الرسالة الفصحية الثانية ج1 – القديس كيرلس الكبير – د. ميشيل بديع عبد الملك
مقدمة
أصدر المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية بالقاهرة الرسالة الفصحية الأولى للقديس كيرلس الاسكندري في مايو 2004م من سلسلة النصوص الآبائية تحت رقم 78. هذه الرسالة كتبها القديس كيرلس عام 414م حيث إن احتفال الكنيسة في ذلك العام صادف يوم 26 من برمهات. وقد كتب القديس كيرلس الاسكندري 29 رسالة فصحية في السنوات 414-442م وذلك خلال فترة حبريته لكرسي مدينة الإسكندرية، خليفة للقديس مرقس الإنجيلي الشهيد والرسول.
وقد تكلم القديس كيرلس الإسكندري في رسالته الفصحية الأولى عن نياحة عمه وسلفه القديس ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية الثالث والعشرون في سلسلة باباوات الكرسي الإسكندري، ثم انتقل للحديث عن اختياره رئيسا لأساقفة الإسكندرية. تحدث بعد ذلك عن الاحتفال الحقيقي لعيد قيامة الرب الذي هو أعظم الأعياد، وعلى الإنسان أن يستعد للاحتفال به ليس فقط بالصوم الجسدي أي بالإمتاع عن الأطعمة، ولكن بالصوم الروحي من خلال الابتعاد عن ممارسة الخطية. كما أن الصوم يجب أن يرتبط بعمل الرحمة. وأخيرا يهاجم في رسالته اليهود الخائنين ويقدم تفسيرًا روحيًا لبعض الأحداث الكتابية حول البوقين اللذين ذكرا في سفر العدد الإصحاح الحادي عشر. ثم يختم الرسالة بالإعلان عن ميعاد بدء الصوم المقدس والاحتفال بالأسبوع الخلاصي لآلام ربنا يسوع المسيح ثم ميعاد الاحتفال بيوم قيامة الرب.
ويسر المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية بالقاهرة أن يقدم الرسالة الفصحية الثانية للقديس كيرلس السكندري والتي كتبت عام 415م، وفيها يحث على حياة التقوى ويحذر من تقليد ذلك العبد الكسول والشرير. كذلك يتحدث عن الاستعداد الحقيقي للاحتفال بالقيامة موضحا بالتفسير الروحي أحداثا كثيرة من العهد القديم. ثم أعلن عن زمن الصوم المقدس الذي يبدأ في الخامس من شهر برمهات، ويعقبه الاحتفال بأسبوع الآلام في العاشر من شهر برمودة، وينتهي الصوم في مساء السبت الخمس عشر من برمودة وفي يوم الأحد التالي يحتفل بقيامة الرب يسوع المسيح في السادس عشر من نفس الشهر.
وقد ترجمت هذه الرسالة عن النص اليوناني الذي نشر في مجموعة الآباء الذين كتبوا باليونانية Migne “Patrologia Greaca” المجلد رقم 77 الأعمدة من 427-452.
نسأل إلهنا الصالح أن يجعل كلمات هذه الرسالة عونا لنا في جهادنا الروحي ونحن نقترب من نهاية الصوم المقدس حاملين ثماره المقدسة لنقدمها للقائم من بين الأموات لنستحق أن نفرح بسماع الصوت الإلهي “تعالوا إلى يا مباركي أبى رثوا الملك المعد لكم منذ تأسيس العالم”.
شفاعة أمنا البتول العذراء مريم ــ ونحن نحتفل هذا العام بالتذكار الأربعين لتجليها المبارك فوق قباب الكنيسة التي على اسمها بضاحية الزيتون بالقاهرة ــ تشملنا وتؤازرنا، وصلوات القديس مرقس الرسول والقديس البابا كيرلس السكندري عمود الدين. وصلوات قداسة البابا الأنبا شنودة الثالث، ولإلهنا القدوس الغالب الآب والابن والروح القدس كل مجد وتسبيح وسجود الآن وإلى الأبد. آمين.
المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية بالقاهرة
الرسالة الفصحية الثانية لأبينا القديس كيرلس رئيس أساقفة الاسكندرية
(1) “افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضا افرحوا” (في 4:4). إني في شوق لأن أبدأ رسالتي من هذه النقطة، وهذا ملائم للمناسبة المبهجة التي نعلن عنها. فكيف يمكن أن يوجد استهلال ملائم أكثر من الشيء الوحيد الذي وجدته عندما يكون هدفي الإعلان بابتهاج عن أعمال المخلص؟ لذلك فإن رسالتي سوف تبدأ مباشرة من هذه النقطة، وسوف أتجنب تماما أي أمور أخرى تشغل الانتباه عن هدفي الحقيقي وذلك بترك استطرادات عشوائية بدون التحدث في قصد الرسالة بأن تقدم في الوقت المناسب ما يصلح لمساعدة السامعين لفهمها، فالوحى الإلهي يعلن أن “هناك وقت لكل شيء” (جا 3:1). فاللحظة الحاضرة هي الأفضل بالنسبة لكل المناسبات لممارسة الوعظ. فالآن يكمل عيدنا الاحتفال دورته السنوية ويكون على أعتاب أبوابنا، ولم يعبر أعتابنا ولكنه يصنع منزلا في نفوسنا كلنا. لذلك كما يبدو لي أنه كان غريبا جدا أن اليهود المتفاخرين بالشريعة كظل وكشكل خارجي، يعلنون احتفالاتهم بالنفخ بالبوق، ولكن نحن الذين نكرم الاحتفال بالعيد بطرق أفضل منهم واتفقنا بإجماع صحيح ودقيق بضرورة الانتقال للحقيقة تاركين الرموز والظلال، فإننا سنحتفل بهذه المناسبة بغيرة شديدة أكثر منهم عندما يقول الواحد منا للآخر بأن يظل هادئا ويجلس في صمت تام ليحتفل بالعيد بدون ضجيج، رغم أن الله يقول: “إنفخوا بالبوق في رأس الشهر في اليوم المجيد لعيدنا” (مز 4:81)، لتأتى الرسالة في وسطنا لتعلن عن اليوم المجيد للعيد. لذلك فإذا ظللنا صامتين عن كل الامتيازات التي أتت للجنس البشرى من خلال محبة المخلص لنا، فإن “الحجارة سوف تصرخ” (لو 40:19) كما يقول المخلص بنفسه.
(2) حينما أدرس بدقة كل حدث تاريخي، يظهر أمامي حشد من الحقائق التي تسبب تأنيبًا عادلاً للذي سوف يختار الصمت في الحديث عنها. لأنه إذا كنا نهتم بالتمسك بالآراء الصحيحة والعادلة فسوف نعتبرها أفضل مهمة لتقديم الشكر لله لأجل إحساناته علينا، وعندما يهمل هذا بواسطتنا، ألا نشن حربا برغبتنا لو قاومنا فعل الأشياء التي ستبرئنا في توبيخ الآخرين لإهمالهم؟ لذلك فلنقدم للمخلص علامات اعترافنا له بالجميل. ولكن ربما نقول إننا لا نستطيع أن نجد الكلمات المناسبة التي توفيه حقه على إنجازاته، على الرغم من أن الكل سيوافق، كما أعتقد، على أن التخلي عن الانتصار بالأحرى الذي لا يجذب أي اقتراب للضعف، لكن يجعلك تتمسك بالحكمة. فماذا يمكن أن يكون أكثر عظمة من أعمال المخلص؟ هل كل الكلمات لن تتجاوز الأمور الإلهية؟ لأن الكتاب المقدس يقول: “مجد الله يخفي الحديث” (أم 2:25س). في الواقع، فإن موسى المبارك، بالرغم من أنه كان ذو فضائل عظمى حيث سمع صوت الله له قائلا: ” أعرفك فوق الرجال، وأنت وجدت نعمة معي” (خر 17:33س)، إلا أنه لم يكن في خجل أن يقول إنه متلعثم وبطيء الكلام وغير مناسب تماما لمهمة الوعظ. فإذا كان موسى لم يتعرض لأي توبيخ عندما قال ذلك ــ والمعروف بأنه نبي فاضل يستحق المديح ــ هل لن نسلّم بأن أعمال المخلص التي تتجاوز الناموس، يمكن أن تلغى كل التعبيرات القوية عنها؟ وأيضا سوف نضيف أننا لم نكن بارعين في التعبيرات المنمقة ولم نستخدم اللهجة الأتيكية. آخرون ربما يهتمون بذلك ولهم قدرة بارعة في الكلام، ولكن رسالتنا يا أحبائي هي وجيزة والكتابة فيها ضرورية، “فويل لي إن كنت لا أبشر. فإنه إن كنت أفعل هذا طوعا فلي أجر، ولكن إن كان كرها فقد إستؤمنت على وكالة” (1 كو 9: 16-17). لهذا السبب أعتقد أن كلماتي الوجيزة لن يهاجمها أحد. ومهما يكن فإن نعمة الله هي التي توحى لي بالأفكار، لذلك سأضع خطة مناسبة لمنفعتكم.
(3) عندما يقول موسى: “إحفظ شهر الحصاد الجديد واصنع فصح الرب إلهك” (تث 1:16)، فكيف لا نكون مضطرين الآن لأن نعلن زمن هذا العيد الذي هو وشيك الوقوع، لأن قسوة الشتاء قد مضت، والطقس الرديء والعتامة قد انقضت، والمطر وهبوب الرياح العاصفة لن تهاجمنا بعد، ويعود فصل الربيع بالأثمار الجديدة، ويتحرر الزارع من التراخي والخوف، والكل يقول للزارعين إنه وقت الذهاب إلى الحقل، لأن الأراضي الخضراء تنتج ثمار وفيرة، والنباتات في القفر والحدائق تكون نشطة ومحملة ببراعم جديدة تتدفق بقوة وحيوية بطبيعتها كما لو أنها تولد من الرحم، السهول خضراء تذكرنا بمحبة الله للبشر، لأنه لهذا السبب يقول: “المنبت عشبا للبهائم وخضرة لخدمة الإنسان” (مز 14:104). إننا لم نقتبس هذه الكلمات ببساطة، ولا نظن أننا اقتبسناها بدون سبب، ولكن لنظهر فائدة الوصية. فالشريعة لم تأمرنا بحفظ شهر الحصاد بلا سبب، ولكنها في الحقيقة أوجبت على الطبيعة البشرية أن تنافس نشاط حبوب الحقول، هكذا يقال، لترى أنها مزهرة في نمو جديد للدين الحقيقي. فلنحوّل إذن لأنفسنا معنى كل هذه الأحداث، كي تعطى منفعة لنفوسنا، فاحصين بعناية لكي يكون حديثنا متصلاً بالموضوع المسمى شهر الحصاد الجديد بأنه يرمز لزمن مجيء مخلصنا يسوع المسيح.
فالشيطان الآن، الذي هو مصدر كل أذى، والذي ينقضّ على نفوس الجنس البشرى مثل فصل الشتاء ويهطل علينا رغبات معاكسة مثل وابل المطر الثقيل، قد هلك. وقوة الأرواح الشريرة قد أُقصيتْ، وسحابة الخطية الكريهة قد تبددت بفعل النعمة. ومثلما ينتشر علينا ضوء الفجر، فقد أعطيت لنا الثمار الأولى للروح، وتهب على أنفسنا كلنا كالريح الغربي الذي يهب على أي زهرة، مثلما يقول بولس الرسول: “لأننا رائحة المسيح الذكية لله” (2كو 15:2). لقد تحررنا من الطباع القديمة في حياتنا الماضية مثل سقوط ورق النبات، وتجددت حياتنا في طريق آخر من الحياة حيث تزهر من جديد وتنبت ثانية. وفي هذا قال القديس بولس الرسول: “إذن إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدا” (2 كو 17:5). فإذا أراد أحد أن يرى من الكتب المقدسة أيضا أن كلماتي لم تبعد عن الحقيقة، فليستمع إلى قول العريس للعروس عن الشهر الحقيقي الجديد قائلا: ” قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالى، لأن الشتاء قد مضى والمطر مر وزال، الزهور ظهرت في الأرض، بلغ أوان القضب” (نش10:2ـ12). لأنه مثلما تقطع الفأس الفروع غير النافعة للكرمة، لكنها تسمح ببقاء التي تبدو أنها ضرورية لحمل الثمار لتبقى علي الكرمة، هكذا ربنا بحكمته المطلقة يفحص فكر كل إنسان، وربما يقول أحد، إنه يبعد تلك الأعضاء التي بدون فائدة للنمو في الدين الحقيقي مع تلك الأعضاء التي ذبلت، هكذا يقال، ولكنه يسمح بحفظ وبقاء الفكر العاقل ليثمر. هكذا في حديثنا عن الخلاص فإننا ننبذ آلام الجسد ونحمل نعمة الروح الخالصة لتسكن فينا، ونتغير لنعيش حياة أفضل متذكرين كلمات بولس الرسول: “إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد أيضا للخطية لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية. فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضا معه” (رو 6-8:6). لأننا سوف نحيا معه بصدق ونقاء لو رفضنا الرغبات الدنسة التي تأتى من الجسد، وكما يقول أحد القديسين: “مبغضين حتى الثوب الدنس من الجسد” (يهوذا 23)، مادام هناك طهارة وضبط للنفس مقدمة لله، وحياة الفضيلة كذبيحة للمسيح الذي مات عنا. وهكذا يقول المرنم: “يا جميع الذين حوله. ليقدموا هدية للمهوب” (مز 11:76). ولكن ما هي طبيعة عطيتنا لله، وبأي طريقة ستُقدَم وكيف ستُقبَل، يلزم إذن أن نبحث ونتعلم ذلك من الكتاب المقدس.
(4) لأنه ماذا يقول الكتاب؟ “وإذا قرب أحد قربان تقدمة للرب يكون من دقيق. ويسكب عليها زيتا ويجعل عليها لبانا” (لا 1:2). فحبيبات القمح عُجِنَت إلى خبزة واحدة إشارة إلى الحشد المتنوع من الفضائل التي تشكل وحدة العبادة التي نقدمها لله كذبيحة وكتقدمة. كما أنه يأمر بسكب الزيت عليها الذي هو رمز السرور، لأنه لا يليق أن يأسف الإنسان البار على المجهود الذي صنعه ليبلغ إلى التقوى، ولكن يلزمه أن يحارب الخطية على أمل أن يفرح. أما اللبان المرشوش فهو يرمز إلى الرائحة العطرية للأعمال الصالحة، لأنه إذا رغب أحد أن يقتنى زينة الطهارة فيجب عليه أن يعيش بعيدًا عن كل دنس ويحيد عن كل لذة رديئة، وهكذا يكون جديرا بالثناء وبالتالي تُقبَل تقدمته.
لنرَ طبيعة المعاني العميقة لهذه الكلمات مستخدمين الأمثلة البشرية التي تجعلنا نرى فكرة الحقيقة الإلهية. فإذا اتفق أن أحد ما قرر أن يقدم هدية لأحد مشاهير عالمنا، فهل يقدر أن يقترب منه بجسد مغطى بالقذارة؟ ألا يكون هذا الفعل هو وقاحة وسفاهة؟ ألا يستحق هذا الإنسان كل أنواع اللوم؟ حسنا، فإذا سمحنا لأنفسنا بأن نفعل ما هو أفضل وبدون أى خطأ للذين هم بشر مثلنا ويكون ملائمًا لمكانتهم الشهيرة في هذا العالم، ألا يشعر الذي يقترب إلى الله بدون أن يغتسل من دنس الخطية بعدم اللياقة والابتذال، مع أن الشريعة تقول بوضوح: “كل التقدمات التي تقربونها للرب لا تصطنع خميرًا. لأن كل خمير وكل عسل لا توقدوا منهما وقودا للرب. قربان أوائل تقربونهما للرب. لكن على المذبح لا يصعدان لرائحة سرور. وكل قربان من تقادمك بالملح تملحه ولا تخل تقدمتك من ملح عهد إلهك. على جميع قرابينك تقرب ملحا” (لا 2 :11-13). والذي يشار إليه بالخمير، يُفهَم من كلمات بولس الرسول عندما يقول: “إذا نقوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجينا جديدا كما أنتم فطير” (1 كو 7:5). لأنه كيف ستقدم الشرور العتيقة كرائحة سرور للرب الذي يطالبنا بحياة جديدة وبدون رياء. الشريعة تأمر برفض تقديم العسل لأنه يشير إلى الفرح. فبينما فعلها يظهر أنه حلو، فإن الفرح الذي سنجتنيه من كل خطايانا، ستكون نتيجته مرارة أكثر من العلقم. فلو تمسكنا بشرف لإرضاء الله، فلا يجب أن نواصل حياة الخزى والشهوة، ولا نفرح بلا مبالاة بالطريق الرديء، ولكن على العكس من ذلك يجب أن نجتهد لإقامة وزن لواضع الناموس. لذلك تأمر الشريعة بأن الذبائح يجب أن تملح بملح، وفي هذا نرى رمز المنطق والحكمة. لأنه كما أعتقد، أن القصد من ذلك هو أن الذين يقدمون حياتهم ذبيحة لله يجب أن ينضجوا في مخافة الله، كما بملح، خشية أن تتبدد وتتلاشى بعيدا في شهوات ضعيفة وتغوى إلى وضع أسوأ. ألا نعتبر كل المديح الذي نادى به بولس الرسول “ليكن كلامكم كل حين بنعمة مصلحا بملح” (كو 6:4) أنه هام؟ ولكنني أعتقد أن مثل هذا الكلام لا يمكن أن يظهر إن لم تكن حالتنا الذهنية جيدة. “فإنه من فضلة القلب يتكلم اللسان” (لو 45:6). إذن ليكن عقل الإنسان التقى مملحا، ورافضا الخطية كالنفاية، ولا ينمو بنعومة متقلبا ومنغمسا في لذات غريبة. لذلك يقول بولس الرسول: “كونوا راسخين غير متزعزعين مكثرين في عمل الرب كل حين” (1 كو 58:15). ففي قوله “كونوا راسخين” فهو يبتعد عن كل مديح للذين ليس لهم بعد عقل ثابت وراسخ، كما أن سيدنا كلنا يتهمهم بنفسه في كلماته على فم أنبيائه: “هكذا أحبوا أن يجولوا. لم يمنعوا أرجلهم فالرب لم يقبلهم” (إر 10:14). إن “الأرجل” هنا تعنى الانتقال من مكان لآخر واضطراب العقل من جانب لآخر للأشياء الباطلة، أعنى المطالبة بالموافقة على الإعجاب لطرقهم. هذا يعنى أن الأرجل تكون راسخة كما هي متمسكة دائما بالثبات ومتجنبة الطريق الذي يؤدي للشر. لذلك فإن المرنم المبارك يقول عن ذلك الإنسان: “ثبت أرجلي على الصخر” (مز 2:40)، الذي يعنى تبعا لذلك الرسوخ المألوف وغير قابل للتغيير. والرسول بولس ينصحنا بأن يكثر الإنسان في عمل الرب (راجع 1 كو 58:15) بقدر ما يكون ممكنا لطبيعته، ويلازم الحب الإلهي بأعماله الصالحة. لأني أعتقد أن العقل الثابت لا يتمرد على الشرائع الإلهية في لحظة ثم يتمسك بها بثبات ثانية مثلما ينهض من نوم. مثل هؤلاء الناس، كما يبدو لي، هو مثل الانطباع بالصدمة للذين يسقطون من سفن البضائع في وسط أمواج المحيط، فإنه يمكنهم أن يتحرروا من الخوف بتجنب الطياشة، وعندما يجدوا أن الخطر محيط بهم حينئذ يرون بصعوبة ما هو لفائدتهم ويسعون نحو الأمان الذي فقدوه عن طريق العودة للسباحة إلى السفينة. فمن الأفضل عدم انتظارا الخطر حتى يحدث بل الاحتراس منه قبل أن يحدث، وبالتالي يكونون قد خططوا بأكثر وعى. فإذا وجد أحد أنه يكون طياشة تامة للإنسان الذي يقلد هؤلاء، فهل لا يكون صحيحا إظهار حماس صادق للتمسك باستقرار بالشرائع الإلهية وتقديم حياة بلا عيب مثل ذبيحة مستمرة؟ اسمع ماذا تقول لنا الشريعة الإلهية في هذا: “وكلم الرب موسى قائلا أوص هارون وبنيه قائلا. هذه شريعة المحرقة. هي المحرقة تكون على الموقدة فوق المذبح كل الليل حتى الصباح ونار المذبح تتقد عليه” (لا 6: 8-9). كيف يا أحبائي يمكنني أن أكون صغيرا وضعيفا، هل أستطيع أن أشرح على نحو كاف ماذا يعنى هذا الأمر؟ أى كلام يستطيع أن يعطينا قوة المعنى الدقيق؟ ولكن كما هو مكتوب: “افتح فمك وسوف أملأه ” (مز 11:81). حسنا، فلنتشجع ونتمسك بنعمة مخلصنا التي ستوضح هذه الكلمات.