عيد الخمسين – عيد حلول الروح القدس ج2 – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جوزيف موريس فلتس
الجزء الأول: عيد الخمسين – عيد حلول الروح القدس ج1 – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. جوزيف موريس فلتس
عيد الخمسين
عظة فى “عيد حلول الروح القدس”
للقديس يوحنا ذهبى الفم
ترجمها عن اليونانية د. جوزيف موريس فلتس
4 ـ أين هم الآن الذين يجدفون على الروح القدس ؟ لأنه إن كان لا يمحو الخطية ، فستكون المعمودية بلا هدف ، وإن كان يمحو الخطايا ، فباطل إذن تجديف الهراطقة .
وإن لم يكن هناك روح قدس، فلم نكن لنستطع الاعتراف بأن يسوع هو رب “ ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلاّ بالروح القدس ” (1كو3:12). ولو لم يكن الروح القدس موجودًا لما استطاع المؤمنون أن يتضرعوا قائلين ” أبانا الذى الذى فى السموات ” (مت9:6). ومثلما لم نكن نقدر (بدون الروح القدس) أن نشهد أن المسيح رب، هكذا أيضًا لم نكن نقدر بدونه (بدون الروح) أن ندعو الله أبانا . وبماذا نثبت قولنا هذا ؟ من قول الرسول نفسه ” وبما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبا الآب” (غلا6:4)، حتى أنك عندما تدعو الله قائلاً : ” أبانا ” فتتذكر أنك استحققت أن تدعو الله أباك بسبب أن الروح قد دفعك إلى هذا .
وإن لم يكن الروح القدس موجودًا لما كان فى الكنيسة روح الحكمة والمعرفة “ لأنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد ” (1كو8:12). ولو لم يكن الروح موجودًا فى الكنيسة لما كان فيها رعاة ومعلمين. إذ أن هؤلاء يقيمهم الروح القدس كما يقول بولس الرسول ” … ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه ” (أع28:20). وأنظر أيضًا فإنه حتى ما يحدث هنا هو من عمل الروح القدس . فإن لم يكن الروح القدس فى أبينا ومعلمنا هذا [1] والذى صعد منذ قليل على المنبر وبارككم جميعًا قائلاً “السلام لجميعكم ” لِما قلتم له جميعًا ” ولروحك أيضًا ” . وأنتم لا تجاوبونه هكذا فقط عندما يصعد إلى المنبر ، أو عندما يعظكم أو يصلى لكم ، ولكن أيضًا عندما يقف بجانب هذه المائدة المقدسة وهو مزمع أن يقدم عليها هذه الذبيحة المهوبة ، والمرتلين يعرفون ما أقوله . فهو لا يمس القرابين الموضوعة أمامه قبل أن يدعو لكم بنعمة الرب، وأنتم تجاوبونه قائلين “ومع روحك أيضًا ” . وبهذه الإجابة تذكرون أنفسكم بأن هذه الجواهر ليست من صنعه أو من صنع إنسان ، بل هى هكذا بواسطة نعمة الروح القدس ، الحاضر والذى يرفرف فوق الجميع، ليعد ذلك الذبيحة السرية . لأنه حتى وإن كان الذى يقف هناك هو إنسان ، غير أن الله هو العامل فيه. فلا تنشغل إذن بالإنسان الذى تراه، بل اهتم بأن تعى عمل نعمة الله غير المنظورة . فلا شئ مما يحدث فى هذا الهيكل المقدس هو بشرى ، فلو لم يكن الروح القدس حاضرًا لما تأسست الكنيسة ، وطالما أنه توجد الكنيسة فهذا بفضل حضور الروح القدس.
وربما يتساءل أحد، لماذا لا تحدث معجزات اليوم ؟ هنا أرجوكم أن تنتبهوا بشدة ، لأنى أسمع عن هذا الأمر من كثيرين وفى كل مكان وباستمرار يطلبون تفسيرًا له. لماذا كان الذين تعمدوا حينذاك يتكلمون بألسنة عديدة والآن لا يحدث نفس هذا الأمر ؟ فلنعرف أولاً ماذا يعنى أنهم كانوا يتكلمون بألسنة وبعد ذلك سنتحدث عن سبب ذلك. ماذا يعنى إذن أنهم كانوا يتكلمون بألسنة غريبة ؟. فالذى تعمد حينذاك كان يتكلم مباشرة بلغات الهنود والمصريين والفرس والعرب وكان الشخص الواحد منهم يتكلم عدة لغات. ولو كان الذين قد تعمدوا اليوم، قد تعمدوا حينذاك لسمعناهم يتكلمون مباشرة لغات مختلفة. لأن بولس يقول إنه تقابل مع جماعة كانوا قد تعمدوا بمعمودية يوحنا فقال لهم ” هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم ؟ فأجابوا : ولا سمعنا أنه يوجد روح قدس ” (أع2:19). فأشار عليهم مباشرة أن يتعمدوا “ ولما وضع بولس يديه عليهم حل الروح القدس فطفقوا يتكلمون بألسنة ” (أع6:19).
فلماذا إذن رُفعت هذه النعمة وغابت من بين البشر ؟ ليس بسبب أن الله لا يُكرّمنا ، بل على العكس لأنه يُكرّمنا جدًا ، كيف ؟ سأقول لكم .
لقد كانت تصرفات البشر حينذاك أكثر مجونًا إذ كان لم يمض وقتًا طويلاً على تركهم لعبادة الأوثان، بل وكانت أذهانهم أكثر بُعدًا عن فهم الأمور الروحية بل وغير حساسة لما يحدث أمامهم فصاروا مندهشين لما يدور حوله. ولم يكن لديهم أى معرفة عن المواهب الروحية أو حتى عن ماهية النعمة الروحية التى يستطيع المرء بالإيمان فقط أن يدركها، ولهذا حدثت المعجزات. لأنه من بين العطايا، يوجد ما هو غير مرئى ويمكن إدراكه بالإيمان فقط، والبعض الآخر مصحوب بعلامات لكى يراها المؤمنين. وكمثال لما أقصده هو الآتى: غفران الخطايا، هو أمر روحى، هو عطية غير مرئية، إذ أننا لا نرى بعيون الجسد كيف نتطهر من خطايانا. لكن لماذا؟ لأن النفس هى التى تتطهر والنفس لا ترى بعيون الجسد.
التطهير من الخطايا إذن، هى إحدى العطايا الروحية ولا يمكن رؤيتها بعين الجسد، وأن يتكلم شخص بألسنة غريبة هو بالطبع أيضًا عطية روحية من فعل الروح القدس، ولكنه يُعطى بعلامة حسية يدركها المؤمنين بسهولة . فاللغة لأننا نسمعها ، فهى إظهار ودليل على الطاقة غير المرئية التى تحدث داخل نفوسنا “ لكنه لكل واحد يعطى إظهار الروح للمنفعة ” (1كو7:12). فأنا إذن لست بحاجة إلى دليل أو علامة، ولماذا؟ لأنى تعلمت أن أؤمن بالرب بدون أن يُعطينى أية آية، لأن ذلك الذى لا يؤمن يحتاج إلى ضمان، أما أنا فلا أحتاج إلى ضمان لأنى أؤمن، ولا حتى إلى علامة، ولكن حتى وإن كنت لا أتكلم بلسان غريب، فأنى أعرف أنى قد تطهرت من الخطية . فهؤلاء الذين تعمدوا حينذاك، لم يكن ليؤمنوا إن لم يكن قد حصلوا على علامة. لهذا فقد أعطاهم آية كضمان للإيمان الذى آمنوا به. وبالتالى فقد أعطاهم آية ليس لأنهم كانوا مؤمنين بل لأنهم كانوا غير مؤمنين ولكى يصيروا مؤمنين، هكذا يقول بولس الرسول ” إذًا الألسنة آية لا للمؤمنين بل لغير المؤمنين ” (1كو22:14). أرأيتم أن توقف الله عن عمل المعجزات هو دليل ليس على عدم تكريم الله لنا بل على تكريمه لنا؟. ولماذا فعل هذا معنا؟ لأنه يريد أن يُظهر إيماننا، إننا نؤمن به بدون ضمانات أو معجزات. إن أولئك الذين تعمدوا حينذاك، لو لم يكن قد حصلوا على بعض الضمانات والإثباتات أولاً، لَما كان فى استطاعتهم أن يؤمنوا بالله بواسطة أمور لا تُرى. أما أنا فبدون هذه الأمور (المرئية) فإنى أؤمن بكل قلبى. وهذا هو السبب إذن فى عدم حدوث معجزات الآن.
5 ـ أود أن أتكلم أيضًا عن سبب هذا العيد وأن أبيّن بالضبط ما هو عيد الخمسين ولماذا أُعطيت مواهب الروح القدس على هيئة ألسنة نار فى ذلك اليوم، ولماذا كان ذلك بعد صعود المسيح بعشرة أيام .غير أنى أرى إنى أطلت الحديث، ولهذا سأتوقف بعد أن أضيف شيئًا صغيرًا ” ولِمّا حضر يوم الخمسين كان الجميع معًا بنفس واحدة ، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم ” (أع1:2ـ3). ليست ألسنة من نار، لكن كأنها من نار، لئلا تعتقد أن الروح القدس هو شئ محسوس، مثلما فى نهر الأردن حيث حل، ليس كحمامة، لكن فى شبه حمامة. وهكذا هنا ظهر لا نار (فعلاً) بل فى شبه نار. وأيضًا يذكر سفر الأعمال أنه ” صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة” (أع2:2)، لا يقول إنه هبوب ريح ، بل يقول “ كما من هبوب ريح عاصفة ” .
وما هو السبب فى أن حزقيال لم يأخذ موهبة النبوة بشكل مماثل وعلى هيئة نار لكن أخذه فى درج (حز9:2)، بينما أخذ الرسل المواهب بواسطة ألسنة كأنها من نار ؟
بالنسبة لحزقيال، يقول الكتاب إن الله أعطى له درج مكتوب فيه مراثى ونحيب وعويل، وكان مكتوبًا من الداخل ومن قفاه (حز10:2). فأكل حزقيال الدرج فصار فى فمه كالعسل حلاوة (حز3:3). أما عن الرسل فلا يقول هكذا بل يقول “ وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار” . فلأى سبب إذن ظهر هناك درج وهنا ألسنة كأنها من نار ؟ لأن حزقيال كان سيذهب ليرثى خطايا اليهود وينتحب على خرابهم ، أما الرسل فإنهم كانوا سيذهبون فى شتات الأرض ليغفروا خطايا جميع الناس. ولهذا فإن حزقيال قد أخذ درجًا كتب فيه الخراب الذى كان مزمعًا أن يحدث لليهود، أما الرسل فقد أخذوا نارًا ليحرقوا خطايا البشر ويغفروها . لأنه كما أن النار تقع على الأشواك فتمحوها ، هكذا تمحو نعمة الروح القدس خطايا البشر .
لكن اليهود ، عديمى الإحساس، عندما حدث هذا ، بينما كان عليهم أن يتعجبوا وفى رهبة يسجدون لذلك الذى منح هذه المواهب ، نراهم قد أظهروا مرة أخرى عدم فهمهم متهمين الرسل الذين نالوا بغنى مواهب الروح القدس ، بأنهم سكارى إذ قالوا “ وكانوا آخرون يستهزئون قائلين إنهم قد امتلأوا سلافة ” (أع13:2). لاحظ هنا كيف ينكر البشر المعروف وكيف يقدره الملائكة ، إذ أن الملائكة عندما نظروا باكورتنا[2] وهو صاعد إلى السماء ، فرحوا وقال “ ارتفعن أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد ” (مز8:24). أما البشر فعندما رأوا نعمة الروح القدس وهى تحل علينا قالوا إن هؤلاء الذين تقبلوا هذه النعمة سكارى . بل أن هؤلاء اليهود لم يعرفوا حتى مواسم السنة الزراعية، لأنه من غير الممكن أن يتواجد فى فصل الربيع (وقت الاحتفال بعيد الخمسين حينذاك) هذا النوع من العنب حلو المذاق الذى يصلح لعمل هذا النوع من الخمر .
لكن لنترك هؤلاء ، ولنفحص نحن عطية الله محب البشر لنا . لقد أخذ المسيح طبيعتنا وأعطانا فى المقابل نعمة الروح القدس. وكما يحدث فى الحرب التى يطول مداها أنه عندما تتوقف المعارك ويحل السلام، فإن الأعداء يتبادلون الضمانات والأسرى، هكذا صار بين الله والبشر، فلقد أصعد المسيح باكورة طبيعتنا إلى السماء، إلى الله كعربون وضمان، وأرسل لنا الله الروح القدس كضامن. وما يبين أن ما لدينا هو عهد وضمان ما يأتى. المتعهد والضامن لابد أن يكونا من جنس ملوكى . ولهذا أرسل الروح القدس إذ هو من جوهر ملوكى فائق ، وأيضًا ما قُدم من جهتنا كان من جنس ملوكى ، إذ كان من نسل داود ولهذا فنحن لا نخاف بعد ، طالما أن باكورتنا هى فى السماء . وحتى إن هددنى شخص بالعذاب الأبدى وبالنار التى لا تُطفأ أو بأى عقاب آخر ، فلن أخاف إذن . أو بالحرى سأخاف غير أنى لن أكون يائسًا من خلاصى . لأنه لو كان الله لم يَرِد خيرات عظيمة للإنسان ، لما كان قد قَبِلَ باكورتنا فى السماء .
فقبل ذلك ـ عندما كنا نتطلع إلى السماء ونفكر فى القوات السمائية غير المتجسدة، كنا نتأكد بالأكثرـ بالمقارنة مع هذه القوات ـ من ضعفنا. أما الآن، فعندما نريد أن نرى ما صار لنا من كرامة فإننا نتطلع عاليًا نحو السماء إلى عرش الله نفسه لأن هناك تجلس باكورتنا. وهكذا سيأتى ابن الله من السماء ليديننا. فلنستعد إذن لكى لا نخسر ذلك المجد لأن سيدنا قادم بالتأكيد ولن يتأخر . سيأتى ومعه قوات وطغمات الملائكة وأرباب ورؤساء ملائكة ، وأجيال الشهداء وجماعات الأتقياء ، وكثير من الأنبياء والرسل ووسط هذه الكوكبة سيظهر الملك بمجد لا يُوصف ولا يُعبر عنه .
6 ـ لنفعل إذن كل ما فى جهدنا لكى لا نخسر ذلك المجد . أتريدون أن أقول لكم عن الأشياء المخيفة أيضًا ؟ لا لكى أحزنكم بل لكى أًصلِحَكم . حينذاك سوف يجرى نهر من نار قدامه (دانيال10:7) وسوف تُفتح الأسفار. وستكون محاكمة رهيبة . فكما فى المحكمة تُقرأ عرائض تخص أعمالنا، وهكذا يتكلم الأنبياء عن هذه الأسفار . فيقول موسى ” والآن إن غفرت خطيتهم . وإلاّ فامحنى من كتابك الذى كتبت ” (خر32:32). كما أن السيد المسيح قال لتلاميذه ” لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالحرى أن أسماءكم كُتبت فى السموات ” (لو20:10) وداود أيضًا كتب قائلاً ” رأت عيناك أعضائى وفى سفرك كلها كتبت ” (مز16:138). وأيضًا قال “ليُمحو من سفر الأحياء ومع الصديقين لا يُكتبوا” (مز29:69).
أترى أن البعض تُكتب أسمائهم والبعض تمحى أسمائهم ؟ أتريد أن تعلم أنه ليس فقط أسماء الأبرار هى التى تُكتب فى هذه الأسفار بل وأيضًا خطايانا؟
اليوم عيد واليوم نتعلم أمورًا تقدر أن تنجينا من الهلاك . الكلمات مرعبة لكنها مفيدة ونافعة ، إذ هى قادرة أن تنقذنا من التهاون فى حياتنا الروحية. ولنعلم إذن أن خطايانا تُسجل ، وأيضًا ما نقوله هنا فى الحال يُكتب هناك . لكن من أين عرفنا هذا ؟ لأنه ليس من اللائق أن نتكلم باستخفاف فى أمور هكذا . يقول ملاخى لليهود ” لقد أتعبتم الرب بكلامكم” وبأى طريقة ؟ يقول “بقولكم كل من يفعل الشر فهو صالح فى عينى الرب” (ملاخى17:2). هذه الكلمات هى أقوال عبيد ينكرون المعروف ومع هذا فقد قبلهم الله إذ يقول الكتاب إنه قَبِل هؤلاء الذين لم يخدموه بل قالوا عنه ” عبادة الله باطلة وما المنفعة من أننا حفظنا شعائره وأننا سلكنا بالحزن قدام رب الجنود والآن نحن مطوبون المستكبرين ” (ملاخى14:3ـ15)، أى يقولون إنهم طوال النهار يعملون وآخرين يتمتعون بالخيرات . مثل هذه الأقوال يرددها العبيد دائمًا أمام سادتهم . وأن يقولها إنسان لإنسان آخر مثله ، فهذا أمر ليس بهذه الخطورة ، أما أن يقول شخص مثل هذه الكلمات لرب الكون كله ـ الذى هو رحيم ومحب البشر ـ فهذا أمر خطير فعلاً ويفوق كل حكم ويستحق أشد العقاب. لكن لنعلم أن هذه الأقوال تُدون ، أسمع ما يقوله النبى “والرب أصغى وسمع وكتب أمامه سفر تذكرة للذين اتقوا الرب وللمفكرين في اسمه” (ملاخى16:3). وهذه الأقوال تُدون، لا لأن الله سيذكّرنا باليوم الذى قلناها فيه لكن لكى يحضر لنا السفر كشهادة علينا لإدانتنا .
ربما أكون قد أثرت مشاعر الخوف فى نفوسكم ، وليس فقط نفوسكم بل بالحرى فى نفسى أنا أولاً أيضًا. وهيا لأختم عظتى، بل بالحرى لأوقف الخوف، والأفضل من ذلك، أنى لا أوقف الخوف فقط، بل أتكلم بكلمات معزية لنفوسكم. لأنه حتى إن بقى الخوف، فليبق ليطهر ولينقى نفوسنا، ولنجعله أكثر احتمالاً. فكيف سنستطيع إذن أن نحدّ من هذا الخوف؟ إن نحن بيّنا أن الخطايا لا تُدون فقط لكنها أيضًا تُمحى. ففى المحاكم هنا تدون الأقوال التى يُدان بها المتهم، فى صحائف فورًا، ولا يمكن أن تُمحى هذه الأقوال بعد ذلك . أما فى ذلك السفر حتى وإن فعلت بعض الشرور وأردت أن تمحى فإنها تُمحى .
ومن أين نعرف هذا ؟ من الكتاب المقدس إذ يقول ” استر وجهك عن خطاياى وامح كل آثامى ” (مز9:51). ولن يستطيع شخص أن يمحو شيئًا لم يُكتب وبالتالى إذا كانت هذه الآثام قد دونت، فالآن هو يصلى أن تُمحى.
وشخص آخر يعلّم كيف تُمحى هذه الآثام فيقول ” بالرحمة والحق يستر الإثم ” (أم6:16). فهى لا تُشطب فقط بل تُمحى تمامًا حتى أنه لا يتبقى لها أثر. وليست الخطايا التى عملناها بعد المعمودية فقط هى التى تُمحى ؛ بل والتى عُملت قبلها أيضًا . فكل الخطايا قد مُحيت بمياه المعمودية وبصليب المسيح. تمامًا كما يقول الرسول بولس ” إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًا لنا وقد رفعه من الوسط مسمرًا إياه بالصليب ” (كو14:2). أرأيت كيف أن ذلك الصك قد مُحى ولم يُمح فقط بل قد تمزق إذ مزقته مسامير الصليب ، فأصبح بلا قيمة .
فتلك الخطايا قد انمحت كلها بنعمة وقوة المسيح الذى صُلب عنا لأجل محبته لنا، أما خطايانا نحن بعد المعمودية فإنها تحتاج إلى جهاد عظيم لكى نتطهر منها، وإذ لا توجد معمودية ثانية، بل يتم ذلك بدموعنا، بتوبتنا، بأعمال الرحمة، بالصلاة وبكل سبل التقوى. وهكذا فبعد المعمودية تتنقى الخطايا بكثير من الجهد وبكثير من التعب. فلنحاول إذن بكل طريقة أن نتطهر منها فى هذه الحياة (هنا) حتى نفلت من الخجل والعقاب فى الدهر الآتى (هناك). لأنه وحتى إن كنا قد فعلنا خطايا لا تحصى، فإننا إن أردنا، نستطيع أن نلقى عنا كل حمل هذه الخطايا . فلتكن لنا هذه الإرادة إذن، لأنه من الأفضل جدًا أن نتعب قليلاً هنا وأن نعتق من العقاب الشديد بدلاً من أن نهمل أثناء فترة حياتنا القصيرة ونعبر إلى ذلك العقاب الأبدى .
7 ـ والآن قد حان الوقت لنلخص ما قلناه: نلوم هؤلاء الذين يأتون إلى هنا مرة واحدة فى السنة (فى العيد) لأنهم يقبلون أن يعّروا أمهم (الكنيسة). وذكّرناهم بحدث قديم، ببركة ولعنة. تحدثنا عن أعياد اليهود ولماذا أعطاهم الرب وصية أن يظهروا أمام الرب ثلاث مرات فقط فى العام . وقلنا أن أعياد الخمسين والقيامة والظهور الإلهى هى أعياد دائمة . وشرحنا كيف أن العيد يُحتفل به بقلب نقى وليس بتحديدات زمنية .
وبعد ذلك كان حديثنا عن العطايا التى أتت إلينا من السماء وبيّنا أنها دليل على المصالحة بين الله والإنسان . وأثبتنا أن الروح القدس هو العامل فى غفران الخطايا، فى جوابنا على قول الكاهن فى الصلاة ” السلام لجميعكم “، وفى كلام الحكمة (الإلهية) ، فى معرفتنا (لله) ، فى السيامات ، وفى الذبيحة السرائرية . وقلنا إن المسيح كباكورة لنا هو عربون، والروح القدس هو ضمان . ثم ذكرنا الأسباب التى من أجلها لا تحدث معجزات الآن . وبعد ذلك ذكّرناكم بالدينونة وبالأسفار التى ستُفتح وأن كل خطايانا تُدون ، كما بيّنا أنه لو أردنا فإن هذه الخطايا يمكن أن تُمحى أيضًا .
فلتتذكروا كل هذا إذن ، وإن كان من الصعب تذكرها جميعًا ، فعلى الأقل فلتتذكروا الكلام عن تلك الأسفار (التى تُدون فيها الخطايا). وبكل ما سوف تجيبون به وكأنكم أما شخص يدون ما تقولونه ، لذلك فليكن كلامكم بحذر ولتذكروا دائمًا ما قد قيل. حتى أن من كانت أسمائهم مسجلة فى سفر الأبرار يجاهدون بالأكثر، ومن كانت لديهم خطايا مدونة عليهم، يتطهرون منها هنا على الأرض بدون أن يعرف أحد ، حتى يتجنبوا التشهير بهم فى يوم الدينونة. لأنه، وحسبما بيّنا أنه من الممكن حقيقة أن نمحو بالصلاة والتقوى والجهاد كل الخطايا المدونة علينا .
ولنهتم كل لحظة لكى نستطيع الحصول على الغفران الآن حتى أننا عندما نذهب إلى الحياة الأخرى، نتجنب كلنا العقاب الشديد ، ولنأمل أن نكون مستحقين لملكوت السموات بنعمة ربنا يسوع المسيح ومحبته للبشر الذى له المجد والقوة مع الآب والروح القدس ، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور . آمين.
3 ويقصد به الأسقف فلافيوس ، أسقف مدينة إنطاكية.
4 ويقصد الطبيعة البشرية فى شخص المسيح. أنظر القداس الغريغورى “أصعدت باكورتى إلى السماء ” .