قيامة المسيح ج1 – القديس كيرلس عمود الدين – د. نصحي عبد الشهيد
قيامة المسيح
من شرح إنجيل يوحنا
للقديس كيرلس الأسكندري
يو1:20ـ9
” وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكرًا والظلام باق فنظرت الحجر مرفوعًا عن القبر. فركضت وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه وقالت لهما أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه. فخرج بطرس والتلميذ الآخر وأتيا إلى القبر. وكان الاثنان يركضان معا فسبق التلميذ الآخر بطرس وجاء أولاً إلى القبر. وانحنى فنظر الأكفان موضوعة ولكنه لم يدخل. ثم جاء سمعان بطرس يتبعه ودخل القبر ونظر الأكفان موضوعة. والمنديل الذي كان على رأسه ليس موضوعًا مع الأكفان بل ملفوفًا في موضع وحده. فحينئذ دخل أيضًا التلميذ الآخر الذي جاء أولاً إلى القبر ورأى فآمن. لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات”.
لم تكن هذه المرأة الرائعة التقية لتحتمل أن تلزم بيتها وتترك القبر، لولا خوفها من كسر الوصية بخصوص السبت والعقوبة التي تنزل على الذين يخالفونها، مما خفف من غيرتها المشتعلة، ولذلك خضعت للوصية بحفظ السبت، ولكنها ظلت منشغلة بالتفكير في ذاك الذي كان محور اهتمامها وأشواقها. ولكن حينما مضى السبت، وبدأ فجر الأحد، فإنها أسرعت إلى القبر، وعندما نظرت الحجر مرفوعًا عن باب القبر، سيطرت الشكوك على عقلها. وإذ تذكرت عداوة اليهود الشديدة، ظنت أن جسد يسوع قد أُخذ من القبر ونسبت إليهم هذه الجريمة إضافة إلى شرورهم الأخرى.
وبينما كانت منشغلة هكذا وتقلّب كل هذه الاحتمالات في فكرها، فإنها جاءت إلى الرجال الذين أحبوا الرب، لتحصل على مساعدة أكثر التلاميذ التصاقًا بالرب في بحثها عن يسوع. وكان إيمانها عميقًا وقويًا ولذلك فلم ينقص المسيح في نظرها بسبب موته على الصليب، بل حتى وهو ميت فهي تدعوه “الرب” كما كانت تدعوه دائمًا قبل موته، وبهذا ظهر أن لها محبة حقيقية لله.
عندما سمع الرجلان ـ أي بطرس ويوحنا (كاتب هذا الإنجيل، الذي يعطي لنفسه اسم التلميذ الآخر)، هذه الأخبار من فم مريم ـ ركضا بأقصى سرعة ممكنة وأتيا إلى القبر ونظرا الأعجوبة بأعينهما، وهكذا صارا مؤهلين للشهادة عن القيامة لأنهما كانا اثنين في العدد وذلك حسب وصية الناموس (” على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة” تث15:15). ورغم أنهما لم يكونا قد التقيا بعد بالمسيح قائمًا من بين الأموات، إلاّ أنهما استدلا على قيامته من وضع الأكفان، وأنه قد حطم رباطات الموت ـ كما سبق أن تنبأت الكتب المقدسة منذ القديم. ولذلك، فيما بعد، حينما نظرا إلى ما حدث في ضوء النبوات التي تأكد صدقها (بالقيامة)، فإن إيمانهما صار راسخًا ومؤسسًا على أساس ثابت.
لاحظوا أن الإنجيلي المبارك يوحنا حينما يخبرنا عن وقت القيامة، يقول: ” وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر والظلام باق“؛ بينما متى عندما يخبرنا عن وقت القيامة يقول إن القيامة حدثت بعد انتهاء الليل. ولا أظن أن أحدًا سوف يتخيل أن الكتب المُوحى بها تختلف حول هذا الأمر أو أن الإنجيليين حددوا أوقاتًا مختلفة للقيامة. لكن كل من يريد أن يبحث معنى الكلمات التي يعطونها عن وقت القيامة سيجد أن البشيرين (متى ويوحنا) متفقان، لأن الفجر ونهاية الليل يعبران عن نفس الوقت، أي عن تلاشي الليل. إذن، لا يوجد تعارض بينهما، لأن الواحد بدأ بسرد الأحداث من نهاية الليل، والآخر بدأ من أول النهار (الفجر) ولذلك يلتقيان في نفس النقطة، أي موت الظلام وتلاشي الليل.
يو10:20ـ11
” فمضى التلميذان أيضًا إلى بيتهما. أما مريم فكانت واقفة عند القبر خارجًا تبكي”.
بعد أن جمع التلميذان الحكيمان الدليل الكافي على قيامة مخلصنا وكانا ينميان في الإيمان الأكيد وغير المُزعزع، ويقارنان الأحداث كما حدثت فعلاً بأقوال الأنبياء في الكتب المقدسة، فإنهما رجعا بسرعة إلى البيت ليطلعا شركائهما (أي بقية التلاميذ) على المعجزة التي حدثت، وبعد ذلك يقرر الجميع ماذا سيفعلون.
ولن نخطئ إن افترضنا أنه كان هناك سبب آخر لعودة التلميذين إلى شركائهما. ولأن شهوة الانتقام عند اليهود قد وصلت إلى ذروتها، وكان رؤساء اليهود متعطشين لسفك دم أي إنسان مُعجب بتعليم مخلصنا وكل من يعترف بقدرته ومجده الإلهيين اللذين يفوقان الإدراك، وفوق الكل كانوا متعطشين لسفك دم التلاميذ القديسين أنفسهم، لذلك تحاشى التلاميذ المواجهة، وتركوا القبر قبل ظهور النهار تفاديًا للخطر ـ لئلا يراهم أحد بالنهار بعد إشراق الشمس. ونحن لا نقول إن الدافع وراء هروب التلاميذ واحتراسهم هو الجبن وعدم الشجاعة؛ بل بالحري ينبغى أن نفترض أن معرفتهم بما كان يمكن أن يحدث لهم قد غرسها المسيح في عقولهم، وهو لم يسمح للذين عينهم لكي يكونوا أنوارًا ومعلمين للعالم، أن يتعرضوا للمخاطر قبل الأوان. لأنه كان ضروريًا أن يظهر صدق قوله الذي قاله عنهم للآب السماوي عندما صلي قائلاً: ” أيها الآب القدوس احفظهم في اسمك الذين أعطيتني.. حين كنت معهم في العالم كنت أحفظهم في اسمك الذين أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلاّ ابن الهلاك” (يو12،11:17). لذلك فقد اعتزل التلاميذ وكانوا ينتظرون الوقت الذي ينبغي أن يتكلموا فيه جهارًا. وقد فعلوا هذا طاعة لكلمات المخلص، فقد ” أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعوه منه: لأن يوحنا عمّد بالماء، أما هم فسيُعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير” (انظر أع5،4:1). وهذا الحدث قد تحقق فعلاً في يوم الخمسين المقدس، حينما ظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم. وعندئذٍ ألبسهم روح الشجاعة العظمى والاحتمال، ورفعهم فوق كل ضعفات البشر، ولذلك واجهوا جنون اليهود بجسارة عظيمة، واعتبروا مؤامراتهم ضدهم لا تستحق حتى مجرد الالتفات. إذن، فقد اختفى التلاميذ الحكماء، بسبب ما استدعته الضرورة ـ كما قلت سابقًا ـ ولم يستعجلوا إظهار أنفسهم.
كانت مريم المجدلية بسبب محبتها للمسيح، متحررة من كل خوف ولم تفكر في غضب اليهود، لذلك جلست تراقب القبر، وإذ كانت في حزن كثير كامرأة فإنها صارت تبكي كثيرًا، وتمسح الدموع التي تفيض باستمرار من عيونها، وتنوح ليس فقط لأن الرب مات، بل ايضًا لأنها ظنت أن جسده أُخذ من القبر.
يو11:20ـ13
” أما مريم فكانت واقفة عند القبر خارجًا تبكي وفيما هي تبكي وفيما هي تبكي انحنت ونظرت داخل القبر. فنظرت ملاكين بثياب بيض جالسين واحدًا عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعًا. فقالا لها يا امرأة لماذا تبكين؟ ”.
لنلاحظ أن الدموع التي تُسكب لأجل المسيح لا تضيع بدون مكافأة، ولا يمضى وقت طويل قبل أن تثمر محبتنا للمسيح ثمرتها، فإن نعمته ومكافأته الغنية ستحيط بنا تمامًا في طريق الألم. لأنه، بينما كانت مريم خارجًا تبكي، وتلطم خديها، نائحة على الرب حبيبها الذي فقدته، منحها المخلص أن تعرف سره بفم الملائكة القديسين. فقد رأت ملاكين بثياب بيضاء، وهذا يشير إلى الجمال الكامل للنقاوة الملائكية. وهذان الملاكان قاطعا نوحها وقالا لها: ” يا امرأة لماذا تبكين؟“. وهما لم يكونا يسألان عن سبب بكائها، لأنهما كانا يعرفان السبب حتى لو لم تخبرهما هي عنه، بل إن الظروف نفسها كانت كافية لكشف سبب بكائها. ولكنهما يطلبان منها أن تكف عن البكاء لأن الوقت ليس وقت الدموع، ولأنها جعلت القيامة التي هي سبب الفرح، سببًا للحزن. وحقًا يقولان لها: لماذا تبكين والموت قد قُهر، والفساد فقد سلطانه، والمسيح مخلصنا قد قام، وخلق طريقًا جديدًا يعود به الموتى من الفساد إلى الحياة. لماذا، تخطئين في اختيار الوقت يا امرأة، ولماذا أنت مثقلة هكذا بآلام مريرة بينما الأحداث نفسها تدعوك إلى الفرح؟، لأنك بالحقيقة ينبغي أن تفرحي وتبتهجي. “لماذا إذن تبكين؟”، إذ أنك بهذه الدموع تقللين من الكرامة اللائقة بحدث مفرح كهذا.
ظهر الملاكان ” جالسين واحدًا عند الرأس والآخر عند الرجلين، حيث كان جسد يسوع موضوعًا“، وكأنهما بهذا يوضحان للمرأة التى ظنت أن الرب قد أُخذ بعيدًا، أنه ليس هناك من يستطيع أن يأخذ الجسد المقدس بينما الملائكة تقوم بالحراسة والقوات المقدسة تحيط بهيكل الله[1] لأن كل هؤلاء يعرفون ربهم.
يو13:20ـ14
” قالت لهما إنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه. ولما قالت هذا التفتت إلى الوراء فنظرت يسوع واقفًا ولم تعلم أنه يسوع ”.
مريم لا تكف عن أن تدعو المسيح بالرب مما يدل على محبتها له، ولذلك سمح لها أن تتمتع برؤية من تبحث عنه. فقد رأت يسوع ولكنها لم تفكر أنه هو الذي يقف بالقرب منها. ولماذا؟
السبب في عدم معرفتها، إمّا لأن المسيح مخلصنا أخفى ـ بقوته الإلهية ـ نفسه عنها، ولم يسمح لها أن تتعرف عليه بسهولة؛ أو بسبب أن الوقت كان باكرًا جدًا في الصباح، فلم تستطيع أن تميز بسهولة ما هو أمام عينيها، فالظلام الباقي منعها من ذلك فلم تكتشف ملامح الشخص الذي كان يقترب منها. ويشير الرب يسوع المسيح نفسه في نشيد الأنشاد[2] إلى سيره في الظلام في هذه الليلة وإلى رطوبة ندى الصباح بهذه الكلمات: ” لأن رأسي امتلأ من الطل، وقُصصي من ندى الليل” (نش2:5).
يو15:20
” قال لها يسوع يا امراة لماذا تبكين من تطلبين فظنت تلك أنه البستاني فقالت له يا سيد إن كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه ”.
إذ كان الظلام لا يزال باقيًا والليل لم يكن قد مضى كلية، فإنها ترى يسوع الذي كان واقفًا بالقرب منها ولكنها لم تعرف من هو لأنها لم تكن قادرة على أن تميز شكل جسده أو ملامحه، ولكنها سمعته يقول: ” يا امرأة لماذا تبكين؟“.
كانت كلمات المخلص رقيقة بحيث كان يمكن أن تبعث فيها هذه الرقة، الشك بأنها صادرة من بستاني. وأيضًا حينما تكلم معها الرب هكذا، لم يكن في حقيقة الأمر يسألها عن سبب بكائها ولا كان يريد أن يسألها عمن تبحث عنه، بل كان بالحري مهتمًا أن يُوقف نوحها وبكاءها مثلما كان يريد الملاكان تمامًا.
” لماذا إذن تبكين يا امرأة؟“، هكذا قال لها، من تطلبين؟ فكأنه يقول لها، امسحي دموعك، لأن الذي تبكين عليه وتبحثين عنه هو أمامك. أنا هو الذي تنوحين عليه. أنا هو الذي كنت ميتًا وقد مت بهذه الطريقة البشعة، وأنت تبكين علىّ كأنني حُملت بعيدًا عن القبر. ولكن ها أنا حي، وها أنا هنا، فكفي عن نوحك وبكائك بل بالعكس افرحي. وهكذا فإنه أراد بهذا السؤال أن يضع نهاية لأحزانها.
لأنه كان من اللائق أن يردنا الرب إلى الفرح بهذه الطريقة. لأنه بمعصية آدم ـ الذي هو باكورة الجنس البشري سرى الحكم إلى العالم كله: ” إنك تراب وإلى التراب تعود” (تك19:3). وقيل للمرأة بوجه خاص ” بالحزن تلدين أولادًا” (تك16:3). فكان نصيب المرأة بواسطة العقوبة هو كثرة الحزن. ولذلك، كان من الضروري أن ذات الفم الذي أصدر الحكم هو نفسه الذي يرفع ثقل اللعنة القديمة، وهو المسيح مخلصنا، الذي يمسح الآن الدموع من عيون المرأة بل بالحري من كل النساء عن طريق مريم المجدلية التي هي كباكورة لهن. فلأنها، وهي أولى النساء كانت حزينة جدًا على موت المخلص وكانت تنوح عليه، فقد حُسبت مستحقة أن تسمع الصوت الذي أوقف بكائها. ولكن قوة الكلمة تمتد في الحقيقة إلى كل جنس النساء اللائي يتألمن من كل عداوة تثور ضد المسيح، واللائي يكرمن الإيمان به واللواتي يصدق عليهن قول المزامير: ” ألاّ أبغض بغيضك يارب وأتألم من الذين يقاومونك؟ بغضًا تامًا أبغضتهم، وصاروا لى أعداء” (مز21:139و22).
وفي حين أن ربنا يسوع المسيح يقول لها هذا لكي يضع حدًا لبكائها، فإنها ظنت أن الذي يكلمها هو البستاني، وأظهرت كل الاستعداد أن تأخذ الجسد إلى مكان آخر لو أنه دلها أين وضعه. لأنها لم تكن قد أدركت بعد سر القيامة العظيم، فكانت مضطربة بالشكوك.
يو16:20
” قال لها يسوع يا مريم. فالتفتت تلك وقالت له (بالعبرانية): ربوني، الذي تفسيره يا معلم ”.
إنه يناديها لكي يجعلها تتعرف عليه، فقد استنار عقلها حينما ناداها، ثم سمح لها أن تتفرس فيه بدون مانع أو عائق، لأنها بالحقيقة أحبته محبة شديدة. وهو هنا يكاد يوبخها على بطئها في إدراك أنه المسيح، فشيئ من هذا الوبيخ كامن في معنى ندائه لها باسمها. وفي الحال فهمت قصده، وبرؤيتها له طرحت جانبًا شكوكها الأولى، وقدمت له تحية التكريم المعتادة قائلة له: “ربوني” أي يا معلم أو يا سيد. وإذ قد امتلأ عقلها بفرح سماوي أسرعت بشوق شديد لكي تمسك جسده المقدس، وتنال منه بركة.
[1] أي جسد المسيح (المعرب).
[2] بروح النبوة قبل التجسد (المعرب).