المقالة1 ج5 – السجود والعبادة بالروح والحق ج1 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم
السجود والعبادة بالروح والحق
تابع المقالة الأولى
حول “سقوط الإنسان وأسره في الخطية وعن دعوته وعن رجوعه بالتوبة وعن ارتفاعه إلى الحياة الفُضلى”
كيرلس: هل يد الملاك التي قد أسندت لوط، لا تكفي لتبرهن على أن الله ضابط الكل هو معين القديسين؟ من الممكن اعتبار الملائكة مثالاً لله. فأولئك الذين اقتربوا من إبراهيم قديمًا عند بلوطات ممرا كانوا ثلاثة، واللذان زارا سدوم كانا اثنين[1]. ومن كلام المخلص نفسه نعلم أن “الآب لا يدين أحدًا” بل “أعطى كل الدينونة إلى الابن” فواضح أن الابن كائن مع الآب، ومن الطبيعى أن الروح القدس كائن معهما.
بلاديوس: إن تفكيرك في هذا الأمر حسنٌ جدًا، دعنا نفحص، لو وافقتنى، بقية الحديث.
كيرلس: لا توجد أية مشقة. سأقول لك فورًا. مكتوب أنه ” وكان لما أخرجاهم إلى خارج أنه قال اهرب لحياتك. لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلا تهلك“[2]. عندما يقول الكتاب ” اهرب لحياتك” يقصد على ما أعتقد، تمامًا هذا الذي يقال ” احفظ نفسك طاهرًا ولا تشترك في خطايا الآخرين “[3]. وانتصر على كل معوقات العالم لأنه ولا كل العالم يمكن أن يُعطى بدلاً عن النفس ” لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه “[4]. هذا، وما يقال إن خطواتنا يجب ألاّ ترجع إلى الوراء، ربما يعنى أن لا نرجع إلى الدناءة وألاّ يكون لنا فكر أولئك الذين سيُدانون بالنار، بسبب ضعفهم في ضبط النفس، لأنه يقول:” ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله“[5]. يجب أن نُصِرّ على السلوك في طريق الخلاص، ولا ننشغل بأى شئ آخر بإرادتنا، ولا يتملكنا عقل هوائى مندفع نحو شهوات عالمية خيالية تافهة. لكن بعقل راجح متيقظ يهتم دائمًا بالنظر إلى الأمام. وأقول ما هو أعظم، لم يقل له الملاك يجب أن تسير دون أن تلتفت للوراء فقط، لكنه أضاف نصيحة مفيدة بقوله: “ لا تقف في كل الدائرة اهرب إلى الجبل لئلا تهلك “.
بلاديوس: وماذا يقصد بقوله ” لا تقف في كل الدائرة “؟
كيرلس: أعتقد أنه أراد أن يبين الخمول والكسل نحو الالتزام بتجنب الشر، الشر الذي هو بالتأكيد اختيار خاطئ وقاتل للنفس.
بلاديوس: اخبرنى كيف؟
كيرلس: تقول الكلمة النبوية:” ملعون مَن يعمل عمل الرب برخاوة “[6]. ويقول بولس العظيم في موضع ما ” أركضوا لكي تنالوا “[7]. فكون إننا لا نريد أن نظهر بأسًا شديدًا، أو أن نكون غير مهتمين بالابتعاد عن السيئات، وكون العقل لا يريد أن ينقطع عن الأشياء العتيقة، أو يبتعد بطريقة ما عن كل دناءة، أو يتردد في فعل ما هو نافع، كل هذا لا يعنى شيئًا آخر سوى أن الشخص يتوقف بإرادته في دائرة الشر، بينما كان يجب عليه أن يخرج مُسرعًا. وهناك أمرٌ آخر يمكن أن يحدث وهو أنه قبل أن نخرج من دائرة الشر، وبينما نحن نفكر فيما نفعله بخصوص خروجنا من هذه الدائرة، فإننا نؤجل خروجنا هذا، وبذلك نسبب لأنفسنا الإدانة، إذ أننا لم نُطهر أنفسنا، ولم نتطهر من التلوث الذي أصاب نفوسنا بسبب رخاوتنا القديمة، ولم نلق عن كاهلنا انحلالنا وثقل جرائمنا، ولم ندخل تحت النير الخلاصي لكي يريحنا المسيح. إذًا فهذه النصيحة ” لا تقف في أى مكان في الدائرة” هي حسنة جدًا وهي تعنى ألاّ تبقى في أى حالة دنيئة أو أى موقف يجعلك أسيرًا، لكن بالحرى اصعد إلى حياة فائقة مشرقة، وكأنك صاعد إلى جبل عالٍ، فتلك الحياة ليس بها أى وضاعة، بل تتميز بالفضائل السامية والفائقة، وبهذا تتخلص من السلوك المشين، أى الأرضى والجسدى. لأنه يقول ” أقوياء الله يرتفعون في الأعالى عن تدبير الذين على الأرض “[8]. لأن السلوك اللائق بالقديسين هو سامي جدًا عن الأرضيات ” النسور تطير في الأعالى“[9]. ويحسب المكتوب، فإن حياتهم تنمو، وكأنها على “الجبل” في السماء، ويعتبرون وطنهم السماوى مِلكًا لهم. ويكتب أيضًا بولس في موضع ما ” اطلبوا السماويات وليس الأرضيات “[10].
بلاديوس: إذًا يمكننا أن نفهم أن كلمة “الجبل” تعبر عن حياة القداسة، والارتقاء نحو سماويات الحياة العظيمة، بينما كلمة “أسفل” تعنى طريقة الحياة الغير طاهرة التي تميل إلى الخطية والأمور الأرضية.
كيرلس: حسنًا تقول، لأن هذا هو بالضبط ما قصدته من حديثنا. غير أن ما سوف أقوله لك الآن، هو أمر جدير بالاعتبار.
بلاديوس: ما هو؟
كيرلس: قال الملاك الطوباوى إن لوط كان يجب أن يصعد إلى الجبل مُسرعًا بدون أن يتأخر وبدون أن ينظر إلى الوراء. لكن لوط توسل إليه قائلاً: ” هوذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك وعظمت لطفك الذي صنعت إلىّ باستبقاء نفسي وأنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل. لعل الشر يُدركنى فأموت. هوذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها وهي صغيرة. اهرب إلى هناك أليست هي صغيرة فتحيا نفسي. فقال له إنى قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضًا أن لا أقلب المدينة التي تكلمت عنها. أسرع أهرب إلى هناك لأني لا أستطيع أن أفعل شيئًا حتى تجئ إلى هناك. لذلك دُعى اسم المدينة صوغر. وإذ أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر “[11].
بلاديوس: وما النفع الذي سوف يعود علينا من كل هذا، لأنك تعلم جيدًا إنى أريد أن أتعلم وأستفيد.
كيرلس: ألا تعرف ـ مع أن لديك ميل عظيم للتعلّم ـ إن أولئك الذين قد هجروا الأعمال الدنيئة لا يجب أن يظنوا أنهم سوف يسلكون مباشرة في طريق الخلاص، ولا أنهم بمحاولاتهم الأولى سوف يقتنون الفضيلة ولا يظنون أن قراراتهم سوف تكون قاطعة؟ بل إن المرء لن يسلك بسهولة إلى المدينة الفاضلة، ولن يبتعد عن الشهوات التي قد تعوّد عليها، لكنه سيبتعد عن كل هذا بهدوء حسب استعداده ورغبته في حياة أفضل. ولن يكون بعيدًا أو أعلى كثيرًا، بل سيكون كما لو كان قد وُجد في أرض أخرى، في حياة تستحق بالتأكيد المدح والثناء، لكنه لم يصل بعد إلى مجد أسمى وأبهي، وذلك كما تُرفع النفوس بالتربية بحسب الناموس، إلى مبادئ حسنة وحياة صالحة. لأنه مكتوب ” بداية طريق الصلاح هي فعل البر“[12]. أى أن الذين يرغبون المعرفة ويشتهون الرؤية السرية، فإن كلمة الوعظ تلائمهم في البدايات، بينما أولئك الذين قطعوا شوطًا أكبر إلى “الإنسان” الناضج وإلى الكمال حيث المسيح هو مقياس له[13]، فيناسبهم كثيرًا الطعام القوى، أى الكلام عن الأسمى، وبعد ذلك طريق معرفة الإلهيات. هكذا أقول هنا، أى في تصحيح السلوكيات والمناهج الأخلاقية، لا ينبغى أن نتوقع وصول البعض للعلو فورًا نحو الكمال، أى إلى ما هو فوق الطبيعى، إلى ما يناسب المدينة الفائقة السمو. فيجب على ما أعتقد أن نبدأ خطوة خطوة من الأمور الصغيرة والتي تتناسب مع قراراتنا في التقدم نحو الكمال. وبطريقة ما نُسرع في الدخول، وكأنه إلى مدينة صغيرة مجاورة إلى الجبل العالى، كما إلى مدينة غير مرتفعة كبداية للحياة السامية والفائقة. هكذا فالبار لوط يمكن أن يكون مثالاً لهؤلاء الذين في هذه الحالة، والذين لم يجدوا لهم مأوى يناسبهم، في الجبل مباشرةً، ولكن في المدينة الصغيرة صوغر. ألا نجد في العظات الإنجيلية مرات كثيرة تطبيق لمثل هذه التدابير في حياة المؤمنين؟ حقيقةً يكتب بولس الطوباوى في رسالته ” وأما من جهة الأمور التي كتبتم لى عنها فحسن للرجل أن لا يمس امرأة ولكن لسبب الزنا ليكن لكل واحد امرأته وليكن كل واحدة رجلها… ولكن أقول هذا على سبيل الإذن لا على سبيل الأمر. لأني أريد أن يكون جميع الناس كما أنا. لكن كل واحد له موهبته الخاصة من الله. الواحد هكذا والآخر هكذا “[14]. أرأيت كيف أن العمل السامى الفائق في ضبط النفس أظهره مثل جبل بقوله ” أنه حسن للرجل أن لا يمس امرأة“. وسمح لنا أن ننزل إلى صوغر، أى إلى حياة ما زالت بعيدة عن مستوى الكمال، وأقصد التصريح بأن يكون المرء في اتصال مع امرأته فقط؟ وقول المخلص: إن الأرض الحسنة جدًا، ستُعطى مائة وأخرى ستون وأخرى ثلاثون. وإن المواهب التي يوزعها ليس بمقياس متساوِِِ، لكن الواحد خمسة والآخر اثنين والثالث واحد، بيّن بذلك ـ على ما أعتقد ـ أن قدرات الإثمار غير متساوية، ولهذا فقد وهب بمقدار ما يتناسب مع مقدرة كل واحد ومع معرفته. لأنه سبق أن قُلنا إن لكل واحد موهبته الخاصة من الله الواحد هكذا والآخر هكذا.
بلاديوس: بالصواب تتكلم.
كيرلس: إذن لقد سمح لهم الملاك الطوباوى أن ينزلوا إلى صوغر. لأنه يقول، تعجبت حقيقةً لشجاعتك ولكلمتك هذه، سوف لا أدمر المدينة التي تكلمت عنها معي، أسرع إذًا لتخلص هناك[15]. ثم بعد ذلك يقول تعجبت لطلبك الجريء أن لا أدمر المدينة التي قلت لى عنها، لأنه حقيقةً، أن الله لا يريد حياة لا تتفق تمامًا مع الفضيلة، كما أنه غير مقبول لديه مجرد التهاون البسيط مع مثل هذه الرغبات، فهذا الأمر لابد أن يُلام المرء عليه. ومن ناحية أخرى فإن الله يسمح ـ من محبته للبشر ـ بأن يعمل المرء في البداية ما يناسب قدرته. فالله يسمح بخلاص هؤلاء الذين مازالوا يبحثون عن الفضيلة، ومع ذلك لم يبتعدوا تمامًا عن الحياة المثقلة بالهموم. إن الوصول إلى هذه الدرجة وهذه الحالة، لا يتحقق بدون النور الإلهي وضياء المصابيح السماوية لأنه يقول ” أشرقت الشمس ولوط دخل إلى صوغر “.
بلاديوس: كم هو دقيق ما تقوله؟!
كيرلس: إذًا فإن لوط العظيم دخل بسرعة إلى المدينة الصغيرة بإذن من الله. وفي فعله هذا أظهر أن المرأة التي تبعته في الرحيل كانت ضعيفة، لأنه يقول ” التفتت إلى الوراء وصارت عمود ملح “[16].
لاحظ أن العقل الشجاع والسلوك الطيب ـ حتى وإن لم يصل إلى الكمال الذي يُسر به الله ـ يبدأ في تحقيق النجاح في طريق الفضيلة، إلى أن يبتعد تمامًا عن الشهوات سائرًا نحو الأفضل. أما العقل الضعيف الواهن الذي ترمز إليه هذه المرأة، فإنه بخضوعه المستمر للأفكار الدنيئة ينتهي الحال به إلى الفساد. وهذا فى اعتقادي، يقصده هنا بأنها قد صارت عمود ملح. وهذا يمكن أن يرمز أيضًا للنفس التي بلا حياة، وللعقل الذي يميل للسقوط في الحماقة، والذي قد يصل إلى قمة البلادة. فالملح إذا فسد لن يكون له أى صلاحية، فقد قال المخلص أنه لن يصلح تمامًا بل يُلقى خارجًا ويداس من الناس[17]. المرأة تحجرت إذًا. غير أن لوط لم يكتفِ بهذا إذ يقول الكتاب ” وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه لأنه خاف أن يسكن في صوغر. فسكن في المغارة هو وابنتاه “[18]. إن العقل يتقدم بالتدريج نحو الكمال، ويُرفع ببطء إلى مستوى أرقى، ويتقدم ويسمو إلى الأفضل، مستندًا على النضج والسمو الروحى، مثلما فعلتا ابنتاه، حيث تركتا الميل لحب الجسديات والرخاوة التي يُرمز لها بامرأة لوط. ويسكن لوط بعد ذلك كما في جبل ومغارة. وللجبل والمغارة دلالات واضحة جدًا، فالجبل، يشير إلى العظمة وسمو القوة الروحية، بينما المغارة تشير إلى الثبات والاستقرار في الفضيلة. لأنه مكتوب عن الرجال الصالحين ما يأتى: ” السالك بالحق والمتكلم بالاستقامة الراذل مكسب المظالم، النافض يديه من قبض الرشوة، الذي يسد أذنيه عن سمع الدماء ويُغمض عينيه عن النظر إلى الشر، هو في الأعالى يسكن. حصون الصخور ملجأه. يُعطى خبزه ومياهه مأمونة“[19]. ويمكننا أن نفسر هذا الكلام بطريقة أخرى، بمعنى أن الصخرة هي المسيح، بسبب أن طبيعته الإلهية تقوّم طبيعتنا، فهو كلِّى القدرة وغير قابل للتغيير. بينما الحصن يمكن أن يُفسر روحيًا ويعنى الكنيسة، إذ هي غطاء للأنقياء حيث يسكن الأبرار والذين يخافون دينونة النار.
بلاديوس: إن حديثنا ـ يا صديقى ـ هو حسنٌ جدًا، غير إنى أريد أن نتقدم فى البحث مستشهدين ببراهين أخرى على ما تقول، لأنه فى معرفة المرء كيف يحب بلا حدود، لهو أمر نافع جدًا ويستحق كل جهد وتقدير.
كيرلس: بالحقيقة أنت تتكلم، يا بلاديوس، كما يليق، لأن كلامك هو ثمرة ذهن محب للتعلّم، وبالحديث معك، سوف ننتصر على التردد ولا أكون مترددًا فى ألاّ أمارس الصمت معك، فالحديث معك بمثل هذه الأمور المشرقة والمحببة، أفضل من الصمت. وهنا يلزمنا أن نقول إنه يجب على المرء أن يبتعد نهائيًا وبكافة الطرق وعلى قدر طاقته، عن الدناءات وكل ما يتصل بها. وهذا هو الطريق نحو الارتقاء للفضيلة، وليس هناك طريق آخر. ويمكننا أن ندرك هذا بدون مشقة، لو وجهنا أعين الذهن ـ باهتمام شديد ـ إلى تلك الأمور التي حدثت مع ابرآم العظيم، والأمور التي حدثت مع الإسرائيليين فى خروجهم من تحت نير المصريين وتكسير قيودهم.
بلاديوس: تحدّث إذن بالتفصيل وأنت تعرف كم ستسعدنى، لو فعلت ذلك؟!
كيرلس: لقد قلنا إذن، إن ابرآم العظيم الذي كان يعاني من الجوع غير المحتمل، ومن غياب ضروريات الحياة فى ذلك الوقت، لم ينزل بإرادته، لكنه فعل ذلك مضطرًا أمام هذه الضروريات، وبينما كان فى ضيافة أُمة أخرى، فعل به فرعون شرًا، بظلم وألم، إذ أراد فرعون أن يفتن امرأة إبراهيم لتسقط فى شهوة الأعمال الدنيئة، مشتعلاً بمحبة اللذة المنحلة. لكن الله لم يسمح بذلك. لأنه مكتوب ” فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراى امرأة ابرآم “[20]. إن فرعون هو مثال ورمز للاندفاع الشيطانى الذي كان لديه هدفًا شريرًا ويسعى لتنفيذه بكل الطرق.
إنه يلقى بذاره الشريرة فى نفوس القديسين، حتى يجنوا كل الثمار المشتهاة وما تجلبه عليهم لذاتهم ـ هكذا أظن أن أهوال الخطية تتحقق بطرق كثيرة ـ فيقبض الشيطان على كل واحد ويخضعه رغم إرادته إلى مقاصده الشريرة. الطبيعة البشرية مصابة بعلة الضعف، لكن الله لا يسمح بهذا بل هو يبطل كل حيل ودسائس الشرير التي يصنعها ضد القديسين. وهكذا أبطل الله مكائد الشيطان عن ابرآم وتجنب بذلك الإهانات الشيطانية إذ فى رجوعه من مصر (برهن أنه قديس) وذهب إلى المكان الذي قد أعطاه له الرب وأسند له فيه أعمالاً هامة. لأن الكتاب يقول “ فصعد ابرآم من مصر هو وامرأته وكل ما كان له ولوط معه إلى الجنوب. وكان ابرآم غنيًا جدًا فى المواشى والفضة والذهب. وسار فى رحلاته من الجنوب إلى بيت إيل. إلى المكان الذي كانت خيمته فيه فى البداءة بين بيت إيل وعاى. إلى مكان المذبح الذي عمله هناك أولاً. ودعا هناك ابرآم باسم الرب“[21]. هل أدركت إذن أنه من الضرورى لمن يهرب من شهوات العالم إلى الحياة المقدسة، أن يأخذ معه كل ما له؟ لأنه بكل العائلة والأهل ـ وسأُضيف وبكل المؤن ـ رحل عن مصر أبو الآباء ابرآم. أى يجب بكل الطرق أن يبتعد المرء بإرادته مع كل عائلته وينتقل إلى الصحراء أى إلى حالة روحية طاهرة بدون مضايقات، ينتقل إلى تلك الحالة التي كانت فيها الطبيعة البشرية منذ البداية قبل سقوطها، وأغلق عليها لتُحرم من الخيرات السماوية فاتجهت نحو الشر. هذا يمكن أن يُفسر رمزيًا بنزول ابرآم إلى أمم أخرى، أى من الأرض والخيمة الأولى المحبوبة جدًا، حيث كان المذبح. وهكذا فى المسيرة الدائمة إلى الأمام، إلى أن نصل إلى أرض وموضع المذبح الذي تعين فى البداية، أى إلى حالة القداسة الأولى، وهناك نتضرع إلى إله الكل، مكررين كلمة النبى ” يارب نحن لا نعرف آخر سواك. أسمك القدوس هو الذي دُعى علينا ” [22].
بلاديوس: لقد تحدثت حسنًا جدًا.
كيرلس: لو فحصت جيدًا كل ما صار لأبناء إسرائيل عبر الزمان، عندما استحوذ المصريون عليهم بسبب معاناتهم من الجوع فى البداية، هؤلاء المنحدرون من نسل القديسين الأحرار، وضعوهم تحت نير العبودية المُرة، متعاملين معهم بوحشية، إذ يصف هذه القسوة هكذا: ” ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف. فقال لشعبه هوذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا. هلم نحتال لهم لئلا ينموا فيكون إذ حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض“[23]. لقد تضايق ـ على ما اعتقد ـ رئيس مصر، من أن أولئك الذين وُضعت عليهم قيود إجبارية، قد اختاروا طريق الحرية، (لذلك تُقرأ) ” فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتى مخازن فيثوم ورعمسيس “[24]. فتحمل بنو إسرائيل نتائج إفراط المصريين فى حب الاستعباد: من عذابات لا تنتهي فى عمل الطوب، وقطع الأحجار، وبناء مدن بحوائط وأبراج، واستصلاح الأراضى، وعرق متواصل فى إنهاء عمل بعد آخر، وكل هذا كان يتم بدون أجر. إذ كان رؤساء تلك العصور يُخضِعون هذه النفوس المقهورة بأعمال الطين والحجارة من مبانى وأسوار، لقد عذبوهم بإجبارهم على ذلك فى عبودية مُرة وبدون مقابل (لأنه هكذا تكون أعمال الجسد وكل ما يتصل به)، أجبروهم إذن على قبول حياة قاسية ومليئة بالعناء، والتي لا تُقدم بأي حال أى نفع للمرغمين على أن ممارستها.
والحقيقة ماذا تنفعنا الأعمال الجسدية وشهوات نفوسنا الضعيفة؟ إن فعلنا هذا سوف نعطى مكاسب لإبليس والشياطين، إذ يكون لهم غنى وفخر، مثلما كان لفرعون تمامًا، الذي اِعتقد أنه مجد عظيم له أن يبنى الإسرائيليون المدن بدون اجر أو قوت، وفى هذا كانوا مجبرين على تحمل هذه الحالة.
بلاديوس: إن حديثك هو فى الحقيقة، شيق جدًا.
70 الثلاثة يشيرون إلى الآب والابن والروح القدس، والملاكان يشيران إلى الآب والابن.