تفسير رسالة2 تيموثاوس ص1 ج2 – ق. ذهبي الفم
المقالة التفسيرية الثانية
فلا تخجل بشهادة ربنا ولا بي أنا أسيره بل اشترك في احتمال المشقات لأجل الإنجيل بحسب قوة الله. الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية. وإنما أظهرت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح
(1: 8-10 حتى 13)
التــحـلــيل
1-عدم الخجل من صليب مخلصنا، ولا من أغلال القديس بولس الأسير من أجل يسوع المسيح.
ليس هناك أشر من أن يقيس الإنسان الأمور الإلهية ويحكم عليها من خلال المباحثات البشرية. فمن يفعل ذلك سيسقط بالضرورة من صخرة الإيمان وسوف يحرم من النور. فإذا كانت عيوننا الجسدية لا تقدر أن تواجه أشعة الشمس وإذا كان من الخطورة علينا أن نحدق بنظرنا في هذا الكوكب، فكم بالأكثر من يريد أن يحدق بنظره في النور الإلهي خلال المباحثات البشرية. انظروا إلى مرقيون وماني وفالنتينوس وكل الذين أدخلوا الهرطقات والعقائد المهلكة في كنيسة الله، لما أرادوا أن يقيسوا الأمور الإلهية بالمقاييس البشرية خجلوا جميعاً من الاعتراف بسر التجسد والفداء. مع أنه لا يوجد مجد يضاهي مجد الصليب، فهو ليس موضوع خجل بل بالأحرى موضوع فخر. الصليب هو أعظم علامة لمحبة الله التي أعطاها للبشرية. فإن محبته التي أظهرها لنا في خلقه السماء والأرض، وفي خلقنا نحن من العدم، لا تفوق محبته التي أظهرها بالآمة على الصليب. والقديس بولس يفتخر بالصليب بقوله: “أما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح” (غلا 6: 14).
لأجل هذا يحث القديس بولس جميع المؤمنين عن طريق تلميذه ألا يخجلوا من الشهادة لمخلصنا، أي لا يخجلوا من الكرازة بالمصلوب بل بالحري يفخروا بها. فالموت والسجن والسلاسل هذه كلها أمور مخجلة وعار في ذاتها، ولكن عندما ترتبط بالكرازة بالمصلوب تصبح أموراً مجيدة وموضوع افتخار.
إن موت المسيح هو الذي خلص العالم الذي كان قد هلك، وهو الذي صالح الأرضيين مع السماويين، وهدم طغيان الشيطان، وجعل البشر ملائكة وأبناء لله، وأصعد باكورتنا إلى السماء. أما عن أغلال الرسول فقد خلصت شعوباً “فلا تخجل بشهادة ربنا ولا بي أنا أسيره بل اشترك في احتمال المشقات لأجل الإنجيل“ أي لا تخجل إذا قاسيت من هذه الأمور. هو لا يقول لا تخف، ولا تخش، لكنه يقول له لكي يشجعه أكثر فأكثر: “لا تخجل” كما لو كان ليس هناك أي خطر. هو يريد أن يقول له: إذا كنت أنا الذي أقمت الموتى، وعملت المعجزات، وجزت في العالم كله لتبشيره، أنا الآن في الأغلال، في الحديد، ليس لأني عملت أعمالا رديئة بل لأجل المصلوب، وإذا كان ربي لا يخجل من الصليب، إذا كان ربنا وسيدنا قد عانى من آلام الصليب، أليس بالأحرى نحن علينا أن نحتمل الأغلال؟ الذي يخجل من أغلال الرسول يخجل أيضاً من صليب يسوع المسيح. لا تستسلم للمشاعر البشرية، بل بالحرى احتمل نصيبك من المشقات.
“بحسب قوة الله الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية“. ولما كان قد خاطبه بلهجة قاسية إلى حد ما في قوله له: “اشترك في احتمال المشقات” فهنا يواسيه قائلاً: “لا بمقتضى أعمالنا” أي أن في احتمال هذه الأمور لا تعتمد على قوتك بل على قوة الله. أنت ما عليك سوى أن تختار الإرادة الصالحة، والله هو الذي يخفف عنك ويمنحك الراحة، ثم يشير إلى قوة الله بقوله: “بل بمقتضى النعمة التي أعطيت لنا” يريد أن يقول له ذلك: تذكر كيف خلصت، كيف دعيت. إن هداية من هم على الأرض تحتاج لقوة كبيرة أكبر من تلك التي تلزم لخلق السماء.
كيف إذن دعينا بدعوته المقدسة وجعلنا قديسين بعدما كنا خطاة وأعداء لله؟
هذا لا يأتي قط منا بل هو هبة من الله، فبما أن الله على قدر كافٍ من القدرة والسخاء والصلاح ليعطينا مجاناً، وهو يعطي ليس كمن يسدد ديناً، إذن فلا محل للخوف من أي شئ. إذا كان الله قد قدم لنا من الخلاص مجاناً في وقت كنا فيه أعداءً له ألا يقدم لنا بالأكثر، ونحن مصالحين ونسعى لخلاصنا؟
“لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة” أي دون تكليف أو تأثير من أحد، إنما قد خلصنا هو بقراره الخاص وبصلاحه الشخصي.
“والنعمة التي أعطيت لنا في المسي يسوع قبل الأزمنة الأزلية” أي أن هذه الأمور كانت معينة منذ الأزل لتتم في يسوع المسيح. فخلاصنا إذن نتيجة تصميم وتخطيط أزلي، وليس عن إرادة عرضية، فكيف لا يكون الابن أزلياً، وهو الذي أراد وصنع هذه الأمور الأزلية، بل ورسمها قبل الأزمنة الأزلية؟
“وإنما أظهرت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل الذي جعلت أنا له كارزاً ومعلماً للأمم”
وهنا موضوع الرجاء، إذ أن هذين الأمرين المفرحين وهما إبطال الموت وإنارة الحياة والخلود قد شوهدا في جسد يسوع المسيح، وسوف نشاهدهما في أجسادنا أيضاً. ولكن كيف عرفنا هذا؟ لقد عرفنا كما يقول الرسول: “بواسطة الإنجيل الذي جعلت أنا له كارزاً ومعلماً للأمم”، وهنا يعود كعادته دائماً ليدعو نفسه معلماً للأمم لأنه يريد منهم أن يقتفوا إثارة كرسول مفرز للأمم.
“لهذا السبب احتمل هذه الأمور أيضاً لكنني لست أخجل لأنني عالم بمن آمنتُ وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم”
وهنا يضيف الرسول بولس السبب الذي يجعل أقواله جديرة بالتصديق والإيمان بها.
ماذا يقصد الرسول بكلمة وديعة؟
لعله يقصد الإيمان والكرازة بالإنجيل، ولذلك يقول إن الذي أعطاه هذه الوديعة هو قادر أن يحفظها مصونة، وأيضاً لأن هذه الوديعة ثمينة للغاية ولذلك احتمل من أجلها كل هذا العناء والجهاد دون أي خجل، حتى لا يُغتصب هذا الكنز الثمين، وتحفظ هذه الوديعة سليمة وطاهرة. وأيضاً يمكن أن يقصد الرسول بولس بالوديعة نفوس المؤمنين الذين سيودعهم الله بين يديه، أو الذين استودعهم هو لدى الله، وهو هنا يستودع ثمر هذه الوديعة بين يدي تيموثيئوس.
ألا تلاحظوا أن رجاء الرسول وغيرته الشديدة في صنع تلاميذ وجمع مؤمنين يجعلانه لا يكترث بالمشقات المريرة التي يعانيها في سبيل ذلك؟ وهذا ما يجب أن يكون عليه الراعي الصالح والأمين الذي يهتم بتلاميذه وأولاده في الإيمان، ويتابعهم ويعضدهم ويعدهم لكل شئ. ويقول الرسول في مكان آخر “لأننا الآن نعيش نعين أن ثبتم في الرب” وأيضاً يقول “لأن من هو رجاؤنا وفرحنا وإكليل افتخارنا أم لستم أنتم أيضاً أمام ربنا يسوع في مجيئه” (1تي 3: 8 ؛ 2: 19).
الموعظة الثانية
- الطاعة الواجبة لرعاة النفوس.
- ليحاسب الإنسان نفسه ولا يدين الآخرين.
- عظمة ذبيحة الأفخارستيا لا تتوقف على مقدمها.
1-الطاعة الواجبة لرعاة النفوس.
يقول الرسول: “أطيعوا مرشديكم واخضعوا لأنهم سيسهرون لأجل نفوسكم” (عب 13: 17).
إن راعيكم يتعرض لخطر مرعب من أجل فائدتكم وأنتم لا تريدون حتى طاعته. إنه لا يهتم بأموره الخاصة بقدر اهتمامه بأموركم. فطالما أموركم غير مرضية، فهو في ضيق ومُعرض أن يقدم حساباً مضاعفاً، اعلموا أنه ليس أمر بسيط أن يقدم الراعي حساباً عن كل نفس هو مسئول عنها، وأن يرتعد لأجل سلامة الجميع. أية كرامة سوف تقدمونها له. أية شهادات مودة ستقدرون على تقديمها له لتعويضه عن تلك المخاطر؟ هل ستعطونه حياتكم، أم هو الذي سيعطيكم حياته، وإذا لم يعطها الآن في الوقت الملائم فسوف يفقدها فيما بعد. أنتم ترفضون له كل طاعة حتى لو كانت بالكلام فقط. إن السبب في أن سلطة الرعاة ديست بالأقدام هو شرورنا. إذا أننا لا نعرف لا الاحترام ولا الخوف.
يقول الرسول: “أطيعوا مرشديكم واخضعوا لهم”. لأنه والحالة هذه كل شئ قد أنقلب واختلط. لا أقول هذا لمصلحة من يقودونكم. لأنه ما هو الشرف الذي سوف يعود عليهم من طاعتكم لهم؟ أنا أقول هذا لفائدتكم يا أخوتي. الكرامة التي تقدمونها لهم لن تزيدهم شيئاً، بل بسببها سيحاكمون بأكثر شدة. الشتائم لا تؤذي مستقبلهم، بل على العكس سوف تبررهم. إذن هي فائدتكم التي وضعت فوق كل اعتبار. لقد قال الله لصموئيل: “لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا” (1صم 8: 7)، بمعنى أن الإهانة بالنسبة لهم مكسب، والكرامة عبئ الذي يكرم الكاهن يكرم الله. الذي يعتاد على احتقار الكاهن، سيصل يوماً إلى احتقار الله. يقول الرب: “الذي يقبلكم يقبلني” (مت 10: 40). العبرانيون قبل أن يحتقروا الله بدءوا باستصغار موسى، وأساءوا معاملته. من يكون نقياً تجاه الكاهن، يكون بالأحرى ربما أكثر تجاه الله. إذاً حدث أنك لكي ترضى الله أكرمت كاهناً غير جدير بالإكرام سوف يكافئك الله. “من يقبل نبياً باسم نبي فأجر بني يأخذ” (مت 10: 41). هكذا بالنسبة للذي يكرم الكاهن، ويقدم له الخضوع والطاعة. قال الرب يسوع: “على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون. فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه لكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون” (مت 23: 2، 3).
ألا تعرفون من هو الكاهن؟
إنه ملاك من الرب لأن الكلام الذي يقوله ليس منه. فإذا احتقرتموه فأنتم لا تحتقرونه هو بل الله الذي أرسله لكم.
سوف تقولون ما الذي يبرهن لنا على أن الله هو الذي أرسله؟ إذاً لم يكن لكم هذا الإيمان فرجاؤكم إذن باطل لا طائل تحته. لأنه إذا كان الله لا يُجرى شيئاً بواسطة الوسيط الكاهن، فأنتم لا تحصلوا على العماد، ولم تشتركوا في الأسرار الإلهية، ولم تحصلوا على الأولوجية، فإذن أنتم غير مسيحيين.
سوف تقولون كيف ذلك! هل الله هو الذي يأمرهم جميعاً حتى الغير جديرين منهم؟
الله لا يأمرهم بل يجري بنفسه خدمة الكهنوت للجميع، حتى بواسطة الغير جديرين، لأخل خلاص الشعب. فإذا كان الله في الماضي قد استخدم حماراً، ورجلاً شريراً وهو بلعام ليبارك شعبه (عدد22)، وسلم الصندوق ليهوذا، وأجرى أعماله بواسطة الأنبياء الذين قال لهم: “إني لم أعرفكم قط اذهبوا عني يا فاعلي الإثم” (مت7: 23)، إذاً كان الخطاة اخرجوا الشياطين باسمه، فمن باب أولى يخرجها بواسطة خدمة الكهنوت.
1-ليحاسب الإنسان نفسه ولا يدين الآخرين.
إذا كان يجب علينا فحص حياة وسلوك رعاتنا، فسوف نكون نحن الآمرين لهم، وعلى هذا نصح في وضع غير منظم، الأقدام فوق والرأس تحت. اسمعوا ما يقوله القديس بولس: “وأما أنا فأقل شئ عندي أن يحكم فيَّ منكم أو من يوم بشر بل لست أحكم في نفسي أيضاً” (1كو 4: 3)، وأيضاً “أما أنت فلماذا تدين أخاك” (رو14: 10)، إذا كان ممنوع عليك أن تدين أخاك فعلى الأقل لا تدين الكاهن.
لقد ثار قورح وداثان وأبيرام ومن ناصروهم ضد هرون وابتلعتهم الأرض. ليهتم كل شخص بما يخصه، إذا كان أحد ما يسئ للعقيدة لا تسمعونه ولو كان ملاكاً. إذا كان أحد يعلم طبقاً للأرثوذكسية، لا تهتموا بحياته بل فقط بكلامه. اتخذوا القديس بولس موجهاً لكم في الخير بأمثاله وأحاديثه وتعاليمه.
- – سوف تقولون وإذا كان الكاهن لا يعطي للفقراء، وإداراته رديئة؟
- – من أين علمت بذلك؟
لا تتهم أحداً قبل أن تتأكد، أخش الحساب الذي سوف تقدمه.
لا تحكم بناء على شكوك بسيطة. قلدوا معلمكم، اسمعوا ماذا يقوله: “أنزل وأرى هلم فعلوا بالتمام حسب صراخها الآتي إلىَّ وإلا فأعلم” (تك 18: 21، 22)، إذا كنت متعلماً وخبيراً وشاهداً للوقائع، فلتنتظر حكم الديان، لا تأخذ دور يسوع المسيح، لأنه هو المختص بالفحص وليس أنت. أنت لست سوى عبداً وليس سيداً. أنت أحد خراف القطيع. إذا كنت لا تريد أن تقدم حساباً عن الاتهامات التي وجهتها له فلا تفحصه بدقة وتدينه.
سوف تقول لماذا يأمرني بما لا يعمله هو؟
ليس هو الذي يأمرك بل يسوع المسيح، فلو كانت طاعتك له فلن تكون لك مكافأة.
ماذا أقول؟ هل كان ممكناً عدم طاعة أوامر الرسول التي كان قد تلقاها من رئيسه؟ طاعة الرسول واجبة لأن أوامره تحمل تعاليم المسيح المتكلم على فمه.
لا يدين أحدنا الآخر. ليمتحن كل واحد حياته الخاصة ويحاسب نفسه. سوف تقول أنه يجب أن يكون أفضل مني.
لـــمـــاذا؟
لأنه كـــاهــــن
هل تجسر أيضاً على القول أنه ليس عنده مشغوليات، ومخاطر ومحاربات يومية وهموم شاقة أكثر منك. بكل هذا كيف تجسر على القول بأنه ليس أفضل منك؟
وإذا كان ليس أفضل منك، هل هذا يكون سبباً لخسارتك؟ هذه الكلمات تنبع من كبرياء مجنون، من أين تعلم أنه ليس أفضل منك؟ سوف تقول: وإذا كان يسرق ويسلب الكنيسة؟
من أين تعلم هذا أيها الإنسان؟ لماذا تلقى بنفسك في الهاوية؟ هذه العبارات لا تمر دون أن يقدم عنها حساب. اسمع ما يقوله السيد المسيح: “ولكن أقول لكم إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين” (مت 12: 36). هل هذا الفكر النابع عن الكبرياء ألا يجعلك تئن. وتضرب على صدرك، وتخفض عينيك، ولا تقلد الفريسي؟ إذا كان الأمر كذلك فأنت فقدت نفسك، افحص حقيقة نفسك أفضل من فحص هذا وذاك.
هل أنت أفضل؟ اصمت إذا كنت تريد أن تحصل على أفضليتك، إذا تكلمت فقد فقدت كل شئ. وإذا ظننت أنك أفضل، فأنت ليست هكذا وإذا لم تعتقد ذلك، فقد فعلت الكثير لتكون أفضل. وإذا كان الخاطئ خرج مبرراً لأنه اعترف بخطاياه، فكم بالأكثر يربح غير الخاطئ والذي يعتقد أنه خاطئ؟
افحص حياتك، أنت لا تسرق، لكنك تسلب، تغتصب بالقوة، بل تعمل آلاف الأعمال من هذا النوع.
لا أقول هذا لأمدح السرقة، أنا بعيد تماماً عن ذلك. على العكس أنه أمر محزن أن يكون مثل هؤلاء في إدارة الكيسة، وهذا ما لا اعتقده، إذ أن سرقة الأشياء المقدسة جريمة من أبشع الجرائم. لا أريد أن تفقدوا ما بكم من فضائل بسبب إدانتكم للآخرين.
هل يوجد أسوأ من العشار؟ هذا الذي قال عنه الإنجيل أنه كان بالحق عشاراً ومثل هذا يعاقب على أخطاء كثيرة. ومع ذلك عندما قال الفريسي: “أنا لست مثل هذا العشار” فقد في الحال كل استحقاقه. وأنت إذا قلت إني لا أسرق الأشياء المقدسة مثل الكاهن، فكيف لا تفقد كل ما تستحقه؟
إذاً كنت أقول ذلك، وأجد نفسي مجبراً أن ألح عليك، فليس لأن هؤلاء يثيرون اهتمامي، بل الذي أخشاه هو أن تفقد ثمرة فضيلتك بتمجيدك لنفسك ومحاسبتك للآخرين. اسمع هذه النصيحة للقديس بولس: “ولكن ليمتحن كل واحد عمله وحينئذ يكون له الفخر من جهة نفسه فقط لا من جهة غيره” (غلا 6: 4).
3-ذبيحة الإفخارستيا لا تعتمد على من يقدمها
إني أوجه لك سؤالاً: عندما يصيبك جرح وتتوجه للطبيب، هل تهمل استعمال العلاج وتضميد جرحك، وتنشغل في معرفة ما إذا كان الطبيب به جرح من عدمه؟ وإذا وجد به جرح هل تقلق؟ وهل لأجل هذا تهمل جرحك؟ هل تقول: لا يصح أن يكون الطبيب مريضاً؟ ومادام الطبيب يحمل مرضاً، فسأقول أنا أيضاً جرحي بدون علاج.
هل إثم الكاهن يتيح للمؤمن أن يتخذ من هذا الإثم عذراً؟
قطعاً لا. بلا شك فإن الكاهن الخاطئ سوف يقاسي من العقاب بقدر إثمه، وأنت أيضاً سوف تعاقب بالعقوبة التي تستحقها، فضلاً عن أن المعلم يُحسب دائماً في عداد الصالحين. “إنه مكتوب في الأنبياء ويكون الجميع متعلمين من الله” (يو6: 45)، “ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين اعرفوا الرب لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم” (ارميا31: 34) سوف تقولون لماذا يجعل من نفسه رئيساً؟ لماذا يشغل هذا المكان؟
أرجوكم لنكف عن إدانة رعاتنا. وإذا كنا نريد ألا نسئ لأنفسنا علينا ألا نفحص أعمالهم، لنفحص أنفسنا، ولا نتكلم رديئاً عن أي إنسان. لنتذكر باحترام ووقار هذا اليوم الذي نلنا فيه سر المعمودية بواسطته. ومهما كان رذائل الأب على الابن أن يعالجها بحكمة بدون أن يشهر به: يقول الحكيم “لا تفخر بهوان أبيك فإن هوان أبيك ليس فخراً لك” (يشوع بن سيراخ 3: 12). حتى لو كان ينقصه الحذر، كن أنت متسامحاً، إذا قيلت هذه الكلمات عن الآباء بالطبيعة، فبالأولى تقال عن الآباء بالنعمة. احترم الذي يعمل يومياً لخدمتك. لأجلك يقرأ الكتب، لأجلك يزين بيت الله، لأجلك يسهر ويصلي، من أجلك ينسكب أمام الله متوسلاً لكي يهيئ لك المقدسات. احترمه متذكراً هذه الحسنات. لا تقترب منه إلا بوقار.
حدثني: هل هو رديء؟ ما الذي يهمك في ذلك. هو يجب ألا يكون رديئاً لكي يوزع عليك أكبر النعم؟
قطعاً لا. فكل شئ يجري طبقاً لإيمانك، الإنسان الصالح لا يفيدك بشيء إن كنت غير مؤمن. والإنسان الشرير لا يضرك قط إن كنت مؤمناً.
هل هي حياة الكاهن: هل فضيلته هي التي تُجرى خلاصنا؟
الهبات التي أعطانا الله إياها ليست من طبيعة تتواجد بفضيلة الكهنة. كل شئ يأتي بالنعمة. الكاهن ما عليه إلا أن يفتح فمه، ويضع أعضاءه بين يدي الله ويمارس الأسرار المقدسة والله هو الذي يجري. تأملوا الفارق الكبير بين يدي يوحنا المعمدان ويسوع المسيح: يوحنا قال “أنا محتاج أن اعتمد منك” (مت 3: 14، يو 1: 27). وبرغم هذا الفارق الكبير نزل الروح القدس على يسوع أثناء عماد يوحنا له، مع أن يوحنا لم يكن قد أعد نفسه لنزول الروح القدس. قال الوحي الإلهي: “ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا” (يو1: 16). ومع ذلك الروح القدس لم ينزل قبل العماد، وليس يوحنا هو الذي جعله ينزل.
أريد أن أقول شيئاً ربما يظهر أنه غير قابل للتصديق، ولكن لا تندهشوا ولا ترتبكوا قط. التقدمة هي، هي نفسها التي أعطاها يسوع قديماً لتلاميذه هي نفسها التي يحتفل بها الكهنة اليوم. هذه ليست أقل منها، لأنه ليس الإنسان هو الذي يقوم بتقديمها، بل الذي قدس الأولى هو الذي يقدس الثانية. الأقوال التي نطق بها الله وقتذاك هي نفسها التي ينطق بها الكهنة الآن. فالتقدمة هي نفسها. فكل شئ يتوقف على الإيمان. الروح القدس نزل في الحال على كرنيليوس قائد المئة لأنه أعلم إيمانه. إذاً جسد يسوع المسيح الآن هو هو كما كان وقتئذ ومن يتصور غير ذلك لا يعلم أن المسيح مازال حاضراً وأنه دائماً هو الذي يُجرى.
مادمتم تعرفون هذه الأمور، وأنا لا أقولها دون باعث، بل لأجل إصلاحكم من أخطائكم، ولكي تصبحوا أكثر حذراً في المستقبل، فأرجو أن تلاحظوا أقوالي بعناية. إذا كنا نسر بالاستماع دون تطبيق، لا نخرج بأية فائدة من الوعظ. أعطوا انتباهاً كاملاً ويقظاً جداً لكلمة الله، لننقشها على قلوبنا، لنحفظها دائماً مطبوعة في ضمائرنا. ولا نكف أبداً عن تمجيد الآب، والابن والروح القدس آمين.