تفسير رسالة2 تيموثاوس ص4 ج2 – ق. ذهبي الفم
المقالة التفسيرية العاشرة
“بادر أن تجئ إلىَّ سريعاً لأن ديماس قد تركني إذ أحب العالم الحاضر وذهب إلى تسالونيكي، وكريسكيس إلى غلاطية، وتيطس إلى دلماطية، لوقا وحده معي. خذ مرقس وأحضره معك لأنه نافع لي للخدمة، أما تيخيكس فقد أرسلته إلى أفسس. الرداء الذي تركته في تراوس عند كاربس أحضره متى جئت والكتب أيضاً ولاسيما الرقوق”
(4: 9……… الخ)
التـــحـــليــل
1-قبل أن يدخل القديس بولس في العذابات الأخيرة دعا تلميذه تيموثيئوس ليحضر إليه ليعطيه تعليماته الأخيرة. القديس لوقا كان بجانبه بالحق.
2-يقول القديس بولس إن الله خلصه من فم الأسد، ويقصد بهذا الأسد الإمبراطور نيرون.
3-الرسل لم يستطيعوا أو لم يتحكموا في شفاء كل الأمراض. لا يجب النظر للرسل ككائنات فوق البشر.
1-قبل أن يدخل القديس بولس في التعذيب دعا تلميذه تيموثيئوس لكي يكون بجانبه ليعطيه تعليماته الأخيرة، والقديس لوقا البشير كان بجانبه في السجن.
يجب أن نتساءل لماذا استدعى القديس بولس تيموثيئوس ليكون بجانبه مع أن تيموثيئوس كان مشغولاً بإدارة الكنيسة ومسئولاً عن الرعاية كلها؟ لم يسلك القديس بولس هذا السلوك بدافع الأنانية أو الكبرياء، لأنه في رسالته الأولى له أبدى استعداده للذهاب بنفسه ليقابل تلميذه قائلاً له: “ولكن إن كنت أبطئ فلكي تعلم كيف يجب أن تتصرف في بيت الله” (1تي 3: 15).
فما هو السبب إذن في استدعائه؟
إن الرسول إذا كان معتقلاً في السجن بأمر من نيرون، ولم تكن له حرية التنقل، وكان مشرفاً على الموت، لم يرد أن يموت دون مشاهدة تلميذه الذي كان يلزم أن يعطيه تعليمات هامة ليقوم بها، لهذا يقول له: “بادر أن تجئ قبل الشتاء” (2تي 4: 21).
“لأن ديماس تركني إذ أحب العالم الحاضر”. لم يقل بادر أن تجئ قبل موتي لأن هذه العبارة كانت ستحزن تيموثيئوس جداً، بل قال: تعال إلىَّ لأني وحدي ولم أجد من يبقى معي “لأن ديماس تركني إذ أحب العالم الحاضر وذهب إلى تسالونيكي”، هو فضل الحياة السهلة في بيته من أن يتعذب معي، والقديس بولس يتكلم متضرراً من ديماس ليس ليشنع به وبسمعته، بل ليقوينا نحن خوفاً من أن نضعف إذ تعرضنا للتجارب. هذا ما تعنيه عبارة “أحب العالم الحاضر”، أيضاً أراد القديس بولس بهذا أن يحدث تلميذه بصورة أقوى على الحضور ليراه.
“وكريسكيس إلى غلاطية، تيطس إلى دلماطية” لم يتكلم الرسول عن هؤلاء متضرراً، لأن تيطس كانت له فضائل عجيبة ومواهبه التي من أجلها أسند له القديس بولس رعاية الكنيسة بجزيرة كبيرة هي جزيرة كريت.
“لوقا وحده معي” لا يمكن أبداً الفصل بين القديس لوقا والقديس بولس، فهو الذي كتب الإنجيل الذي يحمل اسمه، وأيضاً هو الذي كتب سفر أعمال الرسل، وكان محباً للعمل والتعليم، وكان له صبر عجيب، وهو الذي قد قال عنه الرسول بولس “يُمدح من كل الكنائس بسبب الإنجيل” (2كو 8: 18).
“خذ مرقس وأحضره معك”
لـــمـــاذا؟
“لأنه نافع للخدمة” لم يقل لراحتي وخدمتي بل “للخدمة”، خدمة الإنجيل. مع أنه كان سجيناً إلا أنه لم يتوقف عن الكرازة والخدمة، ولهذا السبب أراد حضور تيموثيئوس، لصالح خدمة الإنجيل وليس لأي مصلحة خاصة بالرسول بولس. وحتى لا يستولى أي خوف على المؤمنين عند موته قصد أن يتواجد تلاميذه لتعزية المؤمنين ولإبعاد روح الحزن والقلق عنهم بسبب موته.
أني أتصور أن هناك أشخاص عظماء كانوا قد قبلوا الإيمان في روما.
“أما تيخيكس فقد أرسلته إلى أفسس. الرداء الذي تركته عند كاربس أحضره متى جئت والكتب أيضاً ولا سيما الرقوق” (12، 13).
الذي يسميه هنا “الرداء” يقصد به الثوب الذي كان يلبسه، والبعض يقول إنها كانت حقيبة توضع فيها الكتب.
ولكن ما هي حاجته للكتب وهو في طريقه للظهور أمام الله؟
كانت حاجته شديدة لهذه الكتب ليوصي بها المؤمنين لكي يحفظوها لتحل محل تعليمه لهم. إن موته كان صدمة قاسية على المؤمنين الذين كانوا يشهدون له ويستمتعون بوجوده معهم، لقد طلب الرداء لكي لا يحتاج إلى أن يقترض رداءً من أحد. وهذا المبدأ كان يتمسك به للغاية. فهو الذي قال مخاطباً أهل أفسس: “أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي قد خدمتها هاتان اليدان” (أع 20: 34) ويقول في نفس الأمر “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ” (أع 20: 35).
“إسكندر النحاس أظهر لي شروراً كثيرة، ليجازيه الرب حسب أعماله” (ع 14).
هنا يتكلم القديس بولس أيضاً عن الاضطهادات التي واجهها ليس لكي يشكو إسكندر هذا، ولا لكي يشهر به، وإنما لكي يشجع تلميذه على احتمال مثل هذه الاضطهادات بنفس الشجاعة أياً كان مصدرها، وإن كان عزاؤه سيكون أوفر بكثير إذا عُذب وأمتهن من شخص قوي ذي سلطة عما إذا عذب من شخص حقير، إذ سيكون شعوره حينئذ بمرارة المهانة أكثر وأقسى.
“اظهر لي شروراً كثيرة” أي كدرني بطرق كثيرة، لكنه لن يترك بدون عقاب، إذاً إن الرب سيجازيه حسب أعماله، وقد قال فيما سبق “أية اضطهادات احتملت ومن الجميع أنقذني الرب” (2تي 3: 11). هنا أيضاً يعطي تلميذه عزاء مزدوج: الأول هو أن هذه الآلام التي قد نالها ظلماً، والوجه الثاني هو أن الذين أوقعوا به هذه الآلام سوف يجازيهم الرب حسب أعمالهم. ليس معنى ذلك أن القديسين يفرحون لعذابات الأشرار، ولكن الالتزام بالكرازة يتطلب مواساة الضعفاء وتعزيتهم حتى يتشددوا.
“فاحتفظ منه أنت أيضاً لأنه قاوم أقوالنا جداً” (ع 15)
قاومها بالجهاد ومحاولة إثارة كل العالم ضدها. أنه لم يقل لتيموثيئوس أن يعاقب هذا الإنسان أو يضطهده، بل يعامله بالقدر الذي تعطيه إياه النعمة. يقول له احتفظ منه أنت وأترك لله المجازاة التي يجازيه بها، ويقول لتعزية الضعفاء “ليجازيه الرب حسب أعماله”. أنها عبارة تحمل معنى التنبؤ بمجازاة الرب وعقوبته لذلك الشخص. يتكلم هكذا ليشجع تلميذه، ولنسمع أيضاً القديس بولس حينما يتكلم عن اختباراته الشخصية ليقول:
“في احتياجي الأول لم يحضر أحد معي بل الجميع تركوني، لا يحسب عليهم”
تعجبوا يا أخوتي من هذا اللطف الذي يتكلم به الرسول عن أصدقائه الذين تركوه وقت الشدة مسببين له آلاماً. يوجد فارق كبير بين أن يُترك الإنسان من الغرباء، ومن أن يُترك من الأحباء، لذلك قد فاض به الحزن لأنه لم يجد العزاء في مشاركة أحبائه له في وقت الشدة.
“الكل تركوني” هذه الإساءة لم تكن خطورتها بسيطة. فإذا كان الجندي الذي يتخلى عن مساندة قائدة في مواجهة أخطار الحرب ويخونه بهروبه أثناء ضربات العدو يحق له الجزاء والعقوبة. فلماذا لا ينطبق هذا في ساحات الكرازة؟
ولكن ما هي تلك المرة الأولى التي أبدى فيها القديس بولس احتجاجه؟
كان قد استدعى أمام نيرون وخرج منتصراً سعيداً بعد هذا الاستدعاء، ولكن حدث بعد ذلك أنه هدى للإيمان المسيحي ساقي الإمبراطور، الأمر الذي جعل الإمبراطور يأمر بأن يقطع رأس هذا الساقي.
“ولكن الرب وقف معي” (ع 17) هذه تعزية أخرى لتلميذه، لأن الله يقف دائماً بجانب من تركه أهل العالم.
يقول القديس بولس “وقواني” أي أعطاني الجرأة ولم يتركني لضعفي، ليس لأني جدير بهذه النعمة، بل لأتمكن من إتمام الكرازة “لكي تتم بي الكرازة”.
تعجبوا من تواضع هذا الرسول العظيم! فهو يقول “قواني” لأقوم بإتمام الكرازة التي أنا مكلف بها من قبله، كما لو كان هو الشخص الذي يحمل تاج الملك ويلبس أرجوانه حتى يخلص بهذه العلامات من الخطر. “ويسمع جميع الأمم” أي لكي يصل نور الإنجيل لجميع الناس ويعرف الكل أن الرب يحرسني ويسهر علىَّ.
“فأنقذت من فم الأسد”
“وسينقذني الرب من كل عمل رديء” (ع 18)
تأملوا كيف كان الرسول قريباً جداً من الموت، إذ قد وصل تقريباً من فم الأسد، وهذا هو اللقب الذي أعطاه لنيرون نظراً لوحشيته وقساوته. يقول الرسول: “الرب أنقذني وسينقذني” كيف؟ فإذا كان الرب سينقذه فكيف يقول: “فأني الآن أسكب سكيباً”؟ لاحظوه وهو يقول: “أنقذني من فم الأسد وسينقذني” أي ليس من فم الأسد فقط.
مما إذن سينقذه؟
“من كل عمل رديء”.
سوف ينقذني الله من كل خطر بعد أن أكون قد أكملت ما هو ضروري لبشارة الإنجيل، سوف ينقذني الرب من كل خطية، لن يسمح لي الرب بخروجي من هذا العالم ملوثاً، بل سوف يهبني قوة مقاومة الشر والخطية حتى الدم، فأنقذ من أسود أخرى أكثر وحشية وهو الشيطان، هذا الإنقاذ الأخير هو الروحي، والأهم والذي لا يقارن بالأول الذي ينقذنا الله منه بالموت الجسدي.
“ويخلصني لملكوته السماوي الذي له المجد إلى دهر الدهور آمين” إننا لا نحصل على سلامنا الحقيقي إلا عندما نضئ بالمجد في الملكوت الإلهي.
ما معنى “ويخلصني لملكوته؟” يعني أنه يحفظني من كل خطأ في إقامتي في هذا العالم الذي ينبغي أن أموت عنه تماماً لأجل هذا الملكوت: “من يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية” (يو 12: 25).
“الذي له المجد إلى دهر الدهور آمين” وهذه هي ذو كصولوجية الابن.
“سلم على فرسكا وأكيلا وبيت أنيسيفورس” الذي كان وقتذاك في روما، كما لاحظنا في مقدمة الرسالة قوله:
“ليعط الرب رحمة لبيت أنسيفورس الذي لما كان في رومية طلبني بأوفر اجتهاد، ليعطيه الرب أن يجد رحمة من الرب” إن القديس بولس بتبليغ سلامة بهذه الكيفية يحث كل عائلته على السير على خطوات رب العائلة.
“سلم على فرسكا وأكيلا” يتكلم القديس بولس دائماً عن هذين الشخصين الذين كان قد أقام عندهما، هنا نلاحظ أنه يذكر الزوجة قبل الزوج، ويبدو لي أنها كانت أكثر حماساً وإيماناً، فهي التي كانت قد أخذت بولس عندها، أو أنه يدعوهما هكذا بلا أي قصد. وهنا كانت تعزيته بالنسبة لهما ليست قليلة، بل كانت علامة على الحب والتقدير، وفي نفس الوقت محاولة للثناء وتقديم شكره لهما. ولم يكن لدى الرسول الطوباوي الكريم والعظيم ما هو أعظم من السلام الذي يعطيه مصحوباً بشكره لمن يراسله.
“أراستس بقى في كورنثوس، أما تروفيموس فتركته في ميليتس مريضاً”
لماذا لم تشفه أيها الرسول القديس؟ لماذا تركته؟
الرسل لم يتمكنوا من أن يفعلوا كل شئ، أو بالأحرى لم يريدوا الإسراف في النعمة التي أؤتمنوا عليها في كل حالة تقابلهم لئلا ينظر إليهم أنهم فوق مستوى البشر. نلاحظ ذلك بالنسبة لأبرار العهد القديم. موسى مثلاً، كان ثقيل اللسان، لماذا لم يتمكن من الخلاص من هذا العيب؟ كان معرضاً للحزن وللضعف، وهو لم يدخل أرض الموعد!
3-الرسل لم يستطيعوا أو لم يتحكموا في شفاء كل الأمراض
وهكذا رأينا أن الرسل لم يتحكموا أو بالأحرى قصدوا ألا يشفوا كل الأمراض عند جميع الناس، وهكذا سمح الله لهم وللقديسين جميعاً لكي يظهر فيهم ضعف الطبيعة البشرية، لأنه لولا هذه العيوب وهذا الضعف الذي ظهر منهم، لما تورع اليهود الأغبياء عن القول: أين هو موسى هذا الذي أخرجنا من أرض مصر؟ وكيف ستكون مشاعرهم تجاهه لو دخل بهم أرض الموعد؟ لو كان الله لم يسمح بارتباك موسى قبل مثوله أمام فرعون لكانوا اتخذوه كإله. ألم نر كيف أن سكان لسترة أرادوا تقديس بولس وبرنابا بسبب معجزة شفاء المقعد من بطن أمه حتى مزق الرسولان ثيابهما واندفعا إلى الجمع صارخين قائلين : “أيها الرجال لماذا تفعلون هذا، نحن أيضاً بشر تحت الآلام مثلكم” (أع 14: 14). وأيضاً القديس بطرس لما رأى اليهود قد ارتعبوا من معجزة شفاء الأعرج من بطن أمه قال لهم أيضاً: “أيها الرجال الإسرائيليون ما بالكم تتعجبون من هذا، ولماذا تشخصون إلينا كأننا بقوتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي” (أع 3: 12).
اسمعوا أيضاً الرسول يقول: “لئلا ارتفع من فرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد” (2كو 12: 7). قد يقال أن لتواضعه يتكلم هكذا، كلا لم تعط للرسول هذه الشوكة لكي يتواضع فقط، بل هناك أسباب أخرى. لاحظوا أن الله عندما أجابه لم يقل له: “تكفيك نعمتي حتى لا ترتفع، بل قال له “قوتي في الضعف تكمل” وهذا السلوك الذي يسلكه الله مع أصفيائه له فائدته.
فالمعجزات كانت تتفجر أمام أعين الجميع، والله كان يسندهم. لهذا يقول الرسول في موضع آخر “لكن لنا هذا الكنز في أواني خزفية ليكون فضل القوة لله لا منا” (2كو 4: 7). أي أننا بأجسادنا سريعي الانهيار وقابلين للتلف وللكسر، ولكن لماذا قصد الله ذلك؟
قصده حتى لا تُنسب لنا هذه القوة الكبيرة التي تظهر في أعمالنا، بل تُعرف أنها ليست منا ولا تخصنا، بل من الله وتخص الله، وهكذا قصد لأجسادهم أن تحمل الضعف بل والعاهات حتى لا تنسب إليهم المعجزات التي كانوا يجرونها. وأيضاً نرى في مكان آخر أن القديس بولس كان حزيناً لمرض أحد تلاميذه، وفي كلامه عن أبفرودتس يقول أنه كان مريضاً ومشرفاً على الموت ولكن الله قد تعطف عليه.
وأيضاً نرى أن هذا الرسول العظيم قد جهل أموراً كثيرة تتعلق به وبتلاميذه.
“وأما تروفيموس فتركته في ميليتس” وهي بلدة قريبة من أفسس. الرسول ترك تلميذه عندما توجه عن طريق البحر إلى اليهودية. وربما في وقت آخر. وبعد إن كان الرسول في روما سافر إلى أسبانيا. ولكننا نراه هنا وحيداً ومتروكاً من الجميع إذ يقول: “ديماس تركني، كريسكيس ذهب إلى غلاطية، وتيطس إلى دلماطية، أراستوس بقى في كورنثوس، وأما تروفيموس فتركته في ميليتس مريضاً”
“بادر أن تجئ قبل الشتاء يسلم عليك أفبولس وبوديس ولينس وكلافدية والأخوة جميعاً”.
ومن المعروف أن ليس كان بعد القديس بطرس الأسقف الثاني لكنيسة روما. يذكر الرسول هنا كلافدية لأنها كانت من السيدات الفضليات، والمتوقدات مثل بريسكيلا، اللاوتي صلبن أنفسهن واستعددن للآلام، وقد ذكرهما بالذات دون باقي السيدات لأنهما بلا شك كانتا على مستوى من التربية الروحانية والتسامي على أمور هذا العالم، تلمعان بالفضائل وسبط كل التلاميذ. أنها هبة كبيرة من الله للمرأة ألا تقف طبيعتها عقبة أمام الفضائل، فإن كانت المرأة بطبيعتها ليس لها نصيب في الأعمال الإدارية فإن لها نصيب عظيم في أعمال منزلها وتربية أولادها. أما عن دورها في الروحانيات فهو لا يقل أبداً عن دور الرجل. وكم رأيناها لم تحرم من مجد الاستشهاد، والكثيرات منهم كُللن بأكاليل بهية من أجل الإيمان، بل واستطعن أن يحفظن عفتهن أكثر من الرجال لأنهن لا يندفعن بدافع الشهوات ووهجها العنيف. أيضاً يمكنهن ممارسة حياة البساطة والتواضع وسهولة الوصول إلى حياة القداسة التي بدونها لن ير أحد الرب (عب 12: 14).
“بادر أن تجئ قبل الشتاء” حتى يحول الجو الرديء دون حضورك.
“يسلم عليك أفبولس وبوديس ولينس وكلافدية والأخوة جميعاً” لم يذكر الآخرين فهو قد منح هذا الشرف للذين يستحقونه من أجل فضائلهم.
“الرب يسوع المسيح مع روحك” (ع 22)
ليست هناك تحية أعظم من هذه يقول له: لا تحزن لأنني سأموت قريباً، الرب معك. لكنه لا يقول له ببساطة “معك” وإنما يقول: “مع روحك” يطلب له المعونة الروحية المضاعفة. إن نعمة ومعونة الروح القدس لروح الإنسان هي نعمة ومعونة الله نفسه.
الله لا يمكن أن يكون معنا دون وجود الروح القدس، فإذا تركنا الروح القدس كيف يكون الله معنا؟
“النعمة معكم آمين” الرسول يقول أنه يجب علينا أن نعمل دائماً على أن نحوز رضاء الله كي ما تكون لنا نعمة وهباته، وتكون حياتنا بدون مشقات، إن الذي يتمتع برؤية الأمير ويحصل على نعمة، لا يشك في شئ ولا يقلق. فإذا تركنا من أصدقائنا أو وقعنا في خطر فلا نبالي بأي شئ طالما النعمة معنا تحوطنا بحمايتها.
الموعظة العاشرة
1-أحسن وسيلة لفائدتنا هي الانشغال بأعمال الله
فكيف نوفق للحصول على هذه النعمة؟ بالعمل والسلوك بما يرضى الله وبطاعته في كل شئ. في بيوت السادة نجد الذين يحوزون على نعمة أكبر من سيدهم، هم الذين ينسون أنفسهم مهتمين بأعمال خدمة سيدهم من كل قلبهم وبكل اجتهاد وحرارة. يضعون كل شئ في وضعه الحسن ليس خوفاً أو تنفيذاً للأوامر، وإنما بإرادة حسنة وحب. عيونهم دائماً ساهرة وشاخصة إلى ما يخص سيدهم وما يرضيه، وليس لهم مصلحة خاصة مطلقاً. الخادم الذي يسلك هكذا وبهذه المشاعر يكون عنده الشعور بأن كل ما يملكه سيده كأنه ملك خاص له. وفي إدارته لممتلكات سيده وعقاراته يعطي تعليماته كممتلكات خاصة به وملكه هو. وكل الخدم الآخرين يحترمونه، وسيده يؤيده في كل ما يقوله وما يفعل، فإذا كان الأمر هكذا في أمور هذا العالم كل من يهمل مصالحه الخاصة وسيهتم بأمور سيده، هو في الواقع لا يهمل أعماله ومصالحه، بل يرقى بها ويحققها له الله على أحسن وجه.
إذن فلتحتقروا مالكم لكي ما تحصلوا على ما هو من الله. الله نفسه يأمركم بذلك. احتقروا الأرض كي تربحوا السماء. عيشوا حياة الروح والقلب، ولا تتعلق أفكاركم بالأرض. اهتموا بالروحيات وليس بالماديات فتصيروا مرهوبين، لا يخشاكم الناس فقط بل والشياطين أيضاً.
أما إذا أردتم مهابة الناس وخشيتهم منكم وتعظيمهم لكم من أجل ثرائكم فسوف تكونون محل احتقار الشياطين والناس. إن ما تريدون الحصول عليه هنا في الأرض ما هو إلا مكافأة حقيرة ورديئة، أناشدكم أن تحتقروا كل هذا لتكونوا عظماء في قصر أبيكم السماوي.
هذا يا أخوتي ما فعله الرسل، احتقروا منازلاً، ازدروا بكل مقتنيات هذا العالم، وعاشروا مجتهدين كيف يديرون ويصدرون أوامرهم في ممتلكات ربهم وسيدهم، وبكل قوة يأمرون بسلطان سيدهم ليتخلص هذا من مرضه وذاك من شيطان قد دخله، يربطون هذا ويحلون ذاك. كل ما يحدث في الأرض يُصدق عليه في السماء “كل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء” (مت 18: 18). يسوع المسيح أعطى سلطاناً كبيراً لخدامه لكي يشابهوه، وقد حقق ما قاله: “من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو وأيضاً يعمل أعظم منها” (يو 14: 12). لأن ما يعمله الخدام يرجع إلى سيدهم، مثلما يحدث بين البشر إذ نرى أنه كلما كان الخدام أقوياء كلما كان سيدهم موقراً ومعتبراً.
وقد يقال إذا كانت هذه هي قوة الخادم الأمين، فكيف تكون قوة السيد مع خادمه المهمل الخائن؟ إذا كان الخادم هكذا مهملاً وخائناً في خدمة سيده، ولا يفكر إلا في نفسه وفي زوجته وأولاده، ويسعى دائماً ليغتني هو، فيسرق وينهب من خيرات سيده. أليس واضحاً أنه سيضيع هو أخيراً مع ثرواته التي حصل عليها زوراً وباطلاً؟
يا أخوتي ليت هذه الأمثلة توقظنا وتمنعنا من البحث عن مصالحنا الخاصة، وتحثنا أن نحتقرها، وذلك حتى نقدر أن نحصل عليها في أمان وبفائدة أكثر لأننا أهملناها نحن فالله سيهتم بها ويدبرها وأما إذا اهتممنا بها نحن فالله حينئذ سيهملها.
فلنعمل إذن فيما يخص الله وليس فيما يخصنا نحن، طالما أن الذي يخصه هو يخصنا نحن، لا نتكلم عن الأرضيات ولا نعمل فيما هو للماديات والعالميات، فكل هذه الاهتمامات ليست لائقة بنا نحن المؤمنين، وإنما تخص الغير مؤمنين، ما هي يا ترى تلك الخيرات التي قلت عنها أنها تخص الله وبالتالي تخصنا نحن؟ هي المجد الأبدي والملكوت السماوي.
إن القديس بولس يؤكد لنا قائلاً: “إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضاً معه” (2تي 2: 11)، “إن كنا نصبر فسنملك أيضاً معه، وأيضاً فإن كنا أولاد فإننا ورثة أيضاً” (رو : 17). لماذا ننخفض إلى الأرض، والله يريد أن يرفعنا إلى السماء؟
إلى متى نظل بإرادتنا في فقرنا وبؤسنا؟
الله يعرض علينا السماء، ومع ذلك فأن أعيننا ورغباتنا لا تتجه إلا إلى الأرض.
الله يقدم لنا ملكوت السماء، ونحن نتجه إلى فقر الأرض.
يقدم لنا البيت السماوي، ونحن نفني ذواتنا في تراب وطوب وخشب الأرض.
تريد أن تصبح غنياً!! أنا لا أمنعك عن هذا، أعمل، أربح، أبدع، لا عيب في ذلك، لكن يوجد ربح نحن نذنب في عدم البحث عنه، بينما توجد سرقة بعد الامتناع عنها خطية! ما معنى ذلك.
يقول المخلص: “ملكوت السماوات يغتصب والغاصبون يختطفونه” (مت 11: 12). في هذا المجال لتكن مغتصباً عنيفاً، إن ما تغتصبه من هذا النوع لن يكون ناقصاً أبداً، فكما أن الفضيلة لا تُقسم كذلك التقوى وملكوت السماوات.
الفضيلة تنمو وتزيد باغتصابها بعكس الخيرات الجسدية. افترض أن مدينة بها 10000مواطن. ولو اغتصبوا كلهم البر والفضائل، فستنمو المدينة وتزدهر أضعافاً مضاعفة، على العكس تقاعسوا في هذا، فستسير مدينتهم إلى الانحدار.
2-ملكوت السماوات لا يعطى إلا للأقوياء.
هل تفهمون أن الخيرات الحقيقية تتضاعف بالسعي ورائها واغتصابها، أما الخيرات الزمنية فتتناقص؟ فليتنا لا نتراخى حتى لا نبقى فقراء بل نسعى لغني أنفسنا وأثراء أرواحنا.
إن ثراء الله يتضح بتوافر الأعداد الكبيرة التي ستستمتع بملكوته.
“غنياً لكل الذين يدعون به” (رو 10: 12). فزيدوا إذن من ثراء الله ومن ثروته بزيادة اغتصابكم لملكوته، وبزيادة جهادكم المتواصل لتربحوه، لماذا؟ لأنه توجد عقبات كثيرة يلزمكم التغلب عليها: النساء الأولاد، الهموم الزمنية، وأيضاً أجناد الشر الروحية ورئيسهم إبليس. لذلك يلزم الصراع هنا والصمود والمثابرة، فالذي يصارع يحيا حياة المشقة واحتمال الآلام والجهاد. إذا كان المصارعون يجاهدون حتى إلى بلوغ المستحيل، أفلا نجاهد نحن لنبلغ على الأقل ما هو في الإمكان لنحصل على نصيبنا من الخيرات السماوية الشهية؟ إن تعبير “الغاضبون يغتصبون الملكوت” يحفزنا أن نسرق السماء بكل قوة ممكنة وبكفاح، إذ لن نربحها بدون مشقة والمغتصب عادة ما يكون يقظاً ومتحفزاً ومقتنعاً تماماً بما سيغتصبه.
الذي يريد أن يحصل على بعض الغنائم في الحرب يسهر طوال الليل، فإذا كان لأجل اغتصاب خيرات هذا العالم يسهر هكذا الليل كله مسلحاً، فكم وكم إذا أردنا نحن اغتصاب الأمور التي هي أعظم بما لا يقاس؟ والأصعب في اقتنائها والأشهى في نوالها، أعني الخيرات الروحية.
كيف نتهاون ونحيا غافلين وغير مسلحين؟
إن الذي يعيش حياة الفتور، وحياة الخطية هو إنسان أعزل لا يملك سيفاً ولا درعاً، أما إنسان البر، إنسان الله، فهو مسلح من فمه رأسه إلى أخمص قدميه.
الصدقة مثلاً هي من أقوى أعمال البر، ومع هذا فإننا لا نرتديها كسلاح، كما إننا لا نحمل مشاعلنا مضيئة ومعده، ولا نزود أنفسنا بأسلحة روحية لنسير بها في طريق الجهاد المؤدي إلى السماء. ولذلك فنحن بحياتنا المتخاذلة هذه لا نغتصب نصيبنا في ملكوت السماوات.
الذي يكافح ليتوج بتاج أرضى تهون عليه المخاطرة حتى الموت، ونراه دائماً مسلحاً ومتأهباً للجهاد، أما نحن فنريد أن نغتصب تاج السماء ومجدها ونحن نيام متراخون!
دققوا النظر في المصارعين والمغتصبين القدماء كيف كانوا يركضون مسرعين غير مبالين بكل ما يعترض طريقهم بل يزيلونه متقدمين في مسيرتهم دائماً.