المقالة1 ج1 – السجود والعبادة بالروح والحق ج1 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم
السجود والعبادة بالروح والحق
المقالة الأولى
حول “سقوط الإنسان وأسره في الخطية وعن دعوته وعن رجوعه بالتوبة وعن ارتفاعه إلى الحياة الفُضلى”
إلى أين تسير ومن أين أتيت، أسألك بالطبع وأعتبر أن السؤال غير ضرورى، لأنك ستقول بدون تردد إني أعرف ذلك جيدًا، وأنك أتيت من البيت إلى هنا.
بلاديوس: هذا حقيقي.
كيرلس: ما هذا الكتاب الذي في يدك؟
بلاديوس: إنه الإنجيل، بحسب متى ويوحنا.
كيرلس: وأين تظن أنه يجب أن تذهب به ولمن؟ لأنك بالتأكيد لن تستطيع يا بلاديوس أن تدرسه خارج البيت، فالتعب والمشقة في القراءة تكون ممتعة في هدوء البيت.
بلاديوس: نعم. أتيت لكي أتحدث معك. وأحضرت لك الكتاب المقدس، لأنه بالرغم من إني أجهدت نفسي مرارًا، لم أفلح في أن أفهم جيدًا ما الذي يقصده ربنا يسوع المسيح بما يقوله في الإنجيل بحسب متى ” لا تظنوا إني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل “[1]
وهذا الذي يقوله للمرأة السامرية في إنجيل يوحنا: “ يا امرأة صدقيني إنه تأتى ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون. أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتى ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا “[2].
كيرلس: ما هو الذي يبدو لك صعبًا فيما ذكرت؟ وما هو الشيء الغامض وعسير الشرح فيه؟ أخبرنى.
بلاديوس: تأمرنا الكلمة المقدسة بأن نتحرر من العادات القديمة، ونكف عن أن نتبرر بالناموس. لقد قال بولس لهؤلاء الذين يريدون أن يتبرروا بالناموس بعد إيمانهم بالمسيح: ” قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس سقطتم من النعمة. فإننا بالروح من الإيمان نتوقع رجاء بر “[3]. وبينما يُظهر دوافع مُشّرفة وعظيمة من أجل الافتخار بالحياة وفق الناموس، لكنه يُقرر أيضًا ” ما كان لى ربحًا فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربى الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح وأوجد فيه، وليس لى برى الذي من الناموس بل الذي بإيمان المسيح، البر الذي من الله بالإيمان “[4].
ويؤكد بوضوح أن الوصية القديمة لم تكن بلا لوم. لذلك قد حلت الوصية الجديدة أي الإنجيلية محل الوصية القديمة لمنفعتنا بواسطة المسيح. وحسنًا يكتب الآتى: ” فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها. إذ الناموس لم يُكمل شيئًا. ولكن يصير إدخال رجاء أفضل به نقترب إلى الله “[5]. لأنه لو أن الوصية الأولى أعطيت لكمالنا لِمَا كانت هناك حاجة للثانية لأنه يقول ” فإنه لو كان ذلك الأول بلا عيب لما طُلب موضع لثانِِ. لأنه يقول لهم لائمًا هوذا أيام تأتى يقول الرب حين أُكمل مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا. لا كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكت بيدهم لأخرجهم من أرض مصر لأنهم لم يثبتوا في عهدي وأنا أهملتهم يقول الرب. لأن هذا هو العهد الذي أعهده مع بيت اسرائيل بعد تلك الأيام. يقول الرب أجعل نواميسي في أذهانهم وأكتبها على قلوبهم وأنا أكون لهم إلهًا وهم يكونون لى شعبًا “[6]. وبولس يتأمل في كل هذا ويفسر بشكل خاص مفهوم العهد الجديد قائلاً: ” فإذ قال جديدًا عتّق الأول وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال “[7].
إذن لو أن الناموس لم يقدِّم الكمال في أي شيء، وصار إبطال للوصية القديمة ودخول للثانية التي تقودنا إلى الاقتراب من الله، لماذا يقول المخلص “ لم آتِ لأنقض الناموس بل لأكمل ” وأنه ” يجب أن نعبد إلهنا وأبانا بالروح والحق”؟ هذا يعلن على ما أظن أنه يجب أن نهجر عادات الناموس وعبادته.
كيرلس: إنها تساؤلات متسعة كاتساع البحر. لأن أي عقل له القدرة على تحمل الرؤية بأكثر لمعانِِ، لدرجة أنه بجوار كل ما هو من القديم الذي أُعطى بواسطة الحكيم موسى، يُقدَّم لنا الكتاب الجديد كأخ وجار ومهتم بنفس الأمور، وأن الحياة (في المسيح) ليست منفصلة تمامًا عما جاء في الناموس، وذلك لو فُحِصَ الناموس بالمفهوم الروحى؟ لأن الناموس هو مثال وظلّ التقوى، والحقيقة فيه لا تزال في فترة المخاض، وجمال الحقيقة هذه مُخفي داخل الناموس. ربما ستقول إن الأمر ليس هكذا كما أقول؟
بلاديوس: هكذا بالضبط. لكن كيف يمكن أن يتضح هذا الأمر؟ أو كيف يمكن أن نعتقد أن مَن يسير حسب الوصية الإنجيلية يعتمد على الوصية القديمة، وأن الوصية الإنجيلية مكملة لكل ما حدده موسى؟
كيرلس: ليس من السهل افتراض هذا الأمر. فالفضيلة هي، على ما أعتقد، أمر متشعب جدًا ومتعدد الجوانب. ومفاخر الحياة المسيحية تُزين بعدد لا حصر له من الأعمال الصالحة. ولأجل ذلك طبعًا يضع داود العظيم في مزمور 44 بجوار المسيح ـ في مكان الملكة ـ الكنيسة كعذراء نقية ويُحوطها بزى مُوَّشى بالذهب قائلاً: ” جُعلت الملكة عن يمينك مزينة بذهب أوفير “[8]. إن كلمة “بذهب” تعنى بكل وضوح، كرامتها وإشراقها، بينما كلمة “مزينة” تعنى كثرة جمال الفضيلة. فالكنيسة ذات جمال بالغ، ولديها زينة عقلية لا تُرى بالأعين الجسدية، بل تُرى بالعقل والقلب، وهي خفية عن اليهودي، بينما تظهر لنا نحن في جمال رائع وأصيل بلا حدود.
لأنه كما يكتب الطوباوى بولس: ” لأن اليهودى في الظاهر ليس هو يهوديًا ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا. بل اليهودى في الخفاء هو اليهودى وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان الذي مدحه ليس من الناس بل من الله “[9].
بلاديوس: أخبرنى، طالما أُدخل الختان الروحى، وتغيرت الذبائح الناموسية ولن يكون لطريقة الحياة اليهودية أي مكان عندنا، ألا يبدو من المستحيل أن يقول المسيح ” لم آتى لأنقض الناموس بل لأُكمل“؟ لو لم تكن الأمور هكذا، أعتقد أنه سوف لا يعطلنا عن أن نمجد إله الكل بذبائح الثيران والتبخيرات، ونُقدم له يمام وحمام أو أي شيء آخر نعتقد أن الأقدمين قد فعلوه، لكي نفعله نحن أيضًا.
كيرلس: لكنك يا صديقي، قد ابتعدت كثيرًا عما يليق. لأنك تعتقد أن الناموس قد تغير، لدرجة أنه لم يعد لدينا أي منفعة منه، وأنه على أية حال ليست هناك أي منفعة من الأمور التي وضعها. ألا تعتقد أن الناموس قد تحول بالأحرى إلى إشارة نحو الحقيقة، مع أنه بالتأكيد قد كتب الطوباوى بولس ” أفنبطل الناموس بالإيمان حاشا. بل نثبت الناموس“[10]. لأن الناموس هو مُربى ويقود بطريقة حسنة إلى سر المسيح. ونقول إن كل ما شرّعه موسى للأقدمين، ما هو إلا أساسيات بداءة أقوال الله. لكن لو أهملنا المربى، فمَن سيقودنا عندئذ إلى سر المسيح؟ ولو رفضنا أن نتعلم أساسيات بداءة أقوال الله، فكيف سيمكننا الاستمرار؟ أو كيف سنصل إلى الغاية؟ أفليس المسيح هو الذي يُكمل الناموس والأنبياء كما تقول الكتب؟
بلاديوس: نعم
كيرلس: بالفعل. فإنه مكتوب أنه هو مكمل الناموس والأنبياء لأن كل كلمة نبوية وناموسية تخصه وتشير إليه.
لقد قال (المسيح) وهو يتوسل إلى اليهود لأجل عصيانهم: ” لا تظنوا إني أشكوكم إلى الآب. يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم. لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه قد كتب عنى. فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامى “[11].
إذن يقول إنه لم يأتِ إطلاقًا لكي يشكو الناموس، بل بالحري لكي يُكَمله، فلا تُفكر أنه قد تمّ تغيير كامل للشرائع القديمة، بل على الأرجح قد تم تجديدها بطريقة ما. وأستطيع أن أقول هكذا، إنه حدث نقل لنماذج أو أمثلة (من العهد القديم) إلى الحقيقة أي من الظلال إلى الحقيقة.
بلاديوس: بالصواب تتكلم.
كيرلس: سأشرح لك ما كان يجب أن يصير بواسطة المسيح (بالمثال التالى). فأولئك الفنانين الذين يرسمون ويكتبون على الألواح، لا يكتبون مباشرًة بمجرد ما يبدأون الكتابة، بحيث يكون في شكل كامل وغير ناقص ومكتمل تمامًا. إنهم في البداية يخططون بشكل الرسم ولونه، بحيث يصبح ذا جودة فائقة، ويختارون المواضع التي تحتاج إلى ظلال معينة. وإلى أي الدرجات يجب أن تُبَين وتُوضَحْ حتى يصلوا إلى الشكل المطلوب، والأكثر مناسبة. وهكذا يصلون بنماذجهم إلى الشكل الذي نراه أخيرًا. وهو الأفضل بشكل لا يقارن عما كان في البداية. أليس كذلك؟
بلاديوس: نعم، إنه كذلك.
كيرلس: وهؤلاء أيضًا الذين يمارسون فن صنع التماثيل النحاسية، إن أرادوا صب النحاس السائل في قالب التمثال المعد لذلك، فإنهم يُصورون أولاً شكل التمثال على نموذج شمعي، ويصنع القالب على هذا النموذج، وبعد ذلك يُذيبون النحاس على النار ويسكبونه في القالب. وهكذا يضيفون لتحفتهم ـ بطريقة حسنة ـ كمالاً وجمالاً. وعندما يضيف الصانع الألوان المتنوعة فوق آثار الرسم، وأيضًا عند إحّلال النحاس محل النموذج الشمعي سيُظن في لحظة ما، أنه قد نُقِضَت وأُبطِلت الأشكال الأولى. لكن الأمر ليس كذلك. لأنه لو كان هذا الاعتقاد حقيقيًا، لقال الرسام والصانع إننا لم نلغِ آثار الكتابة، ولم نسئ إطلاقًا استخدام النماذج، لكن بالحري قد أكملناها. أي أن ما كان يبدو غير واضح وبدون جمال في الظلال والنماذج الأولى صار الآن أكثر روعةً ووضوحًا.
بلاديوس: بالصواب تتكلم.
كيرلس: ولو أراد أحد أن يفحص حقيقة الكتاب المقدس بالتفصيل، فإنه سيتأكد على أية حال أن ما أقوله صحيح. لأن موسى وضع برقعًا على وجهه، وذلك بحسب الكتاب لأن الإسرائيليون لم يستطيعوا أن ينظروا وجهه[12].
بلاديوس: إلى أي شيء يشير هذا؟
كيرلس: بسبب أفكار اليهود الغليظة، لم يفهموا إلا ظاهر الناموس الحرفي فقط، ولذا كان من المستحيل تمامًا أن يفهموا ويميزوا كل ما كان مستترًا داخل الناموس، أي الوجه الحقيقي لمعاني كلمات الناموس. لذلك يكتب القديس بولس: ” بل أغلظت أذهانهم لأنه حتى ذلك اليوم البرقع نفسه عند قراءة العهد العتيق باق غير منكشف الذي يُبطل في المسيح. لكن حتى اليوم حين يُقرأ موسى البرقع موضوع على قلبهم“[13]. لكن دعنا نتوقف هنا عن الكلام في الأمور التي صارت لليهود.
(ويقول)” ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح“[14]. هنا كلمة “الرب” تعنى “الروح”. فكما أن أولئك الذين ينظرون في مرآة ليشاهدوا صورة ونموذجًا للحقيقة، فإنهم سوف لا يستطيعون رؤية الحقيقة نفسها، على ما أعتقد. هكذا أيضًا، فإن كل مَن يرغب مشاهدة (صورة) جمال الحياة في المسيح عن طريق مرآة الناموس، سوف ينال هذا الذي يتمناه وذلك بطريقة حسنة. بمعنى أنه سوف يرى صورة الأشياء أو نموذجًا لها وفيها يعرف حقيقة الأشياء، وهكذا سوف يرى بكل وضوح هذا الذي يريده الله ويُسر به.
بلاديوس: لكن ما هو السبب الذي من أجله لم يُعطَ الجديد الإنجيلى من البداية للأقدمين، بل أعطى لهم في نماذج وظلال فقط؟
كيرلس: إن تمام التدبير وعلاقة هذه الظلال بالحقيقة الكاملة، هو أمر يليق بنا أن نتركه لله كُلِّى المعرفة، لكن الأفكار التي لا ينقصها مفاهيم صالحة، فإنها تقودنا إلى معرفة معتدلة أو إلى الاعتقاد بأننا نعرف سبب التدبير. إذًا يمكننا القول إن الذين تحرروا من أرض مصر، كانوا في أشد الحاجة إلى غذاء يناسب الأطفال. إذ كان لديهم ذهن غليظ وكان من السهل إغواؤهم إلى الضلال. فإنه من الصعب عيهم ترك محبة الجسد ومحوها تمامًا من هؤلاء المرضى بها. أيضًا أولئك المأسورين في شهواتهم من العسير عليهم تجنبها. وقد كان من المستحيل أيضًا أن ينالوا مباشرةً القدرة على الوصول إلى حياة الكمال، وأن يُفضلوا حياة مجيدة مُشرقة، وفائقة، إلى الحد الذي ينالون فيه مواطنة السماء، بينما هم يعيشون على الأرض، بحسب ما هو مكتوب[15]. أفليس الطعام القوى هو للكاملين أما اللبن فهو مناسب جدًا للأطفال؟![16]
14 في نص القديس كيرلس ” بواسطة الروح الذى هو الرب ” 2كو 18:3، 17