قيامة المسيح وقيامة الأجساد ج1 – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
الجزء الثاني: قيامة المسيح وقيامة الأجساد ج2 – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
1 ـ قيامة المسيح
اليوم |
تبتهج كل الملائكة وتفرح كل القوات السمائية لأجل خلاص كل الجنس البشرى. فإن كان هناك فرح فى السماء بخاطئ واحد يتوب، فبالأولى كثيرًا يكون هذا الفرح بخلاص كل البشرية.
اليوم تحرر الجنس البشرى من قبضة الشيطان وأُعيد الإنسان إلى رتبته الأولى، إذ أن المسيح انتصر على الموت. إننى لا أخاف بعد ولا أرتعب من الحروب الشيطانية. ولا أنظر إلى ضعفى، لكننى أتطلع إلى قوة ذاك الذي صار لي سندًا وعونًا، أتطلع إلى ذلك الذي هزم الموت ونزع طغيانه. اليوم يسود الفرح والابتهاج الروحي كل المسكونة.
إذن، تأمل أيها الحبيب فى مقدار هذا الفرح العظيم، حيث القوات السمائية تحتفل معنا اليوم مبتهجين لأجل الخيرات التي تنتظرنا، لهذا فهم لا يخجلون أن يحتفلوا معنا.. ولماذا أقول هذا الكلام؟ لأن الرب نفسه يشتهي أن يحتفل معنا. وكيف عرفنا ذلك؟ أسمع ما يقوله الرب ” شهوة اشتهيت أن آكل الفصح معكم ” (لو15:22). فلو كان قد اشتهي أن يأكل الفصح، فمن الواضح أنه يشتهي أن يحتفل معنا اليوم.
إذن عندما ترى أن الملائكة وكل القوات السمائية، بل وملك الملوك نفسه يحتفل معنا اليوم، إذن فماذا ينقصك لكي تفرح فرحًا عظيمًا؟
اليوم يجب ألاّ يحزن أحد بسبب فقره، لأن الاحتفال اليوم هو احتفال روحى، وألاّ يفتخر الغنى بغناه لأنه ليس له أى فضل فى هذا الاحتفال.
هناك احتفالات عالمية تُقام خارج الكنيسة مليئة بمظاهر الأبهة والموائد الغنية بالأطعمة، وهي تُعثر الفقير الذي لا يستطيع أن يصنع مثل هذه الأمور. ومن الطبيعي أن يتضايق ويحزن. فلماذا يرتدى الغنى ملابس زاهية ويقيم موائد مليئة بصنوف الطعام المختلفة، بينما لا يستطيع الفقير أن يصنع هذا بسبب فقره؟
هذا ما يحدث بالخارج، بينما هنا داخل الكنيسة لا يحدث شئ من هذا كله، ولا يوجد هذا التمييز، بل توجد مائدة واحدة للغنى والفقير، للعبد والحر.
هل |
أنت غنى؟ حتى وإن كنت؛ فليس لك أفضلية على الفقير. هل أنت فقير؟ إنك لست أدنى من الغنى. فالفقر لن ينتقص من أفراح المائدة الروحية. لأن النعمة هي من الله وهي لا تميز بين الأشخاص. هذه هي العطايا الروحية، التي لا تقسم المجتمع بحسب المناصب، بل بحسب المستوى الروحى وبحسب استقامة أفكار كل أحد. ولهذا فإن الملك والفقير يتقدمان معًا نحو الأسرار الإلهية بنفس الثقة وبنفس الكرامة، لكي يتمتعا بالتناول منها. لأن لباس الخلاص هنا هو واحد للجميع أغنياء وفقراء، والرسول بولس يقول ” لأن كلكم الذين اعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح ” (غل27:3).
أرجو أن لا تستهينوا بهذا الاحتفال، ولتكن لنا رؤية لائقة بتلك العطايا التي منحتنا إياها نعمة المسيح، وألاّ نسلّم أنفسنا للسكر والبطر. ما دمنا قد أدركنا المحبة الإلهية وسخاء إلهنا مع الجميع للفقراء والأغنياء، للعبيد والأحرارـ إذ أعطى للجميع نفس النعمة، فلنقدم المقابل إلى ذاك الذي أظهر تلك المحبة نحونا، والمقابل اللائق به هو السلوك المُرضى لله من نحونا، وأيضًا النفس الساهرة المتيقظة.
لنحتفل إذن بهذا العيد ـ عيد قيامة المسيح ـ لأنه قام وأقام كل البشرية معه. لقد قام وكسر كل قيود الموت ومحا كل خطايانا.
أخطأ آدم ومات، والمسيح لم يخطئ ولكنه مات. أمرٌ غريب وعجيب لماذا مات المسيح وهو لم يخطئ؟ حدث هذا لكي يستطيع الذي اخطأ ومات أن يتحرر من قيود الموت بمعونة ذاك الذي مات، رغم أنه لم يخطئ[1].
فمثلاً يحدث مرات كثيرة أن يكون أحد مديونًا بمبلغ من المال لشخص آخر ثم يعجز عن السداد، فيأتى شخص ثالث لديه القدرة على تسديد هذا الدين، وعندما يدفعه فإنه يحرر هذا المدين. هذا ما حدث لآدم إذ كان محكوماً عليه بالموت، فآتي المسيح وحرره من قيود الموت مع أن المسيح لم يكن مداناً بأي شئ. أرأيت مفاخر القيامة؟ أرأيت محبة الله للبشر؟ أرأيت مقدار العناية العظيمة؟
اليوم يجب أن ننشد مع داود النبي “ من يتكلم بجبروت الرب. من يخبر بكل تسابيحه؟” (مز2:106).
لقد بَلغَنا الاحتفال الخلاص الذي كنا نشتهيه. إنه يوم قيامة السيد المسيح، يوم السلام والمصالحة، اليوم الذي فيه بطل الموت وأنهزم الشيطان. في هذا اليوم انضم البشر إلى الملائكة. اليوم يقدم البشر تسابيحهم مع القوات الروحية. اليوم أبطلت أسلحة الشيطان وأنفكت قيود الموت وأُبيد جبروت الجحيم.
اليوم |
سحق ربنا يسوع المسيح الأبواب النحاسية وأزال شوكة الموت. اليوم نستطيع أن نقول مع النبي ” أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية“(1كو55:15).
لقد غيّر حتى اسم الموت، فلا يدعى بعد موتًا، بل نومًا ورقادًا. كان اسم الموت مُخيفًا قبل ميلاد المسيح وصلبه، لأن الإنسان الأول عندما خُلق سمع ” يوم تأكل من هذه الشجرة موتًا تموت” (تك17:2). وداود النبي يقول ” الشر يميت الإنسان” (مز21:34). كما كان انفصال النفس عن الجسد يُدعى موتًا وهاوية، ويقول يعقوب أبو الآباء ” تنزلوا شيبتي بحزن إلى الهاوية” (تك38:42). وإشعياء يقول ” وسعت الهاوية نفسها وفغرت فاها بلا حدود” (إش14:5). وأيضًا ” لأن رحمتك عظيمة نحوي وقد نجيت نفسي من الهاوية السفلي“ (مز13:85). هذا المفهوم عن الموت نجده في مواضع أخرى كثيرة من العهد القديم، غير انه منذ أن قدم المسيح ذاته ذبيحة من أجل كل البشرية، وقام من الموت ألغي كل هذه الأسماء وقدم للبشرية حياة جديدة لم تعرفها من قبل، فلا يُسمى بعد، الخروج من هذا العالم، موتًا بل نومًا أو انتقالاً.
من أين يتضح هذا؟ اسمع المسيح يقول: “ لعازر حبيبنا قد نام لكني أذهب لأوقظه ” (يو11:11).
فكما هو سهل بالنسبة لنا أن نوقظ نائمًا، فإنه سهل بالنسبة للمسيح أن يُقيم ميتًا. ولأن كلامه هذا كان غريبًا وجديدًا فإن التلاميذ أنفسهم لم يفهموه.
ومعلم المسكونة القديس بولس يكتب إلى أهل تسالونيكى ” ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الاخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم ” (1تس13:4). ويقول أيضًا: ” إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين ” (1تس15:4)، وأيضًا ” لأنه إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام فكذلك الراقدون بيسوع سيحضرهم الله أيضًا معه ” (1تس14:4).
أرأيت أن الموت يُسمى رقادًا أو نومًا؟!. إن الموت الذي كان له اسمًا مخيفًا صار الآن محتقرًا بعد القيامة. أرأيت بهاء مجد القيامة؟!
بالقيامة اكتسبنا خيرات غير محدودة. بالقيامة أُبيدت حيل الشياطين وخداعهم. بالقيامة انتزعت شوكة الموت. لذلك، فالقيامة تجعلنا لا نتمسك بالحياة الحاضرة ونشتهي بكل قلوبنا خيرات الدهر الآتى.
القيامة جعلتنا فى مستوى لا يقل عن القوات الروحية مع إننا موجودون فى الجسد. إذن فلنفرح كلنا ولنبتهج، لأن هذه النصرة، نصرة المسيح على الموت، هي نصرة لنا، لأنه صنع كل هذا لأجل خلاصنا.
2 ـ قيامة الأجساد
إن |
موضوع القيامة هو موضوع متعدد الجوانب، إذ يختص بتحديد ما يجب أن نؤمن به، وما ننظم به أمور حياتنا الحاضرة. فحينما لا نؤمن بالقيامة تنقلب حياتنا رأسًا على عقب، وتمتلئ بمتاعب كثيرة جدًا وتصير إلى فوضى. بينما الإيمان بالقيامة يدفعنا إلى الأمام لأنها دليل عناية الله، وهي تجعلنا قادرين على أن نهتم باقتناء الفضيلة، وأن نجاهد لكي نتجنب الشر وأن يسود الهدوء والسلام فى كل أمور حياتنا.
ومن لا ينتظر القيامة العتيدة فى يوم الدينونة وهناك سيعطى حسابًا عن أعماله التي صنعها على الأرض، متصورًا أن الإنسان محصور فى الحدود الزمنية للحياة الحاضرة فقط، وأنه لا يوجد شئ بعد فى هذه الحياة الحاضرة، هذا الإنسان، لن يُبد اهتمامًا بالفضيلة. إذ كيف يُبدى هذا الاهتمام طالما أنه لا ينتظر أن يُعاقب عن شروره التي صنعها؟، وهو بهذا الاعتقاد سيُلقى بنفسه فى شهواته غير اللائقة، ويصير ذهنه ملوثًا بالخطية.
لكن من يؤمن بالدينونة الأخيرة وقضاء الله العادل، فإنه يضع نصب عينيه ما يجب عليه أن يفعله، حكم الله المُنزه عن الخطأ. وسيحاول أن يسلك بوداعة واستقامة حياة، ساعيًا نحو كل فضيلة، متجنبًا الفساد وعدم اللياقة وكل أشكال الخطية الأخرى. أما هؤلاء الذين يحتجون بشدة موجهين اللوم لعناية الله، فإن الله منذ الآن قادر أن يسد أفواههم. بينما يرى بعضهم أن الحكماء والأبرار المكرمين، هم الذين عانوا محتملين وهُددوا ووُشى بهم حتى جفت أجسادهم، ومرارًا تعرضوا لأمراض مخيفة دون أن يتمتعوا بأية حماية (من قِبل الله). من ناحية أخرى، يروا أن أناس ذوى نفوس سوداء، ملوثين ومملوئين من كل شر، غارقين فى الغنى وفى متع الحياة لابسين ملابس زاهية يتبعهم خدم كثيرون، فخورين بإعجاب الناس مستمتعين بما لديهم من سلطة، وبما لهم من دالة كبيرة عند الملك. من يرى هذا، ينكر عناية الله، ويتساءل أهل هذه عناية الله؟ أهل هذه دينونة عادلة أن يحيا العاقل الأمين وسط المتاعب، بينما يحيا الفاسق وسط الخيرات؟. وهل يكون الواحد محطًا للإعجاب به والآخر يُحتقر؟ الواحد يستمتع بمباهج كثيرة والآخر يعانى المتاعب والمشقات؟.
إن من لا يؤمن بالقيامة لن يستطيع أن يعطى إجابة على هذه التساؤلات. بل يبقى صامتًا لا تعليق لديه. وعلى العكس من ذلك. من يتناول موضوع القيامة بحكمة واهتمام، سيكون من السهل عليه أن يواجه التجديف، ويقول لكل من ثبطت عزيمتهم من نحو هذه الأمور: كفوا عن توجيه الاتهامات لله الذي خلقكم، لأن أمور الإنسان لا تنحصر فقط فى الحدود الزمنية للحياة الحاضرة، بل تمتد إلى حياة أخرى لا نهاية لها. ففى الدهر الآتى سينال من احتمل وسلك بتقوى جزاءه عن كل ما عاناه فى هذه الحياة، بينما سيُعاقب الفاسق والبائس على خطيئته ومتعه المحرمة التي اقترفها.
ولهذا يجب ألا نبدي آراءنا فى عناية الله مكتفين بالنظر فقط للأمور الحاضرة، بل يجب أن ننظر أيضًا للمستقبل. لأن الأمور الحاضرة هي جهاد وسباق واختبار، أما الأمور المستقبلة فهي مِنَح وأكاليل وجوائز. وكما أنه يجب على لاعب القفز أن يبذل جهدًا وعرقًا ومشقة ليكون جديرًا للمنافسة، هكذا أيضًا الإنسان التقي يجب عليه أن يتحلى بالصبر فى مواجهة أمور كثيرة فى هذا العالم وأن يتحمل كل شئ بشجاعة، لأنه ينتظر أن يُتوج ببهاء فى الدهر الآتى. ونحن نرى أن اللصوص ونُباش القبور والقتلة والقراصنة فى البحار، يستمتعون بمباهج كثيرة على حساب الآخرين، بما يقتنوه من غنى محرم.
غير أنهم يدفعون ثمن هذا غاليًا عندما يخضعون لحكم القضاء. هكذا فإن كل الذين يشترون نساءً ساقطات يقيمون موائد سافيرية[2] ويتفاخرون ويتباهون نابذين الفقراء، فعندما يأتي أبن الله الوحيد مع ملائكته ويجلس على العرش، وأمامه تنكشف الأعمال، سيؤتي بهم دون أن يكون لهم من يدافع عنهم. لهذا لا نعتبرهم محظوظين بسبب حياتهم المترفة في هذا الدهر, ولكن فلنبكِ عليهم لأجل العقاب الذي ينتظرهم, ولا نحزن على الإنسان النقي لاحتماله مشقات هذا العالم, بل يجب أن نطوبه لما ينتظره من خيرات الدهر الآتي.
عمّق |
في داخلك موضوع القيامة، فبهذا يمكنك أن تختبر حتى ولو كنت إنسانًا صالحًا ـ أن تصير أكثر عطاء, مكتسبًا استعدادًا أكبر بالرجاء, أيضًا أختبر لو كنت إنسانًا شريرًا ـ أن تتجنب الخطية وأن تجعل نفسك أكثر تعقلاً بالخوف من العقاب المنتظر.
فبالرغم من أن بولس يحدثنا باستمرار عن القيامة قائلاً: “ لأننا نعلم أنه أن نُقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من الله. بيت غير مصنوع بيدٍ أبدى. فإننا في هذه أيضًا نئن مشتاقين إلي أن نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء ” (2كو1:5ـ2), إلا أنه من الأفضل لنا أن نرجع لما كتبه قبل هذه الآيات لنرى كيف انتهي إلى موضوع القيامة. فهو لا يتناول موضوع القيامة حقًا بدون هدف, لكنه يسند المجاهدين من أجل التقوى.
نحن الآن نتمتع بسلام عظيم لأن الملوك أيضًا يحبون التقوى والرؤساء يعرفون الحقيقة جيدًا والشعوب وسكان المدن والأمم تخلصوا من الضلال والجميع عرفوا المسيح. أما في بداية الكرازة فبمجرد أن أُستعلن سر التقوى, اشتدت الحروب وكثرت النزاعات وتنوعت، لأن الرؤساء والملوك وأرباب البيوت جميعهم حاربوا المؤمنين, حتى الأقارب بالجسد شاركوا في اضطهادهم لأنه كان يحدث أن يُسلّم الأب ابنه والأم ابنتها والعبد يسلم سيده. لم تكن المدن والأقاليم فقط في المنازعات الداخلية لكن البيوت أيضًا, وكان القلاقل التي تسود في أعقاب الحروب الأهلية أمرًا مُخيفًا.
فقد سُلبت الأموال واُنتهكت الحريات, بل كانت حياة البشر نفسها مهددة بالأخطار, لا من خلال هجمات وشرور البربر فقط ولكن بسبب الذين كانوا يحكمون ويقودون الشعب, لأنهم تعاملوا مع رعاياهم معاملة أسوأ من معاملة الأعداء. وهذا ما أعلنه بولس قائلاً ” ولكن تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعدما أنرتم صبرتم على مجاهدة آلام كثيرة من جهة مشهورين بتعييرات وضيقات ومن جهة صائرين شركاء الذين تصرف فيهم هكذا لأنكم رثيتم لقيودى أيضًا وقبلتم سلب أموالكم بفرح عالمين فى أنفسكم أن لكم مالاً أفضل فى السموات باقيًا ” (عب32:10ـ34). وللغلاطيين يقول: ” أبهذا المقدار احتملتم عبثًا إن كان عبثًا ” (غل4:3)، وأيضًا إلى أهل تسالونيكى وإلى أهل فيلبى وبشكلٍ عام إلى كل من تلقوا رسائله يشهد فيها عن أمور كثيرة مثل هذه.
إن |
حربًا شديدة بلا توقف قد بدأت تتحرك من خارج لم تكن فقط هي الأمر المخيف، لكن حدث أن صارت عثرات ونزاعات ومشاحنات وغيرة حاقدة ضد المؤمنين. وهذا بالضبط ما أعلنه بولس قائلاً: “ من خارج خصومات من داخل مخاوف ” (2كو5:7). هذه الحرب كانت أكثر رعبًا من أى حرب أخرى ضد الرعية والرعاة. إذن فبولس لم يخف من سهام الأعداء بل أن مصدر خوفه كان السقوط فى العثرات التي من داخل والتي تأتى من الأقارب. على سبيل المثال عند سقوط واحد من أهل كورنثوس فى خطية الزنا فإن بولس قد قضى وقتًا حزينًا وأحشاءه ممزقة بسبب هذا الأمر. لأن هذه الأمور الروحية بطبيعتها تتطلب مشقة وجهادات كثيرة. لأن الطريق الذي سار فيه الرسل لم يكن طريقًا سهلاً وهينًا، لكنه كان غير مستوٍ وغير ممهد يتطلب نفسًا ساهرة متيقظة من كل الجوانب. لهذا دعا المسيح هذا الطريق ضيق وكرب. وكان المؤمنون يحيون خاضعين لصوت ضميرهم وليس كما كان يحدث مع الوثنيين الذين كانوا يعيشون فى زنا وسكر ونهم ومُتع وغنى فاحش. أيضًا كان عليهم أن يقمعوا الغضب وأن يسيطروا على شهواتهم الرديئة وأن يحتقروا المال وأن يدوسوا المجد الباطل. ونحن نعلم كم من الجهد والتعب تتطلبه هذه الأمور. وهذا يعرفه كل من يجاهد يوميًا. وهل هناك ما هو أكثر رعبًا من الشهوة الرديئة، فهي مثل حيوان مسعور يهاجمنا باستمرار ولا يتركنا فى هدوء ويحتاج على الدوام إلى نفسٍ يقظة.
لأنه وإن كان أمرًا مقبولاً أن يدافع الإنسان عن نفسه ضد كل من ظلمه، إلاّ أن هذا لم يكن سهلاً حينذاك وهذا ما يدعونى أن أتساءل هل لا يُسمح لإنسان أن يدافع عن نفسه ضد كل من ظلمه؟.
كان يجب على الإنسان أن يفعل الخير تجاه كل من أحزنه وأن يبارك كل من يسئ إليه وألاّ يُخرج كلمة مُرة من فمه ولا يجرح أحد البتة. وكان عليه أيضًا أن يُظهر وداعة ليس فقط من جهة الأعمال لكن أيضًا يُظهر نقاوة الفكر. لأنه يجب على الإنسان أن يبتعد عن عمل الفجور مثل ما يبتعد عن مجرد رؤية هذه الأمور، وألاّ ينشغل بالنظر إلى النساء الحسناوات. لأنه بهذا يُعرض نفسه للعقاب فى الدينونة الأخيرة.
ونظرًا لأن الحرب كانت شديدة من الخارج والمخاوف شديدة من الداخل، كان على الإنسان أن يبذل جهدًا كبيرًا لأجل الفضيلة. إلاّ أن ما يجب الالتفات إليه، هو عدم خبرة هؤلاء الذين قرروا أن يجاهدوا هذا الجهاد العظيم، لأن الرسل لم يكرزوا لأناس وارثين التقوى من أجدادهم، لكن انتشلوهم من الخمول والضعف والسكر والزنا والفجور مهذبين إياهم. لذلك لم تكن جهاداتهم بالأمر الهين، لأنهم لم يشبوا مهذبين من قبل آبائهم على هذا المنهج الجديد للحياة، ولهذا فإنهم يجوزون صعوبة هذه الجهادات لأول مرة. ونظرًا لأن الصعوبات كانت كثيرة فإن موضوع القيامة كان هو العزاء الدائم لقبول هذه الآلام. لهذا لم يكتفِ القديس بولس بالحديث عن القيامة وقوتها لكنه كان أيضًا يكلمهم عن آلامه الخاصة. ولهذا السبب قبل أن ينتهي إلى الكلام المتعلق بموضوع القيامة (الذي أشرنا إليه فى 2كو1:5ـ2) نجده أيضًا يتحدث عن آلامه الخاصة قائلاً: “مكتئبين فى كل شئ لكن غير متضايقين، متحيرين لكن غير يائسين، مُضطهدين لكن غير متروكين، مطروحين لكن غير هالكين ” (2كو8:4ـ9). بهذه الأمور أعلن أننا كأموات نُسلم للموت كل يوم. ولم يكتفِ القديس بولس بالحديث عن هذا فقط بل عندما كانت تأتى مناسبة للحديث عن آلامه كان يعود مرة أخرى لموضوع القيامة ” عالمين أن الذي أقام الرب يسوع سيقيمنا نحن أيضًا بيسوع ويحضرنا معكم لأن جميع الأشياء هي من أجلكم لكي تكون النعمة وهي قد كثرت بالأكثرين تزيد الشكر لمجد الله لذلك لا نفشل بل وإن كان إنسانا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا” (2كو14:4ـ16). ولهذا لم يقل لهم لا تخضعوا للشر ولكن ماذا قال؟ لذلك لا نفشل، مبينًا أنه هو نفسه كان فى جهادات مستمرة.
وعلى سبيل المثال نجد أنه فى الألعاب الأوليمبية بينما يقوم الرياضى بمنافسة خصمه داخل الملعب، يجلس المدرب خارجًا ليوجهه بإرشاداته وعلى قدر التوجيه تعظم المساندة. أما أن يساعده عن قرب من داخل الملعب فهذا ما لا يسمح به أى قانون. لكن فيما يختص بجهادات التقوى فالأمر مختلف، فالقديس بولس هو نفسه المدرب واللاعب معًا وهكذا لا يجلس خارج الملعب لكنه يشارك فى نفس المباريات ويعد من يجاهدون معه قائلاً: ” لذلك لا نفشل ” ولم يقل لا أفشل. وهو يريد بهذا أن يقوّم اعوجاجهم ” بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا“. لاحظ كيف يصيغ الرسول بولس حديثه: يعظهم من نحو كل ما عانوه قائلاً: ” مكتئبين فى كل شئ لكن غير متضايقين “، ويعظهم من نحو قيامة المسيح بقوله: ” الذي أقام الرب يسوع سيقيمنا نحن أيضًا “، ثم بعد ذلك يبدأ فى الحديث عن أسلوب آخر للعزاء. فنحن نجد أن أغلب الناس هم من صغار النفوس واهنين وضعفاء، وعلى الرغم من أنهم مؤمنون بالقيامة فإنهم يفقدون رجاءهم بسبب طول الزمن الحاضر، ولذلك يتشتت ذهنهم فيتراجعون عن ثقتهم فى القيامة. لهؤلاء يعطى الرسول بولس أجر ومكافأة أخرى ما هي؟ ” إن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا ” إنسان الخارج يُسمى الجسد وإنسان الداخل يُسمى النفس. وهذا يعنى إنه من الآن وقبل القيامة وقبل التمتع بخيرات الدهر الآتى، فإن مكافأة هذه الأتعاب ليست بالمتع القليلة حيث تتجدد النفس فى وسط الضيق وتكتسب صبرًا أكثر وتصير أكثر قوة وأكثر إشراقًا.
إن من يحققون أرقامًا قياسية فى الرياضة الجسدية نجد أنهم قبل التتويج وقبل الجوائز يحصلون على رضا وقناعة داخلية، وبهذا تكون أجسادهم بواسطة التريض والمنافسة أكثر صحة وأكثر قوة ومتجنبين كل مرض. هكذا أيضًا فى الجهادات من أجل الفضيلة فقبل أن تنفتح السماء وقبل أن يُستعلن ابن الله وقبل أن ننال الأكاليل، ستكون المكافأة من الآن كبيرة بأن تصير نفوسنا أكثر يقظة وأكثر حكمة.
وهؤلاء الذين يشقون البحار مرات كثيرة ويواجهون أمواجًا عاتية ووحوش ضارية ويعانون مرات كثيرة من سوء الأحوال المناخية، فإنهم وحتى قبل الفوز المادى يحصلون على متعة تلك الرحلة البعيدة والتي هي ليست بقليلة. أى أنهم لا يبالون بالأمواج دون أى خوف بل بسعادة غامرة يشقون عرض البحر ذاهبين إلى أقصى حد لتحقيق مقصدهم. هكذا يحدث أيضًا فى هذه الحياة الحاضرة أن كل من عانى ضيقات كثيرة من أجل المسيح، كل من لاقى عذابات متنوعة سينال مكافأة كبيرة حتى قبل التمتع بخيرات الدهر الآتى. لأنه اكتسب من الآن دالة أمام الله وجعل نفسه ترتفع إلى أعلا وتتحدى المشقات. ولكي يكون ما أقوله أكثر وضوحًا فإنى أجعله جليًا من خلال المثل الآتى؛ القديس بولس نفسه عانى آلامًا كثيرة جدًا وأخذ مكافآت عديدة وهو فى الجسد مستهزئًا بالمشقات مواجهًا بثبات هوس الرعاع مستهينًا بكل آلام، أمام وحوش وسلاسل وأمواج وأحزان وهجمات وسهام فى كل هذه المتاعب، لم يكن يخاف من أى شئ. من يستطيع أن يتساوى معه؟
إن الإنسان غير المدرب الذي لم يتعرض لمصاعب، من الطبيعى أن يرتبك من قِبَل الصعوبات العادية ليس فقط مما هو حادث، لكن أيضًا لما هو متوقع أو كما يُقال: ” إنه يخاف من ظله “. لكن كل من دخل فى أعمال صعبة وفى منافسات وتعرض لمتاعب فإنه من الطبيعى أن يرتفع فوق كل الصعوبات ويسخر من كل ما يهدده مثل طائر يطير ويصيح صيحة النصرة. ولأنه يجاهد للحصول على هذا الإكليل العظيم لذلك فإن أى ألم يتعرض له أثناء جهاده لن يكون عبئًا عليه لهذا فإن هذا الألم لا يستطيع أن يحزنه. هذه الأمور عندما تحدث للآخرين فهي تزعجهم، أما بالنسبة له فهي لا تعنى شيئًا. وإن كانت هذه الآلام سبب توتر وارتباك لهم، فهي له موضع استهانة واستهزاء. فهو يرتفع بنفسه بقوة الصبر الكثير إلى تلك الرؤية المستنيرة التي للقوات الملائكية. فلو أننا نطوب الجسد الذي يتحمل بلا تذمر البرد والحر الشديدين والجوع والعوز ومشقة الطريق ومتاعب أخرى، فبالأولى كثيرًا يجب أن نطوب النفس التي تستطيع بصبر واحتمال وأمانة أن تواجه كل المشقات والمتاعب.
ومن خلال هذا تستطيع هذه النفس أن تحفظ فكرها حرًا نقيًا. ومن يفعل هذا هو ملك أكثر من الملوك أنفسهم. لأنه بالنسبة للملك يمكن أن يُصاب بضرر سواء من الحرس الخاص أو من الأصدقاء أو من الأعداء سرًا كان أم علانًا. أما من يملك نفسًا حرة ونقية، فلا ملك ولا حرس خاص ولا خادم ولا صديق ولا عدو ولا حتى الشيطان نفسه يستطيع أن يصنع به شرًا. كيف لا يكون فى مأمن من كل الضربات وهو الذي اعتاد ألاّ يبالى بشيء من المصاعب التي اعتاد غيره أن يعدها أسوأ البلايا واشدها هولاً؟.
[1] هذا المفهوم هو ما يعبّر عنه نص اللحن الكنسى ” المسيح قام ” إذ تردد الكنيسة بإيمان: ” المسيح قام من بين الأموات، بالموت داس الموت وأعطى الذين فى القبور الحياة الأبدية.
[2] سيفاري كانت مستعمرة يونانية في شمال إيطاليا. وسكان هذه المستعمرة عاشوا حياة مترفة وقد صارت حياتهم أمثولة.