Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

الرسالة الفصحية الثانية ج2 – القديس كيرلس الكبير – د. ميشيل بديع عبد الملك

الرسالة الفصحية الثانية ج2 – القديس كيرلس الكبير – د. ميشيل بديع عبد الملك

الرسالة الفصحية الثانية ج2 – القديس كيرلس الكبير – د. ميشيل بديع عبد الملك

 

الرسالة الفصحية الثانية لأبينا القديس كيرلس رئيس أساقفة الاسكندرية

(5) إن كلمة الله في محبته للجنس البشرى اجتذبنا كلنا نحو العبادة الحقيقية وأنهض لحياة الفضيلة أولئك الذين يسمعون شرائعه المقدسة بأكثر طاعة. ولكن ليس الجميع لهم نفس الشوق لهذا ولم يسلك كل أحد بنفس الغيرة. بالنسبة للبعض فإنهم يتقربون لله بأكثر جدية معتبرين أن لا شيء أكثر احتراما من العبادة لله، فيقدمون أنفسهم مثل رائحة سرور للرب كتقدمة كاملة وذبيحة بدون تجزئة. فتعبير “ذبيحة المحرقة” يكون غالبا ملائما لهم، وهذا هو حقيقة تقديم ذبيحة المحرقة عندما يقدم الإنسان نفسه لله بدون خطية على الإطلاق. لكن لننظر ما تقوله شريعة ذبيحة المحرقة في هذا: “هذه شريعة المحرقة. هي المحرقة تكون على الموقدة فوق المذبح كل الليل حتى الصباح ونار المذبح تتقد عليه” (لا 9:6). ما هي إذن النار الموضوعة على المذبح إلا الحضور المستمر للروح القدس قينا؟ لقد أرانا المخلص ذلك في الكلمات الآتية: “جئت لألقى نارا على الأرض” (لو 49:12). وهكذا فإن الذي يجعل نفسه ذبيحة محرقة ويقدمها كاملة سليمة (بلا عيب) لله، فسوف يحفظ فيها نارًا لا تطفأ أبدًا، وقوة سعيرها المقدسة سوف تزدهر باستمرار فيه. يقول الكتاب المقدس: “طوال الليل” التي تفهم على أنها الحياة الحاضرة. فلا يتفق أن عقلنا يترك أحيانا ليبرد ويميل نحو الشر وأحيانا أخرى يشتعل ثانية. فيجب أن يكون ثابتا ودائما “حارين في الروح” (رو 11:12) كما يقول بولس الرسول. هذا سيكون أكثر وضوحا لنا بأمثلة أخرى إذا فحصنا المعنى الدقيق للشريعة. لأن الله يقول ثانية لموسى مفسر الأقداس: “وهذا ما تقدمه على المذبح. خروفان حوليان كل يوم دائما. الخروف الواحد تقدمه صباحا. والخروف الثاني تقدمه في العشية. وعشر من دقيق ملتوت بربع الهين من زيت الرض وسكيب ربع الهين من الخمر للخروف الواحد” (خر 29: 38-40). لكن يمكننا بوضوح أن نفهم بذلك أن يكون على نحو صحيح ألا ندع أى وقت يمر دون أن نكرم فيه الله بطريقة ملائمة مثلما يقبل الرائحة الذكية لأعمالنا الصالحة كذبيحة مستمرة. فهو يأمر بأن يقدم خروف واحد كذبيحة في النهار والثاني في المساء وهذا على ما يبدو إشارة إلى “كل الوقت”، مشتملة ما بداخل حدود كل هذه المدة. كما أنه يأمر بأن يخلط الدقيق بالخمر والزيت، وألا يسكب عليها هينا كاملا، ولكن ربع الهين، ليعلمنا بذلك أن الذين يقدمون العبادة المستمرة لله أو يقدمون بالأحرى أنفسهم لمشرّع الناموس كذبيحة سرور، سينالون رحمة وسرور ويفوزون في هذه الحياة الحاضرة بجزء من المكافأة (لأنه يأمر بأن يصب الربع من الهين)، ولكن في الدهر الآتي فإن النعمة الكاملة ستحل عليهم، كما يقول النبي: “فرح أبدى على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم. ويهرب الحزن والتنهد” (إش 10:35). إذن عندما تأمر الشريعة بوضوح بأن لا نترك الميول الشريرة التي تجعل العقل يميل للخطية، ألا سنكون عرضة لأن نعانى كل أشكال العقاب لو أهملنا ما أمرت به الشريعة؟ لو فحصت ضعف الطبيعة البشرية ستجد مشقة في تحويل التوتر إلى سلوك مهذب (لأنه ربما تقول إنك غير قادر على تحمل المشقات المستمرة التي هي مثل السنديان) وسوف تصرح بأن تحقيق الخطة سيكون أيضا صعبًا وصارمًا لاستمراريتها. الشريعة سوف تضع حدًا لحجتك بأن تريك الطريق الأدنى الملائم للحياة، الذي هو أقل قسوة من الذي ذكرته، ولكن أكثر رفعة ورقيًا من الطريق الآخر. ما هو إذن منهج الحياة هذا؟ سوف أعطيك صورة واضحة عن منهج الحياة الذي أقصده بذكر مثال آخر من الكتاب المقدس. فعندما ظهر الله لبنى إسرائيل في النار والظلام والعاصفة (راجع تث 11:4)، وسن لهم الشريعة لممارسة العبادة، فإن موسى بحكمته وجد أنه من الضروري أن يسرع أيضا بمثل واضح ليظهر لبنى إسرائيل نموذج السلوك الذي يرضى واضع الناموس، كما يناسب حالتهم واعتقادهم، إذ أنهم لم يحتملوا تعليمًا أكثر كمالاً، لذلك يقول: “فكتب موسى جميع أقوال الرب. وبكر في الصباح وبني مذبحا في أسفل الجبل وإثنى عشر عمودا لأسباط إسرائيل الإثنى عشر. وأرسل فتيان بني إسرائيل فاصعدوا محرقات وذبحوا ذبائح سلامة للرب من الثيران. فأخذ موسى نصف الدم ووضعه في الطسوس. ونصف الدم رشه على المذبح” (خر 24: 4-6).

لكن فلننظر ثانية لكل جزء من هذه الفقرة من الكتاب المقدس ونحللها بعناية لنرى ماذا يظهر لنا منها لنفعنا.           

(6) وهكذا نهض موسى مبكرا وِشيد المذبح، حيث يعلمنا انه يجب على المرء أن يستيقظ أولا كما من نوم ويرتفع إلى الاعتدال مقصيا ظلمة الخطية مثل ظلام الليل، ويسرع حينئذ نحو نور المعرفة حتى يتمكن بالتالي في المستقبل أن يحتفل بعبادة الله. لأني أعتقد أن إشعياء النبي قال عن ذلك: “روحي تستيقظ مبكرا بينما مازال الليل للقائك، يالله، لأن أحكامك هي نور على الأرض” (إش 9:26س)، وهذا يشير تقريبا إلى نهوض موسى مبكرا.

 ولكن لكي نقترب من تتابع الفكرة، سوف نقدم فيما يلي نظام بحثنا:

لقد أقام موسى المذبح ليس على الجبل ولكن أسفل الجبل، ليشير إلى أولئك الذين هم مازالوا بعيدين عن الكمال ولا يستطيعون أن يبلغوا إلى قمة كمال الوصايا، فهم ليسوا بعيدين ولكنهم يظلون هناك ولا يصلون إلى قمة الجبل بل أسفله خلال اقترابهم لله. بعد ذلك كان هناك 12 حجر حول المذبح لأجل أسباط إسرائيل الاثنى عشر، لكي نتعلم أنه يجب علينا دائما أن ندنو من الله بدون الوقوع مطلقا في خطية لا تغفر. لذلك فإن المرنم يعلن لنا بأكثر وضوح قائلا: “أطوف بمذبحك يا رب” (مز 6:26)، بعد هذا أيضا يقول: “أرسل فتيان بني إسرائيل فاصعدوا محرقات وذبحوا ذبائح سلامة للرب” (خر 5:24). سوف نقول إنه ليس عمل الكسول أو بطريقة أخرى عزم ضعيف ليكون قادرا على تقديم ذبيحة لله، ولكنه قرار نافع ونبيل. لهذا السبب يقول إن الذين أرسلوا كانوا فتيانا ليقدموا عجلاً كذبيحة سلامة.  لكن نلاحظ ثانية من هذا أن الحدث يتغير من مثال ورمز ليظهر طريقة التصرف، لأن اختيار المرسلين للذبيحة يكون جديرا بالثناء، ولكن يلاحظ هنا اختيار الأكبر والأكمل بدلا من الضعيف والأقل كمالاً، لأنه لا يقدم عجل صغير بل ثور بالغ قوى.

لقد أخذ موسى الدم ورش نصفه في الطاس والنصف الآخر على المذبح. هنا يجب أن نرى رمز الانقسام في حياة العبادة. لأن الدم يمثل النفس، تلك الحياة التي وزعها لنا الله بالتساو حتى لا يجب أن نعيش لأنفسنا فقط (راجع 2 كو 15:5)، ولكن نصون أيضا ذلك الجزء الخاص بالمذبح. إنه يكون نهج الحياة المعتدلة والملائمة التي لا تجعل الصرامة المفرطة أن تسود بقوة على الحياة ولا تقع بالأكثر في الخطية نتيجة الميول الشديدة نحو التهاون. بالتالي يرتفع من قبل الفطنة فوق حياة التراخ المفرط، ولكن يقدر بأن يتشبه بالحياة الأكثر كمالا، لذلك يلزم الغيرة الكافية. هكذا في هذه الحالة التي توازنت من مصدرين واتحدت صفاتها في واحد، الشخصية الواحدة التي نتجت هي جدية ومعتدلة. فبعلاقتهم مع كل واحد بالآخر فإن الطابع الهجومي يختفي، فالتوتر الناتج عن القسوة سيهدأ بعدم التهاون، بينما الإفراط في التهاون سوف يقلم بسكين الأفكار الثابتة، ويخلق طريقًا مستقيمًا للحياة لا عيب فيه.

        (7) يا أحبائي، إنه حسن لنا أن نتحمس لعمل ما هو أفضل ونبتهج بالأحرى بالتصرف الذي يظهر الفضيلة. ولكن كما يقول بولس الرسول: “كل واحد له موهبته الخاصة من الله، الواحد هكذا والآخر هكذا” (1 كو 7:7). فإنه حسن أن خالقنا كلنا قد أعطى بنفسه للضعفاء أن يروا الخلاص. فهو يمدح الذين اجتهدوا في طريق الكمال، ومع ذلك يقبل أيضا بمحبته للبشر أولئك الذين لم يكن لهم نصيب كبير في الفضيلة. “أوجه لا تكون مشابهة لأوجه، كما يقول سليمان، كذلك عقول (قلوب) البشر” (أم 19:27). في الواقع نجد أن طبيعة الجسم هي واحدة وتتكون من نفس الأعضاء، ولكن الاختلاف في الشكل الخارجي للأشخاص هو الذي يحدث التمييز بينهم.  نفس الشيء نجده في العقل، فنجده يتكون من نفس القدرات المتماثلة عند الكل، لكن يتشعب إلى وظائف غير متشابهة بحسب صفات كل شخص. وأعتقد أن هذا التفسير يؤيده مثل من الكتاب المقدس، حين يقول: هوذا الزارع قد خرج ليزرع، وفيما هو يزرع سقط البعض على الطريق والأماكن المحجرة، والبعض سقط على الشوك، والبعض على الأرض الجيدة وأثمر. بعض مئة وآخر ستين وآخر ثلاثين (راجع مت 13: 3-8). أنت ترى كيف أنه قال في هذا المثل إن التربة كلها كانت جيدة، ولكن التمييز يظهر في اختلاف الثمار. وهكذا فإن العدد مائة يعنى أولئك الكاملين في الفضيلة والذين ارتفعوا حتى قمة التقوى؛ والعدد ستون يعنى أولئك الذين يصعدون قليلا خلف السابق ذكرهم ولم يتقدموا في الفضيلة، أما العدد ثلاثون فهم الذين مازالوا في احتياج، ومع ذلك لا يوجدون خارج الأرض كما أنهم لم يُحرموا من حمل الثمار، لذلك يحتلون المرتبة الثالثة في الفضيلة لأنهم يجيئون بعد الكاملين (العدد مائة) وكذلك بعد العدد ستين. كما يقول المخلص أنه يوجد منازل كثيرة عند الآب (راجع يو2:14)، حيث يحدد مقياس الشرف لكل أحد. هكذا حدث في توزيع المواهب على العبيد، حيث يقول الكتاب المقدس: “فأعطى واحد خمس وزنات، وآخر وزنتين، وآخر وزنة” (مت 15:25). غير أن الطبيعة كانت جيدة وتساوت عند الكل وتصنع نفس الشيء لأجل الكمال في حدود حالتها الخاصة، فإنه لن يكون هناك لزوم لصنع اختلاف بينهم، وتوزع المواهب الخمسة للكل بالتساوي. لكن في الواقع، فإن عدم التساوي في العطية يدخل تباين داخل الحالات، والذي لا يقابل نفس الدرجة من التقوى. فالذي أخذ خمس مواهب سمع القول: “نعما أيها العبد الصالح والأمين. كنت أمينا في القليل فأقيمك على الكثير. أدخل إلى فرح سيدك” (مت 21:25). والذي ربح بالموهبتين أخذ نفس المديح والشرف لنفس الحكم. غير أن الله لا يظهر في هذا أنه غير عادل، ولكن بالأحرى أنه صالح وكريم، لأن كرمه الذي شمل به الثاني لن يقلل من الشرف المناسب للذين وفقوا، ولا للأقل توفيقا الذي سيكون سعيدا ليتسلم ما يستحقه في التوزيع بسبب مجهوده الخاص والنعمة تملأ ما ينقص في مكافأته. فمن يفكر باحتقار ليحسد نجاح الآخرين، فهو جاهل لأنه يوجه الاتهام لله محب البشر. لأنه يقول: “أعتقد أن الذي هو أقل في الفضيلة لن يستطيع أن يكون كاملا بنفس مقياس الكاملين بمعيار متساو في الحكم، لو صنع لهم تقدير عادل، ومقياس النعمة إنما يقيس كل أعمال كل إنسان كما بمثقال”. فلندعه يستمع إلى كلمات المسيح مخلصنا: “يا صاحب ما ظلمتك. أما اتفقت معي على دينار. فخذ الذي لك واذهب. فإني أريد أن أعطى هذا الأخير مثلك” (مت 20: 13-14). لندع بولس الرسول ينهض الرغبة لكل أحد ليفعل كل شيء صالح ويبعد التردد الضعيف للفكر بالصراخ: “لذلك يقول استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح” (أف 14:5). لأنك لو كنت قد استسلمت لنوم الضعف البشرى متجرعا الإثم كالخمر غير المختلط وانجرفت بعيدا منغمسا في ظلمة الهواجس المظلمة، فإن الوقت الآن هو لك لتفيق للخلاص وترفع عينيك إلى “شمس البر” (ملا 20:3)، فإن الرب سيستقبلك بمحبته للبشر، وسيرحمك كلية من الشرود، ولن يبتعد عن الباكي، وسيجعل التائب نقيا ويضمه للعبادة الحقيقية. 

سوف نقدم ثانية الآن بالأمثلة بعض الإثباتات للإسهاب في مثل هذه الأفكار لتقديم نتائج مفيدة جدا.    

(8) عندما أراد الله أن يعتق شعب إسرائيل من العبودية في أرض مصر، أمر موسى كاهن الأقداس أن يسرع إليهم ويشرح لهم مشيئة الرب الصالحة. كما أنه ينبغي عليه لكي يقنع السامعين أن يؤيد الكلمات بإثبات من خلال أدلة، لذلك قال الله له: “ما هذه في يديك. فقال عصا. فقال إطرحها إلى الأرض. فطرحها إلى الأرض. فصارت حية. فهرب موسى منها. ثم قال الرب لموسى مد يدك وامسك بذنبها. فمد يده وأمسك به. فصارت عصا في يده” (خر 4: 2-4). لكنني أعتقد أن موسى الطوباوي تعلم من هذا أن أولئك الذين عادوا للتمسك بالإثم في مصر وضلوا بعيدا في الخطية، سوف يهتدون إلى التقوى من خلال الخضوع للعزة الإلهية. في الواقع فإن الإنسان نبت من الأرض مثل العصا، ولكن عندما مال نحو شهوات الجسد، وقع إذا صح القول في يد واضع الناموس، حينئذ فقد وداعته واستُعبِد، ووجد ثعبان سام يوخز للخطية ويثير الغضب. ولكن حينما يشفيهم واضع الناموس، سيكونوا صالحين ويتحولوا ثانية إلى حالتهم الممتازة. سوف نطبق على موسى دور واضع الناموس. وكما أعتقد، فإنه من الواضح من كلماتي أن الله ينهض ثانية ليحول الإنسان الذي تكاسل وانزلق في طرق غير ملائمة. إن أصوات الأنبياء ستشهد باستمرار ناصحة الخطاة للرجوع إلى الله. لأن إلهنا محب البشر لم يترك أي فرصة لدعوة الجميع للخلاص. فنسمعه مهاجما صلابة وعناد الخطاة ومتهما موقفهم العنيد. فقال في إحدى المرات: “أإياى لا تخشون يقول الرب أو لا ترتعدون من وجهي أنا الذي وضعت الرمل تخوما للبحر فريضة أبدية لا يتعداها فتتلاطم ولا تستطيع وتعج أمواجه ولا تتجاوزها. وصار لهذا الشعب قلب عاص ومتمرد. عصوا ومضوا. ولم يقولوا بقلوبهم لنخف الرب إلهنا الذي يعطى المطر المبكر والمتأخر في وقته. يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة” (إر 5: 22-24). وأحيانا يهاجم بمرارة أولئك الذين يركضون بخزي بعيدا، حيث قال: “هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطه. فأنتم أيضا تقدرون أن تصنعوا خيرا أيها المتعلمون الشر” (إر 23:13). بالنسبة لأب كل خطية، فقد حاول أن يسود على جنسنا بقوة، حتى وجد قليلون يكرمون الله تماما ويعرف أنهم سيذكرون واضع الناموس. لكن لن يكون هناك أي احتياج لنا لنضع حدا لهذه الرؤية، منذ أن أعلن المرنم بوضوح: “الكل قد زاغوا معا وفسدوا. ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد” (مز 3:14). لأنه منذ أن سادت الخطية على كل البشر في هذا الطريق، وتدفقت من الأرض مثل الضباب، فإن القديسون بدأوا يتوسلون إلى كلمة الله ليأتي إلينا ويسطع بنور خلاصه على كل تصورات البشر. وهكذا صرخوا قائلين: “أرسل نورك وحقك” (مز 3:42)، لذلك فإن النور الحقيقي أُرسِل إلينا وهو الذي “يضيء لكل إنسان يأتي إلى العالم” (يو 9:1). إنه كلمة الله الذي إتخذ شبهنا، وولد من القديسة العذراء ليخلص الجنس البشرى، ويعيد طبيعتنا إلى عدم الفساد، كما يقول بولس الرسول: طريقا كرسه لنا حديثا، ووحد السمائيين مع الأرضيين ونقض حائط السياج المتوسط أى العداوة (راجع عب 20:10، أف 2: 14-15، كو 14:2)، وكذلك فإن الملائكة اندهشوا وقالوا: “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والمسرة في الناس” (لو 14:2). لأن مخلصنا عندما أرانا محبته وتألم على الصليب لأجلنا فإن رباطات الموت قد انحلت وكل دمعة مُسحت عن كل وجه كما يقول النبي: “وأحول نوحهم إلى طرب” (إر 13:31)، حتى يمكننا في فرح أن نقول: “حولت نوحي إلى رقص لي. حللت مسحي ومنطقتني فرحا” (مز 11:30). لأنه لأى سبب سنظل مكتئبين؟ أي سبب يجعلنا نبكى ثانية؟ على العكس من ذلك، فإن الذي حدث لأجل خلاصنا ألا يسبب لنا فرحًا في قلوبنا؟ لأنه أظهر طريق الخلاص ليس لنا فقط، بل أيضا كما يقول بطرس الرسول: “الذي فيه أيضا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن إذ عصت قديما” (1 بط 3: 19-20). فإن محبته لم تكن لمجموعة معينة، بل تشمل كل الطبيعة البشرية. فمن خلال الأنبياء جاءت هذه الكلمات المناسبة: “أمطر على ضيعة واحدة والضيعة التي لم أمطر عليها جفت” (عا 7:4). هذه الكلمات تناسب المخلص الذي قال: “تعالوا إلى يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت 28:11). فعندما بشر للأرواح التي في الجحيم قال للمأسورين أخرجوا وللذين في الظلام اظهروا (راجع أش 9:49)، فقد نهض الهيكل الذي هو ذاته في اليوم الثالث، وفتح طريق جديد لطبيعتنا لنصعد للسماء، مقدما نفسه للآب كباكورة البشرية، ومعطيا إيانا نصيبًا في الروح القدس كعربون لنعمته للبشر الذين هم على الأرض.              

(9) فلنحتفل يا أحبائي بهذا الحدث الكبير، ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق (راجع 1 كو 8:5)، مقدمين الكرامة لملكنا بكل شكر على البركات، وكذلك نرحب بالصوم بغيرة ملائمة إذ يتولد عنه كل صلاح، ولنتمسك بمحبة بعضنا لبعض عاكفين على ضيافة الغرباء بشوق عظيم، ومقدمين الرحمة للفقير، ذاكرين المقيدين كأننا مقيدون معهم وذاكرين المذلين كأننا مذلين أيضا معهم (راجع عب 3:13)، وباختصار، مكرمين كل الفضائل. وهكذا سنقدم صوما أفضل مبتدئين الأربعين المقدسة في الخامس من شهر برمهات وأسبوع الآلام الخلاصية في العاشر من شهر برمودة، وسوف ننهي الصوم في الخامس عشر من نفس الشهر في مساء السبت ونحتفل كالعادة في اليوم التالي فجر الأحد في السادس عشر من نفس شهر برمودة، وكحسب الناموس نضيف الأسابيع السبع للخماسين المقدسة التي تتبعها. وبهذا سوف نرث ملكوت السماوات مع القديسين بيسوع المسيح ربنا، الذي به ومعه المجد والسلطان مع الآب والروح القدس إلى ابد الآبدين آمين.      

 

الرسالة الفصحية الثانية ج2 – القديس كيرلس الكبير – د. ميشيل بديع عبد الملك

Exit mobile version