المقالة10 ج3 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم
السجود والعبادة بالروح والحق
تابع المقالة العاشرة
استكمالاً للحديث السابق “عن الخيمة المقدسة، وعن الأشياء الموجودة فيها”
بلاديوس: تملأُني الرغبةُ في هذا الحديث.
كيرلس: كان قورح وأبيرام ومعهم داثان ينحدرون من سبط لاوي. وبالرغم من أنه أُوكِل إليهم العمل الليتورجي القانوني في الخيمة المقدسة بقرار من السماء، إلاَّ أنهم غاروا من مجد موسى وهرون، وأرادوا أنْ يسرقوا الكرامة لذواتهم، دون أن يدعوهم الله لهذا العمل[1]. هكذا، وبينما هم تحت تأثير سيطرة وقاحةٍ شنيعة، وغيرةٍ شديدةٍ اشتكوا ضد الأخوين (موسى وهرون) بطريقة غير مقبولة أبعدوهما كأنهما ثيرانٍ منعزلة ملقين عن كاهلهما خدمة الله، وأقنعوا فُجارًا آخرين لكي يتمردوا عليهما. لكن هؤلاء بالتأكيد نالوا عقابهم على كل ما أقدموا عليه. إذ ابتلعتهم الأرض ـ فاتحةً فاها مع أهلهم وخيمتهم وثرواتهم ـ هذا الجمع الحسود ـ إلى الهاوية.
وبقرار من السماء، وليس بإرادة موسى، أخذ هرون المكان الأول في الكهنوت. وحين أراد الله المشرِّع أنْ يعلن هذا الأمر قال لموسى العظيم: ” كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخُذْ مِنْهُمْ عَصًا عَصًا لِكُلِّ بَيْتِ أَبٍ مِنْ جَمِيعِ رُؤَسَائِهِمْ حَسَبَ بُيُوتِ آبَائِهِمِ. اثْنَتَيْ عَشَرَةَ عَصًا. وَاسْمُ كُلِّ وَاحِدٍ تَكْتُبُهُ عَلَى عَصَاهُ. وَاسْمُ هَارُونَ تَكْتُبُهُ عَلَى عَصَا لاَوِي، لأَنَّ لِرَأْسِ بَيْتِ آبَائِهِمْ عَصًا وَاحِدَةً. وَضَعْهَا فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ أَمَامَ الشَّهَادَةِ حَيْثُ أَجْتَمِعُ بِكُمْ. فَالرَّجُلُ الَّذِي أَخْتَارُهُ تُفْرِخُ عَصَاهُ، فَأُسَكِّنُ عَنِّي تَذَمُّرَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي يَتَذَمَّرُونَهَا عَلَيْكُمَا. فَكَلَّمَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَعْطَاهُ جَمِيعُ رُؤَسَائِهِمْ عَصًا عَصًا لِكُلِّ رَئِيسٍ حَسَبَ بُيُوتِ آبَائِهِمِ. اثْنَتَيْ عَشَرَةَ عَصًا. وَعَصَا هَارُونَ بَيْنَ عِصِيِّهِمْ. فَوَضَعَ مُوسَى الْعِصِيَّ أَمَامَ الرَّبِّ فِي خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ. وَفِي الْغَدِ دَخَلَ مُوسَى إِلَى خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ، وَإِذَا عَصَا هَارُونَ لِبَيْتِ لاَوِي قَدْ أَفْرَخَتْ. أَخْرَجَتْ فُرُوخًا وَأَزْهَرَتْ زَهْرًا وَأَنْضَجَتْ لَوْزًا. فَأَخْرَجَ مُوسَى جَمِيعَ الْعِصِيِّ مِنْ أَمَامِ الرَّبِّ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَظَرُوا وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ عَصَاهُ. وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: رُدَّ عَصَا هَارُونَ إِلَى أَمَامِ الشَّهَادَةِ لأَجْلِ الْحِفْظِ، عَلاَمَةً لِبَنِي التَّمَرُّدِ، فَتَكُفَّ تَذَمُّرَاتُهُمْ عَنِّي لِكَيْ لاَ يَمُوتُوا ” (عد17: 2 ـ 10).
إذن، كان النْبتُ لعصا هرون علامةً واضحةً، واختيارًا ـ بطريقةٍ باهرةٍ وممتازة ـ للقيام بالعمل المقدس؛ لأنَّ هرون العظيم كان من نسل لاوي (انظر عب 7: 5). لكن لو نظرنا لهذا الحدث من منظارٍ روحيٍ، لأشرق لنا سرُ المسيح في هذه الأمثلة الغنية.
بلاديوس: كيف ذلك؟
كيرلس: لقد عُيِّن عمانوئيل حقًا كمشرِّعٍ، ورئيسَ كهنةٍ لأجلنا بواسطة الله الآب مقدِّمًا ذاته ذبيحةً لأجلنا (انظر عب9: 14)؛ لأنَّ الناموس، كما يقول بولس الطوباوى: ” يُقِيمُ أُنَاسًا بِهِمْ ضَعْفٌ رُؤَسَاءَ كَهَنَةٍ. وَأَمَّا كَلِمَةُ الْقَسَمِ الَّتِي بَعْدَ النَّامُوسِ فَتُقِيمُ ابْنًا مُكَمَّلاً إِلَى الأَبَدِ ” (عب7: 28). إذن، فقد نزل الكلمةُ من السماء وصار مشابهًا لنا، خادمًا للأقداس والخيمة الحقيقية التي أقامها الرب، وليس أيُ إنسان. لكن الذين انحدروا من دم إسرائيل لم يقبلوا تدبير تجسده، وعدّوه عدوًا لهم، فضربوه بشتى الطرق، بسهام الحسد والغيرة، ولم يتورَّعوا عن استخدام اللسان والوقاحة والمبررات السخيفة ضده، بينما التعساءُ منهم انجرّوا إلى هلاك ذواتهم وحكموا عليه بالصلب.
لكن العصا التي خرجت من جذر يسى، نبتت مرةً أخرى[2]، أي قام المسيحُ ودبَّتْ فيه الحياةُ مرةً ثانيةً ” ناقضًا أوجاعَ الموت ” ـ كما هو مكتوبٌ ـ (انظر أع2: 24). لقد كان حقًا هو الحياةُ بطبيعته، أى بلاهوته، فكيف يمكنُ أنْ يُمسكَ من الموت ولا ينتصر على الفساد؟!
ومثلما أُحييت العصا، ونَبَتَ مرةً أخرى ـ بالفعل ـ السِّبط الميِّت، وكان هذا الأمر بالنسبة للأقدمين علامةً على أنَّ هرون قد عُيِّن رئيسُ كهنةٍ بقرار السماء، هكذا نستند على إنَّ البرهان الساطع والحي والكافي على أنَّ عمانوئيل هو الإلهُ بطبيعته، هو أنه داس الموت، وأنه قام من الأموات كما يليق بإلهٍ. وأنه هو نفسه المسيح الذي، بالرغم من أنه كان يمكنه ـ دون أي تعب – أنْ يستجيب لأولئك الذين طلبوا منه علامةً، إلاَّ أنه قال: ” هذَا الْجِيلُ شِرِّيرٌ. يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةُ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى، كَذلِكَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ أَيْضًا لِهذَا الْجِيلِ ” (لو11: 29ـ30).
إذن، فقد صار من المعروف أنَّ علامةً حقيقيةً وساطعةً قد أُعطيت لكي يؤمن البشر الصُرحاء حقًا أنه هو الله بطبيعته، وإنه قد أتى من الله الآب، وأنَّ الابنَ قد أبطل الموت والفساد ونَبَتَ مرةً أخرى في الحياة. لأنَّ المسيحَ قام الآن ” مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ ” (1كو15: 20). وأعطى علامةً لأبناء المعصية؛ لكي يعرفوا أنه ـ بقرارٍ من الله الآب ـ صار المسيحُ لأجلنا رئيسَ كهنةٍ ” قُدُّوسٌ بِلاَ شَرّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ ” كما هو مكتوب (عب7: 26).
بلاديوس: بالفعل، لقد أزهرت عصا هرون لأجلنا. هذا ما قالته لنا الكلمة المقدسة منذ قليل: هذه العصا أثمرت لوزًا. لكني لا أفهم ماذا يعنى هذا الرمز؟
كيرلس: ليس غريبًا إطلاقًا يا بلاديوس أنْ نُشير إلى أنَّ العصا قد جاءت من شجرة اللوز. إذ اعتاد الأقدمون على استخدام مثل هذه العُصي. ولكي يجيء الحديثُ منسجمًا مع التفسيرات، سأشير أيضًا إلى الأمر الذي صار تقليدًا، إذ يرى البعضُ أنَّ عصا اللوز لها قوة تجلب يقظة وسهرًا إذا ما وضعها الشخص بالقرب من رأسه، الأمر الذي يمكن أنْ يصير بقدراتٍ طبيعيةٍ بسماح من الله. وهذا الأمر يؤكده لنا كلّي المعرفة وخالق الجميع عندما تحدث مع إرميا قائلاً: ” مَاذَا أَنْتَ رَاءٍ يَا إِرْمِيَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا رَاءٍ قَضِيبَ لَوْزٍ. فَقَالَ الرَّبُّ لِي: أَحْسَنْتَ الرُّؤْيَةَ، لأَنِّي أَنَا سَاهِرٌ عَلَى كَلِمَتِي لأُجْرِيَهَا ” (إر1: 11 ـ 12). إذًا عصا اللوز يمكن أنْ تعتبر حقًا رمزًا لليقظة والسهر. اليقظة من النوم إذن هي قيامة المسيح من بين الأموات. لذلك يقول المرنم على الربابة: ” أَنَا اضْطَجَعْتُ وَنِمْتُ. اسْتَيْقَظْتُ لأَنَّ الرَّبَّ يَعْضُدُنِي ” (مز3: 5).
بلاديوس: حديثُك صادقٌ.
المنارة والمائدة:
كيرلس: أمَّا المنارةُ والمائدةُ اللتان كانتا موجودتين في المسكن الأول، فمكتوبٌ عنهما الآتي: ” وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً: أَوْصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُقَدِّمُوا إِلَيْكَ زَيْتَ زَيْتُونٍ مَرْضُوضٍ نَقِيًّا لِلضَّوْءِ لإِيقَادِ السُّرُجِ دَائِمًا. خَارِجَ حِجَابِ الشَّهَادَةِ فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ يُرَتِّبُهَا هَارُونُ مِنَ الْمَسَاءِ إِلَى الصَّبَاحِ أَمَامَ الرَّبِّ دَائِمًا فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً فِي أَجْيَالِكُمْ. عَلَى الْمَنَارَةِ الطَّاهِرَةِ يُرَتِّبُ السُّرُجَ أَمَامَ الرَّبِّ دَائِمًا. وَتَأْخُذُ دَقِيقًا وَتَخْبِزُهُ اثْنَيْ عَشَرَ قُرْصًا. عُشْرَيْنِ يَكُونُ الْقُرْصُ الْوَاحِدُ. وَتَجْعَلُهَا صَفَّيْنِ، كُلَّ صَفّ سِتَّةً عَلَى الْمَائِدَةِ الطَّاهِرَةِ أَمَامَ الرَّبِّ. وَتَجْعَلُ عَلَى كُلِّ صَفّ لُبَانًا نَقِيًّا فَيَكُونُ لِلْخُبْزِ تَذْكَارًا وَقُودًا لِلرَّبِّ. فِي كُلِّ يَوْمِ سَبْتٍ يُرَتِّبُهُ أَمَامَ الرَّبِّ دَائِمًا، مِنْ عِنْدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِيثَاقًا دَهْرِيًّا. فَيَكُونُ لِهَارُونَ وَبَنِيهِ، فَيَأْكُلُونَهُ فِي مَكَانٍ مُقَدَّسٍ، لأَنَّهُ قُدْسُ أَقْدَاسٍ لَهُ مِنْ وَقَائِدِ الرَّبِّ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً ” (لا24: 1 ـ 9).
حسنًا. يكون الزيتُ نقيًا، ويكون من الزيتون، وليس من بذورٍ أخرى أرضية، والتي يخرجون منها ـ بالعصر، زيتًا ليس نقيًا تمامًا، بل ـ زيتًا مُخلَّقًا. فالنور داخل الكنائس دائمًا ما يكون نقيًا وأصيلاً. ونورُ المسيح بواسطة الروح القدس يظل ظاهرًا ومنيرًا حتى وإنْ كان يُخدم بواسطة القديسين الذين قال لهم المسيح: ” أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ ” (مت5: 14). وليس ذلك غريبًا على الإطلاق؛ لأنَّ أولئك دعاهم إخوةً، وجعلهم مشاركين ذاته، ومنح لهم مجده.
هكذا، أنار المصباح في المسكن الأول. ولهذا الأمر معنىً مزدوجًا. ففي المسكن الداخلي سبعةُ مصابيح تنير في الصباح وتُرسل نورًا عظيمًا لأولئك الذين يدخلون إلى المسكن. المصباحُ كان هو المسيحُ الذي أشرق على الذين أرادوا أنْ يدخلوا إلى قدس الأقداس بنورٍ وفيرٍ ” نَظَرُوا إِلَيْهِ وَاسْتَنَارُواْ ” (مز34: 5).
أيضًا إنارة المصابيح حتى الصباح تعنى موعد التأنُّس. لأنه أشرق كالنهار، ولمع بنورٍ ذهنيٍ طاردًا ظلام الجهل القديم، ومبددًا مثل الليل الضباب الذي انقضَّ على قلوب الجميع. هكذا ترجَّى النبي من أجل قدوم الرب قائلاً: ” يَا رَبُّ، بِالْغَدَاةِ تَسْمَعُ صَوْتِي. بِالْغَدَاةِ أُوَجِّهُ صَلاَتِي نَحْوَكَ وَأَنْتَظِرُ ” (مز5: 3). أي منذ أنْ صارت صلواتنا مقبولة، إذ كنا قديمًا ضالين، أما الآن فإننا نتقدم إلى الله في تضرعٍ وروحانية وطاعة وإيمان، حيث أشرق علينا نورٌ من السماء، أي المسيح.
إذن، في الخيمة الداخلية يوجد نورٌ نقيٌ وغني. ففي المسكن الأول أنار المصباح مُظهرًا أنَّ أولئك الذين يسلكون بحسب الناموس، لا يحيون بدون النور الإلهي، هذا يعلن الأمر كله. لأنَّ الناموس الموسوي دعا الشعب من عبادة الآلهة إلى معرفة الله الحقيقي بطبيعته، وبذلك منع الأقدمين من أنْ يعبدوا المخلوق دون الخالق، وهذا ما لم تستطع تلك الأنفس (أى الذين عبدوا المخلوقات) ـ التي كانت تحيا بدون النور الذهني ـ أنْ تحققه.
ويمكنني أنْ أقول أيضًا إنَّ إنارة المسيح لهؤلاء الموجودين في قدس الأقداس، غنيةٌ ووفيرةٌ، لكنها أقل بالنسبة لأولئك الذين يحيون بالناموس. وهذا القول صادقٌ، لأنه لا يتساوى ـ بأي شكلٍ ـ ظِلُ الناموس مع التعاليم الإنجيلية من جهة البهاء الروحي؛ لأنَّ هذه التعاليم تشرق على كل المسكونة، بينما الناموس كان مقتصرًا فقط على الإسرائيليين.
بلاديوس: أنت تتحدث بالصواب.
كيرلس: لكن يبدو يا بلاديوس إنَّ المائدة والمصباح اللذان كانا في المسكن الأول يشيران إلى أمور أخرى.
بلاديوس: ماذا تقصد؟
كيرلس: يرمز المصباح إلى يوحنا المعمدان، بينما يشير الاثنا عشر رغيفًا الموضوعين فوق المائدة إلى الاثنى عشر رسولاً.
بلاديوس: كيف؟
كيرلس: ألا تعرف أنَّ يوحنا المعمدان الذي سبق المسيح، كان لأولئك الذين يحيون بحسب الناموس كمثل المصباح، وعنه أعلن الله الآب ” رَتَّبْتُ سِرَاجًا لِمَسِيحِي ” (مز32: 17)؟ والمخلِّص نفسه أعطى تأكيدًا قائلاً لقادة اليهود ” كَانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ، وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً ” (يو5: 35).
إذًا لاحظ كيف جعلنا بولس الطوباوي ـ الذي كان عارفًا بالناموس ـ نتذكر مصباح المسكن الأول. فقد أمر المشرِّع أنْ يكون المصباح منيرًا قائلاً: ” أَوْصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُقَدِّمُوا إِلَيْكَ زَيْتَ زَيْتُونٍ مَرْضُوضٍ نَقِيًّا لِلضَّوْءِ لإِيقَادِ السُّرُجِ دَائِمًا. خَارِجَ حِجَابِ الشَّهَادَةِ فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ يُرَتِّبُهَا هَارُونُ مِنَ الْمَسَاءِ إِلَى الصَّبَاحِ أَمَامَ الرَّبِّ دَائِمًا فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً فِي أَجْيَالِكُمْ ” (لا24: 2 ـ 3).
لقد استمتع اليهود ـ في وقت وجيز سريع ـ بنوره، إذ أسرعوا إلى المعمودية التي منحها إياهم، وبينما كانوا معجبين به كثيرًا، سلَّموه إلى الموت وأطفئوا المصباح الذي كان دائمًا منيرًا. وإنْ قالوا إنَّ هيرودس كان متهورًا في مسألة قتله، أقول إنَّ هيرودس أيضًا كان له أصل مشترك مع اليهود، لذلك قال المسيح مشتكيًا وقاحة اليهود ضد أي نبي: ” لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجًا عَنْ أُورُشَلِيمَ ” (لو13: 33).
بلاديوس: بالتالي، كان المصباح ـ قياسًا على التشبُّه بالمسيح ـ بالنسبة لأولئك الذين عاشوا بالناموس في إسرائيل يشير إلى يوحنا المعمدان.
كيرلس: هكذا أقول. وعلى ذات القياس، نقول إنه يجب أنْ ندرك أنَّ الأثنى عشر رغيفًا يشيرون للرسل القديسين؛ لأنَّ واحدًا هو الخبز الحقيقي السماوي والحي، أمَّا الأرغفة، فهي تشير إلى المعلِّمين الإلهيين اللذين يمنحون التقوى بالتشبُّه بالمسيح الخبز الحقيقي والطبيعي والمتحد بهم، إذ يضعون في نفوسنا كلام الحياة، ويسدِّون جوع نفوس المؤمنين إلى المعرفة. وتتساوى الأرغفة في العدد مع التلاميذ؛ لأنَّ الأرغفة كانت اثنتا عشر موضوعة في مجموعتين: ستةٌ على جانب واحد، وستةٌ أخرى على الجانب الآخر بطريقة دائرية، وفي المنتصف لدينا رغيف من السماء[3]، أي المسيح. وكل رغيف كان من عُشرين (انظر لا24: 5)، أي من قياسين كاملين. لأنَّ التلاميذ الرسل كانوا كاملين في الأمرين[4]، وكانوا أرغفةً من جهة كل صلاحٍ، بارعين في عملهم وفي حديثهم.
أيضًا كان اللُبان والملح يُرشَّان فوق الخبز. واللُبان كان يُشير إلى عطر نقاوة ورائحة المسيح الذكية، ويُشير الملح إلى رجاحة العقل. إذ كان حديثُ القديسين مملوءًا بالفرح والاتزان، ومصلَّحًا بملح كما هو مكتوب (انظر كو4: 6)، ويعطي نعمة لهؤلاء الذين يسمعونه (انظر أف4: 29). أيضًا قال لهم المسيح ” أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ ” (مت5: 13).
وكان وضع الأرغفة فوق المائدة يصير في يوم السبت؛ لأنَّ تكليف الرسل كان وقت السبت العقلي، أي وقت حضور المسيح، والذي بسبب عدم فهم اليهود له، قال لهم بولس الرسول: ” لأنه لو كان يشوع قد أراحهم كما تكلم بعد ذلك عن يوم آخر إذًا بقيت راحةٌ لشعب الله ” (عب4: 8 ـ 9). لأنهم لم يأتوا إلى راحته طالما أنهم لم يؤمنوا به. إذًا يوم الراحة العقلي والحقيقي هو وقت قدوم المخلّص.
كما إنَّ وضع الأرغفة سوف يصير أمام الله وأمام الإسرائيليين؛ لأنه يقول: ” في كل يوم سبت يُرتِّبه أمام الرب دائمًا من عند بني إسرائيل ميثاقًا دهريًا ” (لا24: 8)، لأنَّ الربَ سوف يرى هؤلاء القديسين ويعلن استحقاقهم وهم تحت بصره دائمًا. لأنه يقول: ” عيون الرب حالة حول الأبرار ” (مز34: 7س). وهكذا يكون على الإسرائيليين أنْ يلاحظوا هؤلاء، وأنْ تتجه عيون ذهنهم إليهم، وذلك على مثال العين الجسدية.
ويقول أيضًا: ” فيكون لهرون وبنيه فيأكلونه في مكان مقدِّسٍ. لأنه قدسُ أقداسٍ له من وقائد الربِ فريضةً دهريةً ” (لا24: 9). أي أنَّ كتابات الرسل القديسين التي كتبوها لأجلنا وُضِعَت أمامنا لغذائنا نحن الذين خلُصنا بالإيمان، وصرنا جنسًا مقدسًا وشعبًا خاصًا له يرعانا بعنايته، ومختارين ومختومين بنعمة الروح القدس (انظر 1بط2: 9).
بلاديوس: إنَّ حديثَك جيدٌ، لذا أوافقك على ما تقول. لكن ما هو السبب في عدم وجود نماذج أو أمثلة تشير إلى يوحنا المعمدان والرسل القديسين في قدس الأقداس، بل ولا حتى في المسكن الأول؟
كيرلس: لأنَّ كثيرًا من هذه النماذج كانت تُشير بشكل مشترَك للقديسين وللمسيح، لكن حيث يكون المسيح، يجيء القديسون في مرتبةٍ ثانيةٍ؛ لأنَّ كل ما يخص الله هو بعيد ومنفصل تمامًا عن الأمور البشرية، والحديثُ يُظهر أنَّ طبيعة ومجد المسيح يختلفان تمامًا عما هو للقديسين. ولما كانت هذه النماذج قد جاءت من العبادة الناموسية، لذا فإنَّ مكان هذه الأمثلة هو المسكن الأول حيث يوجد مذبح المحرقة كمثالٍ ونموذج. ألم تَصِر دعوة التلاميذ القديسين من بين جنس الإسرائيليين، وبالتالي تبدو وكأنها من المسكن الأول؟
بلاديوس: حسنًا جدًا.
10 المقصود بالعمل هنا هو عمل الكهنوت “وقال موسى لقورح اسمعوا يا بني لاوي. أقليلٌ عليكم أن إله إسرائيل أفرزكم من جماعة إسرائيل ليقربكم إليه لكي تعملوا خدمة مسكن الرب وتقفوا قدام الجماعة لخدمتها. فقربك وجميع اخوتك بني لاوي معك وتطلبون كهنوتًا. إذن أنت وكل جماعتك متفقون على الرب. وأما هرون فما هو حتى تتذمروا عليه” (عدد 16: 8 ـ 11).
11 “ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله” إش11: 1
12 لا يتكلم نص سفر اللاويين بالطبع عن رغيف في الوسط، ولكن القديس كيرلس إذ يرى في الخبز الموضوع على المذبح رمزًا مسبقًا للإفخارستيا، يتجاوز هذا النص بخصوص رؤيته للخبز الحي الحقيقي؛ فلا يرى التلاميذ إلاَّ وهم محيطون بالمسيح، والمسيح منهم في مركز الوسط، فيستوحي منظر العشاء الإفخارستي الذي كان فيه المسيح الخبز الحي الحقيقي ـ باعتباره رغيفًا من السماء ـ في الوسط، ومن حوله تلاميذه في منظر يصف فيه الكنيسة التي تجتمع مع رأسها؛ لأن الأرغفة الاثنا عشر لا قيمة لها بدون الرغيف الواحد، فمنه تستمد قوتها وفاعليتها. (المترجم)
[4] أي في العمل والكلام كما يوضح هو فورًا.