المقالة5 ج4 – السجود والعبادة بالروح والحق ج3 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم
السجود والعبادة بالروح والحق
تابع المقالة الخامسة
الشجاعة التي بالمسيح
بلاديوس: هذا حقيقي.
كيرلس: إذن، يجب على أولئك الذين اختاروا أن يصيروا تلاميذًا حقيقيين، أن يهجروا ضعفاتهم خلال مسيرة جهادهم، وأن يتركوا التذمر غير النافع، وكثرة الكلام بلا فائدة، والأحاديث التفاهة، والأكثر سوءًا من كل هذا هو الشهوات الدنسة ومحبة الجسد. هؤلاء ينساقون مرة نحو هذا الاتجاه، ومرة أخرى نحو اتجاه آخر، وهم مضطربوا الفكر، لأنه مكتوب: ” ويل للقلوب الهيابة وللأيدي المتراخية وللخاطئ الذي يمشي في طريقين“[1]. لذلك يجب الاحتمال في الآلام والثبات والصبر، وأن نُقدّر هذه الأمور جيدًا، وأن نتذكر المسيح القائل: ” إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني“[2]. بمعنى أنه إن أراد أحد أن يصير لي تلميذًا يجب أن يجوز نفس الآلام معي ويسير في نفس الطريق، لأنه بهذا سيستريح وسيحيا معي إلى الأبد. هذه كانت طلبة المسيح من الله الآب لأجلنا: ” أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون لينظروا مجدي الذي أعطيتني“[3]. نحن نحيا مع المسيح ونحن على الأرض، لكننا نحيا لا جسديًا بل روحيًا، ونجاهد أن نجعل من هذه الحياة مكانًا للهدوء والسلام، ولكل ما يُرضي المسيح. مكتوب في سفر العدد: “ وفي يوم إقامة المسكن غطت السحابة المسكن خيمة الشهادة، وفي المساء كان على المسكن كمنظر نار إلى الصباح. هكذا كان دائمًا السحابة تغطيه ومنظر النار ليلاً. ومتى ارتفعت السحابة عن الخيمة كان بنو إسرائيل بعد ذلك يرتحلون وفي المكان حيث حلت السحابة هناك كان بنو إسرائيل ينزلون. حسب قول الرب كان بنو إسرائيل يرتحلون وحسب قول الرب كانوا ينزلون جميع أيام حلول السحابة على المسكن كانوا ينزلون. وإذا تمادت السحابة على المسكن أياما كثيرة كان بنو إسرائيل يحرسون حراسة الرب ولا يرتحلون. وإذا كانت السحابة أياما قليلة على المسكن فحسب قول الرب كانوا ينزلون وحسب قول الرب كانوا يرتحلون. وإذا كانت السحابة من المساء إلى الصباح ثم ارتفعت السحابة في الصباح كانوا يرتحلون (إن استمرت) أو يومًا وليلة ثم ارتفعت السحابة كانوا يرتحلون. أو يومين أو شهرًا أو سنة متى تمادت السحابة على المسكن حالة عليه كان بنو إسرائيل ينزلون ولا يرتحلون ومتى ارتفعت كانوا يرتحلون. حسب قول الرب كانوا ينزلون وحسب قول الرب كانوا يرتحلون وكانوا يحرسون حراسة الرب حسب قول الرب بيد موسى“[4]. عندما أُقيمت الخيمة المقدسة (خيمة الشهادة)، غطتها السحابة كما يقول. ثم بعد ذلك أمر الإسرائيليين أن يرتحلوا معها ومعها يتوقفون، ويحدد بشكل متكرر أن يحفظوا بدقة وقت الرحيل، ويُظهر بهذا لكل من يريد أن يبدي كسلاً أو خمولاً، إن مخالفة الوصية هو أمر خطير. هذا من الناحية التاريخية. فلنفحص الآن الأمر من الناحية الروحية.
بمجرد أن نُصبت الخيمة الحقيقية، أي الكنيسة، فوق الأرض، فإنها امتلأت على الفور من مجد المسيح.
فهذا يعنى أنه كما كانت تتغطى الخيمة القديمة بالسحاب، هكذا قد امتلأت الكنيسة بمجد المسيح. وأولئك الذين كانوا يعيشون في الجهل والضلال، كمن يعيش في عتمة الليل وفي الظلام، أشرق عليهم مثل النار، أي منحهم الاستنارة العقلية. وأولئك الذين سبق أن استناروا في قلوبهم بنور النهار (أي نور الرب)، ظللهم بظله ومظلته، أي أنه يغنيهم بتعزية سمائية روحية.
فهذا هو معنى ظهوره في الليل بشكل نار، وفي النهار بشكل سحاب. فأولئك الذين كانوا بعد أطفالاً، كان لديهم احتياج شديد للاستنارة، إلى نور يقود إلى معرفة الله، بينما من هم في وضع أسمى ومستنيرون بالكامل بسبب إيمانهم، كانوا يحتاجون للحماية والعون، حتى يستطيعوا أن يجوزوا بشجاعة لهيب هذه الحياة وثقل النهار، لأنه يقول: ” وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون“[5].
وعندما كانت السحابة ترتفع، كانوا يرتحلون مع الخيمة، وعندما تتوقف السحابة في مكانٍ ما، تتوقف الخيمة ويتوقف معها الإسرائيليون. وهكذا فالكنيسة تتبع المسيح في كل مكان وجماعة المؤمنين المقدسة لا تنفصل عنه هو (المسيح) الذي يدعوها للخلاص.
بلاديوس: وكيف يمكن أن يُفهم رحيلنا وتوقفنا مع المسيح، الذي يتقدمنا ويقودنا.
كيرلس: هذه الأمور هي فقط مثال من خلاله نُظهر أننا نريد أن نكون مع الله، فنرحل مع السحابة ونتوقف معها. نرتفع بأفكارنا إلى معاني أكثر دقة بقدر ما نستطيع. ونعود مرة أخرى لهذا المثال، فنقول: إن أول ارتحال هو من عدم الإيمان إلى الإيمان، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن الجهل بالله من حيث طبيعته وحقيقته إلى المعرفة الجلية لرب الجميع وخالقهم. ثاني ارتحال، هو ارتفاع نافع ومفيد، من الرذيلة والفجور إلى إرادة صُنع الصلاح والعمل به. ثالث ارتحال، وهو أكثر أهمية وإشراقًا، هو الانتقال من النقص إلى الكمال بالقول والفعل. علينا أن نتقدم إلى الأمام، بحسب قصد المسيح في النمو، نحو قامة إنسان كامل حتى نصل إلى الكمال الذي قياسه هو المسيح. ربما هذا ما يؤكده الرسول بولس لنا: ” أنسى ما هو وراء وامتد إلى ما هو قدام أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العُليا في المسيح يسوع“[6]. نرتحل عقليًا من الجهل إلى المعرفة، ومن عدم الإيمان إلى الإيمان ونتقدم دومًا نحو الفضيلة. فنحن لا نتقدم من مكان إلى مكان بحسب المزاج، ولا نشابه أولئك الذين يسلكون هكذا.
بلاديوس: أدرك ما تريد قوله.
كيرلس: لكن لن يستطيع الإنسان أن يترك الخطية، ولا أن يصل إلى الصلاح ولا يستطيع أن يكمل إن لم يكن المسيح معه ويقوده، لهذا قال لتلاميذه القديسين: ” بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا“[7]. وبناءً عليه أن يكون المرء مع الله ويصنع إرادته، فمن الممكن أن يُشار إليه بالمثال السابق، أي السحابة التي يتحرك معها الشعب، عندما تتحرك ويتوقف عندما تتوقف. ثم يقول: ” بأمر الرب سترتحلون“، وأعتقد أن هذا يعني احتياجهم للكلمة التي تحث على الشجاعة والتقوى التي تليق بالقديسين، ولكل من يريد أن يتبع المسيح، لأنه يقول: ” ليكن كل شئ بلياقة وبحسب ترتيب“[8].
ثم كُتب أيضًا فيما بعد ما قاله موسى مُفسر الإلهيات: ” اصنع لك بوقين من فضة مسحولين تعملهما فيكونان لك لمناداة الجماعة ولارتحال المحلات. فإذا ضربوا بهما يجتمع إليك كل الجماعة إلى باب خيمة الاجتماع. وإذا ضربوا بواحد يجتمع إليك الرؤساء رؤوس ألوف إسرائيل. وإذا ضربتم هتافًا ترتحل المحلات النازلة إلى الشرق. وإذا ضربتم هتافًا ثانية ترتحل المحلات النازلة إلى الجنوب هتافا يضربون لرحلاتهم. وأما عندما تجمعون الجماعة فتضربون ولا تهتفون. وبنو هرون الكهنة يضربون بالأبواق فتكون لكم فريضة أبدية في أجيالكم” [9].
بلاديوس: وماذا نقول فيما يتعلق بمعنى البوقين والضربات المختلفة للأبواق؟ ولماذا أمر بأن تكون من الفضة ومطروقة بالمدق؟
كيرلس: الأبواق هما اثنان، وعظات النُصح والإرشاد في الكنائس هي نوعان، واحدة تقود المؤمنين إلى العقيدة المستقيمة وتُظهر مقدار الزيف في حديث الهراطقة المنحرفين. مثلما حدث من أولئك الذين منعوا الزواج، والذين علّموا بغباء شديد الابتعاد عن أطعمة، قد خلقها الله، ” مانعين عن الزواج وآمرين أن يُمتنع عن أطعمة قد خلقها الله لتُتناول بالشكر من المؤمنين وعارفي الحق“[10]. وهكذا فإني أُدين معلمي اليهود الذين احتقروا هذه التعاليم القديمة التي يكرمها ويوجبها الناموس الإلهي، معتبرين إياها ذات قيمة قليلة، وأمروا المتعلمين أن يخضعوا لتعاليمهم هم ولأوامرهم الإنسانية، والبعض الآخر علّم بغباء أن يُختتن كل من تبرر بالإيمان، لكي يستطيعوا أن يتباهوا بالجسد الفاني. بحسب المكتوب عن هؤلاء: ” انظروا الكلاب انظروا فعلة الشر انظروا القطع“[11].
النوع الآخر يشرح التحسن والنمو الأخلاقي، وينير الطريق بحسب المسيح. الأبواق الفصية يشير إلى الاستنارة والوضوح التام، كما يظهر من طبيعة المعدن ذاته، فإن معدن الفضة برّاق. وعن طريق الأبواق يُدعى الشعب إلى الخيمة كما هو مكتوب. وبالكرازة يجتمع المتغربون على الأرض إلى الكنائس. وحين يجتمعون نقنعهم أن يبتعدوا عن الأمور المشينة، ويحيوا في تلك الأمور التي تليق بالقديسين. ونعلمهم بطريقة ما وبأسلوب لائق، أن ينتقلوا من الخطية إلى الصلاح. أليست هذه الكرازة هي التي تقود حسني النية والطوية إلى الحب الحقيقي للحياة، وإلى استقامة العقيدة وتهذيب الأخلاق بحسب مشيئة المسيح؟
بلاديوس: أعتقد هذا.
كيرلس: إذن، فالذي يجمع الشعب في الخيمة هما بوقان، لأنه يقول إذا بَوّقوا ” يجتمع إليك الرؤساء رؤوس إسرائيل“[12]. وأعتقد أن أولئك الذين هم أكثر كمالاً يحتاجون إلى النصح والإرشاد أيضًا، وإن كان بالطبع ليس بالقدر الذي يحتاجه جموع الشعب. ولهذا فجموع الشعب يُدعون ببوقين اثنين، بينما المختارين يجتمعون ببوق واحد. فالحكيم لا يحتاج إلاّ للقليل ليأخذ دافع ويكمل ما ينقصه، كما هو مكتوب: ” أعط حكيمًا فيكون أوفر حكمة علّم صديقًا فيزداد علمًا“[13]. ثم بعد ذلك أمر أن تُضرب أربعة أبواق مختلفة، والتي بها يمكن لهم أن يحملوا أشياءهم ويرتحلوا، إلى هؤلاء الذين هم في الشرق، والذين هم في الغرب، والذين هم في الشمال، والذين هم في الجنوب. وأعتقد أن هذا يشير إلى الأناجيل الأربعة، والتي تبشر كل العالم بعقيدة واحدة ومعرفة أخلاقية سامية. لكن لو احتاج الأمر أن نقول شيئًا آخر لما ترددنا بالمرة، معتبرين أن السعي نحو النافع والمفيد هو أفضل من الخمول وأفضل من العرق.
في كرازتنا هناك أربع أوجه مختلفة، وهي التي تستطيع بها الأرض كلها أن تحقق الحياة الحقيقية النقية. الوجه الأول، هو الذي اعتادنا أن نحدث به أولئك الذين عبدوا الخليقة بدلاً من الخالق، لكي يعرفوا الحقيقية ويقتنوا النور الإلهي، هؤلاء الذين يقولون كلامًا غير معقول عن الخشب، “أنت هو ربي”، وللحجر ” أنت الذي ولدتني”، ” وأبدلوا مجد الله الذي لا يفني بشبه صورة الإنسان الذي يفني والطيور والدواب والزحافات“[14]. الأوجه الثلاث الأخرى لكارازتنا تليق بالطبع بكل من آمن. لأن مخلصنا علمنا أن هناك ثلاثة أنواع للحياة، أي البذار التي سقطت على الأرض الجيدة وصنعت ثمرًا كثيرًا، البعض مائة والبعض ستون والبعض ثلاثون. لكل واحد من هؤلاء توجد كلمة تناسبه، لأننا لو أردنا أن نتصرف بصواب، فلن نفيد أولئك الذين يحيون لله، ولا أولئك الذين هم في العالم، بدون التدقيق في الكلام، لأن الذين يحيون في العالم، قد دخلوا في النير القانوني للزواج، بينما الآخرون فضلّوا الحياة النُسكية السامية، أي الحياة التي تليق بخدمة الله، والذين هم في العالم نقول لهم: ” هل عقدت قرانًا مع امرأة ؟ لا تطلب انحلالاً لزواجك. هل انتهي زواجك؟ لا تطلب امرأة أخرى. وسنقول لهم أن يصنعوا كل ما يليق بالمتزوجين، أما الذين قرروا أن يسلكوا طريق النُسك والاحتمال فسنقول لهم: ” أميتوا أعضاءكم التي على الأرض، الزنى النجاسة الهوى الشهوة الردية الطمع الذي هو عبادة الأوثان“[15]. وأيضًا ” فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا“[16]. وأولئك الذين دُعيوا إلى الكهنوت سنقول لهم: ” لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة، لأنه رسول رب الجنود“[17]. بالإضافة إلى كل ما يطلبه الحكيم بولس وهو يكتب إلى تيموثاوس. لكن هل كلامي من خلال الكتاب المقدس يخرج عن إطار الكلام اللائق، أو هل يقود إلى عدم الاستقامة؟.
بلاديوس: بالطبع لا.
كيرلس: لاحظ أن الذين وقع عليهم الاختيار للكهنوت هم الذين عُهد إليهم باستخدام الأبواق. فأظن أنه أُعطى لمعلمي الشعب، ولكل من تقدس للكهنوت، حق ممارسة التعليم والخدمة السرائرية، وذلك في إطار الرغبة في تحقيق الفضيلة. ولهذا قيل لموسى: ” اصنع لك بوقين“[18]. ويختم على هذا الأمر بقول: ” وبنو هرون الكهنة يضربون بالأبواق فتكون لكم فريضة أبدية في أجيالكم“[19].
بلاديوس: إذن، فلنقبل أن طرق استخدام الأبواق تتلاءم مع الكرازة التي تتناسب مع كل واحد من المستمعين. هكذا سنتحرك ونتوقف مع السحابة، بمعنى أننا سنسلك بتعقل وسنستريح مع المسيح.
كيرلس: بالصواب تكلمت. وفي هذا ستقنعنا كلمة النبي القائلة: ” وماذا يطلبه منك الرب إلاّ أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعًا مع إلهك“[20].
بلاديوس: إذن، هو أمر حسن ويستحق كل التقدير، ويغني بالمجد لأجل مزيد من الشجاعة، أن تسير في معية الرب إلهك، كيف لا يكون هذا أمرًا واضحًا؟ لكن أريد أن تشرح لي أيضًا ماذا يعنى أن يكون الإنسان مستعدًا؟
كيرلس: أن يكون الإنسان مستعدًا هو أن تكون لنا الإمكانية أن نقتني لنا رؤية، وأن نصنع مشيئة الله دون أن يعوقنا أحد، ودون أن يجذبنا إلى ذهن غير مُختبر، فهذا هو معنى الاستعداد للسير مع الله.
بلاديوس: لكن بشكل عام، من هم أولئك الذين يمكن أن نقول عنهم إنهم يريدون أن يتبعوا الله، من هم أولئك الذين لا يريدون أن يصنعوا هذا من عمق أنفسهم، وينحصرون في الحيرة والتردد ويهجرون الصبر والاحتمال؟.
كيرلس: هؤلاء هم الكسالى والذين يتصورون أنهم يشكرون الله، لكنهم يعشقون السيرة المقدسة بكل فكرهم، هؤلاء هم الذين يُعطون لمحبة الله جزءً صغيرًا من حماسهم واستعدادهم، بينما ينفقون الباقي بالكامل، بإسراف وبلا هدف في غمار هذه الحياة، في أتعاب غير نافعة واهتمامات مريرة. مثال ذلك يمكن أن يكون أبناء رأوبين وجاد، لأنه مكتوب: ” وأما بنو رأوبين وبنو جاد فكان لهم مواش كثيرة وافرة جدًا فلما رأوا أرض يعزير وأرض جلعاد وإذا المكان مكان مواش. أتى بنو جاد وبنو رأوبين وكلموا موسى وألعازار الكاهن ورؤساء الجماعة قائلين: عطاروت وديبون ويعزير ونمرة وحشبون والعالة وشبام ونبو وبعون، الأرض التي ضربها الرب قدام بني إسرائيل هي أرض مواش ولعبيدك مواش. ثم قالوا: إن وجدنا نعمة في عينيك فلتعط هذه الأرض لعبيدك ملكًا ولا تعبرنا الأردن. فقال موسى لبني جاد وبني رأوبين هل ينطلق إخوتكم إلى الحرب وأنتم تقعدون ههنا. فلماذا تصدون قلوب بني إسرائيل عن العبور إلى الأرض التي أعطاهم الرب“[21].
ثم بعد ذلك عندما نظر إلى عدم طاعة آبائهم ونتائجها عليهم، قال: “ فهوذا أنتم قد قمتم عوضًا عن آبائكم تربية أُناس خطاة لكي تزيدوا أيضًا حمو غضب الرب على إسرائيل. إذا ارتددتم من ورائه يعود يتركه أيضًا في البرية فتهلكون كل هذا الشعب. فاقتربوا إليه وقالوا: نبني صير غنم لمواشينا ههنا ومدنًا لأطفالنا. وأما نحن فنتجرد مسرعين قدام بني إسرائيل حتى نأتي بهم إلى مكانهم ويلبث أطفالنا في مدن محصنة من وجه سكان الأرض. لا نرجع إلى بيوتنا حتى يقتسم بنو إسرائيل كل واحد نصيبه. إننا لا نملك معهم في عبر الأردن وما وراءه لأن نصيبنا قد حصل لنا في عبر الأردن إلى الشرق“[22].
أتفهم الآن أنه بسبب المواشي والحقول ومحبة الزوجات والأبناء، لم يستطع هؤلاء الناس أن يعبروا نهر الأردن، ولم يقبلوا أيضًا أن يشاركوا في الحرب وفي المعارك ولو بجزء صغير. وبهذا لم يتقاسموا المجد مع الآخرين، ولا الخيرات التي ترجاها جميع الشعب. وبدا لهم أن تفكيرهم هذا أمر حسن، وتمنوا أن يقيموا هناك، ولم يضعوا حتى قدمًا في مياه الأردن. وعندما أدانهم موسى، ورأي أن يقنعهم بأن يساهموا في المعارك، وأن يحذروا من الغضب الإلهي، حينئذٍ وعدوا أنهم سيعبرون نهر الأردن مع الآخرين، وسيشاركون معهم في الحرب والمعركة. وبالطبع قالوا إنهم لن يأخذوا ميراثًا لهم هناك، لأنهم سيأخذون أنصبتهم في منطقة عبر الأردن إلى الشرق. هكذا يسلك كل الذين ينحصرون في اهتمامات هذه الحياة، ويكرسون كل قلوبهم في محبة الأمور الأرضية، وهذا يحدث بسبب إهمالهم لما هو ضروري، وعدم مبالاتهم بالوصية الإلهية. لأنه مكتوب: ” لأن كثيرين يُدعون وقليلين يُنتخبون“[23].
إذن، فكل من هم في قائمة المدعوين لأجل إيمانهم، لكنهم لم يُحصوا مع المختارين، بسبب ميلهم للشهوة، هؤلاء هم مزيفون وكسالى ولا يسعون إلى نعمة الروح القدس. وأيضًا هم يخشون أن يُعانوا المتاعب والجهادات التي تليق بالقديسين لمجد الله ولمنفعتهم، وأيضًا يخشون أن يجتازوا الاضطهادات مع الأنقياء عندما تدعو الضرورة إلى ذلك. وعندما يدينهم الناموس الإلهي ويرهبهم الغضب الإلهي، يتجهون بلا استعداد نحو المعمودية المخلصة، ويشاركون مع المختارين في الأتعاب بطريقة مزيفة، وأحيانًا يصومون ويُظهرون حماسًا مع الآخرين، عندما تتعرض الكنائس للاضطهاد. ورغم أنهم اقتنعوا أن يحتقروا أمور هذا العالم، لكنهم عدّلوا عن ذلك واتجهوا إلى الشهوات والملذات الأرضية، كميراث خاص بهم. ولهذا قال السيد المسيح لمحبي الاستقامة وللغيورين المتحمسين للتقوى: ” فاحترزوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسُكر وهموم الحياة..“[24]. أمَا أنك تعتقد يا صديقي أن هذه الأمور لا تسبب ضررًا؟
بلاديوس: بالطبع هي ضارة، وكيف لا تكون؟
كيرلس: لو فحصت بتدقيق في الكتاب المقدس، ستُدهش جدًا لجمال الصورة.
بلاديوس: بأي أسلوب؟.
كيرلس: هؤلاء الذين أظهروا نية للانفصال، بسبب تربية مواشي أو بسبب أبناء أو زوجات، أو لبناء حظائر أو مباني وتحصينات، هم بنو رأوبين وجاد.
بلاديوس: وما أهمية هذا؟.
كيرلس: الواحد كان بكر ليعقوب، بينما الآخر هو ابن من زُلفة الجارية.
بلاديوس: هذا صحيح.
كيرلس: فالذين هم أبكار، بسبب الإيمان، والذين وقع عليهم الاختيار، نالوا النصيب الأعظم من الله، بقدر ما تسمح به نعمته. ولكن بسبب ميلهم نحو الخطية، لم يتمتعوا بالحرية الحقيقية. وأيضًا كنيسة الأبكار، هي تلك التي أُحصيت في السموات. وكما قلنا فإن المدعو هو كل من تبرر بالإيمان. لكن البكر ليس هو محب الحرية فقط، لكنه شريك لأولئك الذين احتملوا نير العبودية.
بلاديوس: حسنًا تتكلم.
كيرلس: لكن الآن وحديثي يقترب من نهايته، أريد أن أتجاوز التكرار، وأن أُذكّر بالقول وبالفعل أيضًا، إنه يجب التحلي بالشجاعة في كل شئ، من أجل المنفعة، وأن نعتبر المتاعب تدريبًا على الفضيلة، وألاّ نفكر بعكس ذلك. إن الله هو الذي يخلصنا ويمنحنا القوة لننتصر على مقاومينا، حتى ولو كانت مقاومتهم تفوق قوتنا بكثير. وأن نجاهد من أجل الفضيلة، فهذا ليس بلا فائدة، هذا ما يُعلّمنا إياه موسى النبي في سفر التثنية: ” وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة من القفر لكي يذلك ويجربك ليعرف ما في قلبك أتحفظ وصاياه أم لا“[25]. فهو لا يتركنا نشعر بالخوف، بل نتيقن من قوة الله الذي يدافع عنا. ويكتب موسى أيضًا: “ إن قلت في قلبك هؤلاء الشعوب أكثر مني كيف أقدر أن أطردهم. فلا تخف منهم، أذكر ما فعله الرب إلهك بفرعون وبجميع المصريين. التجارب العظيمة التي أبصرتها عيناك والآيات والعجائب واليد الشديدة والذراع الرفيعة التي بها أخرجك الرب إلهك هكذا يفعل الرب إلهك بجميع الشعوب التي أنت خائف من وجهها“[26].