المقالة2 ج1 – السجود والعبادة بالروح والحق ج2 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم
السجود والعبادة بالروح والحق
المقالة الثانية
“إنه من المستحيل أن يهرب أحد من الموت الذي تسببه الخطية ولا من سلطان الشيطان الطاغية، سوى بالتقديس بحب المسيح، وأن التبرير ليس بالناموس ولكن بالمسيح”
من المفيد يا بلاديوس أن يبتعد المرء بإرادته، عن ذلك الأمر الضار بطبيعته، وأن يقترب من عبادة الله، هذا قد تبرهن لنا بحديث مستفيض.
بلاديوس: نعم بالتأكيد.
كيرلس: من ثم يجب علينا ونحن نبتعد عن الأمور المشينة، أن نتطلع وبكافة الطرق إلى الأمور الحسنة والمقبولة، وقد برهنا على ذلك بطريقة فائقة.
بلاديوس: بلا شك.
كيرلس: هكذا، وإذ نحن ننبذ شهوة العالم والاضطرابات والإزعاجات التي تثيرها فينا، يجب أن نسرع في تقديم ذبيحة إلى الله، وباستعداد ذهني يقودنا إلى البرية أي إلى حياة الوحدة والسكينة لنمارس عبادة نقية طاهرة بلا لوم ومقبولة لديه.
بلاديوس: نعم هذا ما قلناه.
كيرلس: ليس هذا فقط، فبينما الشيطان، يستبد بنا ويطغى علينا بسطوته ويأسرنا فى سلطانه وتحت قيوده، فالناموس الإلهي يدعونا إلى مرتبة الحرية، ويصد عنا عداوته المضادة، حاثًا إيانا على ممارسة أعمال الفضيلة بآلاف الأمثلة.
بلاديوس: حقيقة.
كيرلس: إذن، فإن الله هو مانح الخلاص وهو سبب سعادتنا، إذ أظهر لنا طريق التقرب إليه بالمسيح الوسيط. أليس واضحًا جدًا أن وساطة موسى تُعتبر نموذجًا ومثالاً لوساطة المسيح؟
بلاديوس: بأية طريقة.
كيرلس: إن موسى النبي كليم الله قد حرّر الإسرائيليين من العبودية الجسدية، وأعتقهم من متاعب صناعة الطوب ومن مشقات الزراعة، وكان حقًا وسيطًا بين الله والناس، إذ نقل إليهم الأقوال السماوية. هكذا ربنا يسوع المسيح مكملاً بالحقيقة كل ما كان مثالاً وظلاً، قد انتشلنا من العبودية العقلية، وأبعد عنا الخطية التي قد فُرضت سطوتها علينا قديمًا وسحق مملكة الشيطان، جاعلاً كل الذين يتبعونه تابعين له عن إيمان، ويتركون الاهتمامات الأرضية والانشغالات الجسدية، ووضع فينا من جديد محبة الفضيلة، وجعل إرادة إلهنا وأبينا معروفة وواضحة لنا، فهو قد قال “الكلام الذي أكلمكم به ليس لى بل للذي أرسلنى”[1]، وأيضًا “لأني لم أتكلم من نفسي، لكن الآب الذي أرسلنى هو أعطانى وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم”[2]. وبالتأكيد فإن موسى، إذ كان هو نفسه صورة لوساطة المسيح ومثال لها، قال للإسرائيليين “يقيم لك الرب إلهك نبيًا من بين اخوتك مثلى له تسمعون حسب كل ما طلبت من الرب إلهك في حوريب يوم الاجتماع”[3]. وإن كانت قوة وساطة موسى قد أعلنت بالأمثال والصور، فهذه كانت إشارة سرية لقوة وساطة المسيح. فبينما كان موسى خادمًا للناموس وللظل، ووسيطًا للشرائع السماوية، كان المسيح، كرب الشريعة والأنبياء يشرع كل ما يراه ضروريًا، والوسيط الذي في شخصه الواحد يتحد اللاهوت والناسوت. إذ هو فى الوقت نفسه الإله الكامل والإنسان الكامل معًا. “وموسى كان أمينًا في كل بيته كخادم شهادة للعتيد أن يتكلم به. وأما المسيح فكابن على بيته وبيته نحن”[4]. نحن الذين بالإيمان به قد قادنا إلى الحرية الحقيقية. هكذا نصل إلى أن موسى كان وسيطًا للحرية الجسدية، وللحرف وللظل والمفسر للأمور الإلهية، بينما كان ربنا يسوع المسيح هو المعلّم للأمور الأسمى من الناموس، أي الحرية الروحية. لذا قال بوضوح للإسرائيليين الذين كانوا في الحرية الجسدية “إنكم إن ثبتم في كلامى فبالحقيقة تكونون تلاميذى وتعرفون الحق والحق يحرركم “[5]. وأيضًا “إن كل مَن يعمل الخطية هو عبد للخطية، والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد. أما الابن فيبقى إلى الأبد. فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا “[6].
بلاديوس: قد تكلمت بالصواب تمامًا.
كيرلس: إن افتخارنا إذن، لا يكون لأجل أمور جسدية برّاقة، بل لأجل أمور روحية وأعمال الفضيلة في المسيح، وليس قط لأعمال الناموس. لأنه طالما المرء مازال تحت سلطة الخطية فهو عبد، والناموس لن يبرره مطلقًا، لكن بالأحرى يدينه بذنبه وعصيانه، إذًا كيف لا يكون واضحًا للجميع أن كل تبرير، يصير بالإيمان بالمسيح والكمال الروحي يكتمل بالتقديس بواسطته وبه؟!!
لذلك يكتب بولس الكلى الحكمة “لست أستحى بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص، لكل مَن يؤمن لليهودي أولاً ثم لليونانى. لأن فيه مُعلن بر الله بإيمان، كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا”[7]. وأيضًا أعلن ضعف الناموس القديم وعدم وضوحه بقوله: “لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله، بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون”[8]. ولذا ففي المسيح وحده، نجد التبرير بواسطة الإيمان والتحرر من العبودية الذهنية.
بلاديوس: أي أن الناموس هو عديم الفائدة؟
كيرلس: لا أعنى هذا. لأنه لم يُشرع عبثًا، بل بالتأكيد أنه قد أُعطّى “للمساعدة” كما هو مكتوب. فإن كان الناموس هو للتعليم والتأديب على الخطية وأيضًا من أجل الاحتياج لاستلام الأساسيات عن بداءة أقوال الله، فكيف إذًا لا نعتبره مفيدًا؟!! لكنه عاجز من جهة التطهير من الخطية ومن جهة تتميم القداسة. لذلك قال بولس العظيم “نحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس فهو يكلم به الذين في الناموس لكي يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله، لأنه بأعمال الناموس كل ذى جسدِِ لا يتبرر أمامه لأن بالناموس معرفة الخطية”[9]. إذًا الناموس إذ يُظهر الخطية، لا يكون سببًا للافتخار بالفضيلة، بمعنى أنه عندما يقول الناموس “لا تَزْنِ لا تسرق لا تشهد على قريبك شهادة زور”[10]، وأي شيء آخر يرتبط بهذه الوصايا ويُظهر لنا فقط أنواع الدناءات ويحذرنا من الأمور النجسة، لكنه لا يخبرنا عن الفضيلة ولا يكشف للسامعين معرفة الحياة الحقيقية لأنه في مجال اكتساب الفضائل يكون من الجهل الاكتفاء فقط بالكتابة ضد الأمور الشريرة. وأظن عندئذِِ أنه ينبغي لنا أن نختار بكل يقين كل ما يستحق الثناء بالتأكيد، وهذا منطقى جدًا، إذ ونحن نهجر الشر وندفعه بعيدًا تاركين كل ما هو ليس نقيًا من الغش والدنس المقزز، فإننا نرتفع إلى الأمور التي هي نفسها الفضيلة الجديرة بالافتخار. لذلك يقول ربنا يسوع المسيح “الحق الحق أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات”[11]. إذًا فإننا نعرف أن المخلص أمرنا أن نُفضل البر الذي يزيد على الناموس. ويكتب بولس الحكيم قائلاً بأن الوصية هي فائقة جدًا: ”إن ظن واحدٌ آخر أن يتكل على الجسد فأنا بالأولى. من جهة الختان مختون في اليوم الثامن من جنس إسرائيل من سبط بنيامين عبرانى من العبرانيين. من جهة الناموس فريسى. من جهة الغيرة مضطهد الكنيسة. من جهة البر في الناموس بلا لوم. لكن ما كان لى ربحًا فهذا قد حسبته أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربى الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح وأُجد فيه وليس لى برى الذي في الناموس بل الذي بإيمان المسيح “[12].
بلاديوس: لقد أدركت هذا، لأن قولك واضح. ولكن قل لى، ألم يكن حسنًا أن يُشرع لنا من البداية بتبريرنا بالإيمان وتقديسنا به، طالما أن الناموس القديم لم يكن كافيًا لتكميلنا؟
كيرلس: يا صديقى، لا يمكن أن أوافقك على هذا، لأنه بالطبع فإن الذي كان متسخًا قد غُسل وتطّهر الذي كان ملوثًا واستضاء الذي كان مظلمًا. فكان يجب وفقًا لقول المخلص أن يُشفى العضو المريض، وأن يُدعى للتوبة ليس كل الذين تقدسوا فقط بل وأيضًا أولئك الذين اُعتبروا نجسين بسبب خطاياهم[13]. ألم يكن من الواجب أن يدان أولاً كل الذين وجدوا في خطر بسبب ضعفهم، لكي نرى فيما بعد كيف أنهم افتدوا بالشفاء من الخطية؟
إذًا كان يجب أن يكون الناموس أولاً وهو الذي يحدّد هول الخطية ويرصدها وهو مشتكى قاسى على ضعفنا البشرى، وذلك حتى لا نخطئ في معرفة عظمة السماحة الإلهية التي أُعطيت لنا بواسطة المسيح. إذ كيف تُعطى عطية الغفران إن لم تكن هناك أعمال شريرة قبلها؟! وإذا كان يجب أن نرجع بإيجاز إلى بعض ما جاء فى القديم، سأقول أيضًا إن الله وعد ابرآم بالنعمة بواسطة الإيمان ووهب له، كأول أولئك الذين قد رُحِموا، بسبب صلاحه، أن يسبق الغفران الناموس. لأن الكتاب يقول: “فآمن إبراهيم بالله فحسب له برًا”[14]، ويضيف بولس تأكيده هذا “فكيف حُسب أَو هو في الختان أم في الغرلة ليس في الختان بل في الغرلة وأخذ علامة الختان ختمًا لبر الإيمان الذي كان وهوفي الغرلة “[15].
استمع إلى الله الذي يقول بوضوح “وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض”[16]، “فيك أو بك“. و”فيك” تعنى نفس معنى “بك”. وهذا ما يعنيه بولس عندما يقول: “والكتاب إذ سبق فرأي أن الله بالإيمان يبرر الأمم سبق فبشّر إبراهيم أن فيك (بك) تتبارك جميع الأمم. إذًا الذين هم من الإيمان يتباركون مع إبراهيم المؤمن“[17].
إذًا الختان هو علامة الإيمان وذلك فى الفترة التي كانت قبل الختان، ولا يتبرر أحد بأعمال الناموس، وأمجاد الإيمان تظهر أنها أسمى من الختان الجسدى، لأن إبراهيم دُعي خليل الله.
بلاديوس: إذن اسمح لي أن أعرض أفكاري: ما معنى تأخر التقديس بواسطة الإيمان، ولأي سبب قد أعطيت العلامة (الختان) في فترة سابقة، (والإيمان) الأكثر أهمية في فترة لاحقة؟
كيرلس: ألم نقل من قبل، إنه كان عملاً يستحق الإعجاب، وكل حكيم إنما يُعبر عن هذا الإعجاب. إن هذه الفترة التي سبقت ظهور الناموس كانت تتميز بالإيمان الذي يبرّر؟ ألا يضئ النور في الظلمة[18]، والقوة ألا تظهر كاملة حيث يوجد الضعف[19] وفقًا لما هو مكتوب؟
بلاديوس: أنت تنطق بالحق.
كيرلس: إذن، فالناموس أُعطى، لكي يظهر الخطأ. لأنه حيث لا يوجد ناموس لا توجد مخالفة. وكيف يستطيع أحد أن يرى الغفران من العصيان واللامبالاة التي تنتج عنه، لو لم يُحكم علينا بالناموس؟ وهذا الذي أقوله هو حق وليس فيه تناقض أو عدم توافق وهو ما يؤكده بولس حين يقول: “فلماذا الناموس. قد زيد بسبب التعديات إلى أن يأتى النسل الذي وُعِد له مُرتبًا بملائكة في يد وسيط”[20]. حقًا هو حكيم جدًا. إذ يبرهن مسبقًا لكي يقطع المبررات والشكوك التي سوف يقدمها البعض. لأنه كان من الطبيعى أن يشتكى البعض من تأخر التبرير بالإيمان وأن يقولوا إن تدخل الناموس صار لكي يُبطل الوعد الأول (القديم). لهذا يقول “فهل الناموس ضد مواعيد الله. حاشا لأنه لو أعطى ناموس قادر أن يُحيى لكان بالحقيقة البر بالناموس، لكن الكتاب أغلق على الكل تحت الخطية ليُعْطَى الموعد من إيمان يسوع المسيح للذين يؤمنون، ولكن قبلما جاء الإيمان كُنا محروسين تحت الناموس مغلقًا علينا إلى الإيمان العتيد أن يُعلن. إذًا قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان. ولكن بعدما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدبِِ. لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع”[21]. ولكي يُزيل هذه الحيرة تمامًا يضيف “وإنما أقول هذا أن الناموس الذي صار بعد أربع مئة وثلاثين سنة لا ينسخ عهدًا قد سبق فتمكن من الله نحو المسيح حتى يبطل الموعد، لأنه إن كانت الوراثة من الناموس فلم تكن أيضًا من موعدِِ. ولكن الله وهبها لإبراهيم بموعد”[22].
فالناموس نحفظه لنا من الخطية كمربى يقودنا إلى المسيح، لأن غاية الناموس والأنبياء هي المسيح. لهذا قال لجموع اليهود الذين لم يؤمنوا به: “لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقوننى لأنه هو كتب عنى”[23]. إذن، فإن تبريرنا لم يأتِ من أعمال الناموس، بل من إيماننا بالمسيح. لأنه يقول “لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة لأنه مكتوب ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به ولكن أن ليس أحد يتبرر بالناموس عند الله فظاهر لأن البار بالإيمان يحيا. ولكن الناموس ليس من الإيمان بل الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها. المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من عُلق على خشبة لتصير بركة إبراهيم للأمم في المسيح يسوع لننال بالإيمان موعد الروح “[24].
بلاديوس: لكن أتريد، يا عزيزى، إذا وافقت، أن نذهب إلى أمر آخر مفيد لإيماننا في المسيح؟ لأنه يكفى كل ما قُلناه عن الناموس وتدبيره.
كيرلس: إذن اخبرنى ماذا ترغب، وإلاّ سيكون صعبًا علىّ أن أتكلم.
بلاديوس: إنه ليس صعبًا بالمرة، وهو أمر وارد لأن كل ما أطلبه يمكن أن نبلغه وبسهولة ويسر عندما يلقى المسيح في داخلنا بغنى نوره الإلهي، ألا نُكرم الله مقدمين له ذبائح غير دموية، نحن كلنا الذين قبلنا تبريرنا بالإيمان ورفضنا عبادة الأشكال والظلال؟
كيرلس: تكلمت بالصواب، لأنه مكتوب “أكرم الرب من مالك ومن كل باكورات غلتك”[25] “لأنه بمثل هذه التقدمات يُسر الله “[26] وفقًا لكلام القديسين.
بلاديوس: إنه من الغباء إذن الاعتناء بذبائح الثيران وإتمام كل ما تطلب الوصية القديمة أن نقدمه، طالما ذبح الخراف وتقديم البخور مع الفطير والدقيق بالزيت، واليمام والحمام، هي من الأمور الخاصة بعبادة ذاك العصر. لكن اخبرنى، لماذا لم تكن هذه الأمور (التقدمات الروحية) جديرة بالقبول من البداية، بينما يُشرع الله الآن بوضوح كل ما يسره، ويكشف لنا طرق الذبيحة الروحية؟.