان قليلًا بطبيعة الحال. وهكذا حذفَ أصحاب هذه المطابع هذه الأسفار من طبعتهم للكتاب المقدس في العام 1827م لكي تزداد أرباحهم! ثم تبعهم في ذلك أصحاب مطابع American Bible society وباعتبار أنّ هذين الدارين للنشر، كانا أهمّ دور النشر في العالم الجديد، فسرعان ما انتشر هذا التقليد، والذي سادَ حتى هذا اليوم في كلّ الترجمات البروتستانتية المنتشرة عبر العالم، مما أثّرَ بشكل كبير على استعمال البروتستانت لهذه الأسفار.

وهكذا نرى أنّ كلًا من الأرثوذكس، والكاثوليك، والبروتستانت، يستعملون كل الأسفار الموجودة في السبعينية وهي (بحسب قوانين إيمانهم) جزءً لا يتجزأ من كتابهم المقدس.

 بكلمة أخرى، أصحاب المطابع هم الذين حذفوا الأسفار المقدسة من الكتاب المقدس البروتستانتي، وليس أي كنيسة على الإطلاق[29].

السبعينية هي الكتاب المقدس الذي استعمله الرب يسوع والرسل واقتبس منه كتبة العهد الجديد: متى، مرقس، لوقا، يوحنا، بولس، بطرس، وكل من جاء بعدهم من الرسل والآباء.

الأدلة على هذا كثيرة، سنعرض بعض المقارنات لتوضيح ذلك.

نقرأ في إنجيل متى 21: 16 كيف يقتبس الربّ يسوع من المزامير:

نص العهد الجديد النص المسوري للمزمور 8: 2 النص السبعيني للمزمور 8: 2

ἐκ στόματος νηπίων καὶ θηλαζόντων κατηρτίσω αἶνον

فَقَال لَهُمْ يَسُوعُ: «نَعَمْ! أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ: مِنْ أَفْوَاهِ الأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ هَيَّأْتَ تَسْبِيحًا؟»

מִפִּ֤י עֽוֹלְלִ֙ים׀ וְֽיֹנְקִים֘ יִסַּ֪דְתָּ֫ עֹ֥ז

من فم الأطفال والرضع أنشأتَ قوةً

Out of the mouth of babes and sucklings hast thou ordained strength (KJV)

ἐκ στόματος νηπίων καὶ θηλαζόντων κατηρτίσω αἶνον

من فم الأطفال والرضع أنشأتَ تسبيحًا

Out of the mouth of babes and sucklings hast thou perfected praise (LXA)

مثال آخر:

نص العهد الجديد النص المسوري النص السبعيني لسفر عزرا الأول (الموجود فقط في السبعينية):

وَيُوشِيَّا وَلَدَ يَكُنْيَا وَإِخْوَتَهُ عِنْدَ سَبْيِ بَابِلَ. (متى 1: 11)

Ἰωσίας δὲ ἐγέννησεν τὸν Ἰεχονίαν καὶ τοὺς ἀδελφοὺς αὐτοῦ ἐπὶ τῆς μετοικεσίας Βαβυλῶνος.

القديس الإنجيلي متى يجعل هنا يكنيا ابنًا مباشرًا ليوشيا بالتوافق التام مع ما يورده سفر عزرا الأول! الأمر الذي لا تذكره بقية الأسفار ولا نجده في الكتاب المسوري.

لا يوجد أي إشارة في النصّ المسوري لكون يكنيا هو ولد ليوشيّا! καὶ ἀναλαβόντες οἱ ἐκ τοῦ ἔθνους τὸν Ιεχονιαν υἱὸν Ιωσιου ἀνέδειξαν βασιλέα ἀντὶ Ιωσιου τοῦ πατρὸς αὐτου (1Es 1:32)

والذين من الأمم أخذوا يكنيا بن يوشيّا وأقاموه ملكًا بدلًا من يوشيا أبيه (1عزرا 1: 32)

مما يؤكد مرة أخرى أن السبعينية هي الكتاب الذي اعتمد عليه كتبة العهد الجديد واقتبسوا منه.

مثال آخر:

نص العهد الجديد

أعمال الرسل 7: 14

النص المسوري

(خروج 1: 5)

النص السبعيني

(خروج 1: 5)

(وأيضا النص العبراني للمخطوط القمراني[30] 4QExodb)

ἀποστείλας δὲ Ἰωσὴφ μετεκαλέσατο Ἰακὼβ τὸν πατέρα αὐτοῦ καὶ πᾶσαν τὴν συγγένειαν ἐν ψυχαῖς ἑβδομήκοντα πέντε.

فَأَرْسَل يُوسُفُ وَاسْتَدْعَى أَبَاهُ يَعْقُوبَ وَجَمِيعَ عَشِيرَتِهِ، خَمْسَةً وَسَبْعِينَ نَفْسًا.

וַֽיְהִ֗י כָּל־נֶ֛פֶשׁ יֹצְאֵ֥י יֶֽרֶךְ־יַעֲקֹ֖ב שִׁבְעִ֣ים נָ֑פֶשׁ

وَكَانَتْ جَمِيعُ نُفُوسِ الْخَارِجِينَ مِنْ صُلْبِ يَعْقُوبَ سَبْعِينَ نَفْسًا

(هذا ما نقرأه في النص المسوري وبالتالي في كل الترجمات العربية هل أخطأ القديس استفانوس في الرقم أم أنّه كان يقرأ من السبعينية!)

ἦσαν δὲ πᾶσαι ψυχαὶ ἐξ Ιακωβ πέντε καὶ ἑβδομήκοντα

وكَانَتْ كُلُّ النُّفُوسِ مِنْ يَعْقُوبَ خَمْسًا وسَبْعِينَ

مثال آخر:

نص العهد الجديد

(لوقا 3: 35-36)

يكتب الرسول لوقا الإنجيلي عند سرده لنسب الرب يسوع:

النص المسوري

تكوين (10: 24)

النص السبعيني

تكوين (10: 24)

τοῦ Σαλὰ τοῦ Καϊνὰν τοῦ Ἀρφαξὰδ

“بن شالح، بن قاينان، بن أرفكشاد”

וְאַרְפַּכְשַׁ֖ד יָלַ֣ד אֶת־שָׁ֑לַח

وَأَرْفَكْشَادُ وَلَدَ شَالَحَ

(الحقيقة أننا لن نجد ذكرًا لقاينان هذا أبدًا في النص العبراني المسوري!)

καὶ Αρφαξαδ ἐγέννησεν τὸν Καιναν καὶ Καιναν ἐγέννησεν τὸν Σαλα

وأَرْفَكْشاد وَلَدَ قَايْنَان، وقَايْنَان وَلَدَ شالَح

ما أوردناه هو بعض أدلة وهي غيض من فيض، والحقيقة أن الباحث المحقق في النصوص سيتأكد بسرعة أنّ السبعينية هي الكتاب المقدس الذي اعتمدته الكنيسة الأولى واقتبس منه كتاب العهد الجديد جميعهم. أما النص المسوري العبراني الذي بين أيدي يهود اليوم والذي اعتمده المسيحيون الغربيون في العصور الأخيرة كمرجع لترجمة الكتاب المقدس وتبعتهم في ذلك كل الترجمات العربية فالحقيقة أنه لم يكن كتاب الكنيسة الرسمي يومًا من الأيام.

 

ماهي فوائد السبعينية اليوم؟

أولًا: السبعينية تقدم لنا نصًا أكثر كمالًا للعهد القديم.

نص العهد الجديد

الرسالة إلى العبرانيين 1: 6

النص المسوري النص السبعيني

(تثنية 32: 43)

προσκυνησάτωσαν αὐτῷ πάντες ἄγγελοι θεοῦ

وَأَيْضًا مَتَى أَدْخَلَ الْبِكْرَ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ: «وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ اللهِ».

(هذه الآية غير موجودة في النص المسوري على الإطلاق وبالتالي غير موجودة في كل ترجماتنا العربية!) προσκυνησάτωσαν αὐτῷ πάντες ἄγγελοι θεοῦ

ولتسجد له كل ملائكة الله

من المُلفت أننا نجد هذه الآية أيضا في كتاب السواعي الكبير الذي تصلي به كنيسة الروم الأرثوذكس في صلاة السحر/ التسبحة الثانية لموسى النبي.

النقطة الهامة هي أنّ هذه الآية موجودة لا تزال بالعبرانية في مخطوط قمران[31] 4QDeutq لنصّ (تثنية 32: 43) الأمر الذي يؤكد أنّ مترجمي السبعينية كانوا أمناء ودقيقين في ترجمتهم للنص العبراني الذي كان بين أيديهم في القرن 3 ق. م وأن الاختلافات النصية بين السبعينية والنص المسوري اليهودي تعود لاعتماد مترجمي السبعينية على نص عبراني أكثر أصالةً وكمالًا.

 

ثانيًا: السبعينية تقدم لنا قراءةً أكثر وضوحًا للكتاب المقدس.

لنأخذ مثالًا من الآية (تكوين 4: 7). المشكلة التي واجهت العلماء هنا هي كون البناء اللغوي لهذه الآية بناء مُربِك، يصعب فهم معناه على الدارسين والمترجمين المُحدَثين، حتى قال مترجمو الطبعة اليسوعية للكتاب المقدس عن ترجمتهم لهذه الآية في الحاشية إنها “ترجمة تقديرية لنَص مُشَوَّه“، والحقيقة إن النص ليس فيه أي تشويه، لكنه نص قديم، يستخدم أسلوبًا كلاميًا لم يألفه المحدثون من العلماء، أما الشيوخ الذين ترجموا السبعينية فلم يروا في النص أدنى صعوبة، لأنهم ببساطة كانوا يتعاملون مع لغتهم الأمّ التي وُلِدوا فيها، ولم يضطرّوا إلى دراستها كلغة مندثرة بطريقة التحليل والمقارنة كحال علماء اليوم (وهذه هي الميزةُ الكبرى للسبعينية). تتكلم هذه الآية عما قاله اللهُ لقاين قبل أن يقتلَ أخاهُ هابيل، حيث نقرأها في النص المسوري (ترجمة فاندايك) هكذا:

“إِنْ أَحْسَنْتَ أَفَلاَ رَفْعٌ، وإِنْ لَمْ تُحْسِنْ، فَعِنْدَ الْبَابِ خَطَيَّةٌ رَابِضَةٌ”

أما في النص السبعيني (ترجمتنا) فنقرأ نفس الآية هكذا:

“إِنْ كُنْتَ قَدَّمْتَ بِاسْتِقَامَةٍ، لَكِنْ لَمْ تُقَسِّمْ بِاسْتِقَامَة، أَفَمَا خَطِئْتَ؟ اِهْدَأْ!”

للوهلة الأولى سنظن أنّ هناك اختلافًا كبيرًا بين النصَّين، وأن هذا الاختلاف ليس على مستوى سقوط كلمة أو أكثر بل إن المعنى ههنا يختلف كليًّا بين القراءتين. لكن إذا عُدنا إلى النص العبراني المسوري لهذه الآية وقارنّاه مع السبعينية فلن نجد ولو اختلافًا واحدًا بين النصَّين، وسنجد أن السبعينية كعادتها تتبع النص العبراني كلمة كلمة. سنكتب النص العبري بالأحرف العربية لتسهيل شرح الأمر وتحته مباشرةً ترجمة عربية حرفية له، مستعملين الكلمات العربية المطابقة للكلمات العبرانية، أي تلك المشتقة من الجذور الساميّة نفسها التي انحدرت منها كلتا اللغتين، ثم نضع تحتهما ترجمة عربية حرفية للنص اليوناني للآية في السبعينية، وليقارن القارئ (كلمة فكلمة) وليكتشف الحقيقة بنفسه:

הֲל֤וֹא אִם־תֵּיטִיב֙ שְׂאֵ֔ת וְאִם֙ לֹ֣א תֵיטִ֔יב לַפֶּ֖תַח חַטָּ֣את רֹבֵ֑ץ

هَلو إمْ تِيطِيب شأت، وإم لو تِيطِيب لَفتَح، حاطأتَ؟ رِبِص!

أليسَ إنْ طَيّبًا نَشَأتَ[32]، وإنْ ليسَ طَيِّبًا فَتَحْتَ[33]، أخطأتَ؟ تَرَبَّصْ!

ألَيْسَ إن حسنًا قَرَّبتَ، وليس حَسنًا قَسَمْتَ، أخطأتَ؟ إهدأ!

إنَّ المِثَال السابق يكفي ليعطينا فكرة واضحة عن أهمّية النص السبعيني من حيث تمكين القارئ من فهم الأفكار الصّحيحة التي أوحى الروح القدس للأنبياء أن يكتبوا. فنفهم هنا لماذا نظر الله إلى ذبيحة هابيل الصدّيق الذي قدّمَ أفضلَ ما عندَه، وأهمل ذبيحة قاين الرديئة، إذ قسّم هذا الأخيرُ الثمارَ قِسمةً ضِيزَى، فأخَذَ القِسمَ الجيّد لنفسه وقدّمَ الرديءَ لله! بينما لا نفهم سبب تفضيل الله لذبيحة هابيل عندما نقرأ الترجمات الحديثة للنصّ المسوري، فتأتيك التفاسير التي ما أنزل الله بها من سلطان من كلِّ حدبٍ وصَوب.

لنأخذ مثالًا آخر:

إنّ دراسة الآية (عدد 21: 14) تعلمنا كيف أعطانا الشيوخ السبعون حكمتهم النبوية المُلهمة من الله، فَوَقَوْا إيّانا من الضلال في المعاني الوعرة، التي أدّت بكلّ المُحدَثين من العلماء إلى الكلام عن كتاب لا وجود له أصلًا، أسمَوْه “كتاب حُروب الرب“.

النص العبراني المسوري النصّ اليوناني السبعيني

עַל־כֵּן֙ יֵֽאָמַ֔ר בְּסֵ֖פֶר מִלְחֲמֹ֣ת יְהוָ֑ה אֶת־וָהֵ֣ב בְּסוּפָ֔ה וְאֶת־הַנְּחָלִ֖ים אַרְנֽוֹן

لِذلِكَ يُقَالُ فِي كِتَابِ «حُرُوبِ الرَّبِّ»: «وَاهِبٌ فِي سُوفَةَ وَأَوْدِيَةِ أَرْنُونَ

διὰ τοῦτο λέγεται ἐν βιβλίῳ πόλεμος τοῦ κυρίου τὴν Ζωοβ ἐφλόγισεν καὶ τοὺς χειμάρρους Αρνων

لِذَلِكَ يُقَالُ فِي كتابٍ: حَرْبُ الرَّبِّ هَبَّتْ بِسُوفَه وَبِأَوْدِيَةِ أَرْنُونَ

هنا أحد المواضع التي تتجلى فيها أهمية السبعينية بأجلى بيان، فالعبارة التي في النصّ المسوري (ملحمة يهوه = حرب الربّ) ليست في محل جرّ بالإضافة كما اعتقد المحدثون فقالوا (في كِتابِ حُرُوبِ الرَّبِّ)، لكنَّها في محل رفع مبتدأ، وهي بداية الكلام المكتوب في الكتاب المقصود.

اعتقد المحدثون طُرًّا أنَّ الكلمة (ֶאת־וָהֵ֣ב اِتْوَهَب) التي هي صيغة المبني للمجهول من الفعل (هَبَّ)، اعتقدوا أنَّها “إِت وَهِب” فافتَرضوا أنها اسم “واهب”! وأنّ حرف (إت) قبلها هو حرف التّعدية الذي يُشير إلى المفعول به، ومع ذلك اضطروا إلى كتابتها في محل رفع مبتدأ فقالوا “واهِبٌ”، وبمختلف الأحوال أدّى بهم الالتباس إلى كتابة كلام ليس له معنى! بينما السبعينية تظهر لنا بوضوح معنى هذا المقطع.

 

ثالثًا: السبعينية تقدم لنا نصًا أكثر أصالة للكتاب المقدس

الآية (مزمور21 : 16) التي تقول مُنبِئَةً عن صلب السيّد المسيح، كما نقرأها في النص السبعيني:

“ثَقَبوا يَديَّ ورِجليَّ“ ὤρυξαν χεῖράς μου καὶ πόδας

لكن المُشكلة التي حَيَّرت الباحثين هي أنّ هذه الآية في النص العبراني المسوري مُختلفة بشكل كبير، ولا علاقة لها بموضوع الصلب إطلاقًا، فهي تُقرأ هكذا:

“كأسدٍ يَدَايَ ورِجْلايَ” כָּ֜אֲרִ֗י יָדַ֥י וְרַגְלָֽי

لقد احتار الباحثون قديمًا بين هاتين القراءتين، وانعكست هذه الحيرة على الترجمات المُختلفة التي تباينت في ترجمتها لهذه الآية، إلى أن ظهرت مخطوطة عبرانية قديمة، في منطقة وادي سيّال NAHAL HEVER في فلسطين، ويعود تاريخ هذه المخطوطة إلى حوالي العام 50م[34] وهي بذلك اعتُبرت أقدم مخطوطة عبرانية على الإطلاق لهذا المزمور، إذ بينما كانت مخطوطة لينينغراد (المسورية) تُعتبر سابقًا أقدم مخطوطة عبرانية يرِد فيها هذا المزمور، جاءت هذه المخطوطة مكتوبةً قبل مخطوطة ليننغراد بألف سنة كاملة. وكما توقعنا كان النص العبراني لهذه المخطوطة التي أخذت الاسم: 5/6 Hev Psalms scroll)) يستعمل الكلمة (ثقبوا) تمامًا كما في السبعينية.

الكلمة العبرانية التي وُجدت في هذه المخطوطة[35] هي כארו (كَأَرو) وهي تعني (ثقبوا)، أما الكلمة العبرانية الموجودة في النص المسّوري فهي כארי (كَأَري) وتعني (كأسد)، والفرق بين الكلمتين كما هو واضح يكمن في الحرف الأخير، الواو(ו) في الأولى، والياء (י) في الثانية، وهما مُتشابهان في العبرانية القديمة والفرق بينهما يكمن فقط في كون الواو أطول قليلًا!

وإذا بحثنا عن هذه الآية في نص الفولكاتا اللاتينية التي ترجمها جيروم عن النص العبراني الذي كان بين يديه في نهاية القرن الرابع الميلادي، لوجدناها تطابق الترجمة السبعينية تمامًا.

هل حرَّفَ النسّاخ اليهود هذه الآيةَ ليطمسوا النبوءة المسيحية الواضحة كما اتهمهم آباء الكنيسة؟

 أم ربما تآكل حرف الواو قليلًا بسبب اهتراء الورق الجلدي المكتوب عليه فأخطأ الناسخ وظَنَّهُ ياءً، فاعتبر أنّ حرف الكاف في أوَّل الكلمة هو حرف الجرّ (ك) الذي يُستعمل للتشبيه (تمامًا كما في العربية) واعتبر باقي الكلمة أنها كلمة (أري) أي أسد، بينما الكلمة في الأصل هي (كأرو) المُركّبة من الفعل السّاميّ (كأر) ويعني في العبرانية والعربية (ثقب) + حرف الواو وهو ضمير الفاعل، ليصبح معنى الكلمة (ثقبوا). وهكذا قرأ الناسخ الكلمة ونسخها بشكل خاطئ، فنتجت جملة ركيكة المبنى عديمة المعنى، لكنه لم يفطن إلى ذلك بسبب عدم تمكّنه من اللغة العبرانية وتكرَّس الخطأ في النص المسوري مع تكرار عملية النسخ من جيلٍ إلى جيل.

من المثير أن نعرف أيضًا أن كلا الترجمتين اليهوديتين اليونانيتَين اللتَين قام بهما أكويلا وسيماخوس في القرن الثاني الميلادي، قد استعملتا الكلمة (ثقبوا) وليس (كأسد) كذلك الأمر بالنسبة إلى الترجوم الآرامي، الأمر الذي يؤكّد وجهة نظرنا بأن النص المسوري عانى من الأخطاء (المقصودة أو غير المقصودة) خلال الحقبة الحرجة التي مرّ بها، وهي حقبة موت اللغة العبرانية كلغة محكية ومفهومة لقرون طويلة.

 

رابعًا: السبعينية هي الكتاب الذي عرفه وشرحه آباء الكنيسة

الكثير من كتاباتهم وشروحاتهم لا يمكن فهمها إلا إذا استعملنا نفس الكتاب الذي استعملوه أعني السبعينية، فآباء الكنيسة لم يعرفوا نصًا للكتاب المقدس إلا السبعينية. لنقرأ مثلًا بعضًا من تفاسير آباء الكنيسة[36] للمزمور 145: 13 وهذه الآية السبعينية غير موجودة في النص المسوري مع أنه مزمور أبجدي، وبدون هذه الآية يصبح ناقصا للآية التي تبدأ بالحرف العبراني “نون”، ليكتمل المزمور إلى 22 بيت بحسب عدد الأحرف العبرانية.

للمزمور 145: 13 تفسير القديس يوحنا الذهبي الفم تفسير القديس باسيليوس الكبير تفسير القديس أثناسيوس الكبير

πιστὸς κύριος ἐν τοῖς λόγοις αὐτοῦ καὶ ὅσιος ἐν πᾶσι τοῖς ἔργοις αὐτοῦ

الرب أمينٌ في كلّ كلماته، وبارٌّ في كل أعماله

بعد أن ذكر أن مملكته بلا نهاية، ولا يمكن أن تهتز، بل ثابتة لا تتزعزع، يشير إلى ثبات كلماته. فإن كلمة “أمين” هنا تعني الثبات والصدق… “بارٌ في كل أعماله”. ما هو معنى “بارّ“؟ لا عيب فيها، ومستقيمة، وبلا دنس، لا تعطي فرصة لأحدٍ أن ينتقدها. الرب أمين في كل كلماته، إنه لا يكذب حين يقول: “إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، إن كانت حمراء كالدود تصير كالصوف” (إش 1: 18). الطبيب العظيم للنفوس، المحرر المتأهب لا لتحريرك وحدك، بل وكل المُستعبدين للخطية، مستعد ليشفي مرضك هكذا كان إبراهيم مؤمنًا، لأنه آمن بكلمة الله؛ والله أمين كقول داود في المزمور: “الرب أمين في كل كلماته» جدير بالثقة ولا يمكن أن يكذب.

خامسًا: السبعينية تعطينا قراءةً أكثر دقةً وعراقة للكتاب المقدس

نقرأ في العهد الجديد (عبرانيين 11: 21) حيث يقتبس الرسول من (تكوين 47: 31) هكذا:

العهد الجديد

(عبرانيين 11: 21)

النص المسوري

(تكوين 47: 31)

النص السبعيني

(تكوين 47: 31)

καὶ προσεκύνησεν ἐπὶ τὸ ἄκρον τῆς ῥάβδου αὐτοῦ

بِالإِيمَانِ يَعْقُوبُ عِنْدَ مَوْتِهِ بَارَكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنِ ابْنَيْ يُوسُفَ، وَسَجَدَ عَلَى رَأْسِ عَصَاهُ

וַיִּשְׁתַּ֥חוּ יִשְׂרָאֵ֖ל עַל־רֹ֥אשׁ הַמִּטָּֽה

فَسَجَدَ إِسْرَائِيلُ عَلَى رَأْسِ السَّرِيرِ

καὶ προσεκύνησεν Ισραηλ ἐπὶ τὸ ἄκρον τῆς ῥάβδου αὐτοῦ

فَسَجَدَ إِسْرَائِيلُ عَلَى رَأْسِ عَصَاهُ

لا حظ أنّ الفرق بين الكلمتَين العبرانيتَين هو التشكيل فقط: מִּטָּֽה سرير מַטֶּ֣ה عصا.

بالعبرانية מטה (مطه) والكلمة غير مَشكولة طبعًا في النص الأصلي، عندما أضاف المسوريون علامات التشكيل في القرون الوسطى أثبتوها هكذا מִּטָּֽה (مِطَّه) فصار معناها “السرير” وتبعتهم في ذلك كل الترجمات ومنها الترجمات العربية، أما الشيوخ اليهود الذين ترجموا السبعينية في القرن الثالث قبل الميلاد فقد قرأوها هكذا מַטֶּ֣ה (مَطِه) فصار معناها “عصا” كما أثبتوها في السبعينية، وكما استشهد بها الرسول بولس في العهد الجديد (عبرانيين 11: 21) حيث اقتبسها حرفيًا عن السبعينية.

ترتل الكنيسة الرومية في الأودية السابعة من قانون عيد رفع الصليب الكريم هكذا: “إنَّ إسرائيلَ الْمُتَأَمِّلَ فِي الآتِيَاتِ، سَجَدَ لِطَرَفِ عَصَا يُوسِفَ، فَسَبَقَ مُشِيرًا بِذَلِكَ إِلى السجودِ للصَّلِيبِ الْفَائِقِ التَّمْجِيد”.

سادسًا: السبعينية هي كتاب الكنيسة

يقول القديس إيريناوس (من آباء القرن الثاني):

“ألم يكن الرسل الذين صادَقوا على هذه الترجمة (السبعينية) أقدم من كلِّ هؤلاء الهراطقة؟ لقد توافقت السبعينية مع تقليد الرسل، من بطرس إلى يوحنا ومتى وبولس والآخرين وكذلك تلاميذهم أيضًا. كلّ هؤلاء اقتبسوا النبوءات، واستشهدوا بها كما جاءت في هذه الترجمة السبعينية تمامًا، فكما أنّ الله حفظَ الإسرائيليينَ في مصر أيامَ صار الجوع في الأرض، هكذا أيضًا حفظَ الله كلمته سالمةً في مصر بواسطة المترجمين اليهود غير المتحيّزين“[37]

ما هو سبب الاختلاف بين السبعينية والنص المسوري اليهودي؟

لنأخذ مثالًا من سفر صموئيل الأول:

النص المسوري السبعينية

יָקֵ֥ם יְהוָ֖ה אֶת־דְּבָר֑וֹ (1Sa 1:23)

الرَّب يُقِيمُ كَلاَمَهُ

στήσαι κύριος τὸ ἐξελθὸν ἐκ τοῦ στόματός σου

الرَّب يُقيمُ ما يَخرُجُ مِن فَمِكِ

בְּפָרִ֤ים שְׁלֹשָׁה֙ (1Sa 1:24 (

بِثَلاَثَة ثِيرَانٍ

ἐν μόσχῳ τριετίζοντι

بِثَورٍ ثُلاثِيٍّ (عمره 3 سنوات)

כִּ֤י נִֽאֲצוּ֙ הָֽאֲנָשִׁ֔ים אֵ֖ת מִנְחַ֥ת יְהוָֽה (1Sa 2:17)

لأَن النَّاسَ اسْتَهَانُوا بِتَقْدِمَةِ الرَّبِّ

ὅτι ἠθέτουν τὴν θυσίαν κυρίου

لأنّهُمْ (أي بني عالي) استهانوا بتَقدِمَةِ الرّبِ

 عند خربة قمران الخبر اليقين!

 إنّ قصّة المخطوط القمراني 4Qsama ربما تساعدنا على فهم الكثير، فقد وُجد هذا المخطوط في حفرة بأرضية الكهف الرابع، وكانت حروفه شبه مطموسة بقشرة صفراء من الواضح أنها بول حيواني جاف. عالجها العالِم كروس بفرشاة مع زيت الخروع حتى صارت مقروءة جزئيًا. عرف أن النص يتعلق بصموئيل، وعندما لاحظ أن النص يفترق عن النص المسوري التقليدي فقد اعتبر أنها نسخة أبوكريفية للنص الكتابي. ووضعها جانبًا. عندما قارن في وقت لاحق هذا النص بنص صموئيل الموجود في السبعينية اليونانية أدرك فجأة أنه يمسك بيده مزقة ذات أهمية مزلزلة بالنسبة لعلماء النص الكتابي.

إن هذه المزقة من النص العبراني لصموئيل التي حُفظت في الكهف القمراني الرابع لأكثر من ألفي عام كانت جزءًا من النص الذي اعتمدت عليه الترجمة السبعينية اليونانية.

حتى ذلك الوقت كان العلماء يعتقدون أن الاختلافات الظاهرة بين نص السبعينية والنص المسوري العبراني هي نتيجة أخطاء مترجمي السبعينية. لقد تمكن كروس من فك الشيفرة لأول دليل على وجود نص عبراني أصيل (غير مسوري) للكتاب المقدس.[38]

لقد اكتشف العلماء أخيرًا أنَّ السبعينية ليست سوى ترجمةً حرفيةً ودقيقةً لنص عبراني قديم وأصيل للكتاب المقدس. الباحث F. M. Cross وهو أحد العلماء الذين أوكلت إليهم مهمة دراسة هذه المخطوطات، يصف ردّة فعله في الوقت الذي اكتشفَ فيه هذه الحقيقة:

“فجأة أدركتُ أني قد اكتشفتُ حقيقةً سيكون أثرها عليَّ، وعلى كلّ أساتذة النقد النصّي للكتاب العبراني، كأثر زلزالٍ مُدمِّر. فالمخطوطة التي بين يديَّ لسفر صموئيل، كانت تعود للمخطوط العبراني الذي استعمله المترجمون اليهود، الذين ترجموا النص العبراني إلى اللغة اليونانية! لقد ثبتَ أنَّ مترجمي السبعينية كانوا أمناء ودقيقين تمامًا للنص العبراني الذي كانوا يترجمونه. وهكذا، فإنَّ الاختلافات بين النص العبراني التقليدي (المسوري) والترجمة اليونانية القديمة (السبعينية) هي نتيجة وجود تقاليد نصية مختلفة للكتاب العبراني. إنّ مخطوطة صموئيل هذه سوف تحطّم وتفتح الطريق المسدود في دراسات النقد النصي للكتاب العبراني، هذا الاكتشاف سيفتح طريقًا جديدًا.[39]

ملاحظة هامّة: تعود مخطوطة صموئيل العبرانية 4QSamb الموافقة للسبعينية إلى القرن الثالث قبل الميلاد

لذلك يعتبرها العلماء أقدم نسخة لنص كتابي تم اكتشافه حتى هذا اليوم[40] الأمر الذي يعطينا فكرة عن مدى أصالة وعراقة النص الذي تحفظه لنا السبعينية.

لنقرأ هذا الاقتباس أيضًا من أهم كتاب يدرس ويترجم مخطوطات الكتاب المقدس القمرانية:

“هذه المخطوطاتُ ساعدت العلماء على إعادة تصحيح اعتبارهم لقيمة الترجمة السبعينية القديمة، إذ كان التقليد أنه عندما تخالف السبعينيةُ النصَّ المسوري (والذي كان قد اعتُبرَ أنه هو الأصل العبراني) فبشكل روتيني كانت تُعتبر السبعينية أنها ترجمة «حرّة» أو أنها «إعادة صياغة» أو أنها ببساطة «ترجمة خاطئة». إن المخطوطات العبرانية لسفر صموئيل التي وُجدت في قمران كانت في معظم الأحيان تتطابق مع السبعينية عندما تخالف هذه الأخيرة النصَّ المسوري. مما يوضح أنَّ السبعينية كانت قد تُرجمت عن نصٍّ عبرانيٍّ مطابقٍ لنّصّ المخطوطات القمرانية. إنّ المشكلة في تقييم العلماء للسبعينة كانت تكمن في طريقة رؤيتهم وفي معاييرهم وليس في النص نفسه. إنّ الدرس المهم الذي تعلمناه هنا هو أنّ السبعينية ليست ترجمة «حرّة» أو «خاطئة» لكنها بالأحرى ترجمة طبق الأصل للنص العبراني الذي أخذت منه“.[41]

إذًا تقدم لنا السبعينية اليوم:

نصًا أكثر كمالًا للكتاب المقدس

نصًا أكثر دقةً ووضوحًا للكتاب المقدس

قراءةً أكثر صحةً وأصالةً للنص العبراني

نصًا أكثر قِدمًا وعراقة للكتاب المقدس

الكتابَ الذي اقتبس منه الرسلُ وكُتّاب العهد الجديد

الكتابَ الذي استعمله آباء الكنيسة واقتبسوا منه وشرحوا آياته

النص َّالذي وُجدت أصوله العبرانية في كهوف قمران

النص َّالذي تستعمله الكنيسة (شرقًا وغربًا) في خدمها الليتورجية

رغم كل ذلك فنحن لا نملك حتى اليوم ترجمة عربية للسبعينية!

لقد قمنا بترجمة سفر التكوين السبعيني وقامت دار نون للطباعة والنشر في حلب بنشره لأول مرة عام 2012

وقد أتممنا بمعونة الرب ترجمة كامل أسفار التوراة السبعينية (كتب موسى الخمسة) بالإضافة لأسفار يشوع بن نون والقضاة وراعوث وصموئيل. مع جداول مقارنة تفصيلية لكل آياتها ما بين نصّ السبعينية من جهة وكلّ من النص المسوري العبراني ونصوص الترجوم الآرامي ونصّ الفولكاتا اللاتينية ونص التوراة السامريّة ومخطوطات البحر الميت (قمران) من جهة أخرى. ونرجو الله أن يمكننا من نشرها قريبًا.

 

 

[1] أنظر النص الكامل للصلاة, كما هو منشور على موقع الكنيسة الأسقفية الأميريكية في أتلانتا: www.saintgabriels.org/bcp/morning1.html

[2] The Book of Common Prayer, London, Everyman’s Library, 1999, [1662] ISBN 1-85715-241-7

[3] Oesterley, W. O. E. & Box, G. H. (1920) A Short Survey of the Literature of Rabbinical and Mediæval Judaism, Burt Franklin:New York

[4] في تلك الفترة كان الكتاب اليهودي يقتصر على موسى والأنبياء. إذ لم تكن أسفار الكتابات كلّها قد ظهرت بعد

[5] F.F. Bruce, The Books and the Parchments, Fleming Revell

[6] Life after death: a history of the afterlife in the religions of the West, Alan F. Segal, p.363

أنظر أيضًا: Karen H. Jobes and Moises Silva (2001). Invitation to the Septuagint. Paternoster Press. ISBN 1-84227-061-3

[7] Jennifer M. Dines, The Septuagint, Michael A. Knibb, Ed., London: T&T Clark, 2004

[8] Tractate Megillah 9

[9] Jennifer M. Dines, The Septuagint, Michael A. Knibb, Ed., London: T&T Clark, 2004

[10] Contra Ap. i. 8

[11] L.L. Grabbe, Judaism from Cyrus to Hadrian. I. Persian and Greek Periods. II. Roman Period, London: SCM Press, 1994. أنظر أيضًا:Joachim Schaper, Eschatology in the Greek Psalter, Tübingen: Mohr Siebeck, 1995.

[12] H. Orlinsky, “The Septuagint and its Hebrew Text,” in The Cambridge History of Judaism, vol. II, The Hellenistic Age, W. Davies and L. Finkelstein, Eds., Cambridge: Cambridge University Press, 1989  يؤكّد ذلك وجود مخطوطات يونانية من السبعينية في قمران

[13] H. B. Swete, An Introduction to the Old Testament in Greek, revised by R.R. Ottley, 1914; reprint, Peabody, Mass.: Hendrickson, 1989

[14] Ernst Würthwein, The Text of the Old Testament, trans. Errol F. Rhodes, Grand Rapids, Mich.: Eerdmans, 1995

[15] Ernst Würthwein, The Text of the Old Testament, trans. Errol F. Rhodes, Grand Rapids, Mich.: Eerdmans, 1995

[16] المرجع السابق.

[17] Eusebius, Historia Ecclesiae, VI, xvii

[18] أنظر مثلًا Irenaeus, Against Heresies Book III

[19] Ante-Nicene Fathers, Vol. 1. Edited by Alexander Roberts, James Donaldson, and A. Cleveland Coxe. (Buffalo, NY: Christian Literature Publishing Co., 1885) Dialogue with Trypho (Justin Martyr): Chapter 120. Chapter 70-72

[20] Hengel, The Septuagint, p44

[21] Sir Godfrey Driver, Introduction to the Old Testament of the New English Bible, 1970

[22] المرجع السابق.

[23] The Volgate, by The German Bible society, 5th Edition 2007

[24] Canon of the Old Testament, II, International Standard Bible Encyclopedia, 1915; “Canon of the Old Testament”. Catholic Encyclopedia. New York: Robert Appleton Company. 1913

[25] Charles Josef HEFEL, Histoire des conciles d’après les documents originaux, traduit en français par Dom. H. Leclerq et continue jusqu’à nos jours, tome X, 1ere partie, les décrets du Concile de Trente, par  A. MICHEL, Paris, LEYOUZEY. 1938,  p19

[26] edition of the Luther Bible on-line (1945)

[27] The Bible: Authorized King James Version with Apocrypha, Oxford World’s Classics, 1998, ISBN 978-0-19-283525-3

[28] Howsam, Leslie (2002). Cheap Bibles. Cambridge University Press. p. 14. ISBN 0521522129, 9780521522120.

[29] مراجع أخرى تؤكّد دقة هذا الكلام:

A new dictionary of the Christian theology, Edited by Alan Richardson and John Bowden, SCM press (1983) 9-17- St Albans place- London. , p 30

وأيضًا:L.H. Brockington, A Critical Introduction to the Apocrypha, (1961)

وأيضًا: O. Eissfeldt, The Old Testament, An Introduction, ET, 1965, p 571 ff.

وأيضًا: Canton, W (1904). A History of the British and Foreign Bible Society. p. 137

[30] The Dead Sea Scrolls Bible, Abegg, Flint, and Ullrich, HarperCollins, 1999

[31] The Dead Sea Scrolls Bible، Abegg، Flint، and Ullrich، HarperCollins، 1999

[32] نشأَ بالعبرانية وبالعربية تعني رفعَ، والمقصود هو تقريب القرابين ورفعها.

[33] فتَحَ هنا لا تعني الباب كما فهم المحدثون من المفسرين لكنها تعني فصل الأشياء عن بعضها، وقسمتها، نقرأ في مفردات غريب القرآن: وفتحَ القضية فتاحًا: فصلَ الأمر فيها، وأزال الإغلاق عنها. قال تعالى: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} <الأعراف/ 89>،

[34] Peter Flint, “Biblical Scrolls from Nahal Hever and ‘Wadi Seiyal’: Introduction,” in James

[35] Charlesworth et al., Miscellaneous Texts From the Judaean Desert, Discoveries in the Judaean Desert, Vol. XXXVIII (Oxford: Clarendon, 2000) “5/6ÓevPsalms,” DJD XXXVIII,  p141-143

[36] On Ps. 146.  Epistle, 46: 6  . http://st-takla.org/…/Tafseer-Sefr-El-Mazamir__01…

[37] unaeus. Against Heresies, book III, chapter XXI, Anti Nicene fathers and Nicene and post-Nicene Fathers, Hindrickson, volume I.

[38] Hershel Shanks, ed. Frank Moore Cross: Conversations with A Bible Scholar (Washington, D. C.: Biblical Archeology Society, 1994),p 125

[39] Karen H. Jobes and Moises Silva (2001). Invitation to the Septuagint. Paternoster Press. ISBN 1-84227-061-3.

Hershel Shanks, ed. Frank Moore Cross: Conversations with A Bible Scholar (Washington, D. C.: Biblical Archeology Society, 1994),p 123

[40] Martin Hengel, The Septuagint As Christian Scripture: Its Prehistory and the Problem of Its Canon (trans. M. E. Biddle; Edinburgh: T & T Clark, 2002), p84-85

[41] The Dead Sea Scrolls Bible, Abegg, Flint, and Ullrich, HarperCollins, 1999- p 214

القراءات المتعددة للكتاب المقدّس في ضوء العلوم البيبلية الحديثة – الدكتور خالد اليازجي