Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

المقالة10 ج2 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

المقالة10 ج2 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

المقالة10 ج2 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

 

السجود والعبادة بالروح والحق

تابع المقالة العاشرة

استكمالاً للحديث السابق “عن الخيمة المقدسة، وعن الأشياء الموجودة فيها”

 

بلاديوس: حديثك دقيقٌ وعميق.

كيرلس: لكن لم يبتعد هذا الحديث عن الهدف.

بلاديوس: أوافقك على هذا.

كيرلس: بعد ذلك يقول: ” وَأَمَّا الْمَسْكَنُ فَتَصْنَعُهُ مِنْ عَشَرِ شُقَقِ بُوصٍ مَبْرُومٍ وَأَسْمَانْجُونِيٍّ وَأُرْجُوَانٍ وَقِرْمِزٍ. بِكَرُوبِيمَ صَنْعَةَ حَائِكٍ حَاذِق تَصْنَعُهَا. طُولُ الشُّقَّةِ الْوَاحِدَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُ الشُّقَّةِ الْوَاحِدَةِ أَرْبَعُ أَذْرُعٍ. قِيَاسًا وَاحِدًا لِجَمِيعِ الشُّقَقِ. تَكُونُ خَمْسٌ مِنَ الشُّقَقِ بَعْضُهَا مَوْصُولٌ بِبَعْضٍ، وَخَمْسُ شُقَق بَعْضُهَا مَوْصُولٌ بِبَعْضٍ. وَتَصْنَعُ عُرًى مِنْ أَسْمَانْجُونِيٍّ عَلَى حَاشِيَةِ الشُّقَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي الطَّرَفِ مِنَ الْمُوَصَّلِ الْوَاحِدِ. وَكَذلِكَ تَصْنَعُ فِي حَاشِيَةِ الشُّقَّةِ الطَّرَفِيَّةِ مِنَ الْمُوَصَّلِ الثَّانِي. خَمْسِينَ عُرْوَةً تَصْنَعُ فِي الشُّقَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَخَمْسِينَ عُرْوَةً تَصْنَعُ فِي طَرَفِ الشُّقَّةِ الَّذِي فِي الْمُوَصَّلِ الثَّانِي. تَكُونُ الْعُرَى بَعْضُهَا مُقَابِلٌ لِبَعْضٍ. وَتَصْنَعُ خَمْسِينَ شِظَاظًا مِنْ ذَهَبٍ، وَتَصِلُ الشُّقَّتَيْنِ بَعْضَهُمَا بِبَعْضٍ بِالأَشِظَّةِ. فَيَصِيرُ الْمَسْكَنُ وَاحِدًا” (خر30: 1 ـ 6).

 

إنَّ مذبح البخور الذهبي هو المسيح، وقد سبق أن قُلت هذا مرارًا[1]. وقد وُضع هذا المذبح أمام التابوت خلف الحجاب. وكان السيرافيم على شكل دائري، ومن أعلا كان الله (يتحدَّث) مُظهرًا رائحة عمانوئيل الفائقة؛ لأنه لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه غشٌ كما هو مكتوب (انظر إش9:53، 1بط22:2)، لذلك قال هو نفسه: ” اَلآبُ يُحِبُّ الابْنَ ” (يو3: 35).

 

كذلك نحن، فقد صِرنا مقبولين من الله إذ تفوح مِنّا مسحة المسيح. وهذا ما يؤكده بولس الرسول قائلاً: ” شُكْرًا ِللهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. لأَنَّنَا رَائِحَةُ الْمَسِيحِ الذَّكِيَّةِ ِللهِ، فِي الَّذِينَ يَخْلُصُونَ وَفِي الَّذِينَ يَهْلِكُونَ” (2كو2: 14 ـ 15).

بلاديوس: أنت تتحدث بالصواب.

كيرلس: دعنا نتعمق في الأمر بأكثر دقة، ونحن متنبهون لما هو مكتوب.

 

لقد وُضع التابوت داخل خيمة الاجتماع تجاه الغرب، وأمامه المذبح النُحاسي ناحية الشرق. وذلك لأنَّ الشرق والغرب والشمال والجنوب قد امتلئوا من المؤمنين الذين آمنوا بالمسيح.

 

وهكذا كان مكان المنارة جنوب الخيمة، بينما المائدة كانت تجاه الشمال، وبكلتيهما أُعلن المسيح، وقد سبق لنا أنْ برهنّا على ذلك في حديثنا السابق[2]. أمَّا كونُ المسيحِ نورًا، فقد أعلنته المنارة، وكونه الحياةَ والخبز الذي يعطي حياةً، فقد أظهرته المائدة وكل ما وُضع فوقها.

 

لكن عليك أنْ تتأمل أمرًا آخرًا، وتلاحظ ما ينطوي عليه من سرٍّ: يقع موطن اليهود في الجنوب، بينما موطن الأمم في الشمال. فإذا أخذنا في الاعتبار مكان كلٍ من المنارة والمائدة، فسوف يُدرك مَن يريد، أنَّ المسيحَ قد أشرق كنورٍ على اليهود وكرز لهم ” أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ ” (يو8: 12). لأنه قد أُرسل إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (مت15: 24)، وبحسب الكتب المقدسة ” لأنَّ لهم المواعيد ” (رو9: 4). لكن بما أنهم لم يقبلوا نور الحق، صار المسيحُ للأمم هو الحياةَ والخبزَ النازل من السماء، وهكذا لم يبقَ الأممُ بدون نور. وهذا ما تراه من جهة أنَّ النورَ يُشرق على شمال الخيمة؛ لأنَّ المنارةَ قد وُضعت فوق المائدة التي كانت جنوبًا. وما ساعد على إظهار ذلك، أنَّ الخيمةَ كانت محدودة القياس.

 

هذا المثال يُظهر لنا أنه حيث يُشرق النور الإلهي، فهناك إمكانية للمستحقين، أن يصيروا شركاء المسيح الخبز الحيّ الحقيقي. هكذا انضم الأمم لجسد المسيح، وصاروا شركاء في المسيح. لذا يقول بولس الرسول: ” أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ ” (أف3: 6). وأيضًا قال تلميذٌ آخرٌ للمسيح: ” إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ ” (2بط1: 19).

 

          وبعد أنْ أمر الله بوضع كل الآنية الموجودة هكذا في قدس الأقداس، أمر أيضًا أنْ يُصنع سجفٌ من أسمانجونى وأرجوان وقرمز وبوص مبروم (انظر خر26: 36). وهذا ـ كما قال ـ يكون معلقًا على امتداد مدخل الخيمة وذلك على خمسة أعمدة مغشَّاة بالذهب يكون لها خمس قواعد من النحاس. ويستخدم هذا “السجف” ـ بالتأكيد ـ كستار للباب؛ وعن طريق الحلقات الرفيعة المتصلة بها تُسحب الستارة، فينكشف المدخل، ثم يُسحب من الجهة المقابلة ويمتد بالعرض كله، فيغطي على المقدَّسات الموجودة داخل الخيمة.

وتُشير الأعمدة الخمسة المغشَّاة بالذهب والفضة إلى معلّمي الكنائس وقادتها في الوقت الخامس[3] الذي أتى فيه المسيح. وهم الذين يكرزون بكلمة الحق باستقامة، وقيمة هؤلاء ثمينة مثل الذهب، ولهم صدىً ورنينًا مفرحًا مثل النحاس. لأنه يقول: ” فِي كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى الْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ ” (مز19: 4). هؤلاء فتحوا ـ بتعليمهم الروحي والسرائري ـ البابَ لأولئك الذين يريدون الدخول إلى قدس الأقداس، أي إلى داخل الخيمة المغطاة بالحجاب، وكذلك الجزء الثاني من الخيمة الذي يُلحق به، والذي يوجد به مذبح المحرقة حيث تقدَّم كل الذبائح الدموية (انظر خر29: 1 – 18)، كما يوجد به أيضًا المرحضة النحاسية. كان مذبح المحرقة يبدو ظاهرًا بالقرب من أبواب الخيمة في الدار الخارجية، أمَّا المرحضة فكانت في الداخل[4].

بلاديوس: لكن ما هو المعنى الذي تخفيه هذه الملاحظة؟

كيرلس: يا بلاديوس، يتميز الكتاب المقدس بالدقة، ولا يوجد فيه شيءٌ بلا فائدة. بل لعلك تلاحظ كيف أنَّ الرمزَ يُظهر لنا أنَّ الناموسَ إنما يعمل كمربي يقودنا إلى المسيح. ويتضح لنا هذا من أنَّ مذبحَ العبادة الناموسية قد وُضع بالقرب من المداخل التي تؤدى إلى قدس الأقداس. أي أنَّ الناموس يقودنا إلى بداية أسرار المسيح، وإلى مبادئ الدخول لمعرفته الدقيقة. لكن لا يقودنا أبدًا إلى قدس الأقداس، أي إلى الخيمة الداخلية حيث يوجد المسيحُ الفائق الجمال، كلمة الله، والنور، والخبز الحي، والرائحة الذكية لله الآب.

ألا ترى معي إنَّ بداءة أقوال الله هي دراسة العبادة الناموسية؟

بلاديوس: هذا حقيقي.

كيرلس: وكون أنَّ الناموس لا يُكمِّل شيئًا (انظر عب 7: 19)؛ فلأنه: ” لاَ يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا ” (عب10: 4)، وهو ما سوف تعرفه مباشرةً دون أدنى تعب عندما تتأمَّل في استخدام المرحضة. فقد كانت المرحضة موجودة بشكل بارز في المسكن الأول من الخيمة، حيث يغتسل فيها بالماء أولئك الذين يأتون إلى قدس الأقداس. وكان هذا الاغتسال قد فُرض ـ كقانون ـ على الكهنة. وهو ما يُظهر نقص ما كان يبدو في الناموس من كمال، معلنًا أنَّ التطهيرَ، إنما يكون بواسطة المعمودية التي تميِّز الجنس المقدس، أقصد هؤلاء الذين تبرروا بالإيمان، وهم الذين توجَّه إليهم التلميذ العظيم بقوله: ” وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ ” (1بط2: 9).

 

ويجب أنْ تعرف أنَّ ستارةً كانت قد امتدت حول الباب الخارجي للخيمة حتى لا يكون القدسُ عاريًا وظاهرًا للذين هم في الخارج، أي في القسم الأول من الخيمة حيث يوجد مذبح الناموس. وأعتقد أنَّ هذا المثال يُعلن أيضًا أنه ليس من قبيل الصدفة ألاَّ يكون الناموسُ واضحًا؛ لأنَّ الحرف قد غشَّاه بُرقعٌ كثيف، وقد لبس غموض الظل.

بلاديوس: هكذا هو بالفعل.

كيرلس: في القسم الأول من الخيمة يوجد كلٌ من المرحضة والمذبح. أمَّا في القسم الثاني العميق من الخيمة، فيوجد التابوت والمنارة، وطبعًا مذبح البخور الذهبي حيث البخور زكي الرائحة، والمائدةُ والخبز عليها. ويذكر بولس الرسول أيضًا القسط الذهبي الذي به المَنْ. كما يذكر أيضًا عصا هارون التي وُضِعت في قدس الأقداس؛ لأنَّ بولس دَرَسَ الكتب المقدسة وامتلأ بالمعرفة لكل ما كان قد شُرِّع في تلك الأوقات، وأُعلن لموسى الطوباوي بواسطة الكلمة.

 

وكان بولس يعرف أنَّ كلاً من المائدة والمنارة توجدان في المسكن الأول. وعن العهدين يكتب الآتي: ” فَإِذْ قَالَ «جَدِيدًا» عَتَّقَ الأَوَّلَ. وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الاضْمِحْلاَلِ ثُمَّ الْعَهْدُ الأَوَّلُ كَانَ لَهُ أَيْضًا فَرَائِضُ خِدْمَةٍ وَالْقُدْسُ الْعَالَمِيُّ، لأَنَّهُ نُصِبَ الْمَسْكَنُ الأَوَّلُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «الْقُدْسُ» الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمَنَارَةُ، وَالْمَائِدَةُ، وَخُبْزُ التَّقْدِمَةِ. وَوَرَاءَ الْحِجَابِ الثَّانِي الْمَسْكَنُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «قُدْسُ الأَقْدَاسِ» فِيهِ مِبْخَرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَتَابُوتُ الْعَهْدِ مُغَشًّى مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بِالذَّهَبِ، الَّذِي فِيهِ قِسْطٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ الْمَنُّ، وَعَصَا هَارُونَ الَّتِي أَفْرَخَتْ، وَلَوْحَا الْعَهْدِ. وَفَوْقَهُ كَرُوبَا الْمَجْدِ مُظَلِّلَيْنِ الْغِطَاءَ. أَشْيَاءُ لَيْسَ لَنَا الآنَ أَنْ نَتَكَلَّمَ عَنْهَا بِالتَّفْصِيلِ ” (عب8: 13، 9: 1 ـ 5).

بلاديوس: ما الذي سوف نقوله إذا أراد أحدٌ أنْ يعرف أسباب وضع وصناعة كل هذه الأشياء؟

كيرلس: يا بلاديوس، لقد أمر أنْ تصيرَ أشياءٌ قبل أنْ تُصنع الخيمة المقدسة، وأشياء أخرى بعد التصنيع.

 

ففي سفر الخروج، قبلما تظهر الأمثلة عن الخيمة المقدسة، وقبلما تُعطى الأوامر عنها، أعلن الحديث عن القسط الذهبي (خر16: 33)، عارفًا ما سوف يصير.

 

وفي سفر العدد، وبعد إقامة الخيمة، نجد عصا هرون وقد وُضعت في قدس الأقداس (عد17: 3 ـ 5).

 

وفي سفر اللاويين أيضًا شرَّع الله الشرائع الخاصة بالمنارة وبمائدة مسكن الخيمة الأول (لا24: 4).

 

لقد كان بولس الحكيم يعرف الناموسَ معرفةً عميقةً حقًا، ولم يكن ليغيب عنه أي شيء من الأحداث، لكن يذكرها كلها. وهو لا يذكر فقط كل الأمور الأولى والأخيرة، بل وأيضًا ما بين هذه وتلك.

بلاديوس: حديثُك جيدٌ، لذا اخبرني الآن عن كل شيء بوضوحٍ وتأنٍّ؛ لأنَّ الحديثَ عن هذه الأمور لا شك عميق.

كيرلس: نعم، رأيك صائبٌ، فالحديثُ عميقٌ فعلاً.

 

قسط المن:

سوف أبدأ حديثي عن القسط. وحقيقة الأمر هي كالآتي: لقد أعطى الله المَنْ ـ مثل المطر ـ للإسرائيليين في الصحراء. لذا كان المَنُ بالنسبة لهم طعامًا وخبزًا من فوق، أي من السماء. لكن هذا الأمر (نزول المَنْ) ـ الذي صار وقتذاك ـ لا يتوقف عند الرؤية المادية والمحسوسة، بل يقودنا ـ من خلال المثال والظل ـ إلى الإشارة “للكلمة” الآتي من فوق، من الآب أى الخبزٍ الذي من السماء. وكانت هذه الرؤية هي التي قصدها داود العظيم قائلاً: ” أَكَلَ الإِنْسَانُ خُبْزَ الْمَلاَئِكَةِ. أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ زَادًا لِلشِّبَعِ ” (مز78: 25).

 

وطبعًا، نحن لا نقول إنَّ المَنْ المادي هو خبزٌ من السماء، أو هو خبز الملائكة؛ لأنَّ الروح تغتذي على طعامٍ روحي، كما يتغذى الجسد بطبيعته بالطعام المادي. لكن طعام الملائكة والخبز الذي يتناسب مع السموات والأرواح السماوية هو كلمة الله الآب. إذن، فالمَنْ يشير إلى المسيح. وإنْ لم تصر هذه الحقيقة مقبولة فالظل لا يعلن شيئًا مفيدًا. إذ أن الظل لم يَصِر ظلاً لعِلةٍ في ذاته، بل لكي يرمز إلى أمرٍ من الأمور الحسنة. لذلك وبَّخ المسيحُ جمعَ اليهود توبيخًا واضحًا لأنهم لم يكرِّموه بالرغم من أنه كان هو الحق، بينما كان موسى خادمًا للظلال. لذلك قال لهم المسيح: ” الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ، بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ، لأَنَّ خُبْزَ اللهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ. فَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هذَا الْخُبْزَ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا ” (يو6: 32 ـ 35).

 

          هكذا تنبَّأ اللهُ بواسطة موسى عن قسط المَنْ موضحًا إنَّ المَنْ هو صورة ترمز إلى الكلمة الذي نزل من فوق، من السماء، فقد كُتِبَ الآتي: ” وَقَالَ مُوسَى: هذَا هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الرَّبُّ. مِلْءُ الْعُمِرِ مِنْهُ يَكُونُ لِلْحِفْظِ فِي أَجْيَالِكُمْ. لِكَيْ يَرَوْا الْخُبْزَ الَّذِي أَطْعَمْتُكُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ حِينَ أَخْرَجْتُكُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. وَقَالَ مُوسَى لِهَارُونَ: خُذْ قِسْطًا وَاحِدًا وَاجْعَلْ فِيهِ مِلْءَ الْعُمِرِ مَنًّا، وَضَعْهُ أَمَامَ الرَّبِّ لِلْحِفْظِ فِي أَجْيَالِكُمْ. كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى وَضَعَهُ هَارُونُ أَمَامَ الشَّهَادَةِ لِلْحِفْظِ ” (خر16: 32 ـ 34).

 

وكما قلنا إنَّ التابوت الإلهي الذي يحتوى على الكلمة الإلهية، يُعلِنُ عن عمانوئيل؛ لأنَّ كلمةَ الله أتى إلى داخل الهيكل المقدس، أي الهيكل الذي قدَّمته العذراء. إذن، بنفس الطريقة، يُظهر القسط الذهبي ـ الذي يحتوى في باطنه المَنْ المادي ـ الكلمةَ السماوي والحي، أي الذي أتى من الآب متحدًا بجسدٍ مقدسٍ طاهرٍ.

 

وطبقًا لكلام بولس الطوباوي (انظر عب1:9ـ5)، كان القسطُ مملوءًا من المَنْ: ” لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ اللهِ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْل يُعْطِي اللهُ الرُّوحَ ” (يو3: 34)، لأنَّ المسيحَ كُلّيُ الكمالِ.

          إذن، كان القسطُ هناك لكي يُحفظ لأجيال بني إسرائيل؛ لأنَّ المسيحَ غيرُ فاسدٍ، بل هو باقٍ إلى الأبد، وهو حاضرٌ في كل وقت، وفي كل زمانٍ ماثلٌ أمام الرب، أي أمام أعين الآب. لأنَّ وحيدَ الجنسِ عندما صار إنسانًا دخل بعد ذلك إلى قُدس الأقداس في الخيمة الأعظم والأكمل، أي في السماء لكي يظهر الآن أمام الله لأجلنا، كما هو مكتوب (انظر عب9: 24). لأنه لا يقدِّم ذاته أمام الآب لأجل نفسه، بل يقدِّمنا في ذاته إلى الآب، بالرغم من أننا ضللنا من أمام وجه الآب بسبب مخالفة آدم، وبسبب الخطية التي مَلكَت وسادت على الكل. إذن، فقد اقتادنا المسيحُ، وبواسطته تمكنَّا من الحضور إلى مدخل الأقداس كما قال لنا بولس الرسول[9]. لأنه مثلما قُمنا مع المسيح، وجلسنا معه في السماويات، هكذا أيضًا نُوجد معه أمام الآب.

نكتفي إذن، بهذا الحديث عن القسط المقدس، ودعنا ننتقل ـ إذا أردت ـ إلى الحديث عن عصا هرون التي تشير إلى المسيح.

 

5 يؤكد القديس كيرلس أن مذبح الذهب صار رمزًا للمسيح، ولذلك فالبخور يوقد باستمرار، وهذا يعني أنه لا توجد لحظة لا يفوح المسيح فيها برائحته الذكية، كما أنه ممنوع تمامًا أن يوجد سكيبٌ فوق هذا المذبح أو ذبيحة؛ لأن فرائض الناموس أُبطلت بالمسيح، المرجع السابق ص 86 وما بعدها. قارن ذلك مع مذبح النحاس: ذات المرجع ص 78 وما بعدها

6 المرجع السابق ص 103 وما بعدها.

7 يقسِّم القديس كيرلس تاريخ علاقة الله مع الإنسان إلى خمسة أقسام، ويستند في ذلك إلى رمزية الأيام الخمسة التي يتم فيها حفظ خروف الفصح من اليوم العاشر للشهر حتى اليوم الرابع عشر منه، وإلى مثل أصحاب الساعة الحادية عشر، فيقول: “نلاحظ أنَّ الخروف يوضع تحت الحفظ من اليوم العاشر للشهر حتى اليوم الرابع عشر منه لكي يُذبَح في المساء. وإذا تساءلنا عن سبب ذلك، وجدنا أن هناك دلالةً هامة لتلك الأمور. ما المشكلة لو أُخِذَ الخروف في اليوم الأول من الشهر؟ وما هو الهدف الذي شَرَّع الله لأجله أن يُحفظ الخروف لمدة خمسة أيام، ومن ثم يُذبَحُ في المساء؟ ولماذا بدأنا العدُّ من اليوم العاشر حتى الرابع عشر، حتى يكون الناتج خمسة؟ أمَّا من جهة أنَّه لا يجب أن يُؤخذ الخروف للحفظ من اليوم الأول للشهر، فهذا يدُل – رمزيًا – على أنَّ زمننا هذا، قد أتى بعد أن كانت قد مرَّت قبلنا أزمنةٌ كثيرة وأجيالٌ طويلة، لم تكن خالية أبدًا من وجود الله. لأن فترة الخمسة أيام التي سبق أن أُشير إليها قُسِّمت إلى خمسِ فترات زمنية. وهذا هو الأمر الذي اتضح من المثل الذي قاله المخلِّص: “فإن ملكوت الله يشبه رجلاً ربَ بيتٍ خرج مع الصبح ليستأجر فعلةً لكرمه. فاتفق مع الفعلة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه. ثم خرج نحو الساعة الثالثة ورأى آخرين قيامًا في السوق بطالين. فقال لهم اذهبوا أنتم أيضًا إلى الكرم فأعطيكم ما يحق لكم. فمضوا. وخرج أيضًا نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل كذلك. ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قيامًا بطالين. فقال لهم لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطالين. قالوا له لأنه لم يستأجرنا أحدٌ. قال لهم اذهبوا أنتم أيضًا إلى الكرم فتأخذوا ما يحق لكم” (مت 20: 1 ـ 7). هل اتضح لك من هذه الأقوال أن زمننا هذا قد قُسِّم إلى خمس فترات؟ الفترة الأولى هي التي عاش فيها آدم، الأب الأول في الفردوس. والفترة الثانية كمثل “الساعة الثالثة”، ويقصد بها الزمن الذي عاش فيه نوح والذين كانوا معه. والفترة الثالثة هي مثل “الساعة السادسة” في المثَل وهي تُشير إلى الفترة الزمنية التي تبدأ بدعوة إبراهيم لكي يعرف الإله الحقيقي. كذلك الفترة الرابعة هي أيضًا مثل “الساعة التاسعة”، ويُقصد بها الفترة التي عاش فيها موسى والأنبياء. أمَّا الفترة الخامسة أي “نحو الساعة الحادية عشر”، أي التي فيها ينتهي اليوم، ويصل الزمن الحاضر إلى نهايته، في هذا الزمن استأجر السيد المسيح الأمم الذين لم يكونوا قد دُعوا بعد من أي أحد آخر أثناء الفترات السابقة. لذلك أجاب هؤلاء الآخرون قائلين: “لم يستأجرنا أحد”. راجع في ذلك: المسيح فصحنا الجديد – ترجمة د. جورج عوض إبراهيم، مراجعة د. نصحي عبد الشهيد – ص 12 وما بعدها ـ سلسلة نصوص آبائية رقم 88 – مايو 2005 – المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية.

ويستعيد القديس كيرلس نفس الرؤية عندما يشرح معنى الشقة الحادية عشر من الشقق التي تغطي الخيمة في المقالة التاسعة من السجود والعبادة بالروح والحق، يقول: “والعدد يظهر بالضبط أنه في الأزمنة الأخيرة وفي الساعة الحادية عشر يظهر المسيح والخيمة التي فيها المسيح، أي الكنيسة” راجع السجود والعبادة ج5 سلسلة نصوص آبائية رقم 97 – ص 102.

8 يقصد القديس كيرلس أن المرحضة كانت تقع داخل خيمة الاجتماع، وذلك بحسب ما ورد في سفر الخروج: “وتصنع مرحضةً من نحاس وقاعدتها من نحاس للاغتسال. وتجعلها بين خيمة الاجتماع والمذبح وتجعل فيها ماءً. فيغسل هرون وبنوه أيديهم وأرجلهم منها” (خر 30: 18 ـ 19).

9 “لأن به لنا كلينا قُدُومًا في روحٍ واحدٍ إلى الآب” (انظر أف 2: 18).

 

المقالة10 ج2 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

Exit mobile version