آبائياتأبحاث

الرسالة الفصحية الأولى ج1 – القديس كيرلس الكبير – د. ميشيل بديع عبد الملك

الرسالة الفصحية الأولى ج1 - القديس كيرلس الكبير - د. ميشيل بديع عبد الملك

الرسالة الفصحية الأولى ج1 – القديس كيرلس الكبير – د. ميشيل بديع عبد الملك

الرسالة الفصحية الأولى ج1 - القديس كيرلس الكبير - د. ميشيل بديع عبد الملك
الرسالة الفصحية الأولى ج1 – القديس كيرلس الكبير – د. ميشيل بديع عبد الملك

 

مقدمة

أصل الرسائل الفصحية:

          يُعتبر البطريرك الأسكندرى ديونيسيوس هو أول من بدأ كتابة الرسائل الفصحية[1] ἐπιστολαὶ ἑορταστικαί ، وكان الغرض من كتابة هذه الرسائل الفصحية هو:

1 ـ تحديد تاريخ الاحتفال بعيد القيامة وما يرتبط به من بداية الصوم المقدس.

2 ـ كان بطاركة الأسكندرية يعتبرون هذه الرسائل مناسبة لكتابة رسالة رعوية عن الصوم توجه إلى الكنائس التابعة لهم.

ظل تقليد كتابة الرسائل الرعوية معروفًا فى كنيسة الأسكندرية حتى القرن التاسع الميلادى حسب ما يذكر كواستن أستاذ الباترولوجى[2]، ولكن هناك ما يدل على أن تقليد كتابة هذه الرسائل استمر إلى القرن الحادى عشر حسب ما ورد فى مخطوط “اعتراف الآباء” بوجود خمس رسائل للبابا خرستوذولوس (ق11)[3]. ومن بطاركة الأسكندرية الذين كتبوا رسائل فصحية، بالإضافة إلى البطريرك ديونيسيوس: القديس أثناسيوس الرسولى، والقديس  ثاوفيلوس، والقديس كيرلس الأول عمود الدين. وكانت الرسائل الفصحية تحتوى على موضوعات كنسية ورعوية وعقائدية بالإضافة إلى تحديد بداية الصوم وتاريخ الاحتفال بالعيد.

          هناك بعض الآراء تؤكد على أن البابا البطريرك ديمتريوس فى نهاية القرن الثانى الميلادى كتب رسائل فصحية، كما يخبرنا بذلك المؤرخ الكنسى أوسابيوس القيصرى[4]. ويُقال إن البابا ديمتريوس كان قد أرسل رسائل فصحية بشأن موضوع الاحتفال بعيد القيامة إلى كل من كنائس روما وفلسطين[5]. لذلك يمكننا القول إن تقليد كتابة الرسائل الفصحية نشأ فى الأسكندرية. ويعتقد أوسابيوس أن هذه الرسائل كانت تُكتب فى زمن الاضطهاد حيث يُقال إن البابا بطرس الأسكندرى المُلقب بخاتم الشهداء كتب رسائل فصحية أثناء زمن الاضطهاد الذى اثاره الإمبراطور ديقلديانوس[6]. ولم يتبق منها إلاّ رسالة واحدة كُتبت عام 309م والتى قام بنشرها M. Richard [7]. وكان بطريرك الأسكندرية منذ القرن الثالث الميلادى يرسل إلى أساقفة الإيبارشيات التابعة له رسائل فصحية عقب الاحتفال بعيد الغطاس يحدد فيها بداية الصوم المقدس وتاريخ الاحتفال بعيد القيامة. وفى عام 325م قرر المجتمعون فى مجمع نيقية المسكونى الأول أن يقوم بطريرك الأسكندرية بإخطار كنائس المسكونة بتاريخ الاحتفال بالعيد حيث إن آباء الأسكندرية كانت لهم خبرة ودراية بالحسابات الفلكية[8]. وبعد انعقاد المجمع المسكونى أرسل الملك قسطنطين خطابات إلى أساقفة كنائس العالم أخطرهم فيها بقرار مجمع نيقية فى أمر إسناد تحديد ميعاد عيد القيامة إلى بطريرك الأسكندرية[9].

          وقد ذكر فى المقدمة المكتوبة باللاتينية الخاصة برسائل القديس كيرلس الفصحية والتى نُشرت فى Migne المجلد 77، أنه كان هناك قرار مجمعى بأن تاريخ الاحتفال بعيد القيامة يجب أن يُعلن أولاً فى الأسكندرية ثم يُرسل إلى كنيسة روما وبعد ذلك إلى كنائس المسكونة[10].

 

الرسالة الفصحية الأولى للقديس كيرلس

محتويات النص:

          كتب القديس كيرلس الأسكندرى 29 رسالة فصحية خلال فترة رئاسته لكنيسة الأسكندرية. والرسالة التى بين أيدينا تتحدث عن أنوار عيد القيامة المبهجة التى تضئ على المسكونة، وحث المؤمنين بالإسراع للإنضمام إلى موكب المنتصرين الصاعدين للاحتفال بالعيد بالنقاء والطهارة، وتحدث بعد ذلك عن أهمية الاستعداد للاحتفال بالعيد عن طريق الصوم النقى حيث ذكر أهمية وفائدة الصوم مقتبسًا من تعاليم الكتاب المقدس ومن بعض أحداث العهد القديم. فالصوم هو ضبط النفس ومحطم اللذة والشهوة الجسدية.

          فى الفقرة السادسة من هذه الرسالة الفصحية هاجم القديس كيرلس اليهود الذين شابهوا آبائهم فى عدم التقوى ورفضوا الإيمان المسيحى. ثم تكلم باختصار عن تجسد كلمة الله الأزلى الذى احتمل الموت عنا ونزل إلى الجحيم وسلب ممتلكات الشيطان.

          ثم أعلن القديس كيرلس فى نهاية الرسالة عن زمن الاحتفال بالعيد مستخدمًا التقويم القبطى وهو التقويم الذى اتبعه فى جميع رسائله الفصحية.

 

ترجمة الرسالة:

          أو من نشر الرسائل الفصحية هو Ottobonianus فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر باليونانية، وقد أعاد نشرها عام 1618 Antonio Salmatia من ميلانو والذى اعتمد على نسخة نُشرت عام 1610 بواسطة Johannes Sanctmaura، وفى عام 1638م قام Jean Aubert بإعادة نشر هذه الرسائل الفصحية.

          وهذه الرسالة تُرجمت عن النص اليونانى الذى نُشر فى مجموعة الآباء الذين كتبوا باليونانية، Migne, “Patrologia Greaca” المجلد 77 عمود 401 ـ 426.

 

 

          إلهنا ومخلصنا الصالح يسوع المسيح القائم من بين الأموات والذى اشرق علينا نحن الجلوس فى الظلمة يفرحنا بأنوار قيامته المقدسة لننضم إلى صفوف الغالبين الظافرين القائلين بفرح:

” أين شوكتك ياموت ، أين غلبتك يا هاوية “.

          بشفاعة والدة الإله القديسة مريم وصلوات القديس كيرلس وجميع الآباء القديسين، وصلوات قداسة البابا الأنبا شنودة الثالث، ولإلهنا القدوس الغالب الآب والابن والروح القدس كل مجد وتسبيح وسجود الآن وإلى الأبد. آمين.

المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية

 

الرسالة الفصحية الأولى لأبينا القديس كيرلس رئيس أساقفة الأسكندرية

الفقرة الأولى:

          إن الأنوار المُبهجة لعيدنا الإلهى المجيد، تسطع بقوة لتنير كل المسكونة ولا تسمح بحدوث أى ظلمة أو عتمة للذين يريدون أن يحتفلوا بالعيد فى فضيلة. لذلك فإن الرسول الطوباوى يظهر الطريق الصحيح لأولئك المستعدين (للاحتفال بالعيد) ويقول: ” قد تناهى الليل وتقارب النهار، لنسلك بلياقة كما فى النهار” (رو12:13و13)، وبذلك ينقادون بنور مصابيح المخلص التى لا تنطفئ. ونحن أيضًا يمكننا أن نصل إلى أورشليم العليا لنشارك صفوف الملائكة القديسين فى السماء. وهكذا نجد أن الطوباوى داود حينما يدعونا إلى الحشد الجليل فإنه يحثنا أن نرتل أنشودة الانتصار للمسيح الذى تجسد لأجلنا وأبطل بالصليب قوة الموت، حيث يقول: ” هلم نرتل للرب، نهتف لله مخلصنا” (مز1:95)، كما يدعو أولئك المتمسكين بالشرائع الإلهية للدخول فى خورس المفديين، معلّمًا إياهم أن يكونوا متحدين فى رأى واحد مشترك، ومعترفين بإيمانهم بالمسيح بدون تردد وبفكر غير منقسم، وبدلاً عن ذلك، كما يقول بولس: ” نهتم اهتمامًا واحدًا” (راجع رو5:15؛ 16:12؛ فى2:2)، متمسكين باعتراف إيماننا (بالمسيح)، راسخًا وقويًا. وكذلك بالنسبة للاحتفال الإلهى السليم، إذ يدعونا للصعود إلى أورشليم الروحية وينهضنا للسعى نحو التقوى، فلنستمع إلى قول النبى: ” أيها الناجون من السيف اذهبوا، لا تقفوا، اذكروا الرب من بعيد ولتخطر أورشليم ببالكم” (إر50:51). لذلك ينادى بولس: ” اركضوا لكى تنالوا” (1كو24:9)، وعندما يشرق عيدنا المقدس كالشمس، فلنطرح إذن بعيدًا عنا الحيرة وضعفات التوانى والإهمال، ونتغلب على كآبة ظلمة الكسل، ونتقدم بالشجاعة وبعقل مستنير نحو كل فضيلة قائلين لبعضنا البعض كلمات الكتاب: ” هلّم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب فيعلّمنا من طرقه ونسلك فى سبله” (إش3:2).

          إن اليهود لم يقدروا أن يهربوا من العبادات الجسدية ” الرمزية”، لذلك سمعوا الكلمات: ” لماذا لى كثرة ذبائحكم يقول الرب. اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات. وبعجول وخرفان وتيوس ما أُسرّ حينما تأتون لتظهروا أمامى” (إش11:1). لذلك فإن الذين ابتعدوا عن هذه الممارسات وقد تدربوا على رؤية الله من خلال العبادة بالروح وبقلب صادق مختتن كما يقول النبى: ” اطلبوا الرب مادام يُوجد ادعوه وهو قريب، ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره وليتب إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران” (إش6:55و7). فمثلما اقترب إلينا مخلصنا المسيح واتخذ شبهنا (فى التجسد)، لذلك يجب علينا ـ كما يقول الكتاب ـ أن ” نخلع الإنسان العتيق ونلبس الجديد الذى يتجدد حسب صورة خالقه” (راجع أف22:4ـ24؛ كو9:3ـ10)؛ ولننسَ ما هو وراء ونمتد إلى ما هو قدام (راجع فى13:3)، صاعدين بالنقاوة للاحتفال الإلهى. ويصرخ النبى إرميا قائلاً: ” احرثوا لأنفسكم حرثًا ولا تزرعوا فى الأشواك، اختتنوا للرب وانزعوا غرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أورشليم” (إر3:4). لقد نمت أفكارنا مع الشوك وأجدبت من عدم التقوى، لذلك يجب علينا أن ننقيها بنار المخافة الإلهية حتى يمكننا أن نتقبل بذرة المخلص الصالحة (أى تعاليمه الصالحة)، حيث يعلّمنا بألاّ نتبع الفرائض الباطلة أو العبادات الشكلية، كما أنه يدعونا بأن نتجدد للخلاص بالوصية النافعة، مظهرين لله، “اليهودى” الذى فينا فى الخفاء، و”الختان” الذى فينا فى الخفاء (راجع رو29:2)، ومقتلعين كل الشرور من قلوبنا، وحينئذٍ نستطيع أن نسمع بحق: ” احتفلوا بأعيادكم، يا يهوذا، قدم صلواتك إلى السيد الرب” (نا1:2).

 

الفقرة الثانية:

          بالنسبة لأولئك الذين أُرسلوا ليكرزوا، توجد رهبة غير قليلة، وبأكثر تحديد، هناك تأديبات غير بسيطة عن التوانى فى هذا المجال الكرازى، حيث يقول: ” ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة” (إر1:48). ويمكننا أن نتأكد من هذا بوضوح، إذا تذكرنا المبارك يونان بهيجان البحر عليه والحوت المفزع والمروع مقبلاً نحوه. لأننى أرى أنه توجد رهبة للخدمة الإلهية عند كل الرجال القديسين. فموسى ـ معلم الأقداس ـ عندما أمره الله أن يُخرج شعبه (من أرض مصر)، قاس قدر طبيعته البشرية بالنسبة إلى عظم هذه الخدمة الكرازية، فقال: ” لست أنا صاحب كلام” (خر10:4)؛ وبنفس الطريقة نجد أن المبارك إرميا عندما أُرسِلَ (من قِبل الله) للنبوة، هتف قائلاً:   ” فقلت آه يا سيد الرب إنى لا أعرف أن أتكلم لأنى ولد” (إر6:1).

          فإن كان القديسون، الذين هم بالنسبة لنا، مثالٌ حسنٌ للتقوى، يقولون مثل هذه الأقوال، ومع ذلك فإن الطريق (أى طريق الكرازة الإلهية) الذى جعلهم يشعرون بالرهبة، لم يسبب لهم أى تردد ضئيل ولا أى مخاطرة (لإتمام هذا العمل الكرازى)؛ لأن الله يخجلنا ويدعونا أن نطرح الخوف، عندما يقول لموسى: ” من صنع للإنسان فمًا أو من يصنع أخرسًا أو أصمًا أو بصيرًا أو أعمى؟ أما هو أنا الرب؟ فالآن اذهب وسوف أفتح فمك” (خر11:4ـ12). كما أنه يقول للطوباوى إرميا: ” لا تقل إنى ولد لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به” (إر7:1). فبناء على ذلك، هكذا أنا الضعيف، مثلما تتطلب منى وظيفة الكهنوت العظيمة أن أعظ، فإنى أجد خشية فى كلمات الكتاب: ” تكلم ولا تبقى صامتًا” (أع19:18)، وأجد نفسى مضطرًا لكتابة مثل هذه الأشياء. لأنه منذ أن ترك أبونا ثاوفيلس صاحب الذكرى العطرة والجدير بالثناء، أسقفنا الأخير، الحياة الأرضية حسب أحكام الله وصعد إلى المنزل السماوى (كيف حدث ذلك للمتصرف فى كل المعرفة ـ إنى أشعر بالخشية عندما أكتب)، عندئذٍ أتت إلىَّ أنا الصغير خلافة الأسقفية. فعندما أسمعُ لبولس حينما يكتب: ” فويل لى إن كنت لا أبشر” (1كو16:9)، فإنى آتى فى خشية لأعظ، وأفتكر أن الكرازة تتجاوز قدرتى.

          لذلك فكما أن احتفالنا المقدس يسطع بشدة ويدعونا للعفة، لذلك أضطر أن أقول لأولئك الذين ما يزالون ملتصقين بالشر ” نقوا أيديكم أيها الخطاة وطهروا قلوبكم يا ذوى الرأيين” (يع8:4)؛ وأقول أيضًا لأولئك الذين يهربون من عار الخطية البغيض ويسلكون فى طريق الحياة المقدس، أن يستمعوا إلى النبى وهو يبشرهم قائلاً: ” استنيرى استنيرى يا أورشليم لأن مجدك أتى ومجد الرب حلّ عليك” (إش1:60). لأن كل البشر الساكنين تحت الشمس صاروا، كما هو مكتوب ” نصيبًا لبنات آوى” (مز10:63ب)، وانقسموا إلى أنواع وأشكال متعددة من فعل الشر، وهُزموا بظلمة الجهل، وأيضًا سقطوا فى عمق أعماق الخطية. لذلك نجد أن المرنم داود اضطر أن يتضرع إلى الله الكلمة لكى يأتى إلينا من السماء قائلاً: ” يا راعى إسرائيل إصغِ يا قائد يوسف كالضأن يا جالسًا على الكاروبيم أشرق، قدام إفرايم وبنيامين ومنسى أيقظ جبروتك وهلم لخلاصنا” (مز2:80ـ3). وعندما أدرك (المرنم) أن مجئ كلمة الله سيحدث فى الوقت المناسب، حيث كنا ساقطين ومنطرحين، صرخ أيضًا: ” لماذا أيها الرب تقف بعيدًا؟ هل نسيتنا فى الوقت المناسب وفى ألمنا” (مز22:90). فالمخلص قبل التجسد، لم يكن بعد قد أخذ شبهنا، ووُجد بعيدًا عنا، ، لأن المسافات كانت كبيرة بين الطبيعة البشرية وطبيعة كلمة الله؛ ويقول احد رجالنا القديسين: ” أنا تراب ورماد” (تك 27:18ب)؛ ويقول النبى إشعياء عن وجود الابن الوحيد الجنس: “من يصف طريقة ميلاده” (إش8:53). فعندما كنا نعانى ألامًا كثيرة، فإن المخلص أضاء علينا فى الوقت المناسب، مولودًا من امرأة حسب الجسد، ليخلص الإنسان مولود المرأة، ويحرره من رباطات الموت، ولكى يعلّمه أن يقول بفرح: ” أين غلبتك يا موت، أين شوكتك يا هاوية” (هو14:13؛ 1كو54:15ـ55). فالمخلص لم يمنحنا فقط عطية القيامة، ولكنه كَسَرَ شوكة الجحيم، التى هى الخطية التى أصابتنا، حيث يقول: ” ها أنا أعطيكم سلطانًا أن تدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شئ” (لو19:10؛ انظر مز13:91). هذا العمل الذى تحقق بتجسد مخلصنا يفوق أى شئ آخر، لذلك استوطنت القداسة فى كل الأرض، كما أن الظلام الذى يحجب الحقيقة قد أُبطل، وتنبأ عن هذا أيضًا المرنم وقال بقوة روح الله: ” يُشرق فى أيامه الصديق وكثرة السلام إلى أن يضمحل القمر” (مز7:72)؛ وكما يقول بولس: ” لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه” (رو10:5أ)، وسيشرق علينا ملء السلام. لذلك عندما يحدث ذلك، فلابد أن يضمحل القمر تمامًا، الذى هو الشيطان رئيس الليل والظلام، حيث يسمى هنا مجازيًا “بالقمر”.

          لذلك فإن الأشعة تبرق علينا بقدر كبير وبقوة عظيمة ويسطع علينا نور عيدنا الإلهى. كذلك فإن هذا الاحتفال اللامع يجذبنا ويحثنا بأن نهجر الأعمال المخزية وبصوت قوى يرشدنا قائلاً: ” اغتسلوا تنقوا إعزلوا شر أفعالكم” (إش16:1أ). فعندما يكون كاتب الأمثال حكيمًا ويقول: ” لكل شئ زمان ولكل أمر وقت” (جا1:3)، فكيف لا نعترف بحق أن هذا الوقت (زمن العيد) يتعارض مع كل أفعال الشر، ومن ثم يدعو لمعرفة الناموس الإلهى وتوقيره، وأنه يحث الذين أطاعوه (أى الناموس) ويعطيهم الثقة فى أنهم سوف ينالون المصير الحسن للمراحم الإلهية؟ لذلك نجد أن البعض فى هذه الحياة الحاضرة يناضلون رياضيًا(ἀγωνοθετεῖν) ويشترون هذا اللقب (المجاهد/ المناضل) ببذل كثير من المال، حيث يُنظم جهد المنافسة (المباريات) على الشباب، وبالرغم من أنهم يكرمون المنتصر بجوائز قيّمة، إلاّ أن السرور الذى يُعطى لهم يكون ضئيلاً، بالإضافة إلى أن هذا السرور يكون فقط فى هذه الحياة. وعلى النقيض من ذلك، فالله الذى يختبر الأبرار، هو نفسه يهب الأتقياء ” ما لم تر عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان” (1كو9:2، إش4:64، 16:65، إر16:3).

          فكما أن صفات هؤلاء الأشخاص (الأبرار) تظهر من إنجازاتهم حيث إنهم تفوقوا على الطبيعة، لذلك بالتالى فإن طريقة مكافأتهم تتخطى بالتأكيد حدود مقدرة الإنسان، لكى ينالها بالطريقة التى تحدث بها، وسوف يجدون كل المجد الملائم لأفعالهم وسوف تعانقهم محبة الله اللانهائية، وسوف يمرحون فى بركات فائقة للطبيعة.

          هيا بنا ندعو محبى العبادة لجهاد (أسبوع) الآلام السنوى، وكما يقول النبى: ” اضربوا بالبوق فى صهيون قدسوا صومًا، نادوا باعتكاف” (يؤ15:2). لنصِح عاليًا وبصوتٍ مدوٍ محركين بوق الكنيسة المقدس ومعلنين قدوم عيدنا المقدس ببشارة واضحة وعلنية، وكما يقول الله الفائق الحكمة لموسى معلّم الأقداس: ” اصنع لك بوقين من الفضة. مسحولين تعملهما فيكونان لك لمناداة الجماعة ولارتحال المحلات” (عد1:10)، ومجهزين حسنًا لقوة الكلمات. فهو يأمر بأن يكون هناك بوقين، وذلك لأن رسالة الكنيسة تكون مضاعفة، فالواحد (أى البوق) ما يزال يدعو المتجاهلين لاستقامة التعاليم العقائدية الإلهية، والآخر يحثنا أن لا نتدنس بالأعمال الباطلة. كما أنه يأمر أن تكون الأبواق من الفضة، وذلك لأن الكلام (التعليم) يجب أن يكون واضحًا غير مشوه ويبتعد عن الخطأ فى العقيدة.

          لذلك، فلنجعل حديثنا ينطلق من هذه البداية، ويدعو (الإنسان) البعيد إلى بيت الشريعة (الكنيسة) لكى يتغير تجاه إرادة معطى الشريعة المنفصل عن كل خطية، مُقدِّسًا الصوم ومُناديًا بالاعتكاف، كما يقول النبى (راجع يوئيل15:2). كيف يمكننا أن نحقق فعل مثل هذه الأشياء؟ كيف يمكننا أن نتمم الوصية الإلهية بالابتعاد عن الشر وتجنب الارتباط بأولئك المخزيين تمامًا، ونكون متلهفين لأى شئ يمكن أن يُقدِّس الصائمين؟ بهذه الطريقة فإن الذين يريدون أن يحتفلوا بالعيد كما ينبغى سوف يُكرّمون إلهنا الصالح.

 

[1] أوسابيوس القيصرى، تاريخ الكنيسة 20:7.

[2] Quasten, Vol. II, p. 108

[3] انظر البحث المنشور بعنوان: ” رسائل الأرطستيكا: تاريخيًا وعقيديًا” للدكتور جوزيف موريس فلتس، دورية دراسات آبائية ولاهوتية، يوليو 1999، ص25.

[4] أوسابيوس القيصرى، تاريخ الكنيسة 25:5.

[5] أوسابيوس القيصرى، تاريخ الكنيسة 3:23:5؛ 22:5.

[6] أوسابيوس القيصرى، تاريخ الكنيسة 20:7.

[7]  M. Richard, Le Florilège du cod. Vatopédi 236 sur le corruptible et l’incorruptible, in: Le Muséon 8b (1973) 267-268.

[8] انظر:

 A Dictionary of Christian Antiquities, edd. W. Smith and S. Cheetham, London, 1875 & 1880, on Easter, Vol. 1, pp. 586-595, and Paschal Letters, Vol. 2, pp. 1562-1564

[9] سقراطوس، تاريخ الكنيسة 9:1.

[10] Migne, P.G. 74, 383-390.

 

الرسالة الفصحية الأولى ج1 – القديس كيرلس الكبير – د. ميشيل بديع عبد الملك