ألوهية الروح القدس ج1 – القديس كيرلس الاسكندري – د. سعيد حكيم يعقوب
مقدمة
في رده على الهراطقة الذين نادوا بأن الروح القدس مخلوق، أكد ق. كيرلس بأدلة قاطعة وبوضوح تام على إلوهية الروح القدس، إذ يقول، إن كان الروح القدس يستطيع أن يخلق ويجدد، كما يقول داود النبي ” تُرسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض ” (مز30:104). فكيف يمكن أن يكون الروح مخلوق. وإن كان الروح يُحيي كما يقول رب المجد: ” الروح هو الذي يُحيي ” (يو63:6)، كيف يّدعي هؤلاء بأن الروح مخلوق. ثم يستطرد قائلاً، إن كان المُطوّب أيوب يقول: ” روح الله صنعني” (أيو4:33)، فكيف يمكن للمخلوق أن يخلق. وإن كانت المخلوقات تدرك في مكان محدد، ومن خلال بعض الصفات، وإن الروح القدس لا يدرك هكذا، لأنه مكتوب: ” روح الله ملأ المسكونة” (حكمة سليمان 7:1)، وإن كان المُطوب داود، يُرنم قائلاً: ” أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب” (مز7:139)، فكيف يكون لذاك الذي يملأ المسكونة، أن يكون مخلوقًا.
أيضًا يستشهد بقول ق. بولس ” أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم ” (1كو16:3)، ويقول: إذًا كيف يكون الروح مخلوقًا، طالما أننا قد صرنا بواسطته شركاء مع الآب والابن، لأنه من غير الممكن أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية بواسطة مخلوق أو واحد من الملائكة القديسين.
وأفكار أخرى كثيرة يطرحها ق. كيرلس بحيث لا يترك مجالاً للتشكك في إلوهية الروح القدس، ويستطيع القارئ أن يطلّع عليها عند متابعته قراءة هذا الكتاب.
تمت الترجمة عن النص اليوناني المنشور في مجموعة آباء الكنيسة الذين كتبوا باليونانية (EPE) الصادرة في تسالونيكي 1973 المجلد رقم 9 والذي يحمل عنوان ” عن الثالوث القدوس المساوي، وتأنس الابن الوحيد” صـ431ـ469. قام بالترجمة د. سعيد حكيم، وراجعها د. نصحي عبد الشهيد.
ليبارك المسيح إلهنا هذا العمل من أجل بُنيان الكنيسة، بشفاعة والدة الإله العذراء القديسة مريم وصلوات ق. كيرلس الاسكندري وقداسة البابا شنودة الثالث والآباء المطارنة والأساقفة، والمجد للثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد أمين.
المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية بالقاهرة
ألوهية الروح القدس
للقديس كيرلس الاسكندري
الروح القدس يخلق ويُجدّد:
إن كان الروح يستطيع أن يُؤله وأن يهب المخلوقات رتبة أسمى من الخليقة فهو أسمى من حيث الطبيعة، والكرامة، فإذا كان يستطيع أن يؤله النفس، فكيف يمكن أن يكون مخلوقًا وليس إلهًا، طالما أنه يؤله؟
إن كنا نؤمن بأن الله قد أتى إلينا، بواسطة سكنى الروح القدس داخلنا، فكيف يمكن أن يكون (الروح) مخلوقًا؟ لأنه من غير الممكن أن يُقيم الله داخلنا بواسطة مخلوق، إذ أن الله يسمو على الكون (المخلوق). لأنه كما انه بسكنى الله داخلنا، نصبح شركاء الطبيعة الإلهية، وليس شركاء الطبيعة المخلوقة، هكذا فإذا سكن داخلنا مخلوق، فلن نكون بعد شركاء الطبيعة الإلهية، بل شركاء الطبيعة المخلوقة. إذًا فالروح هو إله، طالما أن الله يسكن فينا بالحقيقة من خلاله.
فكل شيء يأتي من العدم إلى الوجود، يعتبر عبد للذي خلقه، ويكون في مكانة الخادم، بينما نحن إذ قد صرنا شركاء الروح القدس وصرنا أحرارًا، وهذا معناه على كل حال أن الروح القدس بحسب طبيعته حر، وليس بمخلوق، ولا عبدًا، كما في حالة الخليقة، بل هو الطبيعة التي هي فوق كل نير وكل حرية.
إن كان الروح يعمل فينا المواهب الإلهية كما يشاء، لأن هذا ما يقوله المطوب بولس: ” الله واحد الذي يعمل الكل في الكل “[1]، إذًا فالروح إله، إذ أنه ينبثق من الله بالطبيعة.
والمطوب داود يُرنم لله مخلص الجميع، من اجل كل ما هو موجود على الأرض قائلاً: ” تُرسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض “[2]، لكن هذا الذي تجّدد، قد تجّدد هكذا كما كان في البداية، وهذا هو فعل القوة ذاتها، التي أتت به إلى الوجود منذ البدء، وعندما فسد هذا المخلوق، أعادته تلك القوة مرة أخرى إلى حالته الأولى. الروح يُجدد الخليقة، لأن الخليقة لم تُخلق من قِبل مخلوق، وعندما فسدت لم تتجدد بمخلوق، بل من الله. إذًا فالروح القدس إله، ويأتي من الله بحسب الطبيعة.
إن كانت المخلوقات في مجموعها قد خُلقت بنسمة فم الله، كما يُصلي داود[3]، وان كان الروح مخلوق (كما يدّعي البعض)، فليقل لنا هؤلاء الذين يُؤمنون بذلك، إلى أي شيء يستند هذا الإيمان. وإن كان الروح حقًا طبيعة مخلوقة، وهو الذي يُثبت الخليقة، فهذا معناه أن الخليقة تُثبّت نفسها، وليس لها احتياج لله على الإطلاق. لكن حين تؤمن بهذا الكلام، وتتحدث به، فهذا أمر يدعو للدهشة والغرابة، لأننا نتحد بالله عن طريق الروح القدس، وكلام المزمور كلام حقيقي: ” بكلمة الرب صُنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها “[4]. إذًا فالروح من طبيعة الله، ويأتي من الله، وعلى أية حال فهو ذو طبيعة مختلفة عن الخليقة، التي تعتمد في وجودها عليه. فذاك الذي هو أسمى من الخليقة، ومن طبيعة مختلفة عن المخلوقات، هو بالتأكيد إله، وليس شيئًا آخر.
روح الحكمة والقوة:
لقد جعلنا الله حكماءً، بل وأقوياءً، عن طريق الابن، بالروح القدس. لأنه يُدعى روح الحكمة، وروح القوة. إذًا كيف يمكن أن يكون روحًا مخلوقًا؟ لأنه لو كان ذلك أمرًا صحيحًا، فمن الواضح أنه لا يوجد شيء يمكن أن يُعوقنا عن أن نفكر على هذا النحو: أن الله حكيم وقوي من خلال المخلوقات، وحكمته حكمه مخلوقة. وفي هذه الحالة يكون الكون هو الذي يضفي جمالاً على الله وليس العكس. لكن أن تؤمن بهذا، أو تقوله فهذا كفر. وبناءً على ذلك فإن الروح إله، وينبثق من الله بحسب الطبيعة، وبواسطته يعطي الله الحكمة للخليقة ويشدّدها. وعن الابن قال المطوب بولس: ” وأما الرب فهو الروح “[5]. أيضًا الابن نفسه قال: ” الله روح “[6]. إذًا عندما يُدعى الروح القدس بالآب مرةً، وأيضًا بالابن مرة أخرى، فكيف لا يكون واحد في الجوهر معهما؟ كما أن الخليقة في طبيعتها غير مؤلهة. إذًا فإن كان من غير الممكن أن نشترك في طبيعة الله أو نصير شركاء الطبيعة الإلهية، إلاّ فقط من خلال الروح القدس، فكيف يُعتبر الروح خارج الألوهه، ذاك الذي بذاته يجعل أولئك الذين يأتي إليهم، شركاء الطبيعة الإلهية؟
أن نقول بأن الخليقة، أو أي مخلوق من المخلوقات، هو مساو في العمل والقوة مع الله، فهذا يُمثل دليلاً واضحًا على الكفر. لكن لأن الروح القدس له نفس الطاقة أو العمل مع الآب والابن، فمن الواضح أنه إله من إله من حيث طبيعته، حتى أنه يستطيع أن يعمل ما يعمله الله. والدليل على كل ما يُقال، هو هذا الذي طرحه القديس بولس بكل وضوح، قائلاً: ” فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد. وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل “[7]. ولأن الآب يُعطي حياة، والابن أيضًا بنفس القدر يُعطي حياة، الروح القدس هو أيضًا يُحيي. يكتب إذًا المطوب بولس: ” أوصيك أمام الله الذي يُحيي الكل “[8]. بل إن الابن نفسه قال: ” خرافي تسمع صوتي وأنا اعرفها فتتبعني وأنا أعطيها حياة أبدية “[9].
وأما أن الروح يُحيي، سيُبرهن على ذلك المخلص نفسه بقوله: ” الروح هو الذي يُحيي. أما الجسد فلا يفيد شيئًا. الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة “[10]. بل والمطوب بولس يكتب ” وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنًا فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم “[11]. إذًا فذاك الذي يمكنه أن يعمل أعمال مساوية في الكرامة للأعمال التي يعملها الله، هو بالحقيقة إله، ويأتي من الله بحسب الطبيعة.
لقد وبّخ ربنا يسوع المسيح جموع اليهود قائلاً: ” أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي. بسبب أي عمل منها ترجمونني “[12]. وأيضًا ” الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال “[13]. بل إنه أقر، بأنه بروح الله يُخرج الشياطين. إذًا طالما أن أعمال الروح هي أعمال الآب، ومن الواضح أنها أعماله هو أيضًا، فكيف يكون من الممكن أن يكون الروح مخلوقًا؟ لأنه لو كان هذا الأمر حقيقي (أى أن الروح مخلوق)، فعندئذ يتمجد الآب من خلال المخلوق، بل والابن يتمجد بالمخلوق، طالما أن المعجزات يصنعها بواسطة الروح، إلاّ أن هذا أمرًا غير معقول. إذًا فالروح إله، وهو من طبيعة الله، طالما أنه يعمل أعمال الآب والابن.
الروح القدس يملأ كل المسكونة:
حين يعرض المطوب بولس للعهد الجديد الذي للمسيح، يعرضه بصورة أكثر مجدًا من العبادة الناموسية، قائلاً: ” إن كانت خدمة الدينونه مجدًا فبالأولى كثيرًا تزيد خدمة البر في مجد “[14]. إذًا الناموس كان لخدمة الدينونة، بينما البشارة الإنجيلية كانت لخدمة البر. لكن خدام العهد القديم، الذين أدانهم، كانوا يتحدثون بعبارات مثل ” يقول الرب “، وخدام العهد الجديد، الذين بررهم، قالوا: ” الروح القدس يقول “. إذًا هل خدام العهد الذين أدانهم أسمى من خدام العهد الثاني (أي الجديد)؟ لأن خدام العهد القديم خدموا بكلام الله، فلو أن الروح القدس هو مخلوق فهذا معناه أن خدام العهد الجديد خدموا بكلام المخلوق. وكيف تكون بعد، خدمة البر في مجد؟ لأنه ما هو الأكثر مجدًا، أن يخدموا بكلام الله أم بكلام المخلوق؟ لكن خدام العهد الأول (القديم) ليسوا أسمى ولا هم أكثر بهاءً من خدام العهد الجديد. وبناء على ذلك فعندما قالوا إن: ” الروح القدس يقول “، فهم أيضًا يُخدَمون بكلام الله، لأن روح الله، هو إله، ويأتي من الله بحسب طبيعته. أما أن خدمة خدام العهد الثاني (الجديد) هي أكثر بهاءً من خدمة خدام العهد الأول (القديم). فهذا ما أكده المخلص، قائلاً للرسل القديسين: ” الحق أقول لكم إن أنبياء وأبرارًا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا ” لكن أنتم ” طوبى لعيونكم لأنها تُبصر ولأذانكم لأنها تسمع “[15]. وقال لتلاميذه القديسين: ” وتساقون أمام ولاة وملوك من اجلي… فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون لأنكم تُعطَون في تلك الساعة ما تتكلمون به. لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم “[16].
أيضًا يقول المطوب بولس: ” إذًا أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ “[17]. إذًا عندما يتكلم المسيح في القديسين، فالروح هو الذي يتكلم، فكيف يمكن أن يكون مخلوقًا ذاك الذي يوجد داخلنا ويتكلم المسيح من خلاله، والذي من الله بحسب الطبيعة، وواحد في الجوهر مع الابن؟ والمطوب موسى قال في سفر التكوين: ” فخلق الله الإنسان على صورته “[18]. بل وخالق الجميع قال بفم إشعياء: “ أنا صنعت الأرض وخلقت الإنسان عليها “[19]. وطالما أن هذا صواب، فإن المطوب أيوب يقول: ” روح الله صنعني “[20]. فإن كان روح الله مخلوقًا، فهذا معناه أننا خُلقنا من مخلوق. وإذا كان كذلك فلماذا يقول الكتاب: ” وجبل الرب الإله ادم ترابًا من الأرض “[21]. وبناء على ذلك فمن الأمور الأكثر غرابة أن ننسب مجد الخالق للمخلوق، فالروح خالق، إذًا فهو إله وهو من الله بحسب طبيعته.
فلو أن الأصغر يُبَارك من الأكبر[22]، وفقًا لكلام القديس بولس، ولو أن الخليقة المدركة تتبارك، وتتقدس من الله بواسطة الروح، فإنها تتبارك وتتقدس من ذاك (أي الروح) الذي هو أسمى بحسب طبيعته من كل شيء. وإن كان هذا صحيحًا، إذًا فالروح القدس ليس مخلوقًا. لأن الأكبر لا يتبارك من الأصغر.
الروح يُحيي إذ هو الحياة:
فإن كانت المخلوقات تُدرك في مكان محدد، ومن خلال بعض الصفات، وإن كان الروح القدس لا يُدرك هكذا، لأنه مكتوب: ” روح الرب ملأ المسكونة “[23]، بل وداود يُرنم قائلاً: ” أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب “[24]، فكيف يمكن أن يكون ذاك الذي يملأ المسكونة، مخلوقًا، لأنه بالنسبة للابن، كتب ” الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السموات لكي يملأ الكل “[25]. والآب نفسه قال لليهود في موضع ما ” السموات كرسيّ والأرض موطئ قدميّ أين البيت الذي تبنون وأين مكان راحتي “[26]، وأيضًا: ” أما أملأ أنا السموات والأرض يقول الرب “[27].
وفي موضع آخر قال الله لليهود الذين تحرروا من بابل ” واعلموا فإني معكم … وروحي قائم في وسطكم “[28]، أي انه في وسطكم قائم الله بحسب الطبيعة والحقيقة. كيف يمكن أن يُعد مخلوقًا، وليس إلهًا، إنه من الله بحسب الطبيعة، طالما أنه بذاته يحقق الحضور الإلهي؟
مكتوب: “ بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها“[29]. والمؤكد أن قوة الخلق تليق بالله، وليس بالمخلوق، فكيف يمكننا أن نتشكك في ذلك؟ لكن لو أن الروح حقًا مخلوق، وهو الذي يثبّت الخليقة، فحينئذٍ تكون الخليقة هى التي تحفظ ذاتها لكي تكون في حالة حسنة، دون أن تحصل أو تأخذ أي شيء من الله لأجل هذا الأمر، وإن كان يجب أن أقول شيئًا غير لائق، فإن الخليقة بهذه الرؤية لها طبيعة سامية، طالما إنها تعمل من تلقاء ذاتها، وبهذا تصير موضع إعجاب لدى المرء. لكن هذا أمر غريب، لأن الروح يُثبت السموات، ويُشدّد الخليقة. إذًا فهو طبيعة أسمى من الخليقة، إذ هو إله.
فإن كان الروح يُحيي، وهو الحياة، وفقًا لكلام المخلص[30]، فكيف يمكن أن يكون مخلوقًا؟ ولهذا فلو لم يكن موجودًا قبلاً، فليس هو حياة، أي لو أنه خُلق مع أشياء أخرى، أي تلك التي أتت للوجود من العدم. إن الكلام عن خلق الروح، بهذه الطريقة هو كلام غير لائق، لأن الروح هو بالحقيقة حياة، ويُحيي. إذًا فهو لم يُخلق، بل كان موجودًا قبل الدهور، لأنه من الله بالطبيعة، وهو إله.
الطبيعة الإلهية غير المائتة، طبيعة بسيطة وغير مركبة، وهى التي تأتي بكل المسكونة إلى الوجود، وتكملّها بالروح. فلو أن الروح القدس هو مخلوق، كما يدّعي المضادون، فستكتمل عندئذٍ أعمال الألوهة عن طريق مخلوق. ولأن الله من جهة طبيعته بسيط، فكيف يمكن لروحه أن يكون مُركبًا؟ لأنه ليس هناك بين المخلوقات ما هو بسيط من حيث طبيعته. نعم، كما قال هؤلاء الذين يشتكون على مجد الروح القدس، الروح القدس هو من الله، ويُقدس الخليقة من الله. لأن المخلص قال عنه: ” يأخذ مما لي “[31].
إن ما يُمنح ويأتي من خارج، من آخر، يمكن على أية حال أن يُنزع، وما ليس لنا بالطبيعة، يمكن أن يُفقد. إذًا هل سيفقد الروح القدس ذات مرة قوة التقديس؟ برغم أنه من المؤكد أن له صفة تدل على جوهره، والذي يؤكد على أنه كائن، وليس مجرد رتبه ما، أو امتياز، كما هو الحال بالنسبة للسلطة والعرش، والسيادة. لأن هذه الألقاب لا تعبر عن جوهر هؤلاء الذين يحملونها، بل تُعلن درجة كرامة كل رتبة على حدة. ولكن في الثالوث القدوس اسم الآب والابن والروح القدس، لا يُظهر امتيازًا ما، بل يُوضح ماهية كل واحد من هذه الأسماء.
قدوس بطبيعته:
فإن كان اسم الروح القدس يُعلن عن جوهره، أي يُعلن عن ماهيته من جهة طبيعته (لأنه دُعي قدوس)، فالله قدوس أيضًا[32]، (إذ هكذا تُسبّحه القوات السمائية لا كأنه اكتسب القداسة، بل لأنه قدوس بطبيعته، وبحسب الجوهر)، ولن يكون الروح غريبًا عنه من حيث جوهره. لأنه هو بطبيعته قدوس، طالما أنه يأتي من قدوس، ومتحد بالله القدوس بحسب طبيعته.
هؤلاء الذين يقولون إن الروح القدس مخلوق لا يدركون، إذ هم عميان، أن كل خدمه تتصف بالعبودية، هي اقل أو أدنى من الخدمة الذاتية أو الشخصية. مثلما حدث على سبيل المثال عندما أُعطى الناموس للقدماء، والذي أُخبر به بترتيب ملائكة، وبواسطة موسى، الكامل في الحكمة.
لكن الذي أعلن الناموس قديمًا، هو نفسه أرسل لنا النعمة بواسطة الإيمان. ولهذا فإن خدمة المسيح نفسه هي أكثر مجدًا، من خدمة موسى. إذًا لو أن الروح يُقدسنا كخادم، فمن الذي تقدّس أكثر من قِبل الآب؟ إنه ذاك الذي لا يتقدس، إلاّ عن طريق الروح القدس فقط. إن أعلى وأسمى درجات البركة الإلهية هو التقديس بواسطة الروح. وبناء على ذلك فالروح لا يُقدس الخليقة كعبد، ولا كواهب غريب (عن طبيعة الله)، بل إن الله ذاته بروحه هو الذي يصنع هذا بطريقة ما.
يهبنا شركة الطبيعة الإلهية:
المسيح له المجد يقول في موضع ما: ” إن أحبني احد يحفظ كلامي ويحبه أبي واليه نأتي وعنده نصنع منزلاً “[33]. وبأي طريقة يتحقق فينا هذا الوعد، الكلمة الإلهية تعلّمنا ذلك بوضوح. بالحقيقة يقول المطوب يوحنا البشير: ” وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا “[34]. والكامل في الحكمة بولس يقول: ” أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم “[35]. إذًا كيف يكون الروح مخلوقًا طالما صرنا بواسطته شركاء مع الآب والابن؟ لأنه لم يكن ممكنًا بواسطة مخلوق، أو واحد من الملائكة القديسين، أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية. وهكذا فإن الله يوجد داخلنا عن طريق الروح الذي هو إله.
الكتاب يقول، إن الروح القدس كان حاضرًا في شمشون، طالما كان غير حليق الشعر، ثم يقول الكتاب ” الرب قد فارقه “[36]، وذلك عندما حلق شعره بطريقة سيئة. إذًا كيف يكون الروح مخلوقًا، طالما أنه بطبيعته هو الرب؟ لأن ذاك الذي هو حر، وسيد حقًا، لا ينتسب أو ينتمي للمخلوقات.
عندما قرر ربنا يسوع المسيح أن يصعد إلى السماء، عزى رسله القديسين قائلاً: ” لا أترككم يتامى. إني أتي إليكم “[37]. وتمم وعده، وأرسل لنا المعزي من السماء، أو من الأفضل أن تقول، إنه أتى إلينا بواسطة الروح. إذًا كيف يكون الروح مخلوقًا، وهو الذي بواسطته تُقيم بيننا الطبيعة غير المخلوقة، “الكلمة” الذي خلق المسكونة؟
[1] 1كو 12 : 6.
[2] مز 4 : 1- 30.
[3] مز 32 : 6.
[4] مز 32 : 6.
[5] 2كو 3 : 17.
[6] يو 4 : 24.
[7] 1كو 12 : 7.
[8] 1تيمو 6 : 13.
[9] يو 10 : 27 – 28.
[10] يو 6 : 63.
[11] رو 8 : 11.
[12] يو 10 : 32.
[13] يو 14 : 10.
[14] 2كو 3 : 9.
[15] مت 13 : 17,16.
[16] مت 10 : 19 – 20.
[17] 2كو 13 : 3.
[18] تك 1 : 27.
[19] أش 45 : 12.
[20] أيوب 33 : 4.
[21] تك 2 : 7.
[22] عب 7:7.
[23] حكمة سليمان 1 : 7.
[24] مز 139 : 7.
[25] أف 4 : 10.
[26] أش 66 : 1.
[27] أر 23 : 24.
[28] حجي 2 : 4 – 5.
[29] مز 33 : 6.
[30] يو 6 : 36.
[31] يو 16 : 15.
[32] أش 6 : 3.
[33] يو 14 : 23.
[34] 1يو 3 : 24.
[35] 1كو 3 : 16.
[36] قض 16 : 20.
[37] يو 14 : 18.