دخول المسيح أورشليم ج1 – القديس كيرلس الاسكندرى – د. نصحى عبد الشهيد
عظة 130
لوقا28:19ـ40
” وَلَمَّا قَالَ هذَا تَقَدَّمَ صَاعِدًا إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَإِذْ قَرُبَ مِنْ بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا، عِنْدَ الْجَبَلِ الَّذِي يُدْعَى جَبَلَ الزَّيْتُونِ، أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ قَائِلاً: اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، وَحِينَ تَدْخُلاَنِهَا تَجِدَانِ جَحْشًا مَرْبُوطًا لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ قَطُّ. فَحُّلاَهُ وَأْتِيَا بِهِ. وَإِنْ سَأَلَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَحُّلاَنِهِ؟ فَقُولاَ لَهُ هكَذَا: إِنَّ الرَّبَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. فَمَضَى الْمُرْسَلاَنِ وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. وَفِيمَا هُمَا يَحُّلاَنِ الْجَحْشَ قَالَ لَهُمَا أَصْحَابُهُ: لِمَاذَا تَحُّلاَنِ الْجَحْشَ؟ فَقَالاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. وَأَتَيَا بِهِ إِلَى يَسُوعَ، وَطَرَحَا ثِيَابَهُمَا عَلَى الْجَحْشِ، وَأَرْكَبَا يَسُوعَ. وَفِيمَا هُوَ سَائِرٌ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَلَمَّا قَرُبَ عِنْدَ مُنْحَدَرِ جَبَلِ الزَّيْتُونِ، ابْتَدَأَ كُلُّ جُمْهُورِ التَّلاَمِيذِ يَفْرَحُونَ وَيُسَبِّحُونَ اللهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقُوَّاتِ الَّتِي نَظَرُوا، قَائِلِينَ: مُبَارَكٌ الْمَلِكُ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! سَلاَمٌ فِي السَّمَاءِ وَمَجْدٌ فِي الأَعَالِي!. وَأَمَّا بَعْضُ الْفَرِّيسِيِّينَ مِنَ الْجَمْعِ فَقَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، انْتَهِرْ تَلاَمِيذَكَ!. فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنْ سَكَتَ هؤُلاَءِ فَالْحِجَارَةُ تَصْرُخُ! ” .
يسبّح التلاميذ المسيح مخلص الكل ويدعونه باسم الملك، والرب، وأنه سلام السماء والأرض . ولنسبّحه نحن أيضًا آخذين قيثارة المرنم ونقول: ” ما أعظم أعمالك يارب، بحكمة صنعتها ” (مز24:103س)، لأنه لا يوجد شئ من كل الأعمال التي صنعها إلاّ (وصنعها) بحكمة، فهو يوجه كل ما هو نافع، بالأسلوب المناسب له، ويُحدِّد لأفعاله الأوقات التي تناسبها. وطالما كان من المناسب أن يجتاز بلاد اليهود ساعيًا أن يكتسب كثيرين إلى النعمة التي بالإيمان عن طريق الدروس والنصائح الفائقة على الناموس، فإنه لم يتوقف عن فعل هذا. أما وقد دعاه الوقت أخيرًا إلى تلك الآلام التي هي لخلاص العالم كله، ليحرر سكان الأرض من طغيان العدو، ويبطل الموت، ويبيد خطية العالم، فإنه يصعد إلى أورشليم وهو يكشف للإسرائيليين أولاً حقيقة واضحة، ألاّ وهي أن شعبًا جديدًا من بين الوثنيين سوف يخضع له، بينما هم أنفسهم يصيرون مرفوضين كقتلة للرب .
وماذا كانت العلامة إذن؟ إنه جلس على جحش كما سمعنا بوضوح منذ قليل من الإنجيلي المبارك. لكن ربما يقول قائل: ” عندما كان يجتاز في اليهودية كلها فإنه لم يطلب دابة ليركبها ” حينما كان يُعلّم في مجامعهم، وكان يصنع المعجزات أيضًا. وبينما كان يمكنه أن يشتري دابة فإنه لم يفعل مع أنه كان كثيرًا ما يتعب في الطريق من رحلاته الطويلة، كما هو مكتوب فإنه تعب من السفر عند اجتيازه السامرة (يو6:4). من يمكنه (إذن) أن يجعلنا نصدق أنه عندما كان ذاهبًا من جبل الزيتون إلى أورشليم ـ وهما مكانان يفصلهما مسافة قصيرة جدًا ـ سوف يحتاج إلى جحش؟ وعندما كان الجحش مصحوبًا بأمه فلماذا لم يأخذ المسيح الأم بدلاً من الجحش؟ فنحن نعلم من كلمات متى البشير أنهم قد أحضروا إليه الأتان التي ولدت الجحش، كما يقول ” إنه أرسل تلميذيه إلى القرية التي أمامهما قائلاً لهما ستجدان أتانًا مربوطة وجحشًا معها، فحلاّهما وأتياني بهما ” ـ ولذلك (يقول النص) إنهما أتيا بالأتان والجحش (متى 1:21،2،7) لذلك علينا أن ننظر ما هو التفسير وما المنفعة التي نستخلصها من هذا الحدث، وكيف نجعل من ركوب المسيح على جحش مثالاً لدعوة الأمم .
خلق إله الكل الإنسان على الأرض بذهن يتميز بالحكمة والقدرة على الفهم، لكن الشيطان خدعه رغم أنه مخلوق على صورة الله، وأضله حتى لا يعرف خالق الكل وصانعهم، فأذل سكان الأرض إلى أدني مستوى من عدم التعقل والجهل. وإذ يعرف النبي الطوباوي داود هذا، ويبكى بمرارة لأجله، فإنه يقول: “إنسان في كرامة ولا يفهمها، هو مثل البهائم التي لا تفهم وقد صار شبيهًا بها”(مز12:48س). لذلك فمن المحتمل أن الأتان الأكبر تشير إلى مجمع اليهود والذي ـ لو جاز القول ـ صار بهيميًا لأنه لم يعطِ سوى اهتمامًا قليلاً لناموس موسى واحتقر الأنبياء القديسين، وأضاف إلى هذا أيضًا عصيانه للمسيح، الذي كان يدعوه إلى الإيمان وإلى انفتاح عينيه. لأنه قال: ” أنا هو نور العالم، من يؤمن بي فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة ” (يو12:8). لكن الظلمة التي يتحدث عنها هي بلا شك ظلمة الذهن أي الجهل والعمى ومرض عدم التعقل الشديد .
أما الجحش الذي (لم يكن قد جلس عليه أحد)، فهو يمثل الشعب الجديد المدعو من بين الوثنيين، لأنه كان أيضًا بالطبيعة عديم الفهم، تائهًا في الضلال، لكن المسيح صار حكمة له، لأن ” فيه مذّخر جميع كنوز الحكمة وأسرار المعرفة ” (كو3:2) .
إذن فقد أُحضر الجحش، إذ أرسل المسيح اثنين من تلاميذه لأجل هذا الغرض. وماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن المسيح يدعو الوثنيين بأن يجعل نور الحق يشرق عليهم، وتخدمه مجموعتان من خدامه لأجل هذا الغرض، أعني الأنبياء والرسل. لأنه تم ربح الأمم إلى الإيمان بواسطة تعاليم كرازة الرسل الذين كانوا يضيفون دائمًا إلى كلامهم شهادات مستمدة من الناموس والأنبياء. فإن واحدًا منهم قال لهؤلاء الذين دعوا بالإيمان للاعتراف بمجد المسيح: ” وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم” (2بط19:1). لأنه قبل مجيء المخلص كانت نبوات الناموس والأنبياء المختصة بالمسيح، بمثابة سراج منير في موضع مظلم. لأن ذهن اليهود كان بليدًا دائمًا، مملوءًا بظلمة كثيفة. لأنهم لم يفهموا ولو قليلاً، ما قيل عن المسيح. لكن عندما طلع النهار وأشرق نور الحق، لم تعد الكلمة النبوية سراج صغير بل صارت بالحرى مثل أشعة كوكب الصبح اللامعة .
لقد أتوا بالجحش من القرية، لكي يشير به أيضًا إلى حالة الهمجية التي كان عليها ذهن الوثنيين، الذين ـ إن جاز القول ـ لم يتعلموا في المدينة ولا تعلموا العادات الشرعية، بل على العكس عاشوا بخشونة وفظاظة، لأن الذين يقيمون في القرى عادة ما يعيشون بهذه الطريقة. لكنهم لم يستمروا في هذه الذهنية الهمجية، بل على العكس تغيروا إلى ملء السلام والحكمة، لأنهم صاروا خاضعين للمسيح الذي علمهم هذه الأشياء .
وهكذا فإن الأتان قد رُفضِت، لأن السيد المسيح لم يركب عليها مع أنها قد تروضّت من قبل، وتدربت أن تخضع لراكبيها، ولكنه ركب الجحش مع أنه غير مُدَّرب ولم يُختبر من جهة حمله لأي راكب، ولا في خضوعه للجام، لأنه كما قلت فإن المسيح رفض مجمع اليهود مع أن الناموس كان عندهم، كما أن الطاعة لم تكن شيئًا غريبًا عنه، لكن السيد رفضه كشيء قد شاخ وفسد، ولكون هذا المجمع قد ضل بعيدًا في عصيان متعمد لإله الكل، واستحسن الجحش الذي يرمز إلى الشعب الذي من بين الوثنيين .
وهذا هو معنى المديح المقدم بصوت المرنم إلى المسيح مخلص الكل، حيث يقول عن أولئك الذين كانوا في ضلال: ” بلجام وزمام تكبح فكهم أولئك الذين لا يقتربون إليك ” (مز9:31س). ومن السهل أن نري من الكتاب المقدس أن جمع الوثنيين كان مدعوًا أيضًا إلى التوبة والطاعة بواسطة الأنبياء القديسين، لأن الله تكلم هكذا في موضع ما: ” اجتمعوا وتعالوا تشاوروا معًا أيها الناجون من الأمم ” (إش20:45س).
لذلك جلس المسيح على الجحش، ولما جاء إلى منحدر جبل الزيتون بالقرب من أورشليم مضي التلاميذ أمامه يسبحونه، لأنهم كانوا مدعوين لأن يشهدوا لأعماله العجيبة التي صنعها، وأيضًا ليشهدوا لمجده وسلطانه الإلهيين. وبنفس الطريقة التي صنعها يجب علينا أيضًا أن نسبحه معتبرين كم هو عظيم ذاك الذي نمجده.
ولكن أحد الإنجيليين القديسين الآخرين ذكر أن الأطفال أيضًا كانوا يرفعون إلى فوق أغصانًا من النخيل وكانوا يركضون أمامه، وكانوا مع بقية التلاميذ يهتفون بمجده (انظر مت8:21، مر8:11، يو13:12)، لكيما بواسطتهم أيضًا نري الشعب الجديد الذي جُمع من بين الوثنيين ممثلاً كما في رسم. لأنه مكتوب ” أن شعبًا سوف يُخلق سوف يسبح الرب” (مز18:101س).
وقد تذمر الفريسيون، لأن المسيح كان يُسبَّح (من الجموع)، فاقتربوا منه وقالوا: ” اِنتهر تلاميذك“. لكن أيها الفريسي أي خطأ عملوه؟ أي تهمة توجهها للتلاميذ؟ كيف تريدهم أن يُوَّبخوا ؟ لأنهم لم يخطئوا بأي طريقة بل بالأحرى فعلوا ما هو جدير بالمديح. لأنهم إنما قد مجدوا من قد أشار إليه الناموس من قبل برموز وصور كثيرة ـ كملك ورب ـ وقد كرز به جماعة الأنبياء القديسين منذ القديم، لكن أنتم احتقرتموه وأحزنتموه بحسدكم الذي لا حدود له. كان من واجبكم بالأولى أن تنضموا إلى الباقين في تمجيدهم له، كان من واجبكم أن تتراجعوا عن خبثكم الفطري وتغيروا سلوككم نحو الأفضل، وكان من واجبكم أن تتبعوا الأسفار المقدسة وأن تعطشوا إلى معرفة الحق. لكن هذا لم تفعلوه، بل حولتم كلامكم إلى العكس تمامًا إذ أردتم توبيخ المنادين بالحق. فبماذا أجاب المسيح على هذه الأشياء؟ (أجاب) ” أقول لكم: إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ “.
لأنه من المستحيل ألاّ يُمجد الله حتى لو رفض أبناء جنس إسرائيل أن يفعلوا هذا، لأن الوثنيين كانوا سابقًا مثل حجارة أي قساة، لكنهم نالوا الخلاص من ضلالهم السابق، ونجوا من يد العدو وأفلتوا من الظلمة الشيطانية، وقد دُعوا إلى نور الحق، واستفاقوا كما من سكر، وعرفوا الخالق، وهم سبحوه ليس سرًا ولا في خفية، لا بطريقة مستورة أي في صمت، بل بمجاهرة الكلام وبصوتٍ عالٍ، وباجتهاد داعين بعضهم البعض وقائلين: ” هلموا نسبح الرب ونرتل مزامير لله مخلصنا “، لأنهم قد اعترفوا كما قلت بالمسيح مخلص الكل، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الأبدين . آمين.