تفسير رسالة2 تيموثاوس ص2 ج3 – ق. ذهبي الفم
المقالة التفسيرية السادسة
“ولكن في بيت كبير ليس آنية من ذهب وفضة بل من خشب وخزف أيضاً وتلك للكرامة وهذه للهوان. فإن طهر أحد نفسه من هذه يكون إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح”
(2: 20،21 ……… لأخر الأصحاح)
التــــحــلـــيل
1-لماذ1 يعذب الله الأشرار أثناء حياتهم، ولماذا لا يبيدهم؟
2-خادم الله يجب أن يمتنع عن النزاع.
1-لماذا يعذب الله الأشرار أثناء حياتهم، ولماذا لا يبيدهم؟
سؤال يدور في عقول الكثيرين ويأتي الرد عليه في عدة أسباب: منها على سبيل المثال: أن الله يريد هدايتهم، أو يريد بعقابهم أن يكونوا عبرة للآخرين.
وهنا القديس بولس يأتي بتفسير مقبول فيقول: “ولكن في بيت كبير ليس آنية من ذهب وفضة فقط بل من خشب وخزف أيضاً” وبهذا يعني أنه كما أن في منزل كبير لابد من وجود عدة أنواع من الأواني كذلك في العالم توجد أنواع مختلفة من الناس.
أما الكنيسة فهي قائمة وقوية لأنها جسد المسيح نفسه، الكنيسة عذراء طاهرة ليس بها تلوث قط، ولا تضعف ولا تفتر من وجود هذه الأواني الخشبية والخزفية.
يريد الرسول القول: “لا تضطربوا لوجود أشرار آثمة”.
قد تقولون كل هذه الأواني، ليست متساوية في الكرامة، فالبعض للاستعمال المشرف، والآخر للاستعمال المخجل.
أجل. ومع ذلك مهما كانت هذه الأواني خسيسة فهي لا تتخلى عن التمسك بمكانها واستعمالاتها في هذا البيت الكبير. هكذا يستخدم الله الخطاة بما يناسبهم.
على سبيل المثال: يوجد الشخص الذي يهوى المجد فيشيد القصور الشاهقة، كما يوجد صاحب الحانة. كل منهم له دور يقوم به في العالم. أما الآنية الذهبية فيقتصر استعمالها على مائدة الأمير فقط.
وليس معنى ذلك أن الرسول يقصد أن الشر مطلوب في العالم، بل يريد أن يقول أن الأشرار أنفسهم يجدون أعمالاً يقومون بها في العالم.
لو كان الجميع آنية من ذهب لما كانت الحاجة إلى وجود الأشرار. إذاً لم يكن هناك أحد عبد للشهوة، لما احتاج الأمر إلى هذا القدر من الاستعداد للأغذية، لو كان الكل يعرف الاكتفاء بالضروري، لما كانت الحاجة لمسكن فاخر.
أي شخص يتحرر من هذه الارتباطات سيصبح آنية مقدسة صالحة للاستعمال الرفيع.
تلاحظون أن الآنية إن كانت من ذهب أو من خزف فهذا الأمر لا تقتضيه الطبيعة ولا الضرورة المادية، بل إرادتنا هي الوحيدة التي تقرر ذلك، فلا يمكن للآنية الخزفية أن تتحول إلى آنية ذهبية والعكس إلا منذ اللحظة التي تعمل فيها الإرادة.
بولس كان قبلاً إناءً خزفياً، ثم صار إناء من ذهب. وكان يهوذا إناء من ذهب ولكنه صار إناء من خزف. إذن عدم النقاوة هي التي تصنع الأواني. الزاني والبخيل وغيرهم هم أواني خزفية.
إذا كان الأمر كذلك، فكيف يقول القديس بولس في مكان آخر: “ولكن لنا هذا الكنز في أواني خزفية” (2كو 4: 7) ألا يعني هذا القول أن الآنية الخزفية غير معدة للاحتقار مادامت تحتوي على كنز؟
في هذا الموضع يقصد الرسول المادة نفسها التي صنع منها جسدنا وليس جوهره، جسدنا يشترك مع الآنية الخزفية في إنهما مصنوعان من مادة واحدة وهي الطين. الآنية الخزفية دخلت النار فأصبحت صلبة، وأجسادنا أصبحت صلبة بحرارة الروح وقوة الإيمان.
وكما أن الآنية الخزفية معرضة للكسر، كذلك أجسادنا تتحلل بالموت “فإن طهر أحد نفسه من هذه يكون إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد”.
الأواني الخزفية إن كان لها بعض الفوائد ولكنها غير مستعدة لكل عمل صالح مثل أواني الكرامة التي حتى لو لم تستخدم فهي صالحة ومفيدة. إذن يجب الاستعداد لكل شئ للموت، للاستشهاد، للبتولية ولكل هذه التضحيات معاً.
“أما الشهوات الشبابية فأهرب منها” (ع 22) لا يقصد الرسول هنا الشهوات التي هي ضد الطهارة فقط بل مختلف الشهوات الشاذة، ليتعلم الذين شاخوا ألا يستسلموا للشهوات الشبابية. السفاهة، حب القوة، حب المال، اللذة الشهوانية، هذه كلها شهوات شبابية، شهوات حمقاء غبية، رغبات تصدر من قلب لم يرسخ بعد، وعن فكر مذبذب ليس له أساس عميق يتأثر بكل زوابع العالم. أهرب من التصورات الشبابية حتى لا تؤخذ بشهواتها.
“اتبع البر والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي” بكلمة “البر” يقصد الرسول الفضيلة بوجه عام، التقوى والإيمان والمحبة والسلام.
وماذا يعني بقوله “الذين يدعون الرب من قلب نقي“؟ إنه كما لو كان يقول: افرحوا لا بالذين يدعون الرب فحسب، بل الذين يدعونه بصدق وإخلاص، الذين هم بلا خداع، الذين يقتربون إليه في سلام غير محبين للنزاع، ألتصق بمثل هؤلاء، أما بالنسبة للآخرين فلا تهادنهم، لكن هذا لا يمنع من أن تسالمهم بقدر ما تستطيع.
2-خادم الله يجب أن يمتنع عن النزاع
“والمباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها عالماً إنها تولد خصومات” (ع 23)، تلاحظون كيف أن القديس بولس يحاول دائماً أن يبعد تيموثيئوس عن النزاع والمشاجرات، ليس لأنه لا يملك الحجج الكافية لدحض الخطأ، وإلا ما كان قال له: “لاحظ نفسك والتعليم لأنك إن فعلت هذا تخلص نفسك والذين يسمعونك أيضاً” (1تيمو4: 16)، بل لأنه يعلم أن هذه المشاجرات بلا جدوى، ولا تنتهي إلا بالنزاع والكراهية والشتائم، ولكن توجد منازعات تتعلق بالكتب المقدسة وبمسائل أخرى كثيرة.
“وعبد الرب لا يجب أن يخاصم” (ع 24) عبد الرب يجب أن يكون دائماً مبتعداً عن كل أنواع الصراعات. الله إله سلام فكيف يعيش عبده في المنازعات؟
“بل يجب أن يكون مترفقاً بالجميع” كيف يتفق هذا مع ما قاله في مكان آخر: “وبخ بكل سلطان” (تي 2: 15).
وفي الرسالة الأولى يقول له: “لا يستهن أحد بحداثتك” (1تيمو 4: 12) وأيضاً “وبخهم بسلطان” (تي 2: 15)؟
الرسول هنا يريد أن يرجع إلى أسلوب الوداعة.
أعلموا ذلك جيداً، بأن لا شئ يؤثر في النفس أكثر من التأنيب الذي يتم باعتدال، وأن استخدام الرقة له تأثير أقوى من الضرب بقسوة.
إن يكون “صالحاً للتعليم” أي أن يكون قادراً على إجابة كل من يتوجه إليه للاستشارة.
أما عن المبتدع فيقول الرسول لتيطس: “الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين أعرض عنه” (تي 3: 10).
ويجب أيضاً أن يكون “صبوراً على المشقات” فالمعلم في حاجة ماسة للصبر، إذاً بدونه لا يحقق شيئاً، فإذا كان الصيادون يلقون شباكهم كل يوم دون أن يأخذوا شيئاً، ومع ذلك لا تخور عزيمتهم، فمن باب أولى يجب علينا أن نتذرع نحن بنفس هذا الصبر، إذ في الواقع قد يحدث أنه بمواصلة التعليم، قد يخترق الحديث عمق النفس، مثل سلاح المحراث في الأرض، ليقطع جذور الشهوة الرديئة التي تمنعها من الثمار، فكلما كان الاشتياق لسماع كلمة الله كبيراً، كلما كانت النفس مثمرة. ولابد أن سماع الإنجيل بصفة متواصلة يعالج ما هو في حاجة إلى علاج. ربما أحد الناس اقتنع بكلامنا في وقت كناقد أوشكنا فيه على اليأس. نفس الشيء يحدث مع المزارع الجاهل، إذ أنه بعدما يزرع الأرض في السنوات الأولى والثانية والثالثة، منتظراً الحصاد، تخور عزيمته لعدم وجود ثمر خلال الثلاث سنوات، فيتوقف عن زراعة الكرم في السنة الرابعة، في الوقت الذي كان الكرم سيثمر فيه ويعوض كل مجهوداته.
“مؤدباً بالوداعة المقاومين” (ع 25)، القديس بولس لا يكتفي بالصفات التي عددها بل يضيف هذه الصفة. لأنه قبل كل شئ تلزم الوداعة في التعليم، النفس لا تستفيد شيئاً من التعليم إذا عوملت بقسوة، بل حتى لو كان لها بعض من الاستعداد في قبول التأديب، فإن الكدر الذي تسببه القسوة التي عوملت بها يفقدها كل فائدة كان ممكناً أن تحصل عليها، كما أنه للاستفادة من درس المعلم يجب قبل كل شئ أن يكون المستمع مقدراً لهذه النعمة، وإلا لا تحقق الكلمة أية ثمرة مفيدة.
إذا كانت هذه هي الوسيلة التي يجب أن نتعامل بها مع من يعاملنا معاملة خشنة ويشتمنا، فكيف يتحقق ذلك مع ما سبق ذكره، “الرجل المبتدع بعد إنذاره مرة أو مرتين أعرض عنه”؟
وهو يقصد بالمبتدع، الغير قابل للإصلاح، الفاسد الذي لا يُرجى علاجه.
“عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق فيستفيقوا من فخ إبليس” (ع 26) يريد أن يقول: ربما يهتدون، ربما تدل على الشك فالذين لا يرجى على وجه التأكيد إصلاحهم ولا رجوعهم عن طريقهم يجب الابتعاد عنهم “إذ قد اقتنصهم لإرداته” عبارة “اقتنصهم” جاءت في مكانها، تذكر بالسمك المحبوس في مياه راكدة. وهذه الفقرة تحتوي أيضاً على درس في التواضع، فهو لم يقل، ربما يستطيعون أن يصلحوا ذواتهم، لكن ربما ينعم الله عليهم بالإصلاح، فإذا تم شئ فهذا يكون من عمل الرب. أنتم تزرعون وتسقون، لكن الله هو الذي سوف يأتي بالثمرة، فلا نشيد بهداية شخص ما حتى لو تمت هدايته عن طريق كلامنا.
“إذ قد اقتنصهم لإدراته” هذه العبارة لا تتعلق فقط بالعقائد بل تختص أيضاً بالحياة والسلوك. الله يريد أن تكون حياتنا مستقيمة وإذا حدث ودخل البعض في شباك الشيطان بسبب سلوكه، فهؤلاء غير ميئوس منهم إذ “عسى أن يعطيهم الله توبة” وكلمة “عسى أن” تدل دلالة كافية على وجوب التذرع بطول الأناة. إن شبكة الشيطان تعمل دائماً لعدم تنفيذ إرادة الله.
الموعظة السادسة
الذي يخضع للشيطان في بعض الأمور يخضع له في الكل
العصفور عند اصطياده لا يحتاج الأمر لدخول جسمه كله داخل الشبكة يكفي أن تقتنص الشبكة رجله فقط، فهذا لا يعطل من سيطرة الصياد عليه.
هكذا الشيطان إذ أراد أن يدخلنا في شباكه فليس من الضروري أن يسيطر على سلوكنا وإيماننا، بل يكفيه في البدء السيطرة على سلوكنا. “ليس كل من يقول لي يارب يارب يدخل ملكوت السماوات بل الذي يفعل ……… فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم” (مت 7: 12، 13). إن الإيمان وحده لا ينفع بشيء دون الأعمال مادام لا يؤدي إلى معرفة الرب لنا، وأيضاً هذا النص “لا أعرفكم” قال الرب أيضاً للعذارى في (مت25: 12) ، أية فائدة حصلن عليها من بتوليتهن ومن أعمالهن طالما أن الرب لم يعرفهن؟ قد نجد أشخاصاً غير ملومين بالنسبة للإيمان، ومعاقبين لأجل سلوكهم فقط. ونرى أيضاً العكس تماماً، فنرى البعض يهلكون بسبب عدم الإيمان المستقيم مع أن سلوكهم غير ملوم. هنا أمران يجب أن يتمم أحدهما الآخر. ترون أننا نقع في شباك الشيطان لعدم إتمام إرادة الله. قد نُلقى في جهنم ليس لأن حياتنا كلها رديئة، بل يكفينا نقص واحد لعدم وجود صفات صالحة توازنه.
الحث على الصدقة
فاتهام العذارى بالجهل لم يكن بسبب الزنى أو الغش، أو الحسد، أو الغيرة، أو السكر، ولا حتى لعدم الإيمان المستقيم أتهمن لنقص زيتهن، أي أنهن لم يقدمن الصدقة فهذا ما يعنيه الزيت. وأيضاً الذين سيدانون في اليوم الأخير بسماعهم الصوت القائل: “اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية” سوف يكون سبب إدانتهم هو أنهم لم يطعموا المسيح.
ألا تعلمون يا أخوتي أن إهمال الصدقة والرحمة سيؤدي إلى الحكم عليهم بجهنم؟
كيف تكونون ذوي فائدة وأنتم لا تتصدقون؟
هل تصومون كل الأيام؟
ماذا استفدن العذارى الجاهلات مما فعلن؟
لا شئ يفيد دون الصدقة، دون الصدقة كل شئ يكون غير نقي. يقول الوحي الإلهي: “من لا يحب فليس من الله” (1يو 3: 10). كيف تقول أنك تحب أخاك وأنت لا تريد أن تقاسمه في أشياء خسيسة؟ ربما تقول أنك تعيش بعفة وطهارة. ما هو السبب الذي يدفعك إلى ذلك؟ هل خوفاً من العقوبة، أو بحكم مزاجك الطبيعي؟ إذا كان الخوف من العقاب هو الذي يجبرك على العفة، وعلى مقاومة نيران الدعارة، ألست بالأحرى أنت ملتزم بعمل الصدقة؟ إن مشقة احتقار المال أخف من مشقة ضبط الشهوة لأن الأخيرة مولودة معنا، ومغروسة بعمق في جسدنا، فمحبتنا للمال لا تكون بهذا القدر أخيراً ليس هناك شئ يجعلنا مشابهين لله سوى الصدقة والرحمة، فإذا فقدناهما فقدنا كل شئ. يسوع المسيح لا يقول لكم إذا صمتم إذا حفظتم على بتوليتكم، إذا صليتم تكونون مشابهين لله، لأن الله لا يفعل ذلك بحكم طبيعته، لكنه يقول: “كونوا رحماء لأن أباكم أيضاً رحيم” (لو 6: 36). هذا هو عمل الله ، فإذا لم تفعلوه فماذا يبقى لكم؟ ويقول أيضاً: “أريد رحمة لا ذبيحة” (هوشع 6: 6). الله صنع السماء والأرض، والبحر، هذا شئ عظيم جداً وجدير بحكمته ولكن لا شئ من كل هذا أثر في الإنسان قدر محبته اللانهائية وحنانه الغير مدرك. بالتأكيد أن خلق العالم من عمل الحكمة، والقوة، والصلاح، لكن الأكثر من ذلك كله هو أن الله صار عبداً لأجلنا. وهذا على الأخص هو الشيء الذي يثير دهشتنا وإعجابنا. الأنبياء لم يكفوا عن التحدث عن رحمة الله منذ البداية.
وعندما أتكلم عن الرحمة لا أتكلم قط عن الصدقة بالمسروقات وما نحصل عليه بالسلب والنهب، فلا توجد هنا رحمة قط. الزيت لا يخرج من جذور الشوك، لا يخرج إلا من شجرة الزيتون، هكذا الصدقة لا يمكن أن تصدر من جذور البخل والظلم ولا بوسائل السلب أياً كانت. لا تقللوا من قيمة الرحمة، لا تعرضوها للاحتقار. إذا اغتصبتم لعمل الرحمة، تكون صدقتكم من أكثر الأعمال رداءة، كل ما يأتي من السلب لا يدعى قط رحمة، بل قسوة، وعدم إنسانية وبربرية لا تهين الإنسان فقط بل الله نفسه. إذاً كان قايين قد أساء إلى الله لأنه قدم له أقل ما عنده، فكيف لا يسيئه الذي يقدم له خير الآخرين. التقدمة لا تقل عن الذبيحة، أنها وسيلة للتطهير وليس للتلوث. أنتم لا تجسرون على الصلاة بأيدي قذرة، وتعتقدون بأنكم حينما تقدمون تقدمات من الخيرات التي سلبتموها ظلماً، أن الله سيحتمل عدم نقاوة هذه التقدمات. أنتم لا تحتملون قذارة أيديكم وهما بلا جريمة، وتحتملون قذارة أنفسكم المليئة بالجرائم.
ليكن اهتمامنا بأن تكون عطايانا من الأعمال النقية الطاهرة أكثر من اهتمامنا بتقديم عطايانا وصلواتنا بأيادي نظيفة.
ما رأيكم في مائدة مسحت جيداً لتكون نظيفة تماماً، ثم توضع عليها أشياء قذرة جداً، ألا يكون الأمر غير لائق ويدعو للسخرية؟ لنبادر بنظافة أيدينا، ولكن ليست هي نظافة ناتجة عن غسلها بالماء، فهذا لا يساوي شيئاً كثيراً، لتكن لنا الطهارة التي يعطيها الصلاح وحده، والتي هي بالحق نقاوة. لو كانت أياديكم ملآنة بالظلم، اغسلوها ألف مرة إذا أردتم ولن تستفيدوا شيئاً. يقول أشعياء النبي “اغتسلوا تنقوا” (أش 1: 16)، اذهبوا إلى النافورات، إلى الحمامات، إلى الأنهار، كل هذا لا شئ، لكن انزعوا الخبث من نفوسكم فهنا الطهارة، التطهر من التلوث، النظافة التي يطلبها الله. النظافة الخارجية تفيد قليلاً، لكن النظافة الداخلية تساعدنا على العبور إلى الله، وتملأنا من الثقة المقدسة. الطهارة الخارجية يمكن أن تجدها عند الزناة، اللصوص، القتلة، الوقحاء، كل هؤلاء يعتنون بإفراط بنظافة الجسد الذي يعبدونه عبادة الأوثان، يتعطرون بالروائح الجذابة، يهتمون بنظافة جسدهم الذي ما هو إلا قبر، طالما يحوي نفساً ميتة، فهم يملكون الطهارة الخارجية ولا يستطيعون احتواء الطهارة الداخلية. ماذا أخذتم من أمور عظيمة بتنظيفكم لأجسادكم؟ طالما الطهارة الداخلية تنقصكم، فتلك الطهارة اليهودية الزائدة لا تجديكم شيئاً. كرجل تحلل جسمه وامتلأ بالقروح، فغسله لجسده لا طائل تحته. فإذا كانت المياه لا تفيد بشيء ظاهري في جسد فاسد وملئ بالعفن، فهل تفيد في غسل النفس المليئة بالفساد؟
يلزمنا صلوات طاهرة، فطالما النفس التي تنبع منها الصلوات ملوثة، فلا يمكن للصلوات أن تكون طاهرة. لا شئ يدنس النفس قدر البخل والسلب. ومع ذلك فالكثير من الناس بعد أن يرتكبوا أثناء النهار جرائم لا نهاية لها، يغتسلون في المساء، ويدخلون بجرأة إلى الكنيسة، ويرفعون أيديهم للصلاة، كما لو كانت هذه المياه ستمحو التلوثات. يا للأسف! لو كان هذا سليماً والحمامات التي تترددون عليها يومياً قد أتت بفوائد كثيرة لكم، لكنت أنا نفسي قد تواجدت فيها بصفة مستمرة، إذا كانت لها فائدة التطهير من خطايانا. ولكن هنا توجد الأمور المضحكة، لأن الله لا يبغض الإنسان لعدم طهارة الجسد بل لعدم طهارة النفس “طوبى لأنقياء القلب” (لتعلموا إنها نقاوة القلب وليس الجسد) “لأنهم يعاينون الله” (مت 2: 5، 8).
وماذا يقول المرنم؟ “قلباً نقياً أخلق فيا يا الله” (مز 51). يقول ارميا النبي: “اغسل من الشر قلبي” (ار 4: 14). من المفيد جداً أن ببكر بالاعتياد على الأعمال الحسنة. إنها أمور تافهة هي تلك الاغتسالات، ومع ذلك فذلك الإنسان لا يجسر أن يتقدم أمام الله قبل أن يكون قد قدمها. فمثلاً نحن نغتسل ثم نصلي، كما لو كان غير مسموح لنا أن نصلي قبل أن نغتسل. نحن لا نرفع طلباتنا أمام الله إن لم نكن قد طهرنا قبلاً أيدينا، ويخيل إلينا أننا نهين الله ونلوث ضميرنا إن لم نتمم ذلك. ليتنا نتخذ نفس العادة في تقديم الصدقة بعزم ثابت بأن لا ندخل بأيادي فارغة إلى بيت الله، ونسدد ما علينا بنفس الأمانة والسهولة، لأن العادة لها قوتها سواء في الخير، أم في الشر، وإذا جذبتنا لا تكلفنا شيئاً.
كثيرون اتخذوا عادة رشم أنفسهم بالصليب بصفة مستمرة ومن ذلك الحين لم يعودوا في حاجة لإنذارهم برشمه، فهم يرشمونه بصفة طبيعية. ودائماً عندما يكونون في أماكن متفرقة، نجد أن هذه العادة التي اتخذوها بمثابة المعلم المتحرك الذي ينذرهم ويقود أياديهم إلى هذه العلامة المقدسة.
آخرون تعودوا على ألا يحلفوا أبداً، لا بإرادتهم، ولا بالقوة. لنعتاد نحن أيضاً على تقديم الصدقة، فلن نجد فيها أية مشقة.
لماذا لا نعطى خيراتنا بسخاء؟ إذا كان في الأمراض المستعصية يُقال عن أشخاص كثيرين، هذا الشخص مستعد أن يعطي كل ماله في سبيل إنقاذه من الموت، فكيف لا يقرر ذلك وبأكثر سرعة لينقذ نفسه من شدة المحاكمة العليا؟
تعجبوا من محبة الله. هو لم يعطيكم الوسائل لإنقاذكم من الموت العالمي، بل هو يعمل على إنقاذكم من موت أكثر رعباً منه، هو الموت الأبدي، على أن الأمر يتوقف عليكم في ذلك.
يقول: لا تعتقدوا بأنكم ستحصلون على حياة قصيرة وبائسة اعملوا لكي تحصلوا على حياة سعيدة لا تنتهي أبداً. فهذه هي التي أريد أن أبتاعها لكم وليست الأخرى. لا أريد أن أخدعكم. أنا أعلم بأنكم إذا حصلتم على هذه الحياة القصيرة البائسة فكأنكم لم تحصلوا على شئ، لكني أعلم بقيمة تلك الحياة التي احتفظ بها لكم. أنا لا أشبه هؤلاء التجار الذين لا يفكرون سوى في الغش والخداع، ويبيعون بثمن غالي ما لا يساوي إلا القليل. أنا لست هكذا، فأنا أعطى الكثير بثمن قليل.
قل لي إذا دخلت عند بائع مجوهرات ووجدت عنده فصين، واحد منهما عادي منتشر وثمنه ضئيل، والثاني يحتاج لثروة لتغطى ثمنه، فأنت إذا دفعت ثمن الحجر الضئيل، لكن البائع سلمك الحجر الثمين، فهل ارتكب بائع المجوهرات جريمة بكرمه هذا؟ كلا، بل على العكس سوف تحبه. هكذا أنت تُعامل من الله بنفس هذه المعاملة، يعرض عليك نوعان من الحياة، واحدة زمنية والأخرى لا نهاية لها. الله هو البائع ويروق له أن يعطينا الأخيرة وليست الأولى، فلماذا نغضب كالأطفال الصغار وبدون تفكير لأننا أخذنا الثمينة والقيّمة ولم نأخذ الأخرى الزمنية والرخيصة؟
قد تقولون هل شراء الحياة الباقية يكون بالمال؟
ممكن إذا أعطينا من مالنا وليس من مال الآخرين.
قد تقول لي أن مالي هو لي أنا.
لتعلم أن ما تسرقه هو ليسلك، حتى لو قلت مائة مرة أنك سيد له فهو ليس ملكك. إذا وضعت وديعة بين يديك لحفظها في فترة غياب صاحبها، هل لأجل هذا تقول إنك تملكها؟
إذا شجعت صديقك على حفظ شئ يملكه هو، بصفة وديعة عندك أثناء غيابه، فهل تجرؤ على القول أنها ملكك في فترة وجودها في منزلك؟
فعلى الأقل لا تقدر أن تقول هذا عن مال اغتصبته من الآخرين رغماً عنهم وبعنف، إنه يخصهم مهما قلت أو فعلت. ليس لنا شئ هنا نملكه حقيقة سوى الفضيلة. أما عن المال فحتى مالنا لا يخصنا، هو لنا اليوم، وغداً ليس لنا. أما الفضيلة، هي على العكس فهي ملكنا ولا تضيع مثل المال، بل ستبقى كاملة لمن يمتلكها. لنقتنيها ونحتقر الثراء، حتى نتمكن من الوصول إلى الخيرات الحقيقية التي يعطينا الله أن نكون أهلاً لها بنعمة ورأفة ربنا وإلهنا ومخلصنا المسيح الذي له المجد إلى الأبد. آمين.